كان الجرس يزعق بطريقة غبيّة نزعت النّوم من عينى وجرجرتنى من غرفة النوم إلى الشارع
تعثرتُ فى شبشب الحمّام و اصطدمت أصابع قدمى بالعتبة وأنا أهرع لأفتح الباب كى يتوقف هذا النافخ فى صور المنزل موقظا كل من فيه ومن حوله معلنا القيامة -على غير موعدها - الساعة الحادية عشر صباحا يوم السبت 15 رمضان!!!!!
وما إن فتحت الباب حتى قذفت شمس الظهيرة حصى ضوئها المشبوب فى عينى التى فتحتها على مضض بعدما ولّى النوم هاربا منها
تألّمت من ضوء الشمس المباشر والتفتّ أبحث عمّن دقّ الجرس بهذه الرعونة فإذا فتاة فى بداية العشرين واقفة بثوبها الأسود الكالح الطويل تقدّمت إلىّ غير آبهة بملامحى الممتعضة ولا بمنظرى الرثّ بثياب النوم وبفردة حذاء واحدة!!!
عاجلتنى بالكلام دون سلام وحدجتنى بنظرات فيها لامبالاة وقالت
(حضرتك تعرف محمد الحديدى الله يرحمه ثمّ سردت قصة عن حالها ودسّت في كلامها أناسا لا أعرفهم وأسماء عائلات من بلدتنا وقالت إنّهم من نوسا وأقسمت أنّها لولا الحاجة لما جاءت إلىّ وطالبتنى بجزء من الزكاة لأنّها فى حالة عسر شديدة الله وحده أعلم بها)
كانت الكلمات تخرج من فمها متلاحقة مسرعة لا وقت فيها لالتقاط النفس ولم تترك لدىّ فرصة للتفكير فى مضمونها
كدت أن أنهرها وأزجرها وأدعوها للانصراف إلّا أنّنى لمّا دقّقت جيّدا فى عينيها والحقَّ أقول لمحت فيهما أثر انكسار قديم فتركتها تكمل حكايتها المصطنعة ووقفت وادّعيت التصديق وقبلت كذبها لا كضحيّة له بل كخجل من جرح شعورها المتلبّد
دخلت لأحضر لها بعض جنيهات معدنيّة كنت قد وضعتها على المنضدة ليلة أمس
أعرف أنّ قيمة هذه الجنيهات لا تساوى شيئا لكنّها ستكون بمثابة سدّ حنك لهذه السائلة فأنا ممن لايستطيعون الصمود أمام الإلحاح طويلا ....
فتحت الثلاجة وأحضرت زجاجة عصير صغيرة وأعطيتها للسائلة مع الجنيهات الفكّة القليلة (الفكّة التى يحبّها السيسى )
ابتسمت وقلت لها لا أعرف إن كنتِ مفطرة أم صائمة لكنّ كلامكِ المتواصل يؤكّد شكّى فخذى هذه الزجاجة لتبلّ ريقكِ الناشف من كثرة الإلحاح ولكى تستطيعى مواصلة السعى والكذب والتطواف تحت شمس رمضان !!!!
أغلقت الباب وراءها ونظرت للجرس اللعين الذى عكّر صفو نومى وتسبب فى قيامتى مفزوعا فكّرت أن أقطع سلكه لأرتاح منه وماإن هممت بذلك وبدأت بالصعود على منعطفات الباب حتّى انفتح زجاجه المغبّش ولمحت السائلة تغادر منزلنا بمشية متثاقلة إلى منزل جارنا المقابل لتعاود الكرّة !!!!
ضحكت وأنا عائد إلى السرير لأكمل نومى وقفزت فى ذهنى حكاية قديمة كنت قد قرأتها عن إحدى القبائل تذكّرتها وأنا أضحك
إذ كانت لديهم عادة غريبة إذ يشترطون على من يتقدّم للزواج من إحدى بناتهم أن يقوم بالتسوّل لمدّة شهر كامل وحجّتهم فى ذلك أنّ من يكون مستعدّا لامتهان التسوّل ولو لفترة قصيرة فإنّه لن يعرّض ابنتهم للفاقة والحرمان أبدا وحدث أنّ تاجر أغنام غنّى تعلّق بإحدى فتيات تلك القبيلة فتقدّم من أبيها طالبا يدها للزواج وقد فوجئ بالشرط الذى وضعه الأب وبقيّة رجال العائلة حتى خال أنّ فى الأمر دعابة أو حيله ولمّا رآهم جادّين وحازمين فيما عرضوه فقد وافق على مضض شديد دون أن ينتوى خداعهم
وقد تنكّر الرجل فى ثياب مهلهلة وأخذ يطوف فى الأرجاء ممتهنا الشحاذة وبعد أن راقبه أهل الفتاة طيلة أيام الشهر وبعد أن أتمّ تنفيذ الشرط قفل إليهم عائدا لكى يبدأ مراسيم الزواج حسب الوعد المبرم
لم يخيّبوا أمله فقد وافقوا من فورهم على تزويجه ابنتهم وشربوا معه القهوة حسب الأصول وأخذوا يتجاذبون الحديث مع صهرهم الجديد عن عائلته ثمّ سألوه عن مهنته ومصادر رزقه
وكان مستعدّا متأهّبا فأجابهم صادقا
(كنت أعمل تاجر أغنام أوسع الله علىّ من رزقه وما أن امتهنت التسوّل كما أشرتم علىّ حتّى وجدتها مهنة طيّبة خيرها كثير وتعبها قليل وسوف أظلّ على هذه المهنة مابقى لى من عمر)