آخر المساهمات
2024-05-04, 8:54 am
2024-05-04, 8:53 am
2024-05-04, 8:49 am
2024-04-28, 10:02 pm
2024-04-20, 2:14 am
2024-04-20, 1:54 am
2024-04-02, 5:16 am
أحدث الصور
تصفح آخر الإعلانات
إعلانات مجانية على نوسا البحر مشدات تخسيس إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر مشدات تخسيس إعلانات مجانية على نوسا البحر

طرفة بن الوردة ديوان قاسم حداد

hassanbalam
® مدير المنتدى ®
hassanbalam
رسالة sms : سيرى ببطئ ياحياة
لكى أراك بكامل النقصان حولى
كم نسيتك فى خضمك
باحثا عنى وعنك
وكلما أدركت سرا منك
قلت بقسوة
مأجهلك!!!!
ذكر
عدد المساهمات : 11555
الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى
العمل : مهندس
نوسا البحر : طرفة بن الوردة ديوان قاسم حداد 15781612
طرفة بن الوردة ديوان قاسم حداد Icon_minitime 2019-09-06, 1:37 pm
@hassanbalam
#طرفة_ابن_الوردة
#قاسم_حداد

طرفة بن الوردة ديوان قاسم حداد P_1344rcgig1

اهداء

بقلبها الواهن، لفرط الحب، والمفعم بالحنان
شاركتني هذه التجربة، الحياة والكتاب
أضاءت الليل وصقلت النهار
لتجعل هذا الحلم ممكناً وجميلا.
إليها أهدي هذا الكتاب
إلى أم طفول.

قَلبي على البحر الطويل

(فصل الأناشيد)

رَأيْتُ بَنِي غبْرَاءَ لا يُنْكِرُونَنِي

طرفة

باب الغرائز

أيقظْ غرائزك
الغيومُ بعيدة،
والرملُ أقسى من مزاجِ الموج
والبحارة انقلبوا على ربانّهم عند ارتفاع المدّ،
قلبك ضائعٌ
أطلقْ غرائزك
الخيامُ خديعةٌ، والشعر أن تهذي وتصقلَ سرجك،
الأسفارُ بيتك
والنبوءةُ أن ترى في الغيم خطوتك اندلاعاً نافراً
والبحر أبعد ما يكون

لا تضع حجراً على رملٍ ولا تأمنْ مكاناً
دَع لهم أن يفقدوكَ
فأنت في تيه المهبّ مغامرٌ يهذي
غرائزك الدليلُ
اتركْ لهم حرية التأويل غيمك غامرٌ
أطلقْ لجامك هائماًواسكنْ رحيلكَ
لم تعد هذي الخيام خبيئة المذعور
دعهم يسألونَ الماءواذهبْ نافراً
أطلقْ غرائزك
الغيومُ وحيدة
والبحر يقرأ سرَّك المكنون،
يكتبك الرحيل

***

البحر الطويل

قلبي على البحر الطويل
شموخه في هودجٍ،
ويموجُ أكثر خفةً من ريشة التذهيب
يسري كالنبيذ ويصقل البلور
وشمٌ في يدٍ،
ورشاقةٌلغةٌ
كأن الله صاغَ لشاعرٍ ماءً على البحر الطويل

عربٌ
حُداةٌ يمدحون الإبلَ
يحتكمون في الحانات
ينتخبون بحراً ثالثاً
لولا الفتى
لولا تعفّفه وحكمته الكريمة وانتحارات الرواة
لولا نحاةٌ ينحتون البحر
لم نسمع نحيب رحيله السكران
يذهب في الترنح
في ثمالاتٍ مذهبةٍ على البحر الطويل

ثلاثةٌ في واحدٍ فعلٌ فعولٌ فاعلٌ
والبحر أطول من رمادٍ باردٍ وأقلُّ من موتٍ
كأن الله قال لشاعرٍ سراً على البحر الطويل

إن شئتَ حـَنَّ الإبلُ
أو أرخى رجالُ البحر تسعَ حناجرٍ في وردةِ الفولاذِ
أكثر خفّة وأشدّ خوفاً من غبارٍ عاشقٍ
إن شئتَ
كل مجنحٍ بئرٌ وكل سفينةٍ بابٌ على البحر الطويل
إن شئتَ
هذا الرملُ حبرُ صحيفةٍ تُطوى لنا قبل الرحيل *

****

عفة الفيزياء

تضرعتُ للفيزياء،
لأسمائها،
وهي تهدي الخُطى في سديم النجوم
كأن التخوم التي تفصل البيت عن آلهِ
يا بلاد الغيوم
اكسري سَيفَهم
أيتها البدوية في الموج،
في صمتها عن بلادٍ توزع أبناءها في الدماء
تضرعتُ
صُدّي عن القلب نيرانَهم
يقتلون دمي
يشهرون على الشعر ليلاً يموجُ،
فينتابني
وارأفي أيتها الفيزياء قبيل انحسار المساء
عفيفٌ هو الدمّ،
هاتي،
افتحي للنشيد الشريد انتماءاته .
***

نهاية الأرب

مثلَ صوتٍ
جئتُ محمولاً على ليل المراثي أسبقُ الأخبار
قرآنُ الغبار قرينتي
والمعجزات صحيفةٌ تُتلى
وكنتُ بداية القتلى

تداعتْ أمّةٌ،
أرْخَتْ رباطَ خيولِها للرومِ
غضَّتْ طرفها عن سيرة الأسرى
وسَمَّتني شهيداً فائضاً
رَجَعَتْ تَعدُّ المعجزات وتكشف الأسرار
تمحوني لتنسى،

أمةٌ ثكلى
هنا،
في منحنى الأشياء،
كنا في اندلاع البحر عند جزيرة العرب،
فقدتُ أبي
وكان قرينة أخرى على أسطورة الكذب،
على أن الغبار حقيقة تخفي نصوص الموت في الكتب.

هنا،
عبثاً نَرُدُّ الموتَ وهو ذريعةُ الأحياء
مثل الماء،
مثل بداية الصحراءوهي نهايةُ الأربِ .

***

آية الرمل

سميتُك الرملَ، وكنتُ أعرفك حبةً حبة أكاد أحصيك وأميزك في التراب فالرمل يصغي ويحنو نعومة تشفّ عن زجاج وشيك أقداح قديمة تفيض بالخمرة الجديدة وكنت إذا اختلجت ريحٌ سمعتُ انثيالك، وتحسستُ وقعك الهش فوق الخباء وقع حباتك المضطربات مثل حفيف الفَراش ينزل على درج وكنت إذا وضعت قدميّ العاريتين في ليلِك سَرَتْ برودتك الطريّة في العظم المتعب واعتراني غيمٌ غامضٌ كلما سمعت برقاً ينادي شعرتُ بعطشك ساعة الظهيرة، وهرعت أتضرع إلى السماء أن تسكب مطرها موجةً موجةً تبلّ نسغك وترويك. أجلس، أصغي لنشيش حباتك وهي تسكر، فإذا ما انتابك غضبٌ وجلدت الصحراء بالغبار، شرّعتُ مسامّي كاملة لكي أتنفسك مثل طفل يكتشف الحلمة والثدي وحنان الصدر وأُمَّاً شاهقة في الأناشيد

لن تصدق ما يحدث لي وأنا أحدق في سرابك
برقٌ مثل امرأة توقظ الآلهة لكي ترأف بالأرض
التراب لا يفعل ذلك
أسميك الرمل
وأعرف أنك لستَ رملاً .

***

رداء الرعشة

1

ابسطْ رداءكَ
هؤلاء تهيأوا، بدأوا مديحك،
ربما سمّوك يوماً نرجساً في الماء
شَقُّوا نزهةً في وحدة الصحراء
وانثالوا طرائدَ مسرعاتٍ خلف ظلك
دَع رداءك وارتعشْ
تسمعْ زفيرَ النرجس المغرور يتلو في قميصك آية
تنسى، كأنك خارج التقويم

أبسطْ للصعاليك الفضاءَ
الوحشُ يستهدي بهم
وازجرْ ضحاياهم يوارون الفضيحة
تبدأ الفوضى وهم يحصون أخطاء الطبيعة
تسعةٌ في منحنى النيران
خمسةُ ضائعين
ثلاث طفلات سقطنَ من الهوادج وهي تلهج بالرحيل
أبسطْ رداءك في ضياعهم الطويل

2

نسوةٌ يمدحنَ جرحك
أنت في مرمى انتخاب قلوبهنَّ
قميصك المقدود من قُبُلٍ
لهنَ شجاعةٌ في قلب منتحرٍ
كأنَ مديحك الباقي نجاةٌ من فرارٍ مستمرٍ

دَعْ رداءك
هؤلاء يرين فيك سبيلهنَّ ارأفْ بهنَّ
إفتح قميصك مثل خيمة فارسٍ مستغرقٍ في الفقد
إمنح هؤلاء ذريعةً أو جوقةً
حَرِّرْ قميصكَ، تصرخ المستذئبات
إفتحْ لنا جرحاً جديداً في عذابك

***

قبل الحبّ

لا تمتْ قبل اندلاع الحب في قلب الجزيرة
لا تغادر هذه الغابات قبلَ النار
إن كانت قصيدتُك انتهتْ في وقتها،
فاتركْ لها أحلامَها
واتركْ لنا وقتاً لنقرأها

قصيدتـُك انتهتْ ؟
فلتبدأ النيرانُ في قمصاننا
وعليكَ أن تصغي لنا قبل الرحيل
سيبدأ الجرحى وجمرُ النوم
والجغرافيا تبقى لتحرس صبرنا
جرحُ الجزيرة وانجرافٌ جامحٌ والخوفُ في أخبارنا
فانظر إلينا نحن في الأسرى
فإنْ سافرتَ أو أهملتنا متنا انتحاراً
فاكترثْ
نصحو قليلاً
لا تمتْ قبل اندلاع الحب .

***

نخب خولة

سهرتي كأسان
واحدةٌ لـخولة وهي تفتح نجمةً في خيمة النسيان،
كي تمحو دماً وتغضّ طرفاً عن بكاء قصيدتي
يدُها النحيلة نجمةٌ في الليلفي نهر الزجاج
مزيجُها عطرُ البَهار وجنةُ الرمان تحرسُ عرسها
غنوا لخولة في هزيع الليل
لي كأسان
كأسٌ فَصُّها في خاتم التيجان،
تشفي علة في القلب
والأخرى لموتٍ كامنٍ في الحان
أو في دفتر السجان

***

يقظة المعنى

أيقظْ حصانك واستعنْ بالناي
رحلتك انتهتْ
فابدأ بكأسك ريثما يرويك غيمٌ غامضٌ
أيقظْ حصانكنخبك التالي رؤىً وشقائق النعمان
تِسعُ ممالكٍ، ومدائنٌ تسعى برمتها لصَلبكَ قبل صوت الطير
أيقظْ سرجك الملكيّ
هذا الغيم بحرٌ من مجاز المكر في باب الغموض
أيقظْ حصانك وانهرْ المعنى
قصيدتك الطويلة أقصرُ الخطوات نحو الموتلا تغفلْ
لديهم ما يشفُّ عن القرائن
وامتحانُك في كتاب الطيش يكفي لاستثارتهم
طريقك تنتهي
فلتبتكر سفراً،
لتستثني الممالك حيث يحتربون
فلتوقظ حصانك ولتدع للناي أجنحة الغناء
غموضَ موسيقاك
إيقاع التهدج واحتمال الفقد
دَع للناي أن يرقى بأحلام البراق
ودَع لهم يتوهمون الصلبَ والفتوى
لتصعدَ في قصيدتك الأخيرة بارئاً
أيقظْ حصانكواستعنْ بالناي

***

سؤال الموت

إذا متنا معاًمات الخزامى في تعرِّيهِ وغطتنا الرمالُ
إذا متناانتهى سيلُ الجنائز عن غناءٍ صاخبٍ
وانهالَ إيقاعٌ وصاح النعشُ فينا يا شمالُ
إذا متنا معاً
ماذا سيبقى للقبائل كي تباهي في انتصاف الليل
ما المعنى الذي تحظى به الأشعارُ إن طُرحَ السؤالُ

إذا متنا استحالَ رحيلُهم سفراً بلا ماءٍ ولا عشبٍ
إذا متنا إذن
فليسقط الندماءُ في ندمٍ وتُكسرْ أجملُ الأقداح
لا خمرٌ غداً يجري ولا أسطورةٌ إلا محالُ
سنبقى وحدنا في الموت
لا تفتح لمن يأتي إلينا
وحدنا متنا معاً
كي ننقذ القتلى وكي تسعى إلى الماء الرجالُ
معاً في الموتتلك حياتنا
وشمٌ وفقدٌ غادرٌمثل انتحارات مؤجلةٍ
إذا متنا معاً متنا
لنا شعرٌ يؤلفه
ويمحوه الخيالُ

***

كأس شقراء

كأسك شقراء، وجندك يقسون عليّ
كأسك تصخب وتعربد
كأسك سيدةٌ في الغربة
كأسك تكتب أحلامي
ليتك تفتح قنديل الخطوات فجندك فوق كتابي
ليتك تكسر بابي،
ينهال عليك الشعرُ،
فتصحو من غفوتك العطشى،
وحدي
أنتظر الليلَ اللاهيوالكأس الشقراء أمامي .

***

شهوة الخيل

أيقظْ حصانك
ربما اشتهتْ الخيولُ الغزوَ أو رَدتْ على أعقابها حذراً،
فبعضُ الحرب إهليجيةٌ
تخفي الخصومَ وتكشفُ الأعداء
أخطاءٌ مفخخةٌ ونصرٌ للهزيمة وانتحار غامضٌ
والخيل في الشهوات
والموتُ الصديقُ يحوم قبل الطير
أيقظْ ريشك المغدور وامنحنا جناحاً في حصانك
قلْ لبعض الحرب أن تصغي لهندسة الحياة
فربما كانالمشقّرغرفة للغدر
أو كانت حصونهمُ ملاذاً للوقيعة
ربما ضاقتْ بك الأرضُ الوسيعة
كنْ مكانكَ عندما توقظ حصانك
وانهرْ القتلى وهم يهذون في حربٍ تقاوم نفسها
كنْ في مكانكربما يكبو حصانك
بعضُ هذي الحرب طائشةٌ عن المعنى
وكل فهارس الصحراء سعيٌ في الغبار
فخذ مكانك واسعفْ العطشى
وفسّرْ للسراب دلالة الأسرى
فهُم حسرى على ماءٍ يناقضُ نفسه
اهمزْ حصانك
واتخذْ شكلَ القصيدة وهي في غيبوبة القاموس
خُذْ وضعَ الكتابة،
واغفرْ الأخطاء في جيش يقاتلُ نفسه،
واسألْ حصانك عن صديقٍ يصقل الأعداءَ
كي تسأل ثلاثاً شمعة الفانوس

***

بوصلة

كلما هَـبَّتْ شمالاً عابساً
إذهبْ جنوباً
كل قلبٍ في جنوب الأرض بيتك
أيقظْ الرقلاء (*)
واخرجْ من تهامة
عندما صنعا اليمن إذهبْ هبوباً

***

نظام الكلام

ليس هذا كتاباً
إنه لغةٌ تشغف كلما حرَّك الله فيها كلاما
كلما غيَّر إيقاعه في الطبيعة
لغة كالوشيعة تنهال ألوانها،
كلما نام خيطُ الضباب بها،
كلما اختلَّ فيها نظامٌ
كل هذا كلامٌ من الله
يخرج عبر حدود الكتاب

***

تاجٌ مُضاعٌ

الليلة انتصفتْ
ونصفُ زجاج أشعاري يلاعب خولة
كي تكفَّ عن الذرائع وهي تمحو كاسرات الضوء في ريف
القصائد
نصفُ أشعاري يؤانسها
ونصفٌ في مديحٍ الوشم يغزل شعرها
لتهبّ عاصفةوخولة في هيامي
كتبتُ أشعاري لها
منذ الظهيرة في نشيدٍ ضارعٍ حتى انتصاف الليل
وهي تخالني شبحاًفتقرأني وتمحو كاسرات الموج
بحراً طائشاً في لوعة الشطآن
يسمع صوتها، ويغضُّ طرفاً عن ضياعي تائها
تاجٌ مضاعٌ في هياج الموج
بحرٌ مستحيلٌ سوف يسمعها وينساني،
وخولة في خيامي

***

على جرحي

مَرّوا على جرحي يرون نزيفه،
ويؤلفون نشيدهم من عزفه
مروا يوارون المعادنَ حول حزني قبل أن أبكي ويسقون الحديدَ
نشيجُهم ريشُ الغريب على حَمَام البيت
مروا
كلما مروا على جرحي انتشيتُ
كأنهم مرضُ المحارةِ وهي تمنحُ صُدفة الأحياء
ذاكرة الجواهر
كلما مروا نسيتُ الموت
عطرٌ في غموض الصوت
أجنحةُ الملاك ونزهةُ المنفى وشعرٌ شاردٌ
ورأيتهم مروا
رأيتُ رفيفَهم
ورأيت ريفاً وارفاً يحنو على جرحي ويرسم رايةً
ورأيتهم يسقون جرحي زعفران الله
ينتخبون أقداحاً على حزني
إذا مروا
يرون قصيدتي تبكي، فيدخرون بعضَ نبيذهم
قتلى قضوا حباًولا يتأخرون عن الزيارة
كلما جاءوا إلى سجن المشقر
يسألون الله عن أسمائهم
مروا خِفافاً عند جرحي يستعيدون النشيدْ .

***

قنديل الأخطاء

فتىً في حكمة السبعين
صحراءٌ تموجُ به وطقسٌ كالذبيحة
هذه الأخطاء قنديل العذارى
يبتهجن وتنتشي أعطافهنّ
شفيفة تهذي
لمن هذي القرابين؟
اشتهتني وردة تبكي
سألتَ الماء
صحراءٌ تصلي للملوك وللحجارة
حكمتي بيضاء أخطائي
أرى مستقبلاً ينثال مثل الرمل والأحجار سيدة
ويأتي من يؤسس للسراب على الكتاب
انتابني شكٌ بأن المذبح التالي من النص القديم جنائزٌ
(ويكون أن يأتي/ إذا جاءَ)
انتحابٌ جارفٌ يستشرفُ الأخطاء
حكمةُ ناسكٍ
وسلالةٌ ترث الحجارةَ كي تُعيدَ الذبحَ والقربان
(أن يأتي/ إذا جاءَ)
الفتى في نزوة السبعينوالأشعار تقتله
فتى يبكي لنا،يبكي
العذارى ينتشين به إذا غامتْ ملامحه
سديمٌ أو صهيلٌ في كتاب الليل

***

وردة النساء

هل تلدني وردةٌ كي أستعيرَ حزامَها في وحشة التذكار
هل تحنو على دميَ المضاع لكي أعمّدَ بالنبيذ شهيق شهوتها
فكم تلدُ النساءُوكم ستثكل وردةٌ أحفادَها
أثلاث مراتٍ ولدتُ، وضاع لي قبرٌ، وتِسعُ وقائعٍ تُروى لقتلي
كنتَ مثلي يا نبيَّ الناس
أمكَ ثاكلٌصليتَ سراًوادَّعتْكَ الأمهاتُ جميعهنَ
ربطنَ سرك في حزام الرضع يوماً،
وانتهتْ أسطورة التأويل في دار الولاية
في سراب الماء والأسماء في الدول الخفية
كنتُ مثلكَ
والملوك يمجدون قصورَهم بقصيدة من شِعري الوحشيّ
يا أمي حزامُكِ شدَّني في خيبة الرايات
وانهارت فتوّةُ ساعدي في خيطكِ المحمي بالنايات
يا أمي انتهتْ، لولا حزامُكِ، أجملُ الغاباتِ
تسعٌ
ضَمَّني قبرٌ وقيل على صليبٍ قيل أطرافي مقطعةٌ
وقالوا إن فَصْد الدم أنهاني وقالوا شدَّني خيط النجاة
وأيقظتْ روحي ذبالتها
رأيتك تغزلين الشمسَ، مثل خطيئة النارنج وهو يصوغ صفرته
رأيتك تزجرين النفسَ وحدك سر قافلة القبيلة
تفضحين لطائم التجار
وهي تائهة بِخيلٍ جامحٍ يَـنْـزو ويَشبقُ،
وهي غافلة وتخسرُ أو تضيعُ
رأيت في غيم الولادة
كنت في فيض المخاض وتكتمين الطلق
شَدُّوكِ على وهم السلالة
شدني خيطُ الدلالة
كلما في يوم ميلادي تأكد مقتلي
واشتدَّ نزفُ الطلق وامتدَّ الحزامُ
فغادرتني شهوة النسيان
وانبثق الكلامُ

***

يا أمي،
حزامُكِ حزَّني في النَّحرِ
هل كنتُ النهايةَ في البداية؟
حَزَّني حُزْني على موت المرقش قبل أن يمحو حجارته
ويبكي
كلما أوشكتُ ضاعتْ جنتي في آخر الفتوى،
وضاءتْ في الأقاصي كي أموت مبكراً
قال النبي قبيل أن يهذي بنا
تسعاً قُتلتُ
ومرةً قلتُ القصيدةَ كي أبالغَ في ابتكار العشق
أذهبُ في الشغاف
ومرة أخرى قُتلتُ على الضفاف
ومرة أخرى أخافُ،
ومرة أخرى.
***

على وطنٍ يخشى الفتى


هذي بلادٌ لا أميِّزُها
دخانٌ أم يدٌ مغلولة أم فكرة تهوي؟
بلادٌ،
كانت الصحراء تمضي فاستحالت حاضراً
مستقبلاً
من أين لي ماذا أسمّي خيمة في الرمل
لا ماءٌ ولا غجرٌ
ولا يصغي إليك الغيمُ حين تقول
نمضي للأفول
فكيف لي،
كنا على وشك الحديقة، مثل حلم عابرٍ
فاستيقظ الكابوسُ
واختلط اليتامى بالثكالى
دارتْ الفتوى وحَلَّ النعشُ في عرشٍ
بلادٌ لا أميزها حياةٌ أم تموت

هي انتحارٌ صارمٌ
يا ليت لي
"هل كنتُ مقتولا ومتُّ
أم كنتُ في سفرٍ وعدتُ"
لم يعد لي،
هذه الصحراء تفقدني،
وكل تراثي المنهوب يمحوني،
وصوتي وحده في هذه الأرجاء يسمعني

****

أشلاء

صَنَعَ الشعرُ بي
مثلما تفعل الريحُ بالرمل
بَـدَّدَ أشلاءَ روحي
مضى بي إلى تهلكاتٍ
وأغرى بي النارَ
أودعني وحشة الغائبِ

****

الدرس

صعبٌ على الشعر أن ينتهي
مثل أسطورةٍ في البكاءِ النحيل
بكاء يخيط الظلام
ذريعة خولة في خيمة الليل
هذا هو الدرس
أن تستعيدَ غيابكَ،
كلما ينساك قومٌ، سوف يقتتلون،
كي تنسى سلالتك البعيدة
كلما في وشم خولة،
كلما تطوي عباءتها وتبكي مثل ثاكلة الظلام
هل حفظتَ الدرسَ
صعبٌ، مستحيلٌ، خارقٌ
والموتُ أن تبكي وتبكي كي تخيط الليل بالدمع الطويل
دع لخولة درسَها
واقرأ كتابك واستعنْ بالمستحيل .

***

الطفل في الخوف

تخطيتُ الغبارَ وصرتُ مائياً
تجلى لي سحابٌ في الهوادج
وهي تهتف بالسماء لكي تسيل
قلبي عليها قبل أن ترتد روحي في جروحي
لم يعد لي في رماد الغيم بيتٌ
صار بيتي جنة التذكار
أعطتني يداً أبكي عليها
مثل خوف الطفل في ليل الغريب

****

تاج الموج

جاءتْ تموجُ
تجرُّ كوكبةً من الأعراس من ماء المرايا
سوف تستثني طبيعتها لترقى أن تكون ذريعة للرمل
تحنو مثل بحرٍ شطَّ في ماء الضحايا
توقظ الأسرى
تموج وصوتها في راية الذكرى
تغني هذه أسطورة أخرى
ستبدو بعدها الصحراء نائية عن الشعراء
تبدو مستقَراً للرحيل ونزهة للماء
كي تحظى بمحتملٍ،
تموجُ وتخدعُ الحراسَ
يقتتلون في غيم المسافة
بين زرقتها ورملٍ سادرٍ لا ينتهي

يا غيم دعها تنتمي
دعْ خولة الفرسان تصغي مرةً أخرى لوقع خطاك
تفقد نجمةً كانت دليلكَ نحوها
وتضيعُ في تيهِ القبيلة كالقتيلة
أيهذا الغيم دعها وردةً في الكأس،
تسبق خطوها وتموجْ

***

خمسون ماءً

سَكبتُ لك خمسين ماءً لتغتسلي بغير الصهد
حيث الأنهار الصغيرة تزخرف جسدك تداعبه وتوقظ فيه الفتنة
خمسون ماء تتحدر من أعطاف الطبيعة متموجة تحفُّ بمركبك اللطيف وتمنحه نعمة الأجنحة لكأن هذا الجسد المتوهج بفعل الوشم وصليل الذهب يبحر بالشهوة المكبوتة نحو سديم الشغف
خمسون
لا يكفيك
ولا يطفئ لك ناراً
ولا يلجم دورة الدم المجنون في الأروقة

***

شهلاء

تفتح شرفةً وتقول لي هذا سريرك، عرشك الجسدي
خذني قبل هذي الكأس، قبل رحيلك التالي
فلي خمرٌ لديك أريده لأريقَ عطري في كيانك
شهلاء فاتحة النعيم تسرُّ لي
شهلاء شهوة شاخِصِين إلى الجحيم
تردُّ لي نَرْدَ المغامرة القصية
كلما مدتْ يداً أرخيتُ أعضائي لها،
لتقول لي عرشي ينالك
وانتعاشة جنتي تاجٌ يسير إلى مكانك
ماذا يريد الشعر أكثر من يدٍ ممدودةٍ وثلاث جنيات،
أخطاء ملفّقة ومغفرة الحنان وشاهدٍ ينسى
وشهلاء الشهية زهرة في عنفوانك

***

فرسي إليك

فَرَسِي إليكِ تخبُّ، فارويها بعطرك وهي عائدة إليّ
وحمّليها ما يقالُ عن القصيدة وهي تسمو
واشفعي للغافلين فسوف يغفر سيدٌ للعبد
وحدي في انتظارك،
جللي فرسي مطهمةً
بماءٍ نادرٍ من جنةٍ في آخر الصحراء
وحدي
والرسائلُ ذاهبات مثل قافلةٍ بلا معنى
بلا أسطورة
مثل انتظاري أنْ أموت

تأتيك أخبار المراثي وهي خائبة
فإنْ جاءت إليك الخيل عارية،
خذي ثوب القتيل وجللي خيلي
كأن قرينة تكفي لكي أبدو قتيلاً قبل موسمِه

***

ما تبقّى من الله فينا

(كتابُ السيرة)

وظلمُ ذوي القُربى أشدُّ مضاضةً
على المرءِ من وقعِ الحسام المهندِ

طرفة

شجرة الخلق

رويَ أن "وردة" كانتْ في نساءٍ، في قافلةٍ، في رحيلٍ، في مسافةٍ بين النخل والخيام خرجنَ من الرمل إلى طين الله في نهار طازج للنزهة قيل، فأدرك المخاضُ وردة وكانت في تاسِعها ركضتْ بها النساءُ ناحية ظل شجرة قريبة يتداركنَ طلقها ويعالجنَ وضعها فيما ترفعُ صرخةً وتكتم صرخة والطلقُ يشتدُّ ويتصاعدُ النساءُ يبسطن تحتها النطُوعَ وحولها الوسائدَ وفوقها الأغطية تقدمتْ فيهنَّ قابلةٌ تطلبُ منهنَّ جمعَ الأغصان اليابسة وتجميرها لغلي الماء وكان كلما تصاعد مخاضُ وردة نفح عطرٌ في غيمةٍ خفيفةٍ تغمر المكان ووردة تتشبث بما تطاله يدُها متوترة الأطراف محلولة العصائب، تنداح بجسدٍ ينتفضُ ويرتعشُ ويتقوّسُ وتصبُّ منه السوائلُ بأخلاطٍ وتلاوين النساءُ يعملن على صَدِّ الغيبوبة عن جسدٍ هو الآن في البرزخ بين الاحتقان والخلق فإذا بالصرخة العظيمة ترجُّ صخور الوادي لتزِلّ أقدامُ النساء في مواقعها، حتى تكاد تنغرس في الطين الرحيم الوردة تمنح أحشاءها حرية الخلق تشعرُ بهول الفَقدِ وهي تعطِي وهجَ الحياة بما يشبه الموت تنتبه النساءُ لصرخة الطفل بين يدي القابلة ترفعه مثل رايةٍ ملطخة بخلائط الخلق، فيدركنَ أن وردة قد صَدقَتْ بظنها عندما ترددتْ في الخروج معهنَّ هذا الصباح
أتركوني هذا يومٌ يبدأ فيه الخلقُ فالسديمُ يغمرُ حواسي
لكنهن يلححن عليها أن تخرج معهن فتخرج
وضعتْ القابلة الوليدَ على صدر أمهِ قائلة لها
- ماذا تحبين أن تسمِّيه؟
استردتْ وردةُ أنفاسها
- أبوهُ غائبٌ في سفر، فهو مَنْ يسمِّيه
قالت القابلة
- كل طفلٍ يولد اسمُه معه هاتِ اسماً نناديه به الآن، وعندما يعود أبوه يخبرنا بما يريد
أدارتْ وردة نظراتها حولها ورفعتْ رأسَها قائلة
- ما هذه الشجرة التي تكاد تلامس جسدي لفرط حنوها؟
أخبرتها إحدى النساء
- إنها شجرة الطرفاء التي لا تموتُ نارٌ استطعمتْ حطبَها
فقالت وردة
- سَمُّوهُ طرفة
رُويَ، أنه لم يُسَجّر العربُ شِعراً بعد ذلك مثلما فعلوا باللهب الذي في قصائد ذلك الطفل
وروي، أن البحارة الذين أبحروا بسفنَهم مصنوعةً بخشب هذه الطرفاء المباركة لم تغلبهم غضبات الموج ولا خذلهم السفر كما قيل إن نبياً يأتي بعد طرفة بحينٍ من الزمن سيأخذُ من الطرفاء أغصاناً يضفرها منبراً يصعدُ على درجته الثالثة ويكرُز في الناس ورُوي، أن ثمة أربعةً من عرب ذلك الزمان أخذوا هذا الاسم وضاعوا به في سديم العرب فقد ذكر الآمدي في المؤتلف والمختلف من اسمه طرفة من الشعراء أربعة، أولهم هذا والثاني طرفة بن ألاءة بن نضلة بن المنذر بن سلمى بن جندل بن نهشل بن دارم والثالث طرفة الجذمي أحد بني جذيمة العبسي والرابع طرفة أخو بني عامر بن ربيعة
قيل، فلما انبثقَ خيطُ الفجر الأول انتبهتْ وردة لطفلها فإذا به يتلمظ بعطشه، فمدتْ يدَها إلى أوراق شجرة الطرفاء وراحتْ تعصر الوريقات الخضراء في فم الطفل، فإذا به يرشفُ القطرات النديّة كمن يرضع اللبن
قيل، فلما انتصفَ النهارُ وهَمَّ الركبُ على العودة إلى الحيّ، قالت وردة للنساء
- ادعكوا باطنَ قدمي الطفل بوريقات الطرفاء، فربما طَرَقَ هذا الطفل سبلاً كثيرة ساعياً للحياة، والموت في انتظاره
أخذتْ النساءُ يدعكنَ قدمي الطفل بورق تلك الشجرة فراح ماءٌ وفيرٌ يطفرُ ويسيل ويغسل القدمين الصغيرتين قيل فلما صار طرفة شاباً يافعاً، وراح يرحل في البرية، كان ينبت في أثر خطواته زهرٌ أصفر صغير، يمكن الاستدلال به على المسارات التي يرتادها الشاعر
تتقدم وردةُ تضعُ عطرَها في أردانِه تحكي له، وتصقل قلبه بالحجر الكريم
وتُعدُّه للجرح الغادر تقول له عن النوم النادر وهو يصوغ أحلاما مرتجفةً في ظلام الوديان تقول له وتنهار بين يديه كلما همّ بالسفر
تقول له لا تذهب عني لا تذهب عني لكنه يذهب

***

اكتشاف الأب

يُروى أن طرفة لما بلغ الثالثة التفتَ فلم يجد له أباً وكان كمن اكتشفَ حقيقة اليتم فقد أصبحَ وحيداً مع أمه فسألَها أين أبي؟
فاضطربتْ وردة لسؤال طفلها الذي كان يقف أمامها لأول مرة ليطرح عليها هذا السؤال الشاق وهو لا ينوي أن يذهبَ من دون جوابٍ شافٍ
أخذت وردة يدَ طفلها ودخلتْ به الخيمة رفعتْ تختها الخشبيّ القديم عن حفرةٍ صغيرةٍ وأخرجتْ صرة قماشٍ حائلةِ اللون معقودة بعناية الحريص وضعتها على الأرض وفكتها ثم بسطتها وطرفة جالس بجانبها ينظر بدهشة الطفل المأخوذ ثم رفعتْ من الصرة ثوباً قديماً نشرته في حضنها وراحتْ تتحسسه بأصابعها وهي تنظر إلى طرفة هذا هو والدك هذا ثوبه الأخير
وضعَ الطفلُ يدَه على الثوب كمن يجسّ جسد أبيه ثم نظرَ إلى عينيّ أمه فعرِفتْ أنه يسألها
فقالت : في هذا الثوب قصة العبد كاملة أنظر إلى هذا الأثر اليابس في صدر الثوب إنه دمُ أبيك فقد ماتَ مقتولاً غدراً
- ومن فعل ذلك يا أمي؟
- إخوته
- عمومتي؟
- بعد ولادتك بدأتْ مشاكلهم فقد اختلفوا مع العبد على خيرٍ كثيرٍ تركه لهم جدك من التجارة فكمنوا له أثناء عودته من الشام وزعموا أن قطاعَ طرقٍ قد فتكوا به غير أن فتىً كان يرافقه جاءني بالخبر وحمل لي هذا الثوبَ بدمِه في خُرْجٍ صغيرٍ كان أبوك يحفظُ فيه زاداً وبعض هدايا كان حملها معه من الشام
- وكنت تقولين لي طوال الوقت إن أبي في سفر؟
- يا ولدي هذا سفر لا يعود منه أحد

***

في وصف الصورة

لفرط الطين الذي تمرَّغَ فيه لحظةَ التكوين، صارَ جسده زجاجةً صهباء تشفُّ عن الأحشاءِ والأخلاطِ والعناصر جرمٌ لا مكتنزٌ ولا نحيل رأسٌ أصغر من طيرٍ على كتفين لولا منديلُ الرمادِ المطوي لما تسنى لسيفٍ أن يدركَ رأسَه. شَعرُه حالكٌ يعول عليه الليل، يتركه هَمَلاً لئلا يظلَ كتفاه عاريين في البرد شفتاه صائمتانِ عن الكلمات السود منذ كلامه الأول أسنانٌ ناعمةٌ تَجرحُ الماء مصقولةٌ بمساحِلَ الثلجِ وبلورِ اللبن أنفُه الهاجم اللطيف يكاد يسيلَ لفرط بَوحه باندفاقٍ في شُرفةِ الوجه مثلَ صَقرٍ وشيكٍ وللعينين لونُ الأسى والخسارة تحديقٌ توجسٌ وذعرٌ مقيمٌ فمٌ أقلُ من المَحارةِ، أكثر حرصاً منها لسانٌ داكنٌ صقيلٌ فرغ تواً من قصعة الدبس يذرعُ المسافةَ بين اللؤلؤ والصَدَفِ وعتمة الأعماق جوهرةٌ أصغرُ من خاتم العرس يداه فارغتان إلا من الريح والكأس واللجام وعطر نساء لا يحصين ذراعان مشرعتان في جناحين يحفظان للجسد رشاقة السكون والسفر دليله توازنُ الخمرِ والقدح قدمان يَخُبّانِ في الخُفِّ لم تسعيا إلى بابٍ عالٍ لا تسأمان الرحيل، لا تأمنان الإقامة، وينبتُ في حوافِهما ريشٌ ناعمٌ قدمان خلقتا للإقدام والتقدم
أرادَ أحدُهم أن يصفَ هيئة الشاعر فقال إنه،آدم ، أزرق، أوقص، أفرع، أكشف، أزورُ الصدر، متأوّلُ الخلق.
وفي لسان العرب
آدم والآدَمُ من الناس الأَسْمَرُ
أزرق والزُّرْقة خضرة في سواد العين
أوقص والوَقْصُ قِصَرُ العُنُقِ
أفرع وأَفْرَعَ فلانٌ طالَ وعَلا
أكشف وأَكْشَفَ الرجلُ إكشافاً إذا ضحك فانقلبت شفَته حتى تبدو دَرادِرُه
أزور الزَّوْرُ الصَّدْرُ، وقيل وسط الصدر، وقيل أَعلى الصدر، وقيل مُلْتَقَى أَطراف عظام الصدر حيث اجتمعت، وقيل هو جماعة الصَّدرِ من الخُفِّ، والجمع أَزوار

***

ما تبقى من الله

جئتُ من ثوبٍ مهلهلٍ، من رُقَعهِ الكالحة
جئتُ من خيطِه الألمعيّ،
من الريحِ مغزولة بالرؤى السانحة
لم أكنْ مُشتهى فكرةٍ كنت قبل السديم
تبطنتُ شعراً نافراً ينهر الخمر
خبأته في الخطى الجارحة
جئتُ، كان النشيدُ صدى الحرفِ والحجرِ الأوليِّ سيقرأ
والأبجدية في آلةٍ فاضحة
كنتُ مثل التعاويذُ تترى ومَنْ كان يقرأ لي،
قال لي شعرُكَ الآن في ما تبقى من الله فينا
شعرك السحرُ قبل النبيّ الذي يصطفينا
قرأَ الشعرَ لي جَديَ الأوليّ
مثل بحرٍ يعمِّدُني بالرؤى الراجحة

***

الفتى المستوحش

خائفٌ، كشرارةٍ في الدم، في بلّورها المذعور،
في وحشٍ، وفي جرحٍ يلوبُ
ولا يدٌ تمتد لي
صحراءُ شاخصة، وكُلُّ فرائصي في الريح
هذا البردُ ضارٍ والحجارة جمرةٌ والجنسُ مأوى
صحراءُ تزدردُ المدى فأطير وحدي هارباً خَوفِي دليلي
جمّة تلك الشراك أظلُ وحدي تحتَ هذا الليل
أحداقُ الحَصى وجنادبُ الأخطاء تحصِي لي وجيبَ الخوف
زهرُ الزمهريرِ يهزُّني كي أدركَ الكابوس
ليلٌ داهمٌ
فأخوضُ مثل تثاؤب الجاثوم في هذا السواد
كأنَّ خوفي خائفٌ قدماي في الفولاذ
والوحشُ الطليقُ يشدُّني بالخيط مثلَ النوم
هذا الكونُ مَـيْـتٌ هذه جَبَّانَةٌ
وأسيرُ وحدي عبرَ هذا الخوف
صحراءُ انتحارٍ واستفاقة جثةٍ وتَشَبُّهٌ بالخيلِ
لو أنَّ الظلام ذريعة القتلى لَـمِـتُّ نكايةً بالموتِ
لم أتركْ بلاداً جئتُ في جُرحٍ أخافُ كأنما خوفي بلادي
في دمي المذعور، في بلّورةٍ
قلبٌ يَقِفُّ إذا دَنا أنسٌ إليه

***

انظروا الرواة

لوَّحَ طرفة بيده شاهقاً، ممسكاً بموجة عارمة من الكحول تترنح منتشية به في مرآة الكأس خَبطَ بكأسه صاخباً تختَ الحانة فطاشتْ فضة الذهب وطارتْ أسرابُ الملائكِ في نجومٍ وفي حباحب تملأ فضاءَ المكان
تعالوا انظروا ماذا يفعل هؤلاء وهم يذهبونَ بنا كل مذهبٍ في غيومٍ وغيبوبات
تعالوا انظروا الرواة يروون .

***

غربة الغيم

كلما توغلتُ في الغيم شَحَّ الزادُ في القبيلةِ وازدادَ النسلُ في الملوكِ وازدحمَ الجندُ بالمناكب وضَجَّ صليلُ الأسلحةِ في المداخل غيمٌ كريمٌ يشفُّ أكثر مما يخفي يلهمُ الغريبَ بالبيتِ ويشدُّ الغربة عليه

***

آلة الشاعر

تنوء بي ثم تخفُّ مثل هودج مثل موجٍ وهي مركب الكون طيفٌ لا تطاله سلطة لا يجمعه ملك ولا يمنعه وحدي لها امرأة في المرايا كائنٌ يغمر الروح لا يصيبها العطبُ ولا تبلى

***

أنظر إليَّ وخلصني

صرخ في وجهه ممسكاً به يرجّه رجّاً هل هو صنمٌ أم وثنْ ها أنا أدعوه أن يساعدني أياً كان أي إلهٍ هذا، لا يسمع ولا ينظر ولا يتكلم ولا يُخلّص الناس من عذابهم ما حاجتي لأحجار وأخشاب ورسوم تصدر عن الوهم وتذهب إليه أريد أن أحلم
ترك طرفة المكان وخرج يدمدم بكلمات هي بين الغضب والنزيف فاض به الشكّ وتفجرت الأسئلة ليلته الماضية كانت أقسى عليه من لحظة خروج الروح من الجسد توغل بأسئلته كثيراً وهو يتحقق مع راعي كنيسة دير العذارى الأسقف مار يوحنا الأزرق في صمت الآلهة عن شعوبها، مستعصياً عليه هذا الصمت فهو لا يفهم لم لا تكالم الآلهةُ الناسَ الذين يعبدونها أليس من حق الإنسان أن يكالم سيده يناشده ويساجله الحديث هو ضربٌ من الحب، هو الصلاة في لحظة العمل غير أنه لا يرى آلهة تعبأ أو تكترث بمن يصلي لها ويعبدها ويتضرع إليها
حين بسط طرفة للأسقف سلامَ الاحترام، سأله عن صمت الآلهة إزاء بطش الملوك في الناس سأله عن تكاثر الأديان ونقص الحب، وعن تناسل رجال الكنائس والمعابد من دون أن تردّ الآلهة التعاسة عن بشرٍ لا يتوقفون عن الصلاة والشكر ولا ينجون من العذاب
كانت تلك الليلة محمومة بفعل الأسئلة التي حسبها الأسقفُ الأزرق ضرباً غير مسبوقٍ من التجديف الذي لم تعهده كنائس الحيرة ولا أديرتها لقد وصل جدالُ الشاعر حدود الفزع، فاضطر الأسقف أن ينزع الصليب من يديّ طرفة فيما كان يصرخ في المذبح
إن كنتَ تسمعني،
أنظرْ إليّ وخلصني
تمكن الأسقف الأزرق من الحيلولة بين طرفة والخشبة، خرجَ به إلى حديقة الدير يتلو له كلمات تردُّه عن الغَيّ مما جعل طرفة يترك دير العذارى إلى حانة قريبة
طفق طرفة يبوح بكوامنه في فضاء المكان الذي يذهب إليه في البحر والبحرين يطلق أشعاره ويوقظ أسئلة الناس المحبوسة لا ليصقل الحياة في الأرواح المستسلمة فحسب، لكن ليضع القناديل للخطوات المذعورة في طريق الخروج على آلهةٍ تُعِينُ الطغاةَ على الناس
غير أن أحداً لا يقرأ قلبَ الشاعر ولا يرى إلى نبوءاته، فأتاحَ ذلك للملوك أن يستفردوا بالشاعر ويغدروا بأحلامه

***

المرقش الثالث

وحدك في سديم الخلقِ
شيطانٌ وسربُ ملائكٍ
لتهدج الكلمات خفقٌ ضاربٌ في التيه
سوفَ تضيعُ
لكنَّ القصيدةَ وردةُ القنديل تسعف رمية في النرد
فاعلمْ كيفَ تكتبُ كيف تقرأُ نجمةً في الشمس إنَّ لديكَ ما يهفو هناك لديكَ جَدٌ رَقَّشَ المعنى لكي يغريكَ بالكلمات درسٌ ينتهى بالفقدِ،
مثلك بعد أنْ أوصى بكَ النساك في الحانات حيثُ الأبجدية تنقذ القتلى، وتقرأ سيرةَ الشعراء فاعلمْ كيف تصغي للملائك برهةً في الصمت
بيتك في ظلامِ الشرقِ
يقتلك الكلامُ وتسعفُ القتلى بشِعرِكَ بالمرايا مشرئبات
كأنَّ شُجيرةَ النارنج تؤنسُ غرفة الأسرى
ووحدُك مرةً أخرى
ستعرفُ كيف تكتب وردةَ الأنخاب
كأسٌ وانتعاشة خالقٍ ورماد أخطاءٍ ملفقةٍ
كفِعلٍ ساكنٍ يصحو
وفصحى عند يقظتِها
وباب أول للفتح

***

الكلمة هي أن تكتب

وضعتْ الكلمةُ يدَها على رأسي وأخرجَتني من النوم
أيقظتني الكلمة وقالت اكتبني قلتُ كيف وأنا لا أعرف قالت اعرفْ أن تفعل، أن تكتبَ فالكلمة هي أن تكتبَ، والبدء فيها ومنها تنشأ حياتك وبها تصير
ارتعشت بي الأوصالُ والفرائصُ نهضتُ مشدوهاً كأن الغيم يخترقني وتنال مني حرائق الصهد وقفتُ إلى وردة أسألها كيف أكتبُ؟ قالت يا بُنيّ، لا تبلغُ الحلمَ إلا حين تكتب، ولا تكتب إلا إذا قرأت الكلمة، ولا تقرأ إلا بعد أن تعلم فمن توقظه الكلمة لا يعرف الغفلة أبداً الكلمة أول الكتابة وفاتحة الكلام
سألتها كيفَ، ومن أين لي أن أفعلَ ذلك
قالت أخرجْ من نومِكَ إلى حلمك، واذهبْ إلى الحيرة
كأن الحلم أطول من الليل كأن لم يكن ليلاً وأول عهدي بالحيرة عندما سمعتُ عنها من وردة، التي سهرت بي بقية الليل تحدثني عن جدي المرقش الذي عرف الكتابة هناك، فأدركتُ أن الحيرة مكانٌ يقصده أناس مختلفون لغايات كثيرة قالتْ إذهبْ إلى هناك وابحثْ عن البيت الذي عرف فيه المرقشُ القراءةَ والكتابةَ وستجدْ من تأخذ الدرسَ عنه
دَعْهُ يضعُ لك الكلمةَ في القلب

***

شهلاء تشهق

شهلاء،
شُرفةُ طرفة على حريات اللذة وفتنة النزوات في فضاء الحيرة
قال لها ? أتزوجُكِ الليلة
قالت له ? تأخذني بشَرطي أكونُ لك بشرطك
وجدَ فيها حضنَ حرياتِه الفاتنة تسكُبُ له فينهلُ منها ويغمرها فتذهَلْ

شهلاءُ،
امرأة في حانةٍ في حيرة الليل، ستأخذُ طرفة إلى المعلم الحَيريِّ العجوز حيث كان الشاعرُ يبحث عنه ليأخذَ على يديهِ الكتابة، حسبَ وصية جده عن أبيه على لسان وردة ? ابحثْ عن بيت رجلِ في الحيرة يقال له (الكامل) أخذ عنه جدٌك المرقش الكبير رسمَ الخطِ والقراءة
سمعتْ شهلاءُ طرفة يروي تلك الوصية فشهقت
إنه جدّي أيها الشاعر، سآخذكَ إليه؟

***



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
hassanbalam
® مدير المنتدى ®
hassanbalam
رسالة sms : سيرى ببطئ ياحياة
لكى أراك بكامل النقصان حولى
كم نسيتك فى خضمك
باحثا عنى وعنك
وكلما أدركت سرا منك
قلت بقسوة
مأجهلك!!!!
ذكر
عدد المساهمات : 11555
الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى
العمل : مهندس
نوسا البحر : طرفة بن الوردة ديوان قاسم حداد 15781612
طرفة بن الوردة ديوان قاسم حداد Icon_minitime 2019-09-06, 1:38 pm

في حضرة الكتابة

وقفَ يسترد أنفاسه بين يديّ صاحب الكتابة، مرخياً كيانه المتعب، وهو ينظر إلى الشيخ الوقور الجالس على حشيةٍ في حوش الدار، ويداه مرخيتان أمامه على تختٍ أصغر من كفّه ذات الأصابع المستعرضة لفرط الخطّ فوق التخت دواةُ الحبر وبعض أوراق الكتان المصمتة بصفرتها العتيقة احترمَ طرفة صمتَ شخصٍ استقبله عارياً من الاستغراب والترحيب معا كأن العجوز قد اعتاد اقتحام الغرباء عزلته بهذا الشكل الداهم لكن ابتسامة صغيرة مرّت على شفتيه عندما رفعَ رأسه ينظر إلى الزائر الغريب تنحى طرفة عن مدخل الحوش اختار ركناً في جانب المكان وجلس
هل تعرف أني ذرعتُ الزمان وقطعتُ المسافات لكي أصل إليك؟
اتسعت ابتسامة العجوز
- أعرفُ، وكنتُ انتظرتك
- تعرف ؟ من أين تعرفني؟
- أخبرني أبي أن شاعراً أوصاه بشاعرٍ من أحفاده يقصده ليأخذ الكتابة منه ولم أتوقف عن انتظارك مع الكتابة منذ البدء إن الكتابة تنتظر من يسعى إليها فهي النعمة التي لا تذهب إلى أحدٍ لا يطلبها

***

الفضاء والطير

ثمّ ذهبتُ إلى صاحب الكتابة، وقفتُ بين يديه، أسأله أن يعلمني النظام في رسم الكلام فأخذ كلامي يمتحنه ثم قال لي ها أنت ترسمُ الكلامَ بنظامٍ من عندك، فلماذا تريدُ نظاماً من غيرك أنت لا تحتاجُ في كتابتك لسواك
قلت له سمعتُ أن ثمةَ حدوداً موضوعةً لكي تكون الكتابة مقيدةً حسبَ نظامٍ مجموعٍ مسموعْ، وأريدُ أن يساعدني هذا على صنيعِ الكتابة قال يا بُني، اذهبْ إلى الكتابة وحدَك أخشى أن أعلمكَ نظاماً تهتم بتخومِه فلا تعودُ تكتبُ نفسَك اذهبْ فإن كلامَك نظامُك
من ساعتِها رُحتُ أضعُ الكلامَ وحدي، والكتابةَ وحدي، والخطَّ وحدي، وكنتُ كلما ذهبتُ إليه بكتابتي، مرسومةً مرقومةً، أخذَها وخَلَّصَها من خجَلِها وترددها وأطلَقها من إسار الدرس، وقال لي اذهبْ فأنتَ الفضاءُ والطير .

***

صادفَ عندما قِيل

يُروى أن المتلمس خالٌ غير مؤكدٍ لطرفة
(وصادف أن وردة لا تلتفت ناحية المتلمس إلا لكي لا تراه)
قيل إن طرفة لم يكن يعرف أن المتلمس خالٌ له
(وصادفَ أن رواةً أشاروا بأنَّ المتلمس قد حمل لطرفة ضغينة مبكرة منذ أن كان صبياً، لكونه تجرأ على انتقاد تعبير له لا يصلح في المعنى ولا يصح في الصورة، مما جعل بعضُ الرواة يُعدُّونَ المتلمس في الإبل أكثر منه في الشعر)
قيل إن أولَ من تَحَدَّثَ عن حضور طرفة في بلاط عمرو بن هند هو المتلمس لا غيره وهي الرواية الأولى الوحيدة التي نقلها الأصمعي وابن السكيت عن مصدر وسيط مجهول
(وصادفَ أن شكاً سوف يخالط شخصية المتلمس من جهة أنه من مبتكرات الرواة الذين استهدفوا تأثيث الحكاية برمتها بأسباب وعناصر تريد أن تجيز قتل الشاعر من قبل الملك)
قيل إن الرواة وجدوا في شخصية المتلمس عنصراً حاسماً "شاهد ملك" تقوم عليه مجمل سيرة طرفة، فعملوا على استنطاق المتلمس عن رفقة طرفة له في بلاط الملك، وراحوا يبنون على ذلك ويجمعون القرائن، لا ليؤكدوا ذهاب طرفة إلى بلاط الحيرة فحسب، ولكن ليجدوا للملك الأسبابَ التي تبرر لجوءه لإيقاع العقاب بالشاعر، من لحظة دخوله المستهتر على الملك حتى تجرئه على هجائه القاسي له ولأخيه قابوس
(وصادف أن خيال الرواة في شتى العصور ومختلف السياقات قد تفتق عن أسباب عديدة لمقتل طرفة، نخصُّ منها خمسة، كل سبب يضرب شططاً في ناحية، فيجعل الحكاية قائمة على تهافتٍ يَشي بالنية المبيتة لقتل شاعرٍ خارجٍ عن سلطة القبيلة وتقليد المجتمع وحكم السلطان)
رواة اجتهدوا للاتفاق على تأييدٍ مضمرٍ فظّ لفعل الملك والقبيلة
قيل، فلما التقط الرواة الأوائل شخصية المتلمس، بحقيقتها الهشة، دون أن يتريثوا للتيقّن من مصداقية تاريخها في ذاتها أولا، ثم التبصر في إمكانية قبول حديثها وروايتها كحقيقة لاحقة وناتجة عن ذاتها ثانيا، إنما سارعوا إلى تكريس شخصية المتلمس من أجل أن يتسنى لهم إنشاء الرواية واستكمال القرائن التي تجعل من تلك الأسباب حكماً ناجزاً
(وصادف، أن الخيال الهامد سيقبل هذا السرد الهشّ لوقائع الأحداث روايات ابتكرتْ شخصية المتلمس من أجل الفتك بطرفة)
قيل، وضع الرواة الشاعر في قفص الإدانة بتهمة الاستهتار بالملوك وعدم احترامهم، صادرين دائما من رواية المتلمس، هذه الأكذوبة التي ستواصل سرد الأكاذيب، فيما هم يواصلون جمع القرائن، رواية بعد رواية وعصراً بعد عصر، دون العناية بشروط تماسك الروايات ومنطقيتها أدبياً وتاريخياً
(وصادفَ أن جميعَ الرواةِ كانوا، فيما يسردُون أسبابَ ضَغْنِ عمرو بن هند على طرفة وسعيه إلى تدبير قتله إنما يضمرون كراهيةً خارجةً عن حدودِ رواية الأخبار وسردِ الأحداث، ليبدو الأمر جمعاً للقرائنِ التي تُجيز الفتك بالشاعر وفي ذلك سلوكٌ قمينٌ بالقضاةِ والجلادينَ لا المؤرخين والأدباء)
قيل، هذه هي أسبابُهم التي توافقوا عليها، دافعين بها، مجتمعةً، بحيث إذا لم يُقنع سببٌ واحدٌ أقنعَ الثاني أو دعمه الثالث وبهذا يسوقون لنا تبريراً لغضبة الملك لئلا يفلت الشاعرُ من مصيره المحتوم
(وصادفَ أن أسباب غضب عمرو بن هند وقرائن الرواة الرائجة ضد طرفة كانت
الأول عدم تواضع طرفة، وتكبره واعتداده بنفسه في حضرة الملك
الثاني تغزله بأخت الملك
الثالث هجاؤه لعمرو بن هند وأخيه قابوس
الرابع وشاية عبد عمر بن بشر مستشار الملك بـالشاعر بسبب ما قاله في هجائه
الخامس مرافقة طرفة لعمرو بن أمامة، الأخ غير الشقيق للملك، إلى اليمن مناصرة له ضد أخيه)
لعمري، أن كل تلك الأسباب كفيلٌ الواحد منها بفضح جميع الملوك وهي كلها لا تسوّغ مصادرة حق شاعرٍ واحدٍ في حريته

***

آية المائدة

كنتُ في غجرٍ وصعاليكَ وجَرحى وطُهاةٍ جبارينَ
كنتُ إذا جُـنَّ الليلُ، تذكرتُ رفاقاً رَحلوا، ورفاقاً وصَلوا
ورأيتُ رفاقاً شَقُّوا راياتِ قبائِلهم،
وأقاموا في محرابِ كنائِسهم، يقتَتِلونَ قُبيلَ الذبحِ
فما صَلُّوا عند البابِ وما دَخَلوا
غَجرٌ في الحب إذا خَجَلوا
تلمَعُ تيجانُ الشِعرِ بِهمْ
يَهْجُونَ الريحَ، وينحرفونَ عن الغيم
أدِلاءُ يَضِيعُونَ ولا يمتثلونَ
فكنتُ إذا جنَّ الليلُ سمعتُ نحيبَ جنائِزهم تَسعى هائمةً في هيئةِ محّاراتٍ ثاكلةٍ،
تنسى البحرَ وتخشى غزوَ الصحراء
أدلاءُ،
وأسمعُ أجراسَ صلاةِ الخوفِ تَفُرُّ بهم
غجَرٌ في سَفَرٍ والعمرُ قصيرٌ
وأطباءُ يداوونَ القلبَ بماءِ النشوةِ
يَدَّخرُونَ رثاءَ العطشى لمديح البحر
دواءُ الغجر المهدورين
كتابٌ يَحظى شعبُ المفؤودين به
غجرٌ وصعاليكَ وأسرى
كنتُ أعالجُ خوفَ الروحِ بهم
غجرٌ يرتعشونَ لفرطِ الدهشةِ
في الجَرحِ وفي التعديلْ

***

انجراف المسعَى

أجيءُ منجرفاً
على طللٍ ولا أبكي عليه
وَقْعُ أقدامي حروفٌ
ويدي في عُنقِ الخيلِ
وأخباري طريقٌ
وأمامي أفقٌ أسعى إليه

***

يقظة الرماة

أخطأتُ في التقدير
أسماءُ السُلالةِ بابُها السري
مَنْ يقفو سُلالته سيبقى خارجاً هَمَلاً
ومَنْ ينسى الهواءَ يضيعُ في برد المنافي،
في فيافي الريحِ، منسياً على جُرحِ الطريق
وكلُ منْ ينسى يُذَكّرُه الرماةُ
فلا ملائكةٌ يَرفُّ جناحُها لا أغنياتٌ سوفَ تكترث، ولا تَرِثُ الرمالُ
ولا تنالُ سوى النواجذ
واحتمالات المقاصلِ كلها تمحوه من حبرِ الكتابة
لم أكنْ أتلو كتاباً
كلما حاولتُ تأويلَ الصَدى، أخطأتُ في التقدير
نصفُ الشمسِ يكفي لو أضأنا الليلَ قبل تَشَرُّدِ الأطفالِ من أحلامهم
حاولتُ رسمَ الماءِ في غيم الجحيمِ
كأنني أخطأتُ في التقدير
لم أدْرِكْ سوى ظلِ الهواء كأنما شخصٌ يؤلِّفُ غابةً من وردةٍ،
ويسوقُ قافلةً من الأخبار في صخرٍ
تُرى أخطأتُ في ليل من الأخطاء؟
أن تهجو الطريقةَ،
أن تَرُدَّ عن الطريق،
وأن تَرى في غرفةِ الأحلامِ وحشاً
إنْ تكنْ فرداً تجدْ فيكَ القبيلةُ خصمَها اليوميّ أنتَ عدوُّها
إن كنتَ قد أخطأتَ فارجع، واعتذرْ واخضعْ لتقويمِ السُلالةِ
لا تصدقْ غفلةَ المرآةِ
عندَ بقيةِ المعنى رَؤىً تفنى
وأسرارُ السُلالةِ كلها مكشوفةٌ
إن كنتَ قد أخطأتَ في التقدير
لن يكفيكَ أن تنسى جناحَكَ كي تَطِير
الماءُ بحريٌ
ونصفُ الأرضِ لا يكفي لشعبٍ شاخصٍ كالشمسِ

***

الذريعة

قيل،
فلما استحكمتْ حلقات طرفة عن يدِ عمرو بن هند ولم يطقْ صبراً عليه، وتيقنَ أن شاعراً مثلُه لن يمتثلَ لسلطة ملكٍ مثلَه، ولن يسكت عليه، ناهيك أن يسعى إلى مديحه، اجتمعتْ لدى الملك الأسبابُ التي تجعله يرى في الشاعر المتمنع عن بلاطه خارجاً عن كل سلطةٍ وكل عُرفٍ وكل قانون. فلكأن عمرو بن هند يرى في الشاعر سماءً بعيدة عليه، لا يطالها ولا هي تنظر إليه.
قيل،
بعد أن اطمأن الملك إلى أن قوم الشاعر يستبعدون عنه، وأن قبيلته وأعمامه ضاقوا ذرعاً بسلوكه المتحرر، الذي يشيعه في الناس ويجتذب إليه الفتية ويسحرُ به الجميع، وبعد أن أصابَ مقتلاً بعدم مرافقة المتلمس إلى بلاط الحيرة، اعتبر الملكُ ذلك قمةَ الاستخفاف ونقضاً لاحترام المقام وشذوذاً عن شعراء ذلك الزمان.
قيل،
وكان من عادة ملوك الحيرة أنهم نَهّازونَ للفرَصِ، واستغلال الخلافات والمنازعات الداخلية بين أحياء وقبائل البحرين، في سبيل توطيد سلطة بلاطهم وتمكين سطوته في هذه البلاد.. «فالشعر من وسائل الخدمة السياسية التي استعان بها ملوك الحيرة في بسط نفوذهم في جزيرة العرب» (حسب جواد علي في «مفصل تاريخ العرب قبل الاسلام»).
ولم يفوّت عمرو بن هند ذلك لكي يحكم قبضته فيهم وتحقيق نيته المبيتة في التنكيل بطرفة بأيدي قبيلته وأدوات قومه. حتى قيل إن أعيان قبيلة «بكر» قد وعدتْ الملك أنها ستعمل على دفع طرفة لمرافقة المتلمس للقدوم إلى القصر.. وهي القبيلة التي عُرفَتْ باعتدال صلتِها بالحيرة، وميلها إلى التفاهم والمهادنات مع الملوك اللخميين والتواطؤ معهم، حتى قيل إن طرفة هو الاستثناء الأبرز في «بكر» لمعارضته سياسة عمرو بن هند، الأمر الذي سيشكل الشذوذ المحرج للبكريين في علاقاتهم التقليدية مع الملك، إذ إن أول ما سيُضربُ في تلك العلاقات هي المصالح التجارية لشيوخ البكريين، وذلك لما يعرفُ عن ملوك الحيرة من أنهم عصب التجارة، حيث تجوبُ لطائمُهم أرجاءَ جزيرة العرب والشام.
قيل،
إن طرفة كان يعي كل تلك الملابسات التي ستكون ذريعةً لقبيلته من أجل التنكيل به. فلم يزده ذلك إلا رفضاً للامتثال لصلف عمرو بن هند ورغبته الجارفة في اضطهاد أهل البحرين، التي ستكون الهدف الدائم للاستغلال والاضطهاد والظلم وإهانة الشعراء وتكريس امتثالهم.
قيل،
فبعث عمرو بن هند والياً جديداً على البحرين يدعى «عبد هند» ليكون عبداً فعلياً يحكم بما يمليه عليه «عمرو بن هند» لكأن الاسم هو أيضاً جزءٌ من تأثيث الأسطورة بما يستقيم مع دور الشخص في الحكاية. فيكون خبرُ موتِ الشاعر متحققاُ بأبطاله المعينين، اسما وفعلاً، بالصيغة التي تمنح الأمر أسطوريته الخاصة. وقد جاءَ والي البحرين الجديد بثلة من الجند المدججين المكلفين بتولي مهمة الفتك بالشاعر.
قيل،
فلم يكد «عبد هند» يصل إلى دار إمارته حتى بعث بالعسس خلف طرفة يتقصّون عنه ويطلبونه. فعرف أنه يعود كل يوم آخر الليل بعد سهرته مع رفقة القصف والمتعة، فترك الجند يذهبون إليه قبل الفجر ويأتون به مقيداً بالأغلال إلى سجن الولاية. وزيادة في الحيطة بعث بصاحب السجن شخصياً منذ منتصف الليل لكي يشرف على تنفيذ أمر القبض.
قيل،
فلما حاصر الجند الدار في ذلك الليل، ووقف كبيرهم يطرق الباب منادياً على طرفة أن يخرج، إذا بفتية يزيدون على العشرين يخرجون من الدار معلنين أنهم جميعاً يدعون طرفة. بوغت الجند وقائدهم بالأمر. وبعد تردد لم يجد بداً من أن يقود الفتية جميعهم إلى دار الإمارة، معلناً للوالي أنه لا يعرف على وجه التعيين أي طرفة فيهم المقصود بأمر القبض. وأن على الملك أو أصحاب الأمر ممن يعرف طرفة أن يختاروه من بين العشرين طرفة المتقدمين.
قيل،
فأدرك صاحب السجن المكلف، بأن ثمة من هم على أهبة الاستعداد للدفاع عن طرفة والذود عنه وتحمّل العقاب فداء له. افتر ثغره عن ابتسامة رضا مكتومة متخففاً من شعور الوحشة في هذا الموقف الصعب. ثم أخذ يجول بين الفتية كمن يستعرض كائنات أليفة، مستعيناً بصلابتها على اجتياز ما هو فيه. فإذا بطرفة يبرز من بينهم مبتسماً متوجهاً إلى صاحب السجن:
- على الملك أن يعرف ماذا يريد. أما أنا فقد عرفت، فماذا تريدون مني؟
فقال له صاحب السجن :
- أنت تعرف أيضاً أننا لا نريد منك شيئاً، إنما هو الملك الذي يريد. وهذا أمر بينك وبينه. فالملوك لا يطلبون. إنهم يأخذون فحسب.
ضحك طرفة وأشاح بيده قائلاً :
- فليأخذ عمرو بن هند ما يريده من طرفة، واترك هؤلاء الفتية يذهبون. إنهم لأحرار هذه اللحظة أكثر منا.
قال صاحب السجن:
- جاء الفتية بمحض إرادتهم، ويذهبون متى يريدون. الملك لا يريد أحدا سواك.
قيل،
فلما دلف طرفة داخل السجن كان الجند لا يزالون يقفون مثل القيد المحكم خارج السور. فقال طرفة لصاحب السحن: «ألن يفك جندك حصارهم ويذهبوا إلى راحتهم. ألا تطمئنون لشخصٍ جاءكم بقدميه؟ هل يريدون أن يأخذوني إلى الملك أسيراً؟»
قال صاحب السجن:
- لقد بعث الملك والياً جديداً ليعمل على أمرك.
فرد طرفة:
«إذن لتمنح الجند راحةً للنوم، ثمة كوابيس في انتظارهم.
جلسَ صاحب السجن على أريكته وطلب من طرفة الجلوس ريثما يجهزون له الزنزانة».
قيل،
مرّت الدقائق طويلة ثقيلة. الاثنان ينظران إلى بعضهما دون أن ينبسا بكلمة. إلى أن كسر طرفة جهامة الصمت:
- والآن. ها أنا بين يدي سلطتكم، ماذا تريدون؟
قال صاحب السجن:
- إنه الملك.
قال طرفة:
- إن خضوع مثلي لمثله أمرٌ إذا جاز له فهو لا يليق بي. وإذا قبلته فلا يغفره الشعراء لي.
فنهض صاحب السجن بتثاقلٍ واضحٍ كمن يحمل الجبال على كتفيه:
- لو صح للسجان أن يختار سجناءه، لتخفف من مشقة حبس نفسه في قيد هو الجحيم بعينه. لكأنك تدرك أننا مكلَّفون بما يسحقنا.
فوقف طرفة ينظر إلى صاحب السجن ملياً كمن يريد أن يخفف عنه عبئاً بات محسوساً. ثم اتجه ناحية نافذة تطل على باحة السجن:
«يهجو شاعرٌ ملكاً، فيذكرون الملك بهذا الشعر. ويقتل ملكٌ شاعراً فيعرفُ الشاعرُ مقتولاً بالملك. على عمرو بن هند أن لا يغترّ بهدر دمٍ ليس للنسيان».

***

فهرس النزوات

كنتُ في الحيرة. في حاناتِها
في القصيِّ الخفيِّ من الرمزِ. ممّا تأبّى على القتلِ
حيث الغيومُ التي امتزجتْ وانتهتْ في يدِ الله
خمراً وحبرا.
وكنتُ انتهيتُ إلى فهرسِ النزوات
نهاياتها هودجٌ يترنحُ
يأخذني
أتهجاه أهجو وأهتاجُ
كنتُ ابتدأتُ بعيداً، تقمصتُ ناياتها
حرسٌ حائرٌ. تقمَّصتُها
قال لي صمتُها:
«فلتكنْ يقظةً
إنهم يتبعونك يُحصُونَ أنخابَك الساهرةْ
نداماكَ بيضٌ، فلا تأمنْ السحرَ والساحرةْ»
كنتُ في الحيرة. في دَيرها.
أبحث عن جنة الشعر في خمرِها.
عن رؤاها المصانَة بالصمتِ.
في مهبطِ الطينِ والكاغد الحُرِّ.
في دهشةِ القصبِ المستهامِ بأحبارِها
بالكتابة ترفعني للسماء
قال لي:
«غيمةُ الله تحنو عليكَ
ولكنهم يبصرون. فأقوى من الغيم صوتك
يستعجلونك للموت،
فاسبقْ دم السيف في غدرهم».
فانتهيت
انحنيتُ على كتفِ أمي
وأدركتُ سِرَّ حكاياتها الحائرة.

***

مهندس الدسائس

ثمة رواية تقول إن قبيلةَ «بكر» اجتمعتْ على أن تطلبَ من طرفة أن يكون رسولها إلى بلاط «الحيرة». يسعى لدى عمرو بن هند الملك، بالدفع إلى استرضائه، للنظر بعين العدل إلى حال حيِّهم، زاعمين لطرفة أن ذلك من صُلب مهمات الشاعر في قبيلته. وليس من اللائق أن يتخَّلفَ عن ذلك، وعليه أن يرافق المتلمس الذي ظل يقصد بلاط الحيرة منفرداً. غير أن طرفة استنكر طلبَ «بني بكر» واسترابَ في مقاصدهم، وهُم الذين صنعوا به ما صنعوا. فلما أبلغ أمَّه بما يريده القوم. صرختْ برأسٍ محسورةٍ :
«يا ويلهم ويا ويلكَ معهم. إنهم يبعثون بك إلى مكيدةٍ دبروها مع الملك، فخذ حذرك من الجميع».
قيل فلم يذهب طرفة إلى الحيرة إلا لاهياً في حاناتها، أو ساعياً لتعلم الكتابة. وقيل إنه لم يزر بلاط الملك. فقد أدرك أن «بني بكر» لم تكن لتريد إنصافاً من عمرو بن هند، وهي من بين أكثر القبائل صلةٍ بالملك. ولديها من الامتيازات ما جَعلها شريكاً كاملاَ مع ملوك الحيرة، في اللطائم التي تجوبُ جزيرةَ العربِ والشامِ بالتجارةِ، الذين كانوا يحكمون ويملكون في آنْ. ولأن طرفة لم يقصد بلاط الحيرة، اعتبره عمرو بن هند شاعراً متكبراً ينزعُ إلى تمردٍ يصلُ حدَّ الاستهتار. وهذا سلوكٌ لم يعهده ملوكُ «الحيرة» ولا يقبلونه ولا يصبرون عليه. فما كان من الملك إلا أن حرّض «بني بكر» على شاعرهم، وزيّن لهم المزيدَ من الامتيازات والعطايا عندما يستكملون معه تلفيقَ ما يؤدي إلى النيلِ من الشاعر، بما يشي بأن طلب بني بكر من طرفة الذهاب الى بلاط الحيرة لم يكن سوى مشاركة واضحة في مؤامرة القصر لإخضاع الشاعر.

***

كأنّ الحرف طفلك

تعلمتُ الكتابةَ قبلَ أن أُحصي شروطَ الموتِ
صارتْ جنتي لغتي.
وجَدّي قادني في الأبجدية مثلَ مشكاةٍ.
وزَيَّنَ لي القراءةَ كالثمالة في مساء الكأس
قال: ابدأْ كتابَكَ بالحروف المشتهاة
اكتبْ كأنَّ الحرفَ طفلك
واجعلْ الباقي من الكلمات رفقتك الصديقة.
هذه لغةٌ تضاءُ وتُصطفى وتنوبُ عنا
كلما تُهنا بها.
افتح لها في قلبك السريّ مملكةً
لتحفظَ حقها في حبك. اصقلها بماء الروح،
واطلقْ في حجارتِها الكريمةِ شِعركَ المجنون،
واكتبْ باسمِها ما يجعلُ التأويلَ حُـراً كي ينوبَ عن الملاك.
وأنتَ تهذي بالمعاجم. تفتحُ القاموسَ كي تنسى
دَع الفوضى النبيّة في دليلَك كلما أبحرتَ
غُصْ حُراً وحيداً في وريدي
يا حفيدي
عندما تأتي بعيداً في قصيدتك الوحيدة نحو غيم النص
حين ترى الكتابةَ جنةً أعلى، وتنهالُ اللغاتُ عليكَ مثل الحلم
لا تخشَ المغامرةَ. انتعلْ برقاً
فدُرُّكَ في حديدي يا حفيدي
سوف لن يكتبْ سواكَ قصيدةً تحنو على غدرِ القبيلة
لا تخفْ
واقرأ كما يدعو الملائكةُ
انتبه واكتبْ كما يُملى عليك
وما يفيضُ الوحيُ فيكَ
هذه لغةٌ تَرى لكَ ما يُضيء وتصطفيك
اذهبْ بها حراً بعيداً
سوف يأتيك الملوكُ ويقتلونك
كنْ بعيداً في حِمى الكلمات،
وارسمْ في كتابك شرفةً، فالموتُ دونك
أطلقْ حروفَك غيمةً في وحشة الصحراء
تملكها وتؤنسُ روحَها وتصيرُ جيشاً واحداً
إقرأ لهم.

اكتب كتابَك في زجاج الرمل
وأتركْ في «النمارة» ما يفيضُ عن الإشارة
هذه لغةٌ تُحبُك كلما صليتَ في محرابِها
ستصدُّ عنكَ الموتَ
إقرأ غيمها. أكتب لها
أوصيكَ
يبقى الشِعرُ رَقشاُ في قميصِكَ كالشهادة
فليكن نقشاً على قداسها

***

من الله

لم أكنْ في مكانْ
كانت الريحُ تنتابُني
والقوافلُ تسعى لقتلي على مهلِها
أملك الآن أن أمنعَ الموت عنِّي
لأنِّي من الله
في السرِّ والآلهة.

***

«المشقّر»

مثلكَ،
برهةٌ أتوجهُ فيها إليك. برهةٌ تشعُّ مثلكَ. شمسٌ متعامدةٌ على سجادة الرمل فيسطع نورٌ كثيفٌ، ، على حباتٍ لانهائية. تكادٌ لفرط تأججها تنفرز حبَّةً حبّةً. تلك شقرةٌ غامضةٌ ممتزجةٌ بالفضاء الملتهب. كان الذهبُ ينهمرُ في الطريق إليك. شغفٌ يغمر المكان. الشمس من أعلى والرمل ينبسط برحابته الصارمة. تلك هي الشقرة الأزلية. تلك البرهة أدركت من أين أخذت هذا الاسم الفاتن الذي استحوذ على حواسي حين قالت لي «وردة»: تثبَّتْ من مواقعَ أقدامك، فثمة بوابة اسمها «المشقر» لابد لك أن تعبرَها ذات يومٍ، فتعرف أن الحياةَ تستحقُك كلما اكترثتَ بها».
أيها المشقر الشامخ. من أين أتيت وإلى أين ستأخذنا في آخر المطاف. من أنت ما أنت. تذرع بنا المسافةَ بين السجنِ والسوق والقصر والحصن وتستعصي على الدلالة.
وقفتْ «الرقلاء» بي وهي تنفثُ رغوتها الفضيّة موجاُ طائشاً في أشفارها المتهدلة، ملتفتة ناحيتي لكي أكفَّ عن هذا المسير الطويل المتواصل.
تسأل: «ماذا تريدُ من الصحراء أكثرَ مما أخذت؟»
فيا أيها المشقر الشقي، هل نجد لديك مكاناً آمناً نتبادل فيه الأنخاب معك؟ هل أنت معهم أم علينا؟ وهل لدينا خيارٌ آخر في مفازاتٍ تحرسك وتصدنا عنك؟
ثمة من يجد لذة في كونك الزرد، فنتضرعُ من أجل أن تنبسطَ لمسارنا القلق نحو النزهة والتجارة واختبار الغياب عن الأحباء كلما فاضَ علينا السفر. فأنت في الطرف الرحيم من مضارب البدو وعلى مشارف النجاة من ملوك الحضر.
أيها المشقّر الشاهق. ينالك القويُّ ببأسه وتنالُ المطارَدَ ليأسه. أية ذريعة للمصابين بالصحراء أمثالنا، ونحن نسعى إليك مضمَّخينَ بعطر الغضب، مجللين بتاجِ الشمس، صدرك سريرُ أحلامنا
مثلك
نجمةُ أحلامِنا تسطعُ كلما احلولَكَ الليلُ حولنا
مثلك.

***

أبٌ مغلوب ومالٌ مغصوب

الصحراءُ ذاتها
التي نالتْ من أبي عندما غادرَ لكي يمتحنَ طاقته على السفر، فاستقرت به الرمالُ في غدرِ الأهل.
لماذا ينبغي على الرجلِ أن يكونَ وحشاً لئلا تغلبه الصحراء، أو يكون ضبعاً ليصدَّ الأهل؟
لم يبق لي منه سوى ريشةِ دمٍ يابسٍ في قميصٍ ممزقٍ، وقطعة جلدٍ عتيقةٍ مثقوبةٍ، مثلَ رسالةٍ تائهةٍ لا تصلُ إلى مكانْ. أيُّ طفلٍ هذا الذي يرثُ تركةَ لا إرثَ فيها سوى أبٍ مغلوبٍ ومالٍ مغصوبْ. ألهذا كلما وقفتُ عند بابٍ أغلقوه، أو سألتُ عن حقٍ أنكروه، أو طلبتُ طريقاً قطعوهْ. وجعلوني أمضي حياتي شخصاً سَقطَ من سريرٍ الكونْ. مائي بلا قدحٍ وطعامي بلا قصعةٍ، ولا نارَ لي، وليسَ للخيلِ رباطٌ في خيمتي. الشِعرُ وحدُه أنقذني من العدمْ. شعرٌ هو الليلُ والنهارُ والمكانُ والوقتْ. وحدُه القرينُ الذي خَصَّنِي بحياةٍ في هذا العالم، ومنعَ عن روحيَ الغيابَ والمحو، وعندما استطاعوا أن ينزعوا مني كل شيء، امتنعَ عليهم أن ينالوا قريني الوحيد. الشعر هو حصنِي القويّ على ضَعفِه، العظيمُ على صغرِه. شِعرٌ هو القلبُ في الجسد، يَصُوننِي ويصدُّ عني ويصقلُ الأملَ في روحي. يأخذونَ مني كلَّ شيءٍ، فيأخذني الشِعرُ عنهم. ليس أشدُّ من الشاعر في شعرِه. وليسَ أمضى منه عندما يضعونَ الغمدَ عنه.
هذا طفلٌ يشبُّ قبل أوانه
وفتىً يَـرْقى إلى رجولتِه خفيفاً كمن يسبق أيامَه
قالت: ماذا ستفعلُ بأعمامٍ قتلوا أخاهم؟
عرفت أنها لا تـريدني أن أذهبَ إلى القتال، فذهبتُ إلى الشعر. إن حاولوا أن يفعلوا بي ما صنعوا بأبي، فسوف لن ينالوا من القصيدة.
كأني ابنُ القصيدة أكثرَ من كوني ابن العبد
في الشِعرِ ينبغي أن تكون حريتكَ باسلةً.

***

حق الوردة

«هل قتلوا أبي حقاً. من أين لهم كل هذا الذي يرفلون به ولا ننال منه شيئاً؟
فقالت له: كنتُ الزوجة «النزيعة» قادمةً من قبيلةٍ أخرى، محصورةً بطفلين تائهين، فاستضعفونا وشحنوا النساءَ والرجالَ علينا. أتقدم في العمر وتتوغلُ في هجائهم، خارجاً على وصاياتهم لا تكترث بحدود مجتمعهم. خرقت سلطتهم. فيرون فيك طيشاً يُجيز لهم حماية القبيلة دونه. فأحكموا حصارَهم بتعضيد أصحاب الجمع والمنع هنا وهناك. لا أحد يطيق الشاعر صامتاً، فكيف إذا كان جهير الهجاء للسلطان. مما جعلهم يستقوون عليك ببلاط الحيرة، في سبيل عدم المسّ بمصالحهم، متواطئين مع ملكٍ لا تعوزه القرائنُ. يَضغِنَ عليكَ ويسعى إلى الانتقام منك.

***

زهرة العنفوان

رُويَ أن طرفة كان جريئاً على كبار قومه الذين يهادنون ملوك الحيرة ويسكتون عن ظلمهم وعسفهم، بل ويخضعون لدورات الجباية والعشور المهينة التي يستخلصها جُباةُ البلاط غصباً يصل حَـدَّ النهبِ. وقد تمكن طرفة من التوغل في نفوس شباب أهل البحرين، وحازَ على حبهم. وهُم تولعوا بطريقته في القول والحياة. يتداولون أشعاره ويعيدون إنشادَها. صاروا يُقبِلونَ على السهر في لياليه، ويَسْعُونَ لحضور مجالسه، والتشبُّه بتحرره، معجبين بجرأة خياله وطرافة أفكاره. وهذا أمرٌ استثار زعماءَ القبائل ورأوا فيه خطرٍاً يتهددُ سلطتَهم. وهم يرقبون تململَ فتيانِهم وتزايدَ تذمرهم وتفشي ذلك في الأحياء والعشائر، مما يَشي بتزايد نزعة الخروج على سلطة القبيلة وأعرافها. وجدوا في هجاء طرفة للملك ورهطه تطاولاً من شأنه أن يعرضهم لانتقامات البلاط واقتصاصه منهم، فاشتغلوا على شبكة المكائد التي تسعى لمنع طرفة عن بيت قومه بتشويه صورته، وتمكين سلطة الملك منه بإنفاذ الانتقام فيه.

***

قصيدة

وكان إذا كتبَ قصيدتَه ووضعها على جسدِه، يكونُ قد وَضَعَ جسدَه كاملاً فيها. وتكون استبطنته وتقمَّصَها. تـدرَّعَ بها مثل خوذةٍ. وتقدم بها. فيبدو كأن جسدَه محجوبٌ عن النظر. محصّن بالكتابة. لا تراهما أعينُ الناس، ولا تصيبهما السيوفُ، ولا تنالُ منهما الرماحُ، ولا يكونُ للزمن سلطةٌ عليهما. يتقدمان معاً. الشاعرُ وقصيدته. متلابسان. متماهيان. يجتازان المسافات. يذهبان إلى التحولات اللانهائية: القصيدة إلى الشعر كله،
والشاعرُ إلى الكون جميعه،
وهذا ما يجعل الشعرَ عائشاً والشاعرَ حياً.
فلا أحد يعرف حدودَ الشخصِ من حدودِ النصّْ.

***

توأم الدم

كلما جاءَ راوٍ زادني شِعراً وقالَ روايةً أخرى عن القتل المبكر
لم تَعُدْ ترنيمةً تكفي لمرثاةٍ
بكتْ زنزانةٌ وتذكرتني شبهةُ الأسماءِ.
هل بيني وبين دمي علاقةُ توأمٍ
هل ينتمي خوفي لمملكةٍ يؤلفُها رواةٌ خائفونَ
هل سينجو شاعرٌ من موتِه
وهل قَصَبٌ لوراقينَ معتدلينَ فضلُ الكاغدِ الروميّ
كي تحظى قصيدته الوحيدةُ مرة بالمصحف الشَفّافِ والحبر المَطَيَّب
زَعفرانٌ، عَنبر، مِسكٌ.
وراويةٌ له حقُ ابتكارِ الوَصْفِ
هل جاءَ الرواةُ لكي يُسَمُّونَ الكنيسةَ حانةً والبيتَ منفى؟

***

أرى الموت فيها

أتقرّى.
هذه طريقي إلى الموت
تلمستُ أحجارَها
شجرُ الزنزلختِ يسوِّر أخبارَها. فأراها طريقي
أرى الموتَ فيها صديقي
وأرسمُ بالخطو آثارَها
مثلها.
كنتُ أمحو وأكتبُ نسيانَها في القصيدة
تاريخَها
أيها الموت
ألمسُ مثل الحنين المهدَّم أعلمُ
هذا سبيلي إليك
تقرَّيته موحشاً. شارداً. شاخصاً
كنتُ أعلمُ هذي طريقي
أرى الموتَ في ما تبقى من الكأسِ في الرأسِ
هذي طريقي. تلمستها. ضِعتُ فيها
أرى الموتَ فيها .. حريقي.

***

شهادة الغائب

نصُّ شهادةٍ واحدةٍ وحيدةٍ. اختلقها المتلمسُ في رواقٍ معتمٍ من الملابسات. لكي يشيرَ إلى مرافقة طرفة له في بلاط الملك. زاعماً أنه لم يكن هناك وحده. رواية هي على قدرٍ من الخِفَّة والخُبث وسوء الطوية. لماذا وجبَ على المؤرخين الثقة والأخذ بهذه الرواية بوصفها الشهادة الناجزة، دون أن يتعثروا بما يشوب أفكارَها ولغتها من الافتراء والمبالغة الخرافية وقصد الإساءة، بما لا يليق بوصف رجل لابن أخته المفترض. فما بالك بوصف شاعرٍ شاعراً آخر. بل إننا نكاد نرى في وصف المتلمس لطرفة باعتباره شخصاً يتخلَّجُ بحركة القيان، لا رجلاً معتداً بنفسه، جريئاً واثقاً في رجولته ومكانته في الشعر والحياة.
لكن يبدو لنا فعلاً أن طرفةَ لم يكن هناك
وأن المتلمس كان قد ذهبَ، إذا كان حقاً قد ذهب، وحدَه. سَعياً إلى العطايا وحدَه. تحَمَّلَ المهانةَ وحدَه. حَمَلَ رسالة الغدر بمفرده. وليس أدلُ على ذلك من أن الرواة قد تناقلوا القول، الذي ذهبَ مثلا، على تلك الرسالة بوصفها «صحيفة المتلمس»، كناية عن ذهابِ المرء إلى حتفهِ بنفسه، ولم تذكر الصحيفة مقرونةً بطرفة وهو الأشهر شعراً ومكانةْ، يفترض أنه قد حَمَلَ صحيفةَ القتل ذاتَها. لكن يبدو أن المتلمس قد بَيَّتَ نيةَ الإساءة إلى طرفة، وتصوير الحكاية على أنها قد جمعتهما معاً، لئلا يبدو وحيداً في سياق سَعيه إلى بلاط الملك.
يبقى القول ثانية،
لماذا علينا أيضا أن نقبلَ تلكَ الروايةَ الفاجرةَ بَمَكرِها الخبيث، فنُصَدقَ الرواةَ جميعاً وهم يضعون الشاعرَ في مصاف الحمقى، كما سيسجل ذلك أبو القاسم حبيب النيسابوري صاحب كتاب «عقلاء المجانين».
لابد أن شبكة توافقات عديدة قد شارَكَتْ فيها الأطرافُ المختلفة ذاتِ المصالح المتقاطعة، لتحكم خناقها على الشاعر، وتنفذ قرارات القتل المتعدد المستويات، العابر للزمن، المتنوع الغايات والمآرب.

***

بحر يحزّ الكاحلين

كلما ضاعوا برملِ ملوكِهمْ رَدُّوا بعكسِ التِيه:
هل قالَ طرفةُ حزنَه المائيَّ
كنا مُسرعينَ. وكانَ جرحٌ. والغبارُ يضللُ الرؤيا
ونحن أمةٌ تَهذي. إذا كانَ السَرابُ يقودُها
هل قال طرفة عن يَدٍ في الليل
عن بحرٍ يَحِزُّ الكاحلينِ
عن المعادنِ وهي تطفو والخدائع تستميلُ الخيلَ
عن سيلِ الخرابِ
عن الكتابِ.
هل قالَ طرفةُ كل ذلكَ دونَ أن نصغي إليه؟

هذا الفتى الفتانُ
كان قرينةً
كانَ الأدلاءُ الذين يؤججونَ غيابَنا يهجُونه
ويَرُوْنَ في أخبارِه عن مَدْحِنا خَوفَ الملوك.
فيصقلونَ الماءَ في المرآة. نلتهم السَرابَ كأنه أسماؤنا الأخرى
وطرفة يطرق الأرجاءَ
كنا في العَدُوِّ ولا نرى غيرَ العَدُوَّ
كأننا شخصٌ سيقطعُ زِنْدَهُ
هل قالَ طرفة. لم نَعُد في كوكبٍ يجري
فقد شَطَّ الملوكُ بنا
وطرفةُ فاتـَنـا. عُدنا بعكس التيه.

***

حانة شهلاء

ليست ساقيةً في حانةٍ. هي امرأةٌ تُحسنُ صقلَ الأقداح باللطف، وسكبَ الراح بالظرف، وملاعبة أرواح المولعين باللهو والعبث. وَرَثَتْ الحانةَ من أبيها وأتقنتْ عنه المِهنةَ وبَزَّتْ أمَها في الجمال والحيلة. فلم يبق شاعرٌ مَرَّ الحيرةَ إلا زارَ «حانة شهلاء» و تولعَ بها. ولا عاشقٌ إلا تدلَّه بغنجها. حتى قيل: ليلتان في الحيرة تغنيان عن العمر الباقي. ليلةٌ في هوائها وليلةٌ في هواها»
وكانوا يَعنُونَ حانة «شهلاء» بهوى الليلة الثانية.
فما إن انتهى طرفة من كأسِه الثالثة حتى التفتَ إلى «المتلمس» قائلاً: يا متلمس، أظنكَ ستذهبُ إلى ملكك وحدك.
انتفضَ المتلمس كمن استشعرَ تخلي طرفة عن الأمر برمته: لكنهم حَمَّلوكَ رسالتَهم وأودعوكَ أمانةً لابد لك من أدائها.
فقال طرفة مستخفاً: ها أنتَ أحرصَ مني عليها وأقدَرَ على صونها، ولك خبرةٌ في حضرة الملوك. أما أنا فلا قِبَلَ لي بالملوك. لا أقصدُ ملكاً ولا أقفُ بباب ملكٍ ولا أنتظرُ ملكاً ولا أطلبُ شيئاً من ملكْ. فاذهبْ عني.
ثم مالَ ناحية شهلاء مداعباً: يا مليكة الليل والنهار. بحق ملكٍ لن أذهب إليه تعالي أتزوجُكِ هذه الليلة.
وقع هذا القولُ صاعقاً على شاعرٍ يقال له «الأقيشر» كان حاضراً في الحانة ليلتها، وكان مأخوذاً بشهلاء، فالتفتَ منقضَّاً بكلامِه على طرفة:
«لكنكَ نصرانيٌ يا طرفة».
فردَّ عليه طرفة:
«وماذا يعني هذا؟».
وكانتْ شهلاءُ قد اشتملتْ كأس طرفة لتسكب له. فيما تقول له مستجيبةً لدعوة طرفة:
«أهذه الليلة أمْ لهذه الليلة؟»
طارَ عقلُ «الأقيشر» صارخاً بها:
«ولكنكِ يهوديةٌ يا شهلاء».
فالتفتتْ إليه مستنكرة:
«وماذا يعني هذا؟»
فارتجتْ أرجاء الحانة ضاجَّةً لفرط الترنّح الذي بعثه بوحُ طرفة، والغنج الذي استجابت به شهلاء. فأمعنَ طرفة تحديقاً في جيبِ شهلاء، الذي يَفْسحُ لصدرها العارم ما يكفي لاندلاعة نمرين هاجمين يتجليان في مرمى نظرات الثملِ وبصيرةِ السكرانْ. حتى إذا ما تجاسَرَ طرفة على مَدِّ يده لجَسِّ الجسد البضّ. نهرته شهلاء:
«لا أسمعُ كلامَ السكارى ولا أقبلُ تطاولهم».
رَمَقَ طرفة المتلمس المذهول، الذي كان قد بدأ يتخبَّط في وحشة مهمته المتعثرة. منحه ابتسامة صارمة. وأمسك يد شهلاء بثبات كمن يؤدي طقساً: «كوني بيتي في الحيرة كلما قصدتُها. تعالي أبني بكِ وأكتب عليك».
فرَدَّتْ شهلاء:
«أخرجْ من خمرتك الليلة تدخل بي غداً. فعلينا أن نذهب إلى من يشهد على ذلك. فهل تأتي نحتكم إلى النار؟».
فقال طرفة:
«هل تأتين أحتالُ بكِ أمامَ الجنة؟»
هبّ المتلمسُ صارخاً كمن فاضَ به:
« أيها الغلامُ الفاجرُ. تترك رسالة قومك لتذهبَ الى جحيم هذه اليهودية. ما أجبنك عندما يطلبك الموقفُ الشجاع ».
فانفجرَ طرفة:
«فلتأخذك شجاعتك إلى ملكك. وليذهب كل منا إلى ما يُحبْ. أما أنا فلستُ من باب الملوك. ففي الحياة ما يُغني عنهم. وقلْ لقومي أن يعدلوا في ما بينهم قبل أن يطلبوا عدلاً من ظالم».
تفجرَ الغضبُ بالمتلمس. وعرف أنه لا محالة ذاهبٌ بالرسالة وحدَه. فعمد إلى ترهيب طرفة:
«اعلمْ أن الملك يعرفُ انك قادمٌ معي غداً للقائه. فإذا بلغه رفضُك الذهاب فلن يغفر لك»
فعاجله طرفة:
«أبلغه ألا ينتظرَ مني زيارةً ولا مديحاً».
قال المتلمس:
«بحق المسيح إنك تلعبُ بالنار مع ملك فاتكٍ. هذا الذي يدعونه «مضرِّط الحجارة» لفرط بطشه».
ضَحكَ طرفة مستجيباً لنزوع السُخرية والعبث في كيانه. فيما الخمرةُ تصعدُ به:
«لا أفهمُ كيفَ أن ملكاً يقبل بمثل هذا الوصف. لولا أنه فعلاً كيسُ ضراطٍ كبيرٍ».
ثم نهض متألقاً بخمرته:
«اِذهَبْ إلى ملكك وقل له إنني ذاهب إلى العرس وعليه أن يذهبَ إلى ما يُريد».
هاجَ المتلمسُ خارجاً من الحانة. كمن يهرب عن سَماع كلامٍ يُضاعفُ ذعرَه، راكضاً نحو مهمةٍ أدرك بغتةً أنها أثقلُ على كاهلهِ من القتل.

رُويَ أن أحداً لم يعرف ما الذي كان يذهبُ إليه المتلمس. غيرَ أن روايةً قالت أن قوماً صادفوه هائماً على وجهه في طريق الشام بعد أيام. ورَوى بعض السابلة أنهم صادفوا شخصاً يعبر دجلةَ يهذي سائلاً عن أقرب طريقٍ إلى الجزيرة. ويتلفتْ مذعوراً كمن يهرب من نارٍ تلحقُ بثيابه. وقيل أن طرفة هو الآخر قد فَرَّ هارباً بعد ليل شهلاء. تاركاً الحيرة نحو الأرجاء الشاسعة. وقيلَ أن عمرو بن هند قد سَمعَ عن وقائع حانة شهلاء. فغضبَ وعزمَ على مطاردة طرفة والفتك به. فأرسلَ إلى عماله في طلب طرفة وملاحقته بعد أن دخل عليه المتلمس وحده.
ماذا يريد ملكٌ من شاعرٍ لا يريدُ شيئاً ؟

***

الوشاية

رُويَ أنه لما طار غضبُ الملكِ عمرو بن هند شَراراً، التفتَ إلى المتلمس الماثل أمامه، يسألُه عن ابن أخته المترفِّع المتمنِّع عن البلاط دونَ سائر الشعراء. ولما كان في سؤالِ الملكِ غيظٌ لم يرحمْ النفس الصغيرة التي ينطوي عليها المتلمس، شَعرَ هذا أنَّه ليس في مقدورِه حمل وزرَ طرفة في حضرة ملكٍ تفجَّرَتْ نيرانُ غضبِه، وليس لأحدٍ الصبر على أسبابه. قيلَ إن المتلمس في ذلك الموقف تشبَّثَ بتلابيبِ كيانِه الهشّ، وصَفَـنَ برهةً محملقاً في مَنْ حوله، محدّقاً في الوجوه المسمّرة عليه. ثم استجْمَعَ أشلاءَ روحِه التي بَدَتْ كأنهّا تتفَسَّخ في مسكنها، وتتحدَّرُ من بدنِه. ثم بدأ ينهضُ من جثوتِه ببطءِ المذبوحِ كمنْ عزمَ على أمرٍ ذاهبٍ به لا محالة. وما إن اكتملتْ وقفتُه وخرجَ من صفنَتِه، استدارَ على عقبيه دورةً كاملةً، ماسحاَ بنظره الوجوهَ الشاخصةَ، لكي يصلَ أخيراً بعينين ذاويتين إلى الملك، الذي كان يرقبُ من مكانه لحظةَ التحولات العنيفةِ، التي كان المتلمس يكابدها بقدرٍ محسوسٍ من العويل المكتوم. فيما يكمل دورته، كأنه يريدُ أن ينتقلَ بكاملِ كيانِه وحواسِه، من كوكبِ الشِعرِ إلى حضيضِ الوشايةِ، مستعيناً بأقصى ما يمتلكه من فذلكةِ الطهاةِ الدهاةِ، وهُمْ يُولِمُونَ بأقربِ من يَحِبّونَ في مائدة أقصى مَنْ يَرهَبُونْ. ورُويَ عمَنْ جاوَرَ موضع المتلمس في تلك الوقفة، أنه سَمعَ ما يُشبُه صوتَ زُجاجٍ يتهشَّمُ، صادرٍ عن جسد المتلمس ويتحَرك حوله، في حَتٍّ وفي شظايا، وأن صَريراً انبثقَ لحظتها من أعطافِه، يُضاهي صريخَ الكواحلِ منحولةً بفعل صليلِ أصفادٍ باهظةٍ حول العظام البشرية، وقيل إنَّ بعضَهم سَمِعَ المتلمس يكتمُ صوتاً غريباً هو مزيجٌ من النحيب والتضرَّع، فيما يُخرِجُ رقعةً مُهَـلْهَـلةً من ثنايا قفطانه ويرفعها في فضاء الأحداق المترقبة، كمن ينشر أرشيفاً حائلَ اللون والطبيعة، متوجهاً بجماع حضوره إلى الملك:
«مولاي، لا أعرف كيف تكترثون بشاعرٍ مثله كل هذا الوقت، وهو الذي قالَ فيكم وفي آلِكم ما تمنعني الخشيةُ من مجرد ذكره في حضرتكم».
فهبَّ الملكُ ناهضاً في تخته:
«لا تخفْ. أخبرنا بما لديك، فالكلامُ كلُه مهما ارتفع لا يصلُ إلى كعبِ هذا العرش».
انتفضَ جسدُ المتلمس برهةً، وأغمضَ عينيه وهو ينفصل عن لحظة المكان وحقيقة الأمر. منطلقاً في حالٍ من الهذيان والغفلة:
«انه يا مولاي يُخادِنُ ضدَّكُم الصعاليكَ قراصنةُ البرِّ ويستقوي بهمْ عليكم. ولديَّ في هذه الرقعة ما يمحق القائل».
فاستعاد الملكُ مقعدَه كمن يتحصَّنُ لمواجهة الكلام:
«اقرأ .. ولنسمع».
طفق المتلمس يقرأ كأنه يطلقُ نواحاً يرثي نفسه. مرتعشَ الفرائصِ لفرط الخوف. خوفٌ يتجاوز الملكَ والبلاطَ والجندَ والعسسَ والكوكب برمَّتِه. فخشيةُ الواشينَ في موقف الغدر تتجاوز المكانَ وتعبرُ الزمانْ. راح المتلمس يتلو أمام الملك ورجال البلاط ما تيسَّر له من سورة الغضب التي تنتابُ كلَّ شاعرٍ يشهدُ على الدم في الناس، وهي قصيدة ذاعَ صيتُها في البدوِ والحضرِ.. يهجو فيها طرفةُ عصراً كاملاً ويمدَحُ البحر جميعه.

***

فذلكة الرواة

ومما نستخلصه من توارد الروايات المختلفة، المتناقضة، التي هي أقرب إلى الخرافة الساذجة منها إلى النصوص الموثقة، والتي تبدو في معظمها ارتجالاً بيِّناً اخترعه حَكّاؤون يَصْدُرون عن ضَعفِ صلةٍ بالتاريخ وفقرٍ في المصادر من جهة، أو أنهم يتميزون بخفّةٍ لا تليق بجدية الشخصية الأدبية وجذرها التاريخي من جهة أخرى.
ومثل هكذا سلوك سوف لن يعبأ بتماسك التاريخ في النص وموضوعيته وصدقه. بل غالباً ما يلجأ إلى اختراع الأشعار ونقلها على لسان الشخصيات من أجل تلفيق عناصر رواياته بنصوصٍ توحي بورودها على لسان الشاعر. وهذا ما لاحظناه في غير قصيدةٍ من المنسوب إلى طرفة والمتلمس. حيث تراكمتْ أشعارٌ تؤثث حكاياتٍ مفككةٍ تسردها الروايات المتواترة، ويتداولها الرواة، كما لو أنها الحقيقة الناجزة في تاريخ الشاعر وسيرته. في حين أن هذه الروايات، التي تشي بالتناقض وعدم الانسجام، لا مرجع تاريخياً موثوقاً تصدر عنه، ولا معلومة أكيدة تدعمها، سوى تلك العنعنات التي تتناسل وتتناسخ بأقوالٍ على ألْسِنةٍ ركيكةٍ واهية الحجة، أمتعُ منها أقاصيصُ العجائز الخرافية.
من بين مجموع ما وصلنا من أشعارٍ وروايات عن طرفة، ثمة الكثير الموضوع لغاية واحدة فحسب، هو أن يكون كل ذلك سنداً لفصول ووقائع مختلقة ضعيفة لا مصداقية لها، عمل الرواة على اختراعها لاستكمال مروياتهم الخيالية المتصلة بالأسطورة المرتجلة. أكثر من هذا، سنجد بعض الرواة قد اخترعوا شخصيات ذات تفاصيل أسطورية ساذجة للغاية ذاتها. وليس أدل على ذلك من شخصية المتلمس التي سوف يحيطُ بها الشكُّ والقلقُ في غير موقع وفي أكثر من جهة. فمثلما كان لامرئ القيس خالٌ اسمه «المهلهل»، أظهرت الرواياتُ صلته بالقصص الشعبية ليكون جزءاً من تراث الأساطير الشعبية المشهورة (الزير سالم)، سوف نصادف، منذ اللحظة الأولى لحكاية طرفة، شخصية خاله المتلمس التي سوف تتشابه مع شخصية «المهلهل»، مع بعض الاختلاف في درجة الأسطورة. سوف نرى، مثلاً، المتلمس يعود في النهاية إلى بلدته «بُصرى» بعد أن هجرها سنوات طويلة، ليجد حبيبته، ليلةَ وصوله بالذات، تتزوج غيرَه، ولنجد أنفسنا إزاء مشهد درامي بالغ السذاجة مستخفاً بعقل القارئ، من جانبه التاريخي، إذ نقرأ شعراً يتبادله المتلمس مع حبيبته وزوجها الوشيك، الذي سيتنازل بدوره عن زوجته لكي تكتمل الحكاية بلقاء الحبيبة وحبيبها المتلمس الذي ظهر فجأة في ذروة الحدث. مثل هذا المشهد من شأنه أن يدفعنا إلى عدم الاستهانة بالتوقف المتشكك الذي ساقه بعض المؤرخين المتنبهين حول أصل شخصية المتلمس برمتها. حيث لم تكن هذه الشخصية طوال سيرة طرفة سوى عبء موضوعي وعنصر دخيل في حياة الشاعر، ومدعاة لمواقف الحرج المركّب على الصعيدين التاريخي والأدبي، منذ لحظة الشكّ الأولى في حقيقة مرافقة طرفة للمتلمس إلى بلاط الحيرة، حتى الرسالة المزعومة التي ارتبطت شهرتها بالمتلمس وليس بطرفة.

***

ماذا تعرف عن الدم؟

في الفَصِّ الصغير الذي ينعقدُ في شِريانِ الكاحلِ يتوهجُ دمٌ يتهيأ للكلام الأخير. كأنه انتظرَ كثيراٌ هناك. في منحنى الكعب وعقدة القدم. انتظرَ مثل حارسٍ كسولٍ لأسطورةٍ نشيطة. حبلٌ نحيلٌ من العَضَلِ الشَفيفِ. رَشحته الآلهةُ لشفرتين: السهم من هناك والنصل من هنا. انتظرَ كلَ هذا الوقتِ من كعبِ «أخيل» حتى كاحل طرفة. الأسطورةُ ذاتُها لقتلٍ كامنٍ ومرصودْ. ما إن تصيب الشفرة ذلك الوتر المشدود حتى ينهار كل شيء. كلاهما محاربٌ في مكانٍ ومقتولٌ في زمانْ.
أيها النبيذُ الإلهيّ ماذا تعرفُ عن الدمْ؟.

***

سعي المنايا

تلمستُ آثارَ أقداميَ الشاردات إلى الشام
خشيةَ أن يطالَ الرمادُ كتابَ الأمل
تلمستُ أن يسمعَ مني صديقُ الطريق ويلوي عنان الخيال
ويفلتُ من أرخبيل الأجلْ
بكيتُ له أو بكيتُ عليه
سيعرفُ أن الكتابَ المدمّى نشيدُ الملوك علينا
ويعرف أن النبوءة تفلتُ قبلَ اللسان
وأن الذي كان في نزهةِ أيامنا
صارَ سَعيَ المنايا إلينا
تلمستُ أن يعرفَ طفلُ البدايات أفلاكَنا وهي تعبرُ فينا سديمَ النهاية.
منذ اللسان إلى الرأس
حتى الحدود التي سوف تفنى ليبقى لنا النصُّ
يبقى لنا أن نؤجلَ أخطاءنا.

تلمستُ رملاً
سوى أن في الشام لي غير ما تشتهي الروحُ
حتى ندمتُ
كأن الصديق الذي فاتني قبل موتي
هو المحتملْ.

***

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

طرفة بن الوردة ديوان قاسم حداد

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة

مواضيع مماثلة

-
» ثلاثون بحرا للغرق شعر قاسم حداد
» ليلٌ أجمل من الظلام كتابة: قاسم حداد وسعد الدوسري وعادل خزام
» الغزالة يوم الأحد ديوان لقاسم حداد مترجم باللغتين الإنجليزية والفرنسية
» إيقاظ الفراشة التى هناك مختارات من شعر قاسم حداد اختارها الشاعر علاء خالد
» عادات سيّئة,قصائد جمانة حداد

صفحة 1 من اصل 1
نوسا البحر :: فوضى الحواس(منتديات ثقافيه) :: مرتفعات أو سوناتا الكلام

حفظ البيانات | نسيت كلمة السر؟

حسن بلم | دليل نوسا | برامج نوسا | هوانم نوسا | مكتبة نوسا البحر | سوق نوسا | قصائد ملتهبة | إيروتيكا | ألعاب نوسا