آخر المساهمات
2024-05-04, 8:54 am
2024-05-04, 8:53 am
2024-05-04, 8:49 am
2024-04-28, 10:02 pm
2024-04-20, 2:14 am
2024-04-20, 1:54 am
2024-04-02, 5:16 am
أحدث الصور
تصفح آخر الإعلانات
إعلانات مجانية على نوسا البحر مشدات تخسيس إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر مشدات تخسيس إعلانات مجانية على نوسا البحر

دفتر سيجارة, بوصلة الدم ,موت نرسيس , أوراق الغائب , شعر وقصائد بول شاوول,ديوان بول شاؤول pdf

hassanbalam
® مدير المنتدى ®
hassanbalam
رسالة sms : سيرى ببطئ ياحياة
لكى أراك بكامل النقصان حولى
كم نسيتك فى خضمك
باحثا عنى وعنك
وكلما أدركت سرا منك
قلت بقسوة
مأجهلك!!!!
ذكر
عدد المساهمات : 11555
الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى
العمل : مهندس
نوسا البحر : ديوان - دفتر سيجارة, بوصلة الدم  ,موت نرسيس , أوراق الغائب , شعر وقصائد بول شاوول,ديوان بول شاؤول pdf 15781612
ديوان - دفتر سيجارة, بوصلة الدم  ,موت نرسيس , أوراق الغائب , شعر وقصائد بول شاوول,ديوان بول شاؤول pdf Icon_minitime 2013-09-17, 5:29 pm
بول شاؤول
ديوان - دفتر سيجارة, بوصلة الدم  ,موت نرسيس , أوراق الغائب , شعر وقصائد بول شاوول,ديوان بول شاؤول pdf 0320
أيها الطاعن في الموت 1974 - بوصلة الدم 1977 - وجه يسقط ولا يصل 1981 - موت نرسيس 1990 - أوراق الغائب 1992 - كشهر طويل من العشق 2001.

تساقط الهواءُ خلفه بلا رحمة

إلى بَسّام حجار

بول شاوول
(لبنان)

-I-

بَسّام حجاركان يشبه شِعره بسام. صوته. صوته كَان طالعاً من وراء كلماته. اقرب الى الصمت. اخف من التمتمة. رفيق الزوايا المنفردة بلا حساب.
كان يشبه شِعره. بسام. تلقاه كأنما تلقى قصيدة كتبها. او سيكتبها. او لن يكتبها. قصيدة قد تبدأ بيديه أو بعينيه أو بأنفاسه. يقابلك بتلك البسمة المظللة:السروة تنفتح فجأة على أحجيتها. او يقابلك بتلك السرية المُعلنة: ما وراء الكلمات أشقى أو ربما ما يشيع منها، أوفر، وأقسى، وربما احياناً اكثر انقشاعاً، مما يلقى في الاركان. من طزاجة ما يتوارى خلف التماعة أو رعشة خافتة، أو لمحة على تباعد.

رحل بسام. هكذا ربما بوداعات منشغلة بغيرها. قليلة. كأن يفتحُ الباب ثم لا يغلقه وراءه. وحده كأن ظلالاً كثيرة لتبقى، واخرى لتشيع ما خلفّه وبأسف من حفيف، او رذاذ، أو ما يقع في ما لا ينساه، أو من فتح الباب ملياً بلا رحمة ترجى. بلا حديقة. ولا سياج بفصول أربعة أو خمسة او بلا فصول. ربما. وأقل.

-II-

ذلك ان الشاعر. ومن مساءاته الكثرى، ويرى، وستارٌ يقطع هواءه كمقصلة، ويرى، كم ان المسافة حية بعذابها بين العتبة والعتبة، بين الفجر وما يشرق عليه. وهكذا، ليكون له ان يحدق، وبلا اسف، في ما يتلاشى منه، ولا يحفظه، وما يتبدد في احشائه، لحظة لحظة، ولا يستبقيه. هذا الجسد، من يتكهن ما يفعله في عتمة الداخل، في تضاعيف الشرايين في هشاشة الأعماق، لا شيء! ربما. وفجأة، فريسةً، يصير، واعزلَ، وبلا حيلة، ولا معين: وفجأة الوحش ينهش. ينهش. ولا ما يرده. جنون الفريسة الطازجة. بدمها. وجلدها. كيف ترتعش وكيف لهذا الوحش الغامض، ان يستفرسَ الكائنَ. الوجه. اللحم. الدم. ومِزقاً في الداخل. فيا لقسوة العمر ويا لتِيه المشقات. ويا لعزلة البدن في مصارعه الأخيرة.

-III-

رحل بسام. مديد فضائه، شقيق يديه، اليف عزلته. وكان له أن يبقى. وكثيراً (وأين؟) وكان له الا يبقى وكثيراً. فيا لتلك الشدة في الصحو... ويا لتلك الصفاءات كيف، لبديدها، ان يتفانى، ذرات في فضاء نَهِم.
قاس، جاحد، أكُول، يحول ما تجمعه العناصر على غير تكاوينها.. انها اللحظات القصوى من يُدبّرها. انها الهاوية من يقيس سُجُفها وفخاخها؟
وهنا، كان لبسام، ان يترجّل (بعده أو قبله) وكثيراً، ثم لينهض، ثم ليتملّى جميع حواسه وعينيه وكلماته وصمته في ما يخون نسيانه في ما يعزل احجامه بريبات مجهولة وباشفاق طاعنة.

وكان له، ان يتفقد اسلحته، وكانت كثرى. اسلحته، التي لم تسقط قبله، ولا ربما بعده. وربما لا شيء! عمر غير مديد انقطف على كسرة وقت: كأن تفتح نافذة لتراك الظلمةُ خلفك: الطعنة الفجاءة، الفجاءة الحادة. وبلا انكساف وبلا نذور وبلا مناديل ولا قبعات. هكذا كأن يعبر من ضفة الى ضفة بلا جسور. يختلط كل شيء بكل شيء: الجسم بأسبابه. والمرض بآلاته السرية. والعمر بتمازجه واليأس بستائره المرفوعة، ومراسيه المتباعدة. وهناك، ولا شفقة، لتلوِّّح شفاه متلعثمة، وتُنكس وجوه جلّلها السواد، ويسترد الصمت احجياته..

-IV-

IV

رحل بسام. ولا احد يرحل كمثل بسام. رحل بسام. وكأنه آتٍ من وراء الوحش الناهش. انتصر عليه بالصمت. وكأن الصراع لم يكن متكافئاً الا عندما سقط الوحش قبله. قبل بسام. سقوط اللعنة. بين الفريسة والآلة الجهنمية. الطالعة من الجسد. كيف يطلع من الجسد، ومن خلاياه ومسامه وتلابيبه ودوراته، وحش لا يشبهه. التدمير من الداخل وبالداخل: كيف يخون الجسدُ الجسدَ. كيف ينجب الجسدُ موتاً عديداً وبلا اسف، وبتشفي الآلهة التافهة والمصائر السائبة. الجسد ينتصر على الجسد بالموت.

ولطالما انتصر عليه بالحياة او بالغياب او بمهملات الوقت. أو بالأرق. او بما يرميه أمامه. الجسد يهزم الجسد بالموت. والجسد بالجسدِ. الموت بالموت. والفريسة بالفريسة.

وهنا كان على بسام ان يواري ما اراد الجسدِ ان يواريه: فليقتحمهْ. فليبَادِرْه. وأخيراً فليكسرْ جشع هذا الجسد بفخاره، فليخرج من الحلبتين الى باب واحد: الموت. من كوة واحدة: العتمة. من كلمة واحدة: الصمت.

V-V-

وكان لذلك الصمت ان يترك ما يترك وراءه: ما لا تأخذه يدٌ ولا ترمشه عين. ما لا يخادعه قَدَرَ ولا يلاعبه غياب.. ما لا تهتكه لعنة: غادر بسام السرير والعتبة والبيت والصمت ليغادر الموت ايضاً: مغادرة الحياة مغادرةٌ للموت. ليغادر ما يمكن مغادرته: احتمال مغادرة كالشِعر. والشعر احتمال مغادرة دائمة ولا يغادر. إلتحقَتْ ببسام تذكاراتٌ خلفه وامامه. وآلام وأيام. لكن تمرَّدَ شعره قبله وكثيراً. تمرد شعره بعده. شعره الذي يشبهه، يشبه شَعرَه اذا طال. وصمته اذا لم يبُح. وظله اذا استبقناه في كلماته. على صورته، على مقاسه. على خطاه، على اصابعه، على رماد سيجارته، على مدار كأسه، على حافة سروه الداكن باسراره. وغباره وطيوره. على تلك القصائد خرينة الكامن. رهينة فضاء مفتوح، اليفة غربة مكسورة، خليلة صمت كثيف بمدارك كثيرة وبوح أقل. حليفة عبث قائم. عبث تستشفه بمودة عالية. تسترده مرات ويتلوّن. ولا تراه، ثم تستعذبه عبقاً: الجرح والنزف واللاشيء والعدم، لكنه العدم الخلاب. المفتوح على الاقدار الباذخة بتفاهاتها. انها العزلات المتوارية خلف عزلات. وبياض وهوامش يرسم حدودها العصية عليه وعلينا: الكنز المرصود: العزلات العالية المحفرة في تربتها.

وبسام في ما خلفه، يمسح وجوهنا بغفلات حادة، بوحشات مألوفة، بمُتع مُرَّه، بشِعر يشبهه، ولا يشبه سواه. وعندما يكون لسواه ان يشبهه، فلكي نرى بسام وراء مراياه المحجبة.

-IV-

إسْوَّدَ علينا خبر رحيلك يا بسام. في عيوننا التي وَهنت. في ايدينا التي انقبضت على ما تبقى من اشياء تسقط ولا تجد مقراً لسقوطها. اسودّ النهار على اخرياته الى أوله. انقشعت على الخبر الصاعق، ليلة سابقة فأخرى، فدوامٌ لم يعد دواماً. ولجلجة اصوات دون كلامها. هكذا. وعندما كان لنا ان نستذكره غاب كله. كانت الدمعة ربما كل التذكر الدمعة التي تبقى اكثر من مائها. ذلك انه، عندما فاجأنا الخبر، في المطار واكبنا، خلف كل الحقائب والنظرات الغائبة والخطى الطارقة كالنواقيس. وعندما كان لنا، في عودتنا الى البلاد، ان نتلفت حولنا، تهاوت من انظارنا ظلال وكلمات ومقادير صمت ومن أحزاننا ما يُبدل المطر فوقنا، شهقة، او أنفاساً تَنَصّلت من أسبابها، وأسف تقلب على جمره. ذلك ان الخبر الذي اسوَدّ علينا كظل سروة من سرواتك وكغيمة بعيدة بلا أثر، ادار ابصارنا كلها، وكان وجهك الأقصى وشعرك الأبهى وكانت ملامحك ملتبسة بهواء اختلط بماء المطر، وبصمت امتزج برماد السماء!
السماء الجاحدة.

-VII-

رحل بسام. من باب الى باب. ربما، من سرير الى سرير، ربما. من وقفة امام الوجع، ربما من اطلالة على العدم. ربما. ربما!

من طبقة ظاهرة الى جذور. ربما! ولكن عندما تستحضر ما يمكن استحضاره يكون لتلك القامة السرية بطولها، ولتلك الأحجية في العينين، ولتينك اليدين المسبلتين ان تضعا على الوسادة الأخيرة ما افلتتاه طويلاً.. كأنْ تحب الوردة فتفلتها الى مساحتها الأخيرة! كأن تُقلًِب البصر لترميه في فضائه العقوق!
ربما. الشعر بل هو الشعر من أول القامة الى آخر الأركان المنعزلة.. الى آخر الكلمات القاطعة على فضاء لا ينتهي.

-VIII-

نام بسام على حافة عينين متعبتين
على هاوية حواس ملتهبة.
كأنْ لا يستيقظ نوم
في نوم آخر،
على حافة ما يبعثر الحاسة والهواء
على منحدرٍ وعالياً بلا دربه السابقة،
وغريباً على مُطله الحي.

IX

شِعر يجري امامه كما لو
ان على أطراف اصابعه
حريقاً.
كما لو أن ولادة جديدة قادمة.

X

فجأة اختفى في ذاته
تماماً.
كأن ترى لهباً يكبر
وينطفئ على لهب آخر
فجأة
لم يعد من ذاته
وغاب،
كأنْ شعلة
تكبر فجأة
ولا تنطفئ.
(انطفأ ملء حواسه)
وعندها تساقط الهواء
(خلفه)
بلا رحمة.

XI

الغيوم، على يديه، وفجأة،
كأن انحنت او ضجرت من الرحيل
ومن السماء
تتوقف لحظة (كما لا تفعل الغيوم)
تترك ايديها
وقبعاتها
تسبل اجفانها (عليه)
ثم ترتمي بكل خفتها الخادعة
وكثيراً
عليه
لكي لا تعود
لكي تغطي وجهه
كآلام بطيئة يطيئة
لكي تبقى عليه
لكي تنسى السماء ولو مرة واحدة.

ولو مرة واحدة،
لكي لا تكون الغيمة غيمة:
بل وجه آخر على مسافة بطيئة
بطيئة
كأصابع مسبلة على أصابع
كأحزان متعبة على احزان متعبة
كميتة جاءت للمرة الأولى
واستقرت
على خرابها الأخير.

(ليل 17 / 18 شباط 2009)

يوميات الاحتراق اللذيذ

بول شاوول
(لبنان)

بول شاوولربما هذه المرة الأولي التي يخصص فيها شاعر ديوانا كاملا للسيجارة‮. ‬هذا ما فعله بول شاوول‮ ‬الذي‮ ‬يفتتح الصباح بسيجارة ويودع الليل بسيجارة أيضا‮. ‬
‮ ‬100‮ ‬سيجارة يوميا يدخنها صاحب‮ "‬كشهر طويل هو العشق‮" ‬كونت مقاطع ديوانه المائة أيضا،‮ ‬فالسيجارة لديه هي‮ "ملاكه الحارس‮”. ‬ولذا نادرا ما تجد بول بدون سيجارة مشتعلة أو مطفأة،‮ ‬ونادر ما تجد له صورة بدون تلك‮ "الشمس التي تشرق بين أصابعه‮" ‬كما يقول‮. ‬
عبر مقاطع الديوان الذي عنونه‮ "دفتر سيجارة‮" ‬يتذكر بول سيجارته الأولي،‮ ‬أمه وهي تحتضر وتطلب قبل أن تغيب أن تمس بشفتيها‮ "‬سيجارتها الأخيرة‮"‬،‮ ‬النساء التي عرف،‮ ‬وكل قبلة منهن مثل كل سيجارة‮ "‬لكل واحدة طعم مختلف‮"‬،‮ ‬يتأمل الشوارع والناس،‮ ‬والمقاهي،‮ ‬ليتسع المعني‮،‮ ‬ربما نجد أنفسنا أمام ما يشبه سيرة ذاتية للشاعر‮. ‬
إنها سيجارة بول شاوول لا تشبه المرأة‮ ( ‬تأتي وتذهب‮) ‬ولا الوردة‮ ( ‬تذبل‮) ‬ولا الصداقة‮ (‬لا تدوم‮) ‬ولا الموت يأتي مرة واحدة‮).. ‬السيجارة هي السيجارة‮. ‬

هنا مقاطع من‮ ( ‬دفتر سيجارة‮). ‬

***

دفتر سيجارة

بول شاوول

1

كان المقهى مكتظا،‮ ‬والكراسي كلها مليئة‮. ‬والطاولات أيضا،‮ ‬وكذلك فضاء المقهى بغيوم دخان السجائر،‮ ‬وحثي الزجاج واللمبات،‮ ‬كان كل شيء مكتظا‮.‬
ومع هذا كان كل الموجودين في المقهى يتكلمون،‮ ‬حتى الصامتون منهم‮. ‬كأنهم ينافسون دخان السجائر‮.‬

2

كان يفتتح الصباح‮ »‬أو الفجر‮« ‬بسيجارة،‮ ‬بعدما كان يودع الليل بسيجارة أيضا،‮ ‬توقظه السيجارة صباحا،‮ ‬توقظ عينيه وحواسه وأصابعه وأنفه،‮ ‬والغرفة،‮ ‬وفنجان القهوة‮. ‬كانت المنبٌه الدقيق الذي لا يخطئ رنينه الصامت‮.‬
كانت بمثابة الشمس التي تشرق بين أصابعه،‮ ‬وإذا شئت أكثر‮: ‬كانت الشمس التي تبقي مشرقة حتى في الليل‮ »‬كشمعة أخري‮« ‬ربما في سهره أو فوق نومه‮. ‬وهو يتمدد حالما‮ ‬بشموسي‮ ‬أخري قد تأتي وقد لا تأتي‮. ‬أو ربما أتتْ‮ ‬ثم لم تأتي‮. ‬أو ربما كالسيجارة أّتّتْ‮ ‬وذابت في دخان جاحد‮.‬

3

كان يدخٌن مائة سيجارة تقريبا‮ ‬في اليوم‮. ‬مائة شمس تشرق وتنطفئ بين أصابعه‮. ‬مائة سيجارة من صنف واحد‮. ‬وكل سيجارة بنكهة مختلفة‮. ‬فأول سيجارة ليست كالثانية ولا كالثالثة ولا كالأربعين أو ما بعدها‮: ‬كل سيجارة تأخذ طعمها من كل شيء‮: ‬تأخذ من الصبح نقاءه،‮ ‬ولا مانع عطر زهرة أو هديل اليمام‮. ‬وتأخذ من الظهيرة قوتها وعنفها وإصرارها كميزان عدالة معلق في القبة السماوية‮.‬
ومن الليل هدوءه‮. ‬طعم العتمة أو عبق الكتب أو شميم النساء العابرات في المقهى،‮ ‬ومن الشارع‮. ‬روائح الأصوات والجلبة والسوق وحتى الخضار والواجهات والملابس‮: ‬شميم الشارع عندما تختلط روائح الأرصفة بروائح الناس‮. ‬وتّنّنّشقّها كلها في مجة سيجارة أشعلتها وسط الرصيف وأبقيتها في فمك على امتداد خطاك‮.‬

4

يحس أحيانا‮ ‬أن سيجارة لا تريد أن تنتهي‮. ‬أن تبقي مولعة أكبر مدة ممكنة بين أصابعه أو شفتيه أو حتى في المنفضة‮. ‬وفي مثل هذه الحالات يتركها على هواها‮. ‬يمجٌها بهدوء ويرخيها في المنفضة هكذا لتعيش بصمت انطفاءها البطيء

5

لم تتخلف السيجارة كثيرا‮ ‬عن مرافقته‮ »‬كأنها ملاكه الحارس‮«. ‬لم تفارقه على امتداد سنواته من المراهقة المبكرة وحثي المشيب‮. ‬نجحت معه في السرتيفيكا ثم في البكالوريا وتظاهرت معه في الجامعة وحزنت معه عندما‮ ‬غادره الأحباب والأصدقاء‮. ‬وهربت معه من منطقة الى منطقة أثناء الحروب وخطِفتْ‮ ‬معه عدة مرات وكتبت معه وقرأت معه وسقطت معه في الخيبات،‮ ‬وهاجرت معه ونّجّتْ‮ ‬معه عدة مرات وعادت معه‮...‬
لم تتخلٌف السيجارة كثيرا‮ ‬عن مرافقته،‮ ‬ولا هو تخلٌف عنها‮.‬
إثنان في الطريق الطويل‮.‬
في الطريق المجهول‮.‬

6

لم يكن يهون علىها أن تراه حزينا‮ ‬أو أن تلمح‮ »‬أحيانا‮« ‬دمعةّ‮ ‬في عينيه‮. ‬وتتمنى لو تمسح دمعته أو تشربها أو تمتصها أو تكفكفها أو تلامسها‮. ‬حزنه يزيدها أحيانا‮ ‬اشتعالا‮ ‬ويزيدها أحيانا‮ ‬أخري ندما‮: ‬في الحالة الأولي تستنفر جميع نارها لتشاركه‮. ‬وفي الحالة الثانية تغفو وحدها في المنفضة لكي تتجنب رؤيته حزينا‮. ‬على أنها كانت في جميع الأحوال أقرب الى عينيه من الدمعة،‮ ‬وأقرب الى أصابعه من الهواء‮.‬

7

تعرف السيجارة‮ ‬ومن مجرد تحسسه العلبةّ‮ ‬بمزاجه‮. ‬فعندما يعدٌها واحدة واحدة تدرك أنه مفلس‮. ‬وعندما كان يضعها أمامه على الطاولة ويتأملها بشرودي‮ ‬قاسي‮ ‬تدرك أنٌ‮ ‬شخصا‮ ‬عزيزا‮ ‬عليه فارقه أو ابتعد عنه‮. ‬وعندما كان يسحبها وعلى مهل ثم يطرق عقبها على طرف الطاولة أو ظاهر كفه،‮ ‬تتكهن بأنه متوتر أو قلق‮.‬
ولهذا كانت تستسلم سلِسّة‮ ‬أمامه وتنفخ دخانها بهبات خفيفة بطيئة‮. ‬وعندما كان يضعها‮ ‬بين شفتيه ويرفع الوّلاعة أو عود الثٌقاب ولا يشعلها،‮ ‬تعرف أن أمورا‮ ‬عويصة تدور في ذهنه‮. ‬وعندما يشعلها ثم يطفئها قبل أن يكملها ثم يمعسها ليشعل سيجارة أخري تلقي المصير ذاته كانت تدرك أنه مقبل على خطوة صعبة أو‮ ‬غير واثقة‮. ‬هي ربما ومن المرات النادرة لا تحب أن توضع في مثل هذه المواقف الحرجة‮. ‬ولهذا كانت تود لو تنطفئ قبل أن يشعلها‮. ‬أو تسقط من أصابعه قبل أن يرفعها بعنف الى فمه‮.‬

8

أشعل السيجارة وسجٌاها في المنفضة‮. ‬دخانها نحيل‮. ‬ووحيدة جدا‮. ‬وكانت أصابعه بعيدة‮: ‬يقرأ الجريدة أو يكتب أو ينظف النظارات‮.‬
كانت وحيدة تشتعل على طرف المنفضة‮. ‬في ذلك الصباح والأسباب‮ ‬غير معروفة،‮ ‬تركها هكذا مشتعلة،‮ ‬تشعل نفسها بنفسها‮. ‬تدخن نفسها بنفسها‮. ‬تحرق نفسها بنفسها‮.‬
وعندما تدارك الأمر كانت على آخرها‮. ‬وصلت الى شحبار الفلتر وصلت الى نفادها عندها شعر بذنب ارتكبه في حقها‮: ‬بأن يهملها هكذا على حافة المنفضة البعيدة عن أصابعه كأنما كان يعاقبها ربما على شيء لم تقترفه‮. ‬أو ربما اقترفته من دون قصد،‮ ‬أو ربما على ذنب اقترفه ولا يريد لا أن يتذكره ولا أن يعترف به‮.‬

9

يتذكر أنه كان يعرف أن الفجر قد شعشع عندما تشعل والدته أول سيجارة لها،‮ ‬كان يعرف وهو نصف نائم من‮ »‬شحطة‮« ‬عود الثقاب ومن ضوء السيجارة أن نهار والدته ابتدأ ولهذا صار كلما رأي عودّ‮ ‬ثقاب يشتعل حتى في النهار يتذكر والدته وهي تشعل النهار من أول أطرافه بأول عود ثقاب وبأول سيجارة‮.‬

10

لا يعرف لماذا يستهويه أحيانا‮ ‬النظر الى الأشياء من خلال دخان السيجارة‮ »‬لعبة أطفال‮«. ‬هكذا يشعل واحدة ثم يرفع رأسه وينفخ الدخان أمامه مرات متتالية فينتفخ ما يشبه الغيوم الشفافة الخفيفة المشٌّوشةّ‮ ‬أمامه‮. ‬وعندها يكون له أن يري الهواء‮. ‬الدخان جسم الهواء‮. ‬ثم ينفخ على كل ما أمامه‮: ‬الطاولة البنية فيتغير لونها لحظة هي والمنفضة والولاعة وفنجان القهوة ثم يغبش اللون الى ما يشبه اللالون ليتلاشي بين ألوان الطاولات واللمبة والجرائد والناس‮. ‬آه عندما يخترق الدخان بخفة السحرة الوجوه والأنوفّ‮ ‬والملابسّ‮ ‬وحثي الكلام‮. ‬ليجلس لحظة كطيف عابرِ‮ ‬الى كل الطاولات ويغادر‮.‬
مرات عديدة يشعر أن الدخان الذي أطلقه كعيون محجبة يتعثّر بالهواء‮. ‬ويكاد يعرج أو يلتوي‮ »‬كغيمة تغّيٌر مسارها ‮«‬،‮ ‬وكأنه لا يريد ‮. ‬أن يتجمٌّد هكذا فوقه‮. ‬ربما احتجاجا‮ ‬على أمر لا يعرفه‮. ‬أو عنادا‮. »‬والدخان يعاند ككل الكائنات الحية والميتة«وعندها بالذات يتراجع الدخان عدة دوائر أو عدة ألوان،‮ ‬وكأنه نسي شيئا‮ ‬وراءه،‮ ‬ثم يتقدم تاركا‮ ‬وراءه خيطا‮ ‬رفيعا‮ ‬يحط على شعره أو على أنفه أو جيبه أو أذنه‮.‬
وعندها يشعر عندما ينفخ هذا الدخان أنه قد يكون خسر شيئا‮ ‬لا يستطيع أن يحدده‮ »‬والدخان رحيل أيضا‮«. ‬ولهذا يتبع المجةّ‮ ‬بأخرى فمجة أخرى لعله يستبقي شيئا‮ ‬ينظر من خلاله الى الأشياء العابرة حوله‮. ‬الى ظله على الطاولة البنية اللامعة في المقهى‮.‬

11

عندما سّحّبّ‮ ‬آخر نّفّسي‮ ‬من السيجارة ورمي عقبها،‮ ‬شعر بشيء من الحزن‮. ‬لطالما تمني لو انه لا يرمي الأعقاب‮: ‬أن يحفظها كما يحفظ البوم الصور أو الطوابعّ‮ ‬البريدية أو بطاقات المعايدة‮.. ‬أو حتى الرسائل القديمة،‮ ‬ولهذا ربما عندما يطفئ السيجارة بعد السيجارة في المنفضة وتمتلئ بالأعقاب والرماد وأحيانا‮ ‬بأعواد الثقاب يطلب من النادل أن يتركها عندما يأتي ليفرغ‮ ‬المنفضة‮ »‬من باب النظافة‮«. ‬ولذلك ربما لا يحب المنافض النظيفة‮ »‬كأنها بلا ذكرى‮« ‬ويحبٌ‮ ‬أن يري فيها شيئا‮ ‬مما يتركه في السيجارة كالرماد أو أعواد الثقاب‮. ‬ولهذا كان يحتفظ بتلك المنافض القديمة‮ »‬المحروقة‮« ‬بأطراف السجائر،‮ ‬وما التصق في قعرها من آثار رماد‮.‬
هذا يشبه أن تحتفظ بشيء تركه عزيز لديك وتولي من دون أن تعرف ولا وجهته ولا مصيره‮.‬

12

قبل أن يشعلها رفعها أمام عينيه‮. ‬ثم قلبها ثم حطها على الطاولة بين المنفضة وفنجان القهوة الأبيض والولاعة الزرقاء والورقة والقلم‮. ‬وضعها بين كل هذه الأشياء وراح يستمتع بالمشهدية الجميلة‮. ‬هذا هو المتاع الدائم الذي يحمله منذ مدة طويلة‮: ‬لوحة حية لم تعبث يدج‮ ‬بألوانها أو بأشكالها‮. ‬لكن عندما راح ينظر الى هذه الأشياء التي وزعها بطريقة فنية ارتجالية بدا له كم أن طريقه طويل،‮ ‬وكم أن متاعه قليل‮. ‬وشعر بأنه إذا نقص شيء من هذا المتاع‮ »‬المنقول‮« ‬فسيصيبه خوف‮ ‬غامض‮. ‬لأنه أحسٌ‮ ‬عميقا‮ ‬أنه أيضا‮ ‬جزء‮ ‬من هذا المتاع،‮ ‬وإذا سقط شيء من هذا المتاع كأنما سقط منه الى الأبد‮.‬

13

السيجارة في فمه،‮ ‬يتأمل ما حوله‮: ‬المقهى،‮ ‬الشارع،‮ ‬الناس،‮ ‬الباعة‮ ‬،‮ ‬السيارات،‮ ‬السيجارة التي وضعها في فمه مشعلة بقيت مدة طويلة من دون أن يسحب منها نّفّسا‮ ‬واحدا‮. ‬تركها تشتعل وحدها من دون أن ينفض رمادها‮.‬
كانت الأشياء في ذلك اليوم‮ ‬غائبة كثيرا‮ ‬كأنها لم تكن في أمكنتها أو ربما هو أيضا‮ ‬لم يكن في مكانه‮.‬
والسيجارة مثله،‮ ‬لم تكن أيضا‮ ‬في مكانها‮.‬

14

كان يدخن السيجارة،‮ ‬أمس،‮ ‬ويراها جميعها‮. ‬يتحسٌسها‮: ‬تبغها،‮ ‬لونها،‮ ‬رأسها،‮ ‬عقبها،‮ ‬ويمررها على أنفه‮. ‬كان يحس بها في فمه،‮ ‬وبين أصابعه،‮ ‬يحس‮ »‬بزرزورها‮« ‬ورمادها وحتى بأعقابها في المنفضة‮. ‬وعندما يرفع يده ويضعها في شفتيه ويقيس تلك المسافة بينهما،‮ ‬كان يراقب الدخان الذي ينفثه وهو يأخذ كل الألوان التي يمرٌ‮ ‬بها‮.. ‬والدخان أيضا‮ ‬لون‮ ‬وعدة ألوان‮.‬
بعد كل هذه السنوات،‮ ‬بات يحس كأن السيجارة هي التي ترفع نفسها الى فمه،‮ ‬وتدخن نفسها وحدها‮. ‬أو أن شخصا‮ ‬آخر بات يدخنها،‮ ‬ويتذكره بكثير من الحنين‮.‬

15

مات والده بسبب السيجارة‮. ‬ووالدته أيضا،‮ ‬وشقيقتاه،‮ ‬وعدة أصدقاء‮.. ‬كلهم ماتوا بالسيجارة،‮ ‬مع هذا فعندما حضر جنازات هؤلاء،‮ ‬كانت السيجارة في فمه،‮ ‬وكأنها تشارك في التعزية‮. ‬عزي وعانق وأدمع وحزن وضاقت به الدنيا والسيجارة في فمه‮. ‬وعندما كان يغادر تبقي السيجارة في فمه‮. ‬يفتح باب منزله والسيجارة في فمه‮. ‬وعندما يضع رأسه بين يديه ويجهش ويأسف ويغضب ويخاف كانت السيجارة دائما‮ ‬تنفث دخانها بهدوء مضطرب‮.‬
كل هؤلاء الذين فقدهم أحبوا السيجارة مثله‮. ‬وماتوا بها‮. ‬هو أيضا‮ ‬كلما تّذّكٌّرهم وهم يدخنون يسحب سيجارة ويحييهم وهو يشعلها بين التذكارات والأسف والاشتياق‮.‬

16

كان يخطر له أن يشبٌه السيجارة بالمرأة،‮ ‬لكن المرأة تأتي ثم تذهب‮.‬
كان يحِبٌ‮ ‬أن يشبه السيجارة بالوردة لكن الوردة تذيل كثيرا
كان يحِبٌ‮ ‬أن يشبه السيجارة بالصداقة،‮ ‬لكن الصداقة لا تدوم‮.‬
كان يحِبٌ‮ ‬أن يشبه السيجارة بالموت لكن الموت لا يأتي سوي مرة واحدة‮.‬
عندها لم يكن له سوي أن يشبٌه السيجارة بالسيجارة‮.‬

17

لا يميٌز أحيانا‮ ‬ما إذا كان يفكر لكي يدّخٌن أو يدخن‮ ‬لكي يفكر‮.‬
أكثر‮: ‬لا يميز أحيانا‮ ‬ما إذا كان يفكر لأنه يدخن،‮ ‬أو يدخن لكي يفكر أكثر،‮ ‬لا يميز أحيانا‮ ‬إذا كان يدخن من دون أن يفكر أو يفكر من دون أن يدخن‮.‬
هذا الالتباس تنافي الى حد جعله لا يميز دائما‮ ‬من يدخن الآخر‮:‬
هو يدخن السيجارة أم أن السيجارة هي التي تدخنه‮.‬

18

كتب هذا الصباح في المقهى خمسين سيجارة ثم محاها كلها بلا أسف يذكر‮.‬

19

رماد السيجارة سرٌها الدائم‮.‬
أمامها

20

لكنه السرٌ‮ ‬الذي يفوح علىك ولا تعرفه

21

يتذكر أن صديقه وجيه عندما منعه الطبيب عن التدخين بإلحاح بعد عملية قلب مفتوح عمد الى وضع السيجارة في فمه من دون أن يشعلها‮. ‬بقيت هذه السيجارة في فم وجيه سنوات عديدة‮. ‬وعندما مات وجيه بهدوء بقيت السيجارة في فمه‮ ‬غير مشتعلة‮.‬
وكان وجيه،‮ ‬كما يروي،‮ ‬سعيدا‮ ‬جدا‮ ‬بهذه النهاية التي بقيت فيها سيجارته‮ ‬غير المشتعلة آخر شيء لمسه في هذا العالم‮.‬
آخر رفيق ودٌّعه بعناق طويل‮.‬

22

قد لا يتذكر دائما‮ ‬السيجارة الأولى التي دخنها‮. ‬لكن من يعرف متى سيدخن السيجارة الأخيرة؟
تساءل وهو يتذكر الأصحاب الذين لم يتذكروا السيجارة الأولي ولم يعرفوا متى سيدخنون سيجارتهم الأخيرة‮.‬
مع هذا رحلوا وهو يرجون أن تكون أمنيتهم الأخيرة سيجارة توضع بين شفاههم ولا يدخنونها‮. ‬هكذا ربما كزهرة توضع على صدورهم‮. ‬أو كمنديل في أيديهم،‮ ‬أو كقبلة على جباههم‮.‬

23

أيهما يتناوله قبل البحر في الصباح الباكر‮: ‬أي ما هي أول‮ »‬شّفٌّة‮« ‬يأخذها‮: ‬من القهوة أو من السيجارة؟ المسألة‮ ‬غير سهلة‮. ‬فالصبح يحتاج الى ما يليق بتدشينه‮. ‬والقهوة والسيجارة كلتاهما تليق به وأكثر‮.‬
ولهذا ومن باب التوازن وربما التراضي قسٌم الصباحات بينهما‮: ‬يومٌ‮ ‬يشف السيجارة قبل القهوة وآخر يشف القهوة قبل السيجارة‮. ‬لكن ماذا يفعل عندما يؤخذ أحيانا‮ ‬بسحر الصباح الطازج الباكر‮. ‬وبسمائه والبحر المترامي أمامه من شرفته العالية وحديقته المليئة بالشجر والورد وهديل اليمام على أسلاك الكهرباء والسطوح‮.‬
في مثل هذه اللحظات تختلط الأمور وينسي الاعتبارات فيحمل السيجارة بيد وفنجان القهوة بالأخرى وهكذا تتوازن الأمور في مخٌه جيدا‮ ‬من دون أن يعرف ما إذا افتتح الصباح بالقهوة أم بالسيجارة‮.‬

24

يلاحظ أحيانا‮ ‬أن السيجارة في فمه تتقدم الى الأمام أكثر مما يتقدم‮.‬
تسبقه بجمرتها وبدخانها أحيانا‮ ‬الى حيث لا يريد أن يذهب‮.‬

25

يحس أحيانا‮ ‬وهو يشعل السيجارة وكأن أجراسا‮ ‬بعيدة تحترق علىها،‮ ‬وكأن دخانا‮ ‬عميقا‮ ‬آتيا‮ ‬من الحفر‮. ‬والطفولة،‮ ‬والموتى يتلاشى أمامه وهو جالس وحده يشعل السيجارة من السيجارة‮. ‬وتحترق وراءه أجراس‮ ‬بعيدة وضباب يطلع من كل الأودية والأحراش التي عبرها ذات زمن وتٌّولّتْ‮ ‬إلى الأبد‮.‬

26

شي في مؤخرة الجنازة‮. ‬رآهم كلهم‮. ‬والنعش المحمول على المناكب أيضا‮. ‬وملابسهم الداكنة،‮ ‬ربطات عنقهم همسهم،‮ ‬صمتهم‮.‬
كانوا يودعون الميت برؤوس هادئة‮. ‬هو سحب سيجارة وأشعلها وراءهم جميعا‮. ‬ونفخ دخانها فوق رؤوسهم وتنهد‮: ‬كان ذلك أجمل ما يمكن أن يقدمه في وداع الصديق الذي سّبقه وربما طويلا‮ ‬ومبكرا‮ ‬تماما‮ ‬كدخان السيجارة الذي يّتّبٌّدد بصمت فوق الرؤوس وفوق النعش المتهادي‮.‬
كانت السيجارة التي دخنها آخر دمعة يذرفها على صديقه الراحل‮.‬

27

عندما تشعل سيجارة تحس أن شيئا‮ ‬منك يرحل بهدوء مع دخانها‮.‬
وينساه‮.‬

28

شعر بأن أفكاره تأتي دائما‮ ‬متأخرة تلهث بعرقها البارد خلف دخان سيجارته‮.‬

29

الشفاه الباردة لا تجيد التدخين‮.‬

30

الشفاه الحارة تحرق السيجارة قبل أن تشعلها بعود الثقاب‮.‬

31

عندما قالت له‮ »‬انزع السيجارة من فمك لكي تقّبٌلني‮« ‬نظر إليها طويلا‮ ‬وقبٌّلها بعينيه‮.‬

32

مازلتّ‮ ‬بعد أكثر من‮ ‬40‮ ‬سنة من أول سيجارة أشعلتها بطريقة سيئة،‮ ‬تشعلها اليوم بطريقة سيئة أيضا،‮ ‬ذلك أن السيجارة كالشعر خطأ جميل‮.‬

33

كانت ثقيلة أول سيجارة حملتها قبل أكثر من أربعين عاما‮. ‬وكانت أثقل عندما وضعتها بين شفتيك وأثقل عندما أشعلتها وأثقل عندما نفخت دخانها‮.‬

34

تلك السيجارة الأولي التي أشعلتها مازالت على عهدها الأول ثقيلة ثقيلة لكن أيضا‮ ‬بخفة كل السنوات التي انقضت بلا طائل‮.‬

35

مجٌ‮ ‬مجٌة عميقة من سيجارته ونفخها على وجه تلك المرأة حتى تغلغل الدخان في شعرها الطويل وعبقتْ‮ ‬رائحته في ثيابها وصدرها وعنقها،‮ ‬فكأنما استسلمت لتلك الملامس وكأنها أيقظت فيها أعشابا‮ ‬محترقة نامت طويلا‮ ‬على جلدها وشفتيها‮.‬

36

عندما رفع السيجارة أمامه وتملاٌها بجميع عينيه تذكر بعد أكثر من أربعين عاما‮ ‬سيجارته الأولي‮.‬
ابتسم وكأنه يقول‮: ‬كّبرت السيجارة كثيرا‮ ‬لكنها مازالت أصغر مني بكثير‮. ‬لكنه تدارك وكأنه يقول‮: ‬مع هذا مازلت أكبر منها بسنوات كثيرة‮. ‬وعندما أراد أن يعدٌ‮ ‬على أصابعه الأيام والسنوات،‮ ‬وضع السيجارة في فمه وأشعلها وتركها تعدٌ‮ ‬وحدها كل تلك السنوات التي رافقته فيها‮.‬

37

ماذا يمكن أن تفعل عندما يلتقي صمتان‮: ‬صمتك وصمت السيجارة‮. ‬ربما لا شيء وربما الكثير،‮ ‬لكن الأرجح أنك كلما ازداد صمتك ازددت تدخينا‮.‬
الفارق أن صمتك واضح كالطاولة أحيانا‮ ‬وصمت السيجارة مجهول الإقامة كالدخان‮.‬

38

يحب دخان السجائر أن تلاعبه،‮ ‬وتمازحه،‮ ‬كأن تنفخّ‮ ‬دوائر متتالية منه في الهواء دوائر كالأساور والخواتم بشكل الشفاه التي تطلعها‮. ‬أو كأن تنفخه كبالونات تتلاشي فور استدارتها مثل تفاحة أو كرة،‮ ‬أو كأن تنفخه بقوة نحو الأسفل أو نحو الأعلى أو نحو قميصك،‮ ‬ويكون له أن يشبٌه نفسه بالهواء أو حتى بالنظرة‮ »‬والدخان عين أيضا‮«. ‬أو أن ترسله هبات هبات خفيفة هشة بالكاد تراها كغيمة على آخرها‮. ‬ذلك لأن دخان السجائر يحب أن يشبٌه نفسه بالغيمة‮. ‬لكن،‮ ‬ربما أكثر ما يستهوي دخان السجائر أن تنفخه بهدوء على الأصابع أو الوجوه أو حتى الشعر لكي يحلم أحيانا‮ ‬أنه يستطيع أن يصير شيئا‮ ‬من الحواس والثياب وخصوصا‮ ‬الشٌّعر‮.‬
ذلك أن دخان السيجارة لا يريد أن يصدٌق أنه فقط مجرد دخان سيجارة‮.‬

39

عندما يشعل سيجارة في‮ ‬غرفته الضيقة وهو ينفث دخانها بين الستائر والجدران والأبواب المغلقة لا يعرف لماذا يتذكر الشاعرة الأمريكية أميلي ديكنسون‮. ‬تلك التي كأنها احتفظت بسيجارة واحدة في حياتها في‮ ‬غرفتها المنعزلة،‮ ‬ولم تشعلها أبدا‮. ‬أو كأنها خبأت طويلا‮ ‬سيجارتها وراء عينيها وهي تنظر على امتداد ثلاثين عاما‮ ‬من الاعتزال من خلال زجاج النافذة العالم الذي أمامها كخيالات طويلة من دون أن تعرف لا من حيث أتت هذه الخيالات ولا الى أين تمضي‮. ‬خيالات تطلع من‮ ‬غرفتها التي خبأت فيها سيجارتها الى ذلك الشارع المكتظ بنهاياته الدائمة‮.‬

40

يحس أحيانا‮ ‬وفي لحظات قاسية كأنه يدخن سجائره دمعة دمعة‮.‬

41

المقاهي تشبه السجائر التي يدخنها‮. ‬هذا ما خطر له عندما أصابه الحنين الى المقاهي التي تردد علىها في صباه وفي مختلف السنوات اللاحقة‮. ‬تذكر مقاهي البرج والروشة والحمراء وسن الفيل والحازمية‮. ‬تذكرها واحدا‮ ‬واحدا‮. ‬واستعاد بذلك ما كان يدخن من سجائر‮: ‬مقهى اللاروندا يطل على ساحة البرج‮. ‬في تلك الفترة كان يدخن اللاكي سترايك‮ »‬يشتريها بالمفرق،‮ ‬فلت من رصيف الكريستال أو من أحد المحال في العاصمة‮«. ‬ولهذا عندما خف به الحنين من رؤوس دخان سيجارته الى ذلك المقهى ذي الطابقين والدرج اللولبي،‮ ‬فاحّتْ‮ ‬في أنفه رائحة اللاكي سترايك التي صارت رائحة المقهى،‮ ‬وبدا له أن هذا المقهى‮ »‬وغارسونه الرائع محمد‮« ‬يشبه السيجارة التي كان يدخنها

42

آنئذي‮ ‬كأنٌّ‮ ‬دخان السجائر كان يرسم شكل المقهى‮. ‬والدرج والبار والغارسونية والطاولات والكراسي‮: ‬مقهى يشبه اللاكي سترايك وعبقه‮. ‬المقهى عبق قديم مازال يفوح كلما تذكر تلك السيجارة في فمه وهو ينظر من خلال الزجاج ساحة البرج والترامواي وقهوة القزاز ومسرح فاروق وسينما ريفولي وسوق المتنبي‮ »‬الغانيات‮« ‬ومقهى الجميزة‮. ‬كأن دخان السجائر الذي كان ينفثه يغطي تلك الساحة التي كان يحصي بلاطها وسينماها ومقاهيها ومحالها وساحتها الشهيرة‮. ‬خطوة خطوة وسيجارة سيجارة‮.‬

43

عندما بدأ بارتياد الهورس شو في الحمراء كان حسم اختياره‮.. ‬نهائيا‮: ‬الغولواز بلا فلتر‮. ‬وفي ذلك المقهى اختلفت وتنوعت كل أشكال السجائر وروائحها وألوانها‮: ‬من المالبورو والكانت والجيتان و»إل‮. ‬ام‮« ‬وطبعا‮ ‬الغلواز تماما‮ ‬كما كانت تختلط وجوه النساء والكتٌاب والرواد بأعباقهم وأشكالهم وألوانها‮. ‬ولهذا اكتشف بعدها أن رائحة الغلواز كانت الأضعف بين روائح السجائر والعطور و»الإفتر‮« ‬شيف‮ »‬بعد الحلاقة‮«. ‬وهذا ما جعل المقهى بلا رائحة طاغية بل مقهى الروائح كلها‮. ‬ولأن المقهى كان صغيرا‮ ‬الى حدٌ‮ ‬ما،‮ ‬فقد بدا أحيانا‮ ‬وكأنه ومن كثرة المدخنين يعوم على‮ ‬غيمة ملونة من دخان السجائر‮. ‬بل كأنه كان‮ ‬غيمة صغيرة،‮ ‬وسط منفوخِة بكل الشفاه والوجوه التي كانت تدخن أيامها وكلماتها وصمتها وقبعاتِها وأوراقّها في فضاء واسع امتص ما امتص منها‮. ‬وابتلع ما ابتلع منها،‮ ‬في تلك اللحظات التي كانت تشبه،‮ ‬كالمقهى،‮ ‬كل سيجارة أشعلت وأطفئت على وقع الأيدي والرؤوس التي نفخت دخانا‮ ‬كثيرا‮ ‬لم يتبق منه شيء بعد كل تلك الحروب والحرائق‮... ‬والسنوات

44

ذلك أن المقهى يتلون أيضا‮ ‬بنوع السيجارة التي يدخنها‮... ‬
واكتشف كم أن المقاهي كانت تتغير ألوانها مع تغير أنواع السجائر،‮ ‬ولكل دخان ينفث فيها شكله‮ ‬الخاص،‮ ‬وفضاؤه الخاص وكرسيه الخاص‮. ‬فالمقاهي تشبه السجائر‮. ‬تماما‮ ‬كما تشبه ناسها وأرصفتها وأسرارها‮. ‬ولهذا كان يري أن الدخان يغّيٌر أحيانا‮ ‬ألوان الحيطان وكأنها تشارك بالتدخين،‮ ‬وتحسها ستسعل أو ستكح كأي مدخن‮. ‬ولهذا أيضا‮ ‬يمكن إضافة ألوان دخان السجائر الى قائمة الألوان المعروفة‮: ‬من أزرق إذا هبٌ‮ ‬من الشفتين عرفتّ‮ ‬أن الأفكار زرقاء،‮ ‬ومن أحمر منفوخ عرفتّ‮ ‬أن المشاعر خاصة جدا‮. ‬ومن أخضر إذا توقف على الأنف عرفت أن‮ ‬غابة شفافة تطلع بكل هدوء‮.. ‬ويمكن أن تتحري بشيء من الفضول الأشياء الموضوعة على الطاولة لتري مشهدية ممتعة من قوس قزح يغمرها بلا إذن ولا اعتذار‮.‬
ذلك أن الأشياء والمقاهي تصبح من ألوان السجائر وشميمها وأنسابها‮.‬
ذلك كأن السيجارة قد تصير ذاكرة متجولة تبدأ بالدخان وتنتهي بالدخان‮.‬

45

يتمازج دخان السيجارة والبخار المتصاعد من فنجان القهوة‮.. ‬كما يتمازج النوم والغياب‮.‬

46

الوالدة رأت آخر سيجارة على سريرها الأخير‮. ‬مستها مسٌا‮ ‬بشفتيها واطمأنت‮. ‬تماما‮ ‬كما يطمئن المحكوم بالإعدام الى آخر سيجارة يطلبها ويمجها قبل أن ينسدل الستار الأخير علىه‮.‬

47

والوالد أيضا‮ ‬عرف كيف يخبئ تحت الوسادة سيجارته الأخيرة‮.. ‬ويشعلها وينفخ دخانها أمامه وهو يغمض عينيه الى الأبد‮.‬
كأنما رحل وبقيت السيجارة على نصفها مشتعلة بين شفتيه‮. ‬كأنما كان له ما أراده‮: ‬أن يسبقها ولو بلحظة الى ذلك الانطفاء الدائم‮.‬

48

‮... ‬وما نّغٌّص رحيل صديقي نبيل أنه لم يرّ‮ ‬بين الذين وّدٌّعوه من يحمل ولو سيجارة في فمه‮.‬
ولو سيجارة مطفأة‮. ‬فعمد وبطريقة سينمائية‮. ‬وهو يحب السينما،‮ ‬الى سحب سيجارة من تحت شرشفه الأبيض‮. ‬وبابتسامة خافتة وقدمها الى أحد الذين انحنوا علىه لتوديعه‮.‬
وكانت ابتسامته الأخيرة مقابل دمعة صديقه التي سقطت حارة حارة على جبينه‮.‬
السيجارة كانت ابتسامته الأخيرة،‮ ‬مشهده الأخير‮.‬

49

في بعض التقاليد يدفنون مع الجنود البواسل سيوفّهم وأوسمتّهم تكريما‮ ‬لهم‮. ‬تساءل‮: ‬لماذا لا يدفنون معه ومع أصدقائه،‮ ‬ولو علبة سجائر واحدة ولو سيجارة ولو عقب سيجارة ولو عود كبريت ولو نفسا‮ ‬عميقا‮ ‬من مجة سيجارة على ملابسهم ووجوههم وصورهم‮.‬

50

يدفنون أوهام الجنودِ‮ ‬البواسل معهم من أوسمة وسيوف وإشارات،‮ ‬فلماذا لا يدفنون أجمل أوهام الذين لم يرموا السيجارة حتى آخر نفس من أنفاسهم حتى آخر وهم في دخان سجائرهم‮.‬

51

‮.... ‬إنه الوهم الذي تراه،‮ ‬تضعه في جيبك‮ . »‬وهل أجمل من وهم تضعه في جيبك‮«...‬
يشبه الهواء أحيانا‮ ‬أو الرماد أحيانا‮ ‬أخري أو الظل‮. ‬وّهْمج‮ ‬بحجم الإصبع‮. ‬وأرق‮. ‬أو أغلظ‮. ‬تسحبه تشعله،‮ ‬تمجه،‮ ‬تطفئه،‮ ‬ترميه،‮ ‬ثم تتكرر اللعبة‮: ‬تسحبه،‮ ‬تشعله،‮ ‬تمجه،‮ ‬تطفئه ثم ترميه‮.‬
الوهم الخالص يستوطن أصابعك وصدرك ورئتيك وشرايينك ليجعلها وهما آخر‮.. ‬يجعل الحياة كلها وهما آخر‮.‬
وهما‮ ‬قاتلا‮ ‬ككل الأوهام الجميلة‮.‬
‮- ‬الى متى‮!‬
‮- ‬لا أعرف
‮- ‬ربما حتى النهاية؟
‮- ‬لا أعرف
‮- ‬ربما قبل النهاية؟
‮- ‬ربما تسقط من يدي
‮- ‬وتلمْها‮!‬
‮- ‬ربما‮!‬
‮- ‬ربما تسقطها من يدك‮.‬
‮- ‬ربما
‮- ‬ربما لا تسقط من يدك ولا تسقطها من يدك؟
‮- ‬ربما‮.‬
‮- ‬ربما انتزعت من يدك
‮- ‬أشعل‮ ‬أخري
‮- ‬ربما احترقت على شفتيك‮.‬
‮- ‬أشعل أخرى
‮- ‬ربما سبقتك بدون إنذار
‮- ‬ربما أسبقها بدون إنذار
‮- ‬ربما تخلٌت عنك قبل فوات الأوان
‮- ‬ربما لا أتخلي عنها بعد فوات الأوان
‮- ‬حتى النهاية؟

52

يبتسم عندما يلتقي البخار المتصاعد من فنجان القهوة الساخن دخان‮ ‬سيجارته‮. ‬ويبتسم أكثر عندما يتمازجان ويتلاشيان معا‮ ‬هواء‮ ‬في هواء أو صمتا‮ ‬في صمت ورحيلا‮ ‬في رحيل‮.‬

53

لا يعرف لماذا عندما رأي دخان السيجارة يمتزج ببخار القهوة‮... ‬أحس بحنين‮ ‬غامض‮. ‬ذلك أن الحنين أحيانا‮ ‬يشبه تمازج دخان السيجارة ببخار القهوة الساخنة
لحظة لا تعرف الراحة‮.‬

54

أين يذهب دخان السيجارة عندما تبتلعه؟ كيف يشق طريقه في الزلعوم وكيف يتوزع في الصدر وصولا‮ ‬ربما الى البطن والكلي‮. ‬في أي شريان يعلق ويقيم‮. ‬أيٌّ‮ ‬رئة يختار‮: ‬اليمني أو اليسرى هل تجري يتوقف في الحنجرة‮. ‬هذا الدخان الشفاف الرقيق أيٌ‮ ‬منطقة سيخترق في هذه السيجارة التي تمجها بقوة اليوم،‮ ‬في أي منطقة قد تصير محظورة علىك ذات يوم أو ذات صباح أو ذات‮ ‬غياب طويل‮.‬

55

ربما عرفتّ‮ ‬متى دخنتّ‮ ‬أول سيجارة لكن من سيعرف متى ستطفئ آخر سيجارة قد ترميها في المقهى أو في الشارع أو في السيارة أو‮ ‬من على حافة سرير‮.‬
آخر سيجارة كأول سيجارة طازجة في مجيئها وأكثر طزاجة في رحيلها‮.‬

_________________
ديوان - دفتر سيجارة, بوصلة الدم  ,موت نرسيس , أوراق الغائب , شعر وقصائد بول شاوول,ديوان بول شاؤول pdf Hearts10

حسن بلم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
hassanbalam
® مدير المنتدى ®
hassanbalam
رسالة sms : سيرى ببطئ ياحياة
لكى أراك بكامل النقصان حولى
كم نسيتك فى خضمك
باحثا عنى وعنك
وكلما أدركت سرا منك
قلت بقسوة
مأجهلك!!!!
ذكر
عدد المساهمات : 11555
الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى
العمل : مهندس
نوسا البحر : ديوان - دفتر سيجارة, بوصلة الدم  ,موت نرسيس , أوراق الغائب , شعر وقصائد بول شاوول,ديوان بول شاؤول pdf 15781612
ديوان - دفتر سيجارة, بوصلة الدم  ,موت نرسيس , أوراق الغائب , شعر وقصائد بول شاوول,ديوان بول شاؤول pdf Icon_minitime 2013-09-17, 5:35 pm
مــوت نـرسيس

ما هذه النجوم التي تتنفّس في الجَسَد? العينان اللتان ترشفان

الفضاء? الفريسة المستحيلة المطمئنة بين العناصر? البدر الذي ينزلق

بذهبه على الجلْد الملكي والأعضاء المنسابة في صفاء البلّور? أيها

العالَمُ, أيها العالم الناقص, ها هو الوجه الذي تكتمل في قسماته

الثابتة, ها هي الملامح الشمعية التي تذوب فـي خطوطها الملساء.

ها هو وجهك ها هي النقطة التي تبدأ بها الاشياء وتنتهي. أيها

العالم, يا مفقود الكنوز, ها هو كنزك الذي لا ينفد, تكوّر في هذه

الهبات الإلهية, إستغرقْ في هذا الغياب المطلق. ها هو نرسيس!

نرسيس المُقْبل أبداً على فجـره الواحـد, المُقْبـل أبداً على فصله

الواحد, المُقْبل أبداً على مرآته الواحده, المُقْبل على ذاته بين

الأسوار العالية. الحاضر بين الغيابات. وحده , يأتي ولا يغادر . ها

هو نرسيس يحوّل المسافة إلى حجر, الصوت الطالع إلى نسيان,

يحوِّل الحركة إلى ما يشبه الأعمدة الرخامية, إلى ما يشبه جفنيه

فلْتتلوَّ الواحدة المكتنزة أمام شغفها المتدفق, فلتلتمعْ في فيضها

اللازمني فلتفترس ذاتها وتتلذذ بثمارها, فلتتكررْ في دائرتها المغلقة,

في هوائها الساكن!.

كل هذا الزمن السادر زمنُك يا نرسيس, زمنك المسترخي

في حاضر لا ينتهي, في حاضر لا يتزحزح ولا يصل, باركاً في فجوته

الباردة. كـل هذا التـألق منـك يـا نـرسيس. ماؤك منك. شمسك

منك. هواؤك منك. لا يملك عصفور أن يسقط ريشةً على حصارك

الجميل, لا تملك امرأة أن تخدش حضورك الشاسع. افتح حواسك

على حواسك, عينيك على عينيك, كفيك على كفيك, ذاكرتـك

عـلـى ذاكرتك, فهناك الكنوز الأبدية, كنوزك. أنت الأب والأم

والزوج والزوجة والبرعم والوردة والثمرة والحديقة. الذكر والأنثى.

الأول والأخير. البتول الأبدي, مصوناً في برجك العاجي كعذارى

الملاحم لا يدركك صـوت, لا تسبيـك إشـارة ولا يُغري فمك الخالد

فم فانٍ, فاستوِ على عرشك الأوحد يا نرسيس, تَعَبّد لعظمتك,

اغسل بجمالك مراياك التي تملأ العالم من أقصاه إلى أقصاه, وانثر

الزهر والعطور على وجهك المطمئن, وجهك الثابت خلف قسماته

المطمئنة المتوهج في انتصاراته الخالدة.
أوراق الغــائــب

شجرة كينا تلمع من طفولتي وتذوب في الهواء. أطفال حولها يرمون ألعابهم ويتجمدون.

أموات يسندون رؤوسهم إلى الجذوع ولا يموتون. ينفخون أنفاسهم على المياه ولا ترتعش.

شجرة كينا تلمع من طفولتي بكل موتاها.

كأني اليوم أقود الموتى من أطراف تذكاراتهم.

كأن وجهيَ نصفه شارع ونصفه نافذةٌ.

يعبر الموتى من نصفه الأول إلى نصفه الأخير ويرجعون.

يصرخ الموتى من نصفه الأول إلى نصفه الأخير ثم أسمعهم.

وراء الموتى موتى آخرون من نصفه

الأول إلى نصفه الأخير, وراء الموتى

الآخرين موتى آخرون ينتصبون من نصفه

الأول إلى نصفه الأخير ولا يتسع لامّحائهم

ولا يتسع لحصادهم.

كأنيَ اليوم أقود الموتى إلى أطراف تذكاراتهم.

نساء يتباعدن في وضح الليل. يخلعن أجسادهن ويلوحن بها.

أتسلق النافذة ولا أراهن.

ذلك السرب المجنّح من السنونو يقطِّع

الهواء بأنصال مبهمةٍ. أرفع رأسي قليلاً

لأراه.

طيرانه كمن يتلفّت بعين واحدة.

ذلك السرب المجنح من السنونو يقطِّع

الستائر بأنصال مبهمةٍ. أرفع صوتي قليلاً

لأراه.

طيرانه كمن يخلِّي الصباح دفعة واحدة.

ذلك السرب من السنونو يقطِّع الأنفاس بأنصال مبهمة.

أرفع شِرياني قليلاً لأراه.

في العتمة تبتسمين على مهلٍ كما تُفتح نافذة بعيدة.

في العتمة

مرآتك على مهل طويل

كما يُقْبل الغريب

من الخلف.

كيف يمكن أن يميز الغائب بين أن يفتح

يديه ويرى نافذة?

كيف يمكن أن يميز الغائب بين أن

يغمض عينيه ويتنفس?

كيف يمكن أن يميِّز الغائب بين أن

يصمت

وينكسر

مصباح مطفأ على شفتيه.
من قصيدة: أيهــــا الطــــاعــن فـي المـوت

الشجرة المخمورة والظل السادر

اقترب في انحداره حتى التصق

بالضفاف فأي سكون يرفع حركاته

حتى الأشياء المعطوبة تهيأت لكلمات عالية.

(هنا تحترق الأجساد وتنتصب في رمادها)

ولو تقدم الوجه الملآن على لمع

القامات والهواء

هل ستفزع إليك حرقات غصَّت بحنين القمم

أو ترسل بين الأغمار أعلام المدن

وحدك رمح الريح في تناسل العناصر

تحفر في الرمل وتحدّق في الجباه

لعل تنبسط على القسمات سعادة البحيرات

كيف تروي أنك تحصى الجوع

وتنتحب

كيف تروي أنك ترثي الجسور

الشجرة المخمورة اشتعلت في الموت

وهزت أغصانها أصوات أيقظت الخشب

والتراب

الشجرة المخمورة دارت وامتزج

الحلم بالسكون

_________________
ديوان - دفتر سيجارة, بوصلة الدم  ,موت نرسيس , أوراق الغائب , شعر وقصائد بول شاوول,ديوان بول شاؤول pdf Hearts10

حسن بلم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
hassanbalam
® مدير المنتدى ®
hassanbalam
رسالة sms : سيرى ببطئ ياحياة
لكى أراك بكامل النقصان حولى
كم نسيتك فى خضمك
باحثا عنى وعنك
وكلما أدركت سرا منك
قلت بقسوة
مأجهلك!!!!
ذكر
عدد المساهمات : 11555
الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى
العمل : مهندس
نوسا البحر : ديوان - دفتر سيجارة, بوصلة الدم  ,موت نرسيس , أوراق الغائب , شعر وقصائد بول شاوول,ديوان بول شاؤول pdf 15781612
ديوان - دفتر سيجارة, بوصلة الدم  ,موت نرسيس , أوراق الغائب , شعر وقصائد بول شاوول,ديوان بول شاؤول pdf Icon_minitime 2013-09-22, 11:14 am
منتخبات من أعمال بول شاوول


منتخب «أيها الطاعن في الموت» (1974)



I

رأيته وافداً بين أسراره

أي ظلام في الكون

خلف الظلال العين الراعبة

والوجه المشقق يملأ الجذوع

تلك القامة الوافدة تخرج من الجدران

ألحان حجرية تواكب خروجها من

الأشياء إلى الأشياء



رأيته وافداً والطير تهرب من

قرع خطواته

انه حجر انه حجر

ماذا سنفعل بوجوهنا المحفّرة على الحديد

قد نتقاطر أمام دفع المركبات

لكنه الصهيلُ الذي يجمِّد المرتفعات

تلولبْ! الرمل عميق



لكنه يأتي مع العواصف الحجرية

هاجس في دوران الأرض

هاجس في حدود البحر

ساقط بين العناصر والنسيان

قامة تتسع للطيور والفضاء



من سيخفي أجنحته أمام

نذير قدومه

من سيكسر الكؤوس حتى لا تبقى

دمعة للذكرى



رأيته وافداً بين أسراره

يطوّق المدينة بذراعيه ويمحو بنظره

طرقاتها وأحزانها



II

وقف بين المنعطفات بعدما فقد الدرب الواحدة

«ماذا يعني أن ننتظر الشهب»



حملق أمامه لكنه ارتدّ

«ماذا يعني الانهيار»



بسط كفيه ورفع عينيه إلى الفضاء

«هل يمكن أن تعلق عيناي هناك»



وماذا يمكن أن ترسم خطاه

بعدما أغلق على جسده بوّابة الوهم

تقدم كي يحفر أكثر في الرمل

ومن دون أصوات تمدد على خطاه

هنا الأرض بلا جماهير

والرمل غزير

فلأتعمقْ في الرمل



ماذا في يديك أيها الواقف بين

المنعطفات

عاجزاً في الوحدة وأمام العيون

كيف ستحزم خبايا الحدائق أو بعاد

الأجنحة

وتوّحد أصواتاً غلغلت في القاع

والأجساد



مسبوقاً تجري وبلا أنفاس

هنا الأشجار للذكرى والواحات تعد

بالرحيل

والطفل الذي يقطع من هضبة إلى

حزن يحلم بالوقوف

لكن أرق اليقظة يخطف المسافة من

دون انبهار

ماذا عن اشتعال الصبح والنساء

والجري

سبقناك حتى انتفاضِ الرقصة

الخطرة

سوف نلقاكَ تحت مطر السكون

والحشرجاتِ الطويلة.



III

بعدما انحدر آفلاً مع الثلوج

راثياً أيام الضفاف والأجنحة

(لكم ارتفعت جبهته بين البروق

واللحظات)

(لكم انتصب بين الأوراق والدموع

العالية)



«تدجين الموت في الركض بين

الضفاف»



الثقب في الصخر كيف لا يفتح

السماء والكلمات



مدٌّ على وجه البحر

حفرٌ في النهر

أي عين تنسدل على ايقاع الجسد

بين الفصول

أي ثانية لا تشق الثمرة حتى الندامة

أي زمن لا يرفع بوق الظهيرة ويلمّ

الأطفال.



IV

تندسّ في صراخك نجمةٌ كانت

قد سقطت طويلاً على وجهك

كل هذه العصافير تتشقلب غاويةً

طيرانَك

وسهوبَك على مدّ السنابل والجبال



هذه الطعنة في جريك هذه الطعنة في جريك

وماذا لو تمددت على أطراف الحلم

أو نفضت أرق اليقظات من عينيك

بعدما تتهاوى على مدارك أعمار



أو قرع للصمت في كفاياتك أو اضغاث

بسمات تبقّع الفجر وتتلو المراثي



آه لو تعرف قبل أن تسقط



سبحان اليقظة المتهوّرة والمشاعل

المشرعة

سبحان الخطوة التي تتمدد عليها

بعد الورود التي تملأ الصخر والجذوع

تشك في مسراك النجمة الهاتفة

بالخطر



وستنخطف أنت من بلقع الرمل كي

ترسم

أشكالاً للزمن والذاكرة

(الموت لا يعرف المراثي كأنه صديق

الرايات والجباه)

وستحفّر في تربتك كلماتٍ لا تنتهي

وأنفاساً تسحّب من المواقد

حتى تنتصب

رافعاً رأساً كالجرس بين الرؤوس

المنكّسة



رافعاً أطفالاً يشهقون من اليأس

والقطعان تغطي ثلوجك

تفلت على المرتفعات أحصنةً لا تعرف

المسافة

وطيوراً أكبر من الشموس

ولو هتفت أن انتهيت انتهيت

تصبح واحداً بين المرايا

حتى تتسمَّى الأشياء من جديد

نهباً للنار.



V

وسموّ الأزمنة في لفتاتك آن تشرئب

ثقيلاً بين الحرائق والينابيع

ذاك الجسد الفلتان عبر مجاريه

ويقظاته حتى يتلامس النبض



خفراً مع مسرى الينابيع واهتزاز

الثمر الملآن

ما أعظم السقطة التي تنهض مع

الأوراق



سموّ في المنحدرات

يا ساحب الذكرى بعد الضفاف والهينمات



تنضمّ إلى حجارتك وعيناك مغلقتان

على

أعز الأموات والورود

فلننشطر في وحدة المأساة

على كل جبهة بريق نهاية.



وكل الجباه حزمة تحت الفؤوس واللمع



سموّ في الانتكاسة والرعب

ملحمة تواكب الشعوب الساقطة

وحدها الدموع العالية بين الأمطار



قرع واحد أو موت أو يقظة بل كل الهتاف

جرف كالأسلحة يحدد حركاتك

كأنما سوف ترفع سياجاً للماء والسنين

والأغمار تتلو المراثي والصلوات



VI

ولا تتحمّل الظلمة في عينيك

آن تهوي عليك طيور تغرز في الأعماق

أو صيحاتٌ تفسّخ بياض الثلج

كأنما برق لا ينقطع فوق السرو والبلاد

آه لو انحنيت

ولكم أخفيتَ مقتلة في الليل

وعيناً رازحة تحت الجمر

ومن الجسد اللاصق بالرمل كيف

تولّع الزهرة

أو تُذيب العبرة

لترفع عنقاً للموت والمرثاة

حتى الحلم لو كنت من خفاياه

لاستدار على الحرائق والخسوف



VII

الشجرة المخمورة والظل السادر



اقترب في انحداره حتى التصق

بالضفاف فأي سكون يرفع حركاته

حتى الأشياء المعطوبة تهيأت لكلمات

عالية

(هنا تحترق الأجساد وتنتصب في رمادها)

ولو تقدّم الوجه الملآن على لمع

القامات والهواء

هل ستفزع إليك حرقات غصَّت بحنين القمم

أو ترسل بين الأغمار أعلام المدن

وحدك رمح الريح في تناسل العناصر

تحفر في الرمل وتحدّق في الجباه



لعلَّ تنبسط على القسمات سعادة

البحيرات



كيف تروي أنك تحصى الجوع

وتنتحب

كيف تروي أنك ترثي الجسور



الشجرة المخمورة اشتعلت في الموت



وهزت أغصانها أصواتٌ أيقظت الخشب والتراب

الشجرة المخمورة دارتْ وامتزج

الحلم بالسكون

حتى هتفت أنت الشعلة الشعلة

ولن تجرؤ شفة أن تزرقّ أمام الهتاف

أو تغلق عين



الظل السادر يعزف في غرف النوم

والمقاهي

وعلى الأرصفة ويلملم أوراق الكلمات

خذ - خطوط مستقيمة توجز الركض

خذ - أصابع تتحرك على الأعمدة



الشجرة المخمورة والظل السادر



اقترب في انحداره حتى صار

واحداً مع الضفاف

فأي دمعة جديدة ستنسلّ بين السواقي

وتسبق السهل والمنحدرات









منتخب «بوصلة الدَّم» (1977)

الأشرعة ساكنة في الرمل

عمر أبيض

(يطلع منها رحّالة الدم والكلمات)

* * *

الصحراء المطلية بالفضّة تنفتح عليها عيونٌ مقروحة

ترن على حجارتها أوراقُ المعدن

الصحراءُ المبهورة بشمس سوداءَ كادت

أن تنتظر



هذا السكونُ الشمعي على الرؤوس

هذه الجدران البلورية في الحلم

* * *

هل من يرفع بوقاً يلمع في ظهيرة

هل من يتمطَّى بعد غفلة مخملية

هل من يسحب خيطاً بعد الرياح والحرائق



هل من حضور ينتشر بين الأهراءات والكنوز



البحار تلعب بالأحلام وتنقبض

* * *

وتنتظر منقاراً يفجِّر الصخور

وتنتظر طفلاً يزيل الحدود بين الطبشور والثلج بين الحديد والليلك بين الحجر والحمامة



وتنتظر فصولاً تنشر حرياتها في الينابيع والأمطار والهواء

* * *

يا صباحات مشرقة من الأبد إلى الأبد على مضارب الدم والكلمات

يا صباحات الأحصنة الطافرة من الشرايين

يا صباحات الأرض الواحدة والزمن الواحد والموت الواحد





ترتعش لحظة وتتلاشى في موكب النحاس

يلمع البلَّور المغبرُّ

تتضرَّج نعامةٌ بغيابها

* * *

الزبد يزحف إلى الأغصان والنجوم

التماثيل تنتظر سقوط الصاعقة

الدم يفلت مجنوناً

الحرائق تقفز من جدار إلى جدار من لا نهاية إلى لا نهاية



(يلوكون صراخاتهم

الرحالة يلوون القضبان ويدلفون إلى داخلهم)



البحار تلعب بالأحلام وتنقبض

* * *

الأشرعة ساكنة في الرمل



المعدن بكر الحدائق

النجوم تشحذ علاماتها



هل من خفاش يهوي فجأة على رأس المدينة

(الرحالة يتقدمون في حدود خطاهم

يرسمهم خيالهم على الطواحين)

أمدُّ حواسي في اللحظة الناريّة

أتدفق على بريق الصوّان

أتموّج سنابلَ من الفرح في حقول الكلس



طفرةُ عصافير من الحلم تُشرق وتتقلص



(يهشمون قسماتهم كي ينسوا المرايا)

لحظةُ النسيان تفتح الذاكرة

* * *

في الحرائق الممراتُ

جذور المعابد في العيون

الغبار يمحو آثار عصفور هوى

الموت يقود الحصاد من العروق



لحظةُ النسيان تخون الذاكرة

* * *

أنوار التراجيديا تضيءُ المسرح

تنفجر النذور في أيدينا

يا رعشة المدينة الغامضة أي سيف بربري معلق فوق شوارعك ودهاليزك ولو ذاب مع الرصاص في قصورك وقبابك المسكُ والعنبرُ أو انفجرت فجاجك على قرقعة الأسلحة.



أي سيف بربري مسلول في دورك وهواجسك يا رعشة المدينة الغامضة يا بيروت تصابين بالآيات والطلاسم تعلقين على جيدك عقود التمائم والعقارب تتزيّين بقلائد الحواة والسعالي تدبين عند أقدامٍ حديدية ترفعين نذورك إلى الحضور الزجاجي المفتوتِ في خلاياك ودوراتك الدموية النافثِ في يقظاتك حَذَرَ الأيام المقبلة المعروقِ في خيالاتك الغارزِ في لحمك الرايةَ الغريبةَ

هذا الحضور المعدني المحاصِر المحرق الغادر المعسول

يا رعشة المدينة الغامضة يا بيروت



المراحل القادمة تنذر بأجنحة الدم

المراحل القادمة تحبل برعد لا يرحم

* * *

أغنية البلاد تخضرّ لحظة تحت

الشمس وتتقهقر إلى القسمات



المراحل القادمة تقضم أظافرها في الزناد

* * *

كيف يقابل الجسدُ العاري بين البحيراتِ واللغاتِ البيضاءَ الطعنةَ المظلمة

لكأنْ تمتدَّ الآياتُ من شفير اللعنة إلى شفير الليل أو تفتك بأرضٍ هجرتها القاماتُ الخضراءُ ولْيلتفَّ الجسدُ العاري بأصابع مقطوعة

وبأنفاسٍ تطلع من وبرِ الأحداق ولفح المواقد حتى ترتعشَ الغرائزُ في استدارة الشمس

وطمْي النهرِ الثقيل



* * *

كيف يقابل الجسدُ العاري وردةَ الفحم وبراءاتٍ محجّبةً تحت سماءٍ مفجوعة

آه يا صيفَ الدموعِ الطويل تدفع الغُمّةَ إلى مساري الثمار ونشيج الحناجر فهل فهل ستصاب اللعنة في المقتل حتى لا تبقى دقيقةٌ واحدةٌ لا تكتنز النبضةَ العظيمةَ والحضورَ الغامر

* * *

وأنتِ يا بحّةً معجونة بالتراب

وأنتَ يا وجهَ الندامةِ الأولى تطبق جفنيك إلى داخل تحت تكسُّر المعجزات



وأنتِ يا رياحاً ضلَّت بين الصفحات وجدران الغرف وأنتِ يا قامات مردودة إلى العزلة



كيف نقابل البحر بهاماتٍ منكَّسة

كيف نعبرُ من نسيانٍ إلى نسيان



كيف نفتك بالوجوه الساكنة خلف الأقنعة (...)











منتخب «وجه يسقط ولا يصل» (1980)



1- وجه

وجهٌ صفاتُه الشمعُ

(ثم لا يَسيل ولا يبقى)



وجه صفاته الشمع

(ثم لا يشتعل ولا ينفَد)



وجه صفاته الشمع

(ثم لا يَذْكُر ولا ينسى).



2- وجه

إلى المرآة

كُسُور غياب



يُشعره الضوءُ

ولا كلمة

يُغلقُه السكُونُ

ولا رَفيف



3- وجه

عشبةٌ

تحرقها

الرّغَبات



ولا

تشتعل



4- وجه

اللحظة

التي تعبُره

تُسمِّيه

- الجمرةُ

التي لا تَذْكر

الرماد -



5- وجه

غبارُه

يُغلق

أبوابَه

غبارُه

يُفنيه إلى الداخل



غبارُه منه.



6- وجه

يَخفض خيباتِه

ويرفع زهرة

يقترب من الحديقة

على رؤوس

أحزانه.



7- وجه

غريقاً

بين المصابيح

حطاماً

يلمع

في حريقه الطويل.



8- وجه

عصفورٌ يحجبه

ولا يراه



عصفورٌ يُعلنه

ويختفي



ورقة تقيسُه

لحظاتُها

المفصولة.



9- وجه

جامدٌ

خلف إشاراته

- رملٌ

يقرع

تحت

الرمل -



يفتح باباً

ويمشي

في عينيه المغلَقتين.



10- وجه

آخِرُ العينين

ثمرٌ

يسقط

ولا

يصل.



11- وجه

لم يُكمل

الشهرَ

الحادي عشر



اجتازه هواءٌ ناقص.



12- وجه

لم يكمل

الشهرَ

الثاني عشر



سقطت من السنة

نافذةٌ

ثقيلة.











منتخب «الهواء الشاغر» (1985)



يعرف أصابعه من الهواء

يعرف عينيه من آثاره

يعرف وجهه

مِنَ

النجمة الشاغرة

في

وَضَحِ

النهار.



يمضي

تقوده

العناصر

يمضي

ليسترجع

طريقه

عندما

يعرف

كم

أنه

لن

يعود.



صرخته

تسبقه

إليّ

ذاكرة

تسقط

مع

مياهها.



نَظَر

بأطرافِ أصابعه

أصغى

بكلّ ما يتنفّس

عَدَّ اللحظاتِ

بالهواء

تكلَّمَ

بنعمةِ

الأشياءِ

التي

لم

يَقُلْها.

مَنْ يرفعُ جبينَهُ

الموتُ

أمْ تلك الشجرة



مَنْ يعانقُه

في

تلك

اللحظةِ

الفاصلة.



مرآته

تحجب

ما

لا

يبقى

مرآته

تضمّ

ما

لا

ينساه.



لا شيءَ يُمسكه

كي لا يبقى

لا شيء يلفظه

كي

لا يقول

لا شيء يقتله

كي

لا يموت



طوى موته

ونام



ثمَّ

فَتَحَ عينيه



حتى



الصباح.



لا يحبس جفنُه

قطرةً

من هذا المطر

لا تُبقي يداه

دقيقةً

مما يراه

لا يُعلن كلمةً

فَمُهُ

الثرثار.



يغادر المرآة

كي

يحفظ

ماءَ

وجهها

يغادر المرآة

كي

يُقبلَ

ولا

من

يذكر

وجهاً

لا

يسترده.



يستدير إلى الشمس

ويتنفس

بكل

لا

جدواه.



يسترجع الأشياء

كي

يستبقي

ظُلمةً

غيرَ

باقيةٍ



فيه.



اسمه

كي

لا

يخون

جسده

اسمه

كي

ينظر

إلى

الزمن

بيدين

مفتوحتين.



دليلُه

أنْ يفقد

شيئاً

لا

يعرفه



دليله

أنه

يمشي

إلى

ما

يترك

الأوراق

ولا

ينتظره.



يحسد بكارةَ الزجاج

المكسور



إلى

الأبد.





منتخب «موت نرسيس» (1990)



I

جَسَدُكِ كي أمسح بلمسة الزبد إلى آخر ذرة ملح كي أوقظ بصرخةٍ الغابةَ المستورة بالطيور إلى آخر سمكة تلتهب في القعر جسدك لأُضيء الرغبةَ المحترقة لاشهقَ اللحظةَ إلى نتفة الزمن المشدود. جَسَدُكِ كي تتمزجَ اليابسةُ بمياه الوقت الرجراج.

ليسود الوقت الدافىء على جلدك كما ينتصب النسر في أعلى قمة من جسده في أخصب نبع من يديه المفتوحتين على جسدك الناضح بالروائح الليلية وهبوب الأنفاس من وَبَر الحقول ومن تعاويذ الأصابع والأعناق المغروزة في أسرارها الأولى المنفلتة على عواصفها الساحلية بين فصلي الموت والغياب.

بين رحيقي الموت والرماد.

بين سريري الجسد الواحد المنتفض إلى غموضه الساري الفائض إلى حواجزه الأزلية. السادر إلى قراره العمودي الساخن بالتذكارات والأنين والثقل المرقط لفهود تلمع على مساحات الأدغال المتشابكة وتشعل الثمار واحدة واحدة ترفع أعناقَ الأزهارِ شهقةً شهقةً حتى يهتز العشبُ المحني على وريقه المهزوز في غشاءاته الهشّة وبريقه المائي القديم.

مَنْ يفتح في هذا الجسد بنفسجةً خالصةً مَنْ يرتعش كسروة أصابتها الصاعقة في الصباح أصابتها الصاعقة في الظهيرة أصابتها الصاعقة في الصيف حتى ذاك الغياب المُشمِس في القسمات، حتى تلك الحقول التي تعصب ثِمارَها في المساء وتسقط في بريقها المعلقة على أجسام طافحة فوق العشب طافحة فوق الرمل ينزف غسق أخضر من الشفاه نهار وامض من الجذوع ومن الأطراف القاطرة القاطرة على صفائح زئبقية شاسعة ليهتز ظل مكتنز على رفيف ممشوق بين الأيدي المستورة بفضيحتها العالية بهشيمها المستنفر تحت النيران.

آه ما أعمق الطعنة المستقيمة الوابلة في خرافاتها المنتفضة على عَرَق السيقان والأذرع والصدور والأجفان آه! ما أعمق شفاء الهدهد الموتور في قوس تحت قمر مغلق على احمراره الشاهق آه ما أعمق الطعنةَ الخالصة الخالصة تكثر في هديلها المظلم تنفر فيها الحصى إلى الآبار، يلتمُّ انفلاتُ الريش في فضاء خُرافي من دم خُرافي إلى حواسه المتفتحة ولا ترى ولا تسمع ولا تهتف ولا تبدأ حتى تستلقي بفرائسها الألفية واشاراتها الصاخبة بلا وزن ولا مسافة على جِلْد الساعات على عصب المقطوع من أنهاره وكوابيسه الفائح من نعناعه وزيزفونه وليمونه.

آه ما أعمق الطعنة تدرك حاسّة الفراغِ الباهتة المبهورةَ ولا من يفتح حدقتين ليتسع ولا من يُشرع أصابِعَهُ ليمسكَ ولا من يذكر بعد السقطة المفزعة خلف الجسد المصلوب على جسده، آه ما أعمق الطعنة لتسيل المنارة الشاهقة كقطيع يملأ الوديان والهضبة والنبع يقضم الوقت من أطرافه ومن عبيره القاطع وأطراف السواقي المفلتة على صفاءاتها المحترقة على العشب.

الأنة! الأنة! هل تصيب الشجرة في أوراقها وعصافيرها هل تعبر من ضوء إلى الفصل الممهور بقاماته الدائمة هل تزفر من ذاك القاع لتصل إلى القمر النازف بعري واضحٍ يتلوى. الآنة! من يوقف هذا الجرف المحمّل بتواريخَ وأرقامٍ وخُوَذٍ وخيباتٍ تُشْمِسُ تشمس في فراغاتها العظيمة تبزغ كالوشم في الخلايا كدماء تحفظ خروجها لتفوح.

ها هي الزوارق بمجاذيفها القاسية تتحد بمناراتها ليرتعش شيء كأبعد أن يكون الزبد كأبعد أن ترتد الموجة كأقرب أن يلحس الموت مِلحاً على جسد ليستبقيه ولا عيون مؤرقة خلف الأوراق ولا أذرعَ تنهب إشاراتها ولا أفخاذ تنغلق على بتول في تلك الدائرة المغلقة في تلك الساحة المحاصرة بالنيران.

الآنة! الآنة! منه، الجسد، ليبتهج الكاسرُ بفريسته الكاسرة لتبتهج الفريسة المسحوبة من دمائها ليبتهج موت يُضمِرُ الأصوات في قطرة واحدة يوزع الأصوات إلى صحارى صحارى تقبل.

أيها الموت منْ يوصلك إلى بقايا الجسد المنثور في جوقته المعدنية من يفصلك بعلامة أخرى عن ألوان الشهوة المضروبة بنحاسها البريّ عن ثغورك المستحيلة.

عن الأرخبيل المطوي على وحدته الماكرة؟

أيها الموت!

هل من نشيد آخر لا يُفاجىء العصفورَ في مضيق الشجرة.

هل من نشيد آخر يا هدهداً يرفع منقاره بين الأوراق لتتبعهُ عاصفةٌ لا تعصِفُ غيرَ الكسرِ الداخلِ غيرَ السكون الساري كالأمراض؟

كأنَّ تملمُلَك أن اعبث بالعناصر أن استقر على جذع يُشرق في حريقه أن اعبِّدَ الفضاءَ لتلك القيلولة السهلة لكن أيّ أنفاس تعد أفواهها وألسنتها حتى تلك القشعريرة القرمزية والملوحة حتى ذلك الزمن الفارغ من غثيانات الشوارع والغرف والأسرة الطاغية الطاغية في بياضها.

يا وجهاً يلتبس بالوجه يلتبس باليدين يلتبس بالنهر ليفصل وقتاً من عروقه ليفصل وقتاً لا ينفص. كمن يرى القاع بعينين مفتوحتين إلى الحجر المتدحرج على الحواس إلى الألفيات المغروسة بين طلوع الأعمدة وسكون النبات.

يا غائبة جسدها المهر الأول إلى المهر الأخير!

ماذا لو تعثّرتْ أصابعي لتمتزج الرؤيا بالغروب.

تنخسف الأحجياتُ من سطوع الآية المبكرة على الجسد الصباحي على الجسد معسولاً ولا مَنْ يرفع كلاماً يرن على ذلك الأديم المعدني ينهمر على السيف المطاول في طعنته.



II

عندها كأني لا أذكركِ أو أذكركِ ولا أعرفك أمسّكِ كمن يعدُّ النجومَ مِنْ بصيص الشفاه في العتمة ويترك النجوم كمن يتمّدد تحت الأمطار. عندها الصمت البحيرات المطلقة. الشموع الواقفة في ذاكرتها المعذبة بسراب القامات الموحشة في نخيلها. نخيلها الغامض. الغامض في اشتعالها الغامض. من يذكر أن ينسى بين جسدين لتمتلك القيلولة ماءها النافر من الخلايا. مَنْ ينسى أن يذكر باقاتٍ باقاتٍ سائلة جذورَها على الزئبق فائحة مساحاتها القادمة ولا هواء ولا رعشة من الرعشات المطلوبة ولا اختباء خلف الصخور البرية قرب الأنهار التي تخون ولا تعرف ولا تستوقف وجهاً مستغرقاً في انتظاره.

عندها كأنَّ الأرضَ مقسومةٌ إلى أصابِعَ تعدُّها وتبذرُ فضاءَها وفصولَها وساعاتِها وطيورَها ونباتَها وأسماكَها خيباتٍ خيبات تلمع على ذلك الجسد الخارق في أنفاسه الأولى. أيتها العناصر، يا ماء إلى حنين الأرض يا هواء إلى شقوق السماء يا ناراً تغسلها الكلمات الخوذ التي ذابت في برفير الجلد كيف تشق قامة أولّها في التكوين وآخرها في التكوين. كيف تحط عليها النظرات لتحرسها الآيات المباركة. كيف تتهالك عليها رؤوس عارية مكشوفة تحت الأرحام. كوني يا أجسادي موصولة حتى أرفَع الضحية الملتفة بَعَرقها. حتى أحضنَ الضحية المخضبة بدمائها. حتى أحيا وأنا أقرع أنّاتِها في فمي وأنا أعبق بأكاليل الشهوة المعلقة على عنقي. حتى أغيب في يقظتها المحمومة. استديري قليلاً كي أرى المنارة المتصلة بالبحر. كي تتكور أصابعي على الشكل الذي لا يتغير. كي تتحسس أصابعي اللونَ الواحدَ بين الألوان المتغيرة. اللونَ الأخير تحت الشموس الفاقعة في نهاياتها. في لزوجة الصيف والماء، يرتبك الكلام في حظائره الموحشة يتشقق في حريره الاستوائي. استديري كثيراً كما يتمدد فصلان في أوج لقائهما في أوج افتراقهما في أوج الغيمة المنتصرة الغيمة الطالعة من الشفاه، الشفاه القاطرة من ضعفها.



III

من يضم الآخر، الجبل أم الهواء؟ من يروِّض الآخر الجبل أم الهواء؟ من يترك الآخر، الجبل أم الهواء؟ السؤال الذي يتنهد نذوره القديمة. نذوره المنتشرة بين ارتفاع القامات والأعمدة. بين ابتهال الهضبة وسكون النخيل.

من يضم الآخر الوجه المائي أم الضوء أم اللون الحي من تكرار الظلمة على الصباح؟ من يذكر من لا ينسى أو ليس هذا الغياب اللامع على الزمن المهمل على الأسرة وعلى بلاط الخيبات؟ كيف تتساوى القوة الخافية بالليلك الأعزل حتى يستوي وقت في هاويته حتى يستقرّ فجرٌ في غموضه حتى نستنفد لهاثاً يعكِّر سكونَ المرمر يُجعّدُ عاصفةً تبشر بقدومها؟ من جاء من سراب الحروب: أنا الراحل أم أنت الآتية؟ أنا المحمّل ولا من يأخذ حصاة أم أنت الخافقة في امتلاء الجمر؟ أنا المقوس في ألوانه أم أنت المشرئبة في الخوذ؟ أيتها الغصون المسترخية فوق النبع الأوراق تستيقظ في الجلْد تحيي نهراً ينضم إلى أعشابه أيتها الغصون المسترخية فوق النبع الأَبواق الغامضة تسطع في بدايات الغابة تنذر الظهيرة والطيور بسيول اليابس اللامع. بهشيم الأجسام المقبلة على السهل أيتها الغصون المرتعشة فوق النبع من سيفترس هواء لا يتسع لحريقه من سينصب اللحظة الزئبقية تحت النجوم لتقول السقطة عندما يدوم الحجر الأليف عندما تنتصب النايات في طقوسها المتعثرة، هل استقر يا غصوناً تذرف فوق النبع كمن ينتظر المطر متروكاً إلى جفانه المجهول؟



IV

شهوة من كل الشهوات رغائبُ الحجر في الماء ألسنةُ الأشجار في لعاب العناصر الفاكهة الذائبة تحت الشمس. كيف تلتحف القطعانَ براريها كيف لا تبحث الجذور عن ثمارها شهوة من كل الشهوات حتى خبثِ العبير في الحقل سالت الأشياء حتى جفّتْ في أحواضها حتى غامر الرماد في عروق الشجر حتى تنفست ورودٌ كثيرة في ليلها. شهوة من كل الشهوات لتعم يداك وأنفاسك النبات والوبر والحبوب لتختلط التلال بالأيدي والأفواه والنجوم أين الأصابع المفصولة عن أسمائها وصفاتها وطقوسها لتضم الأصوات الواحدة أين العيون لتنغرز في ملمس الصوان أو لتواكب الحية المائية إلى آخر الأحشاء الحية التي تتلوى على الرخام المحموم. اللحظة الكوكبية الشجرة المليئة بالورق. المليئة بالأعشاش. المليئة بالرؤوس المليئة بالليل. ليطفر طائر يدخل دائرة الهلال ويخرج من ثمرة مستديرة لينفض الطائر الأعمى شمسه على دائرة الهلال ويضرجها ببياضه العالي اللحظة الكوكبية لتنفلت الخفقة الشاسعة وتُرسل إلى جسد الغابات والمدن والحجارة دماً ساخناً دماً قريباً دماً لا يعرف الندامة لتنطلق وتنحبسُ أجراسُك رافعة أذيالها إلى آخر المصابيح الغامضة تحت المياه إلى آخر الشفاه المبلولة بنهاياتها وصباحاتها. شهوة من كل الشهوات تدلف بعدها وحوشٌ من كل العناصر وحوش من كل الأديان والأطفال والغرائز وحوش من أدغال سرية تلفح الشراشف والحجارة والأصوات بخَدَرها الطويل اللامع شهوة لا كل الشهوات تستبد بأقحوانة تحت ثِقَل الهدهد تُضيء الحجر من جانبيه تنفخ الهواء كلَّه على الجمر كلِّه على النهار كلِّه على الورق كلِّه على الموت كلِّه في حصان يخترق العالم بطهره العالي يصهل على أثداء الخرافات الملعونة حتى يصبح الفضاء غريزة فائضة حتى تصبح التلة نجمة خالصة حتى يسيل الفهد ولا من يسبقه إلى مخلبه الجميل إلى عينيه الكاسرتين في الألوان الفاقعة في الألوان المفتونة ولا من يسبقه إلى دمه يا مدقاتِ الصوت الأسود القارعة في الحروب وفي النهايات أية آلهةٍ غامضة تشهر عنفها أمام شجرة تخلع امرأة أية حيوانات هازجة ترفع قوائمها الشفافة أية حيوانات سرية تتشابك لتمتزج الظلال والأنفاس والجداول والأفخاذ المعشبة أية حيوانات تلتم على الجسد المترامي ممتداً كما تتحرك الأنفاس من جهات الحدس مستقيماً كما تنهض الزوارق تحت أنوار الموانىء حروب كثيرة لتتساقط تحت نفخ المزمار الأبدي تحت نفخ الثعابين المفقودة حروب كثيرة وتلمح الحراشف كما أضمك ونحن نهوي في كلامنا المكسور ونحن نُمسك بالشهوة من طرفيها ونحترق.







منتخب «كشهر طويل من العشق» (2001)



I

مُفَلَّجات النُّهود، رَخِيَّات الأرداف، فائحاتُ السيقانِ طويلاً تحت بَلَهِ الأصلاب، وَقَرعِ النحاس البليل.



II

الشاحذاتُ أبدانهن، حَييّاتٌ خلفَ النوافذ، مُسَهِّداتُ أسرةٍ ولا عبقَ، منطوياتٌ على نخيل فائتٍ، كسيراتُ ما يفوحُ على جُلُودِهِنَّ وأسرارِهن.



III

بين ليالٍ من شَتِيْتِ ما انقضى، ووردٍ مَلُولٍ، يَشهقنَ، مومساتُ الأمس، وكثيراً ما يَسْتَرْسِلْنَ في نشيجٍ صعبٍ خلف أسمال أجسادِهن، وخلف نوافذَ أسِيفةِ الصبحِ، رَخيةِ بين جفافِ الجلد وصفاء المرآة.



IV

وما عندي ما يَشْفِيهنَّ، السائلات، على أسرّة منبوشةٍ، وما عندي ما يرويهنَّ، المُتَغَضِّنات الأبدانِ، المتهالكات على جلودهن، ولا ما يمسح وُجُوهَهُنَّ، ونهودَهنَّ، رميماً، ورضاباً، وأيديَ ملساء من مُكُوثِهِنَّ.



V

المُحفِّراتُ الأسرّة من بُروكهِنَّ الطويل، هباءٌ حولهنّ، ولا أحوال. المُحَفِّراتُ الأسرّة من تقلُّبِ أبدانِهن، يتعرينَ طويلاً، مراراتِ أنفاسٍ، بين الخزائنِ والمرايا، وبطيئاً عليهن وبطيئاً عليهن، الأرائكُ، وبطيئاً عليهن لُعابُهنَّ، المحفراتُ الأسرّة من بُروكهنَّ الطويل.



VI

يَزْفرنَ عليكَ عطورَهُنَّ، آه! من شَميم أوراكٍ، وباقاتٍ كاسدة، ومِنْ قُبَلٍ شفافَةِ تذكُّرٍ، ومن أصفر تبغ على أطراف أصابعهِنَّ، ومن أسفٍ وعصارةِ دمعٍ وشهقٍ ثقيلٍ فوقَ مساحيقِهِنَّ.



VII

المُعطَّرات، الغانيات، إليكَ بالنغمِ القديم، من الوَلَهِ، وما يُبكيكَ بين أذرُعِهِنَّ، أَنَّاتٍ وشجىً، وما يَرَنُّ عليك من حُطام كؤوس، ومِنْ قهقهاتٍ مُرّةٍ على أسرّة باردةٍ باردة من عزلاتهن.



VIII

المُقْبلاتُ لِماماً، ولا بواقي عطرٍ يَسبقُهنَّ، المتشحات خلف سُجُفٍ وأحمرَ شفاه، وكرنفالات فائتة، وقسماتٍ تَبُصُّ ثقيلةً، وتُوَلّي خلفَ جحود الكواليس المشطورة في نداماتها.



IX

الباركاتُ شَهِيَّاتٍ على المفازة وبين ما يشعّ من الآلِ والماءِ ونثارِ ظهيرةٍ تُصلي وتُفَلّع أبداناً يَقِظَةً وما يتمدد عليهن، الباركاتُ، وهُنَّ في جُماعِهنَّ يفتحن حُفراً للسابلة، ويفترشنَ لهاثَ حلوقِهنَّ اليابسة من جفاف ما يتمدد عليهن.



X

الشاحذات أبدانهن خلف البوّابات، وما لطُرّاقٍ أن يقفزوا، أو أن يرموا من أمتعتهم أو من عطورهم في الهواء القاسي على جلود الشاحذات أبدانهن خلف البوابات.



XI

مبتعداتك ليُهِلنَ خلف مواقيت ورمل ما يُخَضِّبُ في يديك شعوراً لهنّ، ولُعاباً ثقيلاً، وما يُحرقهن ورقاً مهملاً وأنفاساً بلا مقابل.



XII

يَتَبَرَّجنَ وما لصباحات لهنَّ، وما لظهيرة، وطويلاً تهجرُ عليهن شمسٌ، ويا حسرة على ما فَرَطْنَ، ويا حسرة على ما حفظن في الوجوه وفي الأكف وما يستخفي منهن طويلاً، وما لمراياهن الرحمةُ وما لنوافذهن أن تُطل على حدائقَ ونسيانات.



XIII

النَّدَم القديمُ هل تعرفه في نشيجِهن وقهقهاتِهنَّ وحمرةِ ما يسيل على شفاههن، اللواتي، من بصيصٍ متباعدٍ، يُشقِّقنَ الخُدورَ، بلا رحمة، ويزفرنَ ما يفتح النوافذَ لغلوائهنّ وفَحِيحِهِنَّ.



XIV

المُتَّعِظاتُ بالمُتَع وبالمباهج يؤجِّجنَ في أبدانِهِنَّ، الغارَ والنخيلَ، وينصبنَ تحت فُروجِهِنَّ ما لا يستعذبنه من رعشاتهن وأوجاعهن.



XV

السائلات العبق القديم خلفَ الآذان والأقراط وما تبقّع في الجسم وفي الندوب وعلى هبوب الستائر والخزائن. السائلات العبق القديم خلف الدمع وما يَمضُ في برودة اللحظات الخبيئة وإطراق العيون ولمّ المتاع وترك الأبواب مفتوحة وراءَهُنَّ.



XVI

رامياتٌ من وراءِ الدَّغلِ ما يقذف الديكةَ والحَمامَ إلى مياهِها المرتعشة. رامياتٌ من وراء الدَّغل ما يوحش العتباتِ، ويوقف الأجسامَ العاليةَ في قمة جذوعها.



XVII

اللاطمات الخدود وما لتَخميش أن يُدركَ هوى الأزواج والوردَ والتَّعِلَّةَ، وما لمضاربَ لهُنَّ، وما لأرحامٍ تنتعش، وما لتلويح أنْ يجتازَ إشارات وأوتاداً وأرصفة، ولهنَّ البروكُ وأمام الأبواب وتقريعُ ما يحرك ظلالاً للفَوْتِ، ولأبواقٍ تسطع في نهايات وجنازات، وللوحدة المُسَجَّاة، ولأصابع مذكورة ولوجوهٍ تحفر من مساءاتها ومن زعيق الديكة حولها ومن عربات تجتازها، اللاطمات الخدود وما لأقدامهنّ خلاخيلُ ترِنّ في مدارات للخوف وللعتبات.



XVIII

مومئاتٌ، ثَنيَ خُدور، لفحَ مناديل، وكيف تُنصَبُ بين الزُّروع والقُمصان وحُمرةِ ما بين الأفخاذ، فِخاخٌ، وكيف تُمَوَّه، هزَّ ثمرٍ وأنفاسٍ، الهاويةُ المفاجئةُ والظُّلمةُ المفتوحة.



XIX

مليئات النهود، رَيِّقاتُ الأردافِ والبطون، فائحاتُ السيقان والوَبَرِ تحت بَلَهِ الأصلابِ، وَقَرعِ الألسنة، يشرطن الهواءَ بصراخٍ موصول.



XX

يَعبَبْنَ غياباً، مِنهنَّ، وما لأَردافِهنَّ هدوءٌ، وما لأُفولِهِنَّ بقية.



XXI

المتروك وراءَهن مشاجبُ وقبعاتٌ وأعقابُ سجائر وسُعالٌ وَعَنينٌ وما يَسّاقطُ من النوافذِ عليهن بلا شفقة.



XXII

عَصِيَّاتُ الرَّغبةِ والقبولِ يَسْتَلْقينَ في حُجُراتِهِن، تَقْطَعُهُنَّ، بلا سؤال، لحظاتٌ سابقةٌ من عُشْبِهِنَّ الجاحد.



XXIII

زُوّارُهُنَّ، الليلَ، يَنْفَضُّون عنهن، مُنَكَّسِين، وَهُنَّ في مطارِحهنّ، يَعْضُضْنَ، منفرجاتٍ، الأصابعَ والوسادات.



XXIV

المُعْشِباتُ على طُلُولِهِنَّ، الذَّارفاتُ من فَوْتِ الصَّبابةِ، يهتززنَ أكداسَ يَباسٍ، مُسْتَثِيراتِ ما يذكّرُ
-

_________________
ديوان - دفتر سيجارة, بوصلة الدم  ,موت نرسيس , أوراق الغائب , شعر وقصائد بول شاوول,ديوان بول شاؤول pdf Hearts10

حسن بلم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

دفتر سيجارة, بوصلة الدم ,موت نرسيس , أوراق الغائب , شعر وقصائد بول شاوول,ديوان بول شاؤول pdf

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة

صفحة 1 من اصل 1
نوسا البحر :: فوضى الحواس(منتديات ثقافيه) :: مرتفعات أو سوناتا الكلام

حفظ البيانات | نسيت كلمة السر؟

حسن بلم | دليل نوسا | برامج نوسا | هوانم نوسا | مكتبة نوسا البحر | سوق نوسا | قصائد ملتهبة | إيروتيكا | ألعاب نوسا