قيثارة الألم
إن حان لحنُ الختامْ صار النشيدُ دعاءْ
مرّ الهوى في سلامْ فلْنفترقْ أصدقاءْ
سرٌّ وراء الظنونْ أظلّني وأضاءْ
لم أدرِ ماذا يكونْ ولم أسَلْ كيف جاءْ
•••
ما بين ضحكِ الرِّياحْ وقهقهات الغيوبْ
ولَّى خيالٌ وراحْ وحلَّ ظلٌّ غريبْ
•••
يا ذنبُ فات المتابُ لما تحطَّمَ صرحي
ما لي عليها عتابُ إني أعاتبُ جُرحي
•••
وهذه قيثاري ذاتُ الشجى والأنينْ
وهذه أوتاري أصرتِ لا تطربينْ؟!
•••
يا كم شدوتُ بلحني ما بين حزني ودمعي!
ما باله طي أذني لكنْ غريبًا لسمعي!
الطائر الجريح
أيُّ جوادٍ قد كبا؟ وأيُّ سيفٍ قد نبا؟
تعجبتْ زازا وقد حقَّ لها أن تعجبا
لما رأتْ فيَّ شحو بَ الشمسِ مالت مغربا
وهْي التي زانت مشيـ ـبي بأكاليل الصِّبا
وهي التي قد علّمتْـ ـني حين ألقى النُّوَبا
كيف أُداري النابَ إن عضَّ وأخفي المخلبا؟
لاقيتُها أرقصُ بشـ ـرًا وأُغني طربا
وهْي التي تهتك سِتْـ ـرَ القلبِ مهما انتقبا
لا مُغْلقًا تجهلُهُ يومًا ولا مُغَيَّبا
في فطنةٍ تومضُ حتَّـ ـى تستشفَّ ما خبا
رأتْ وراء الصدرِ طيـ ـرًا قَلِقًا مضطربَا
في قفصٍ يحلُمُ بالأفْـ ـقِ فيلقى القُضُبَا
إنَّ زمانًا قد عفا وإنَّ عمْرًا ذهبَا
وصيَّرتْهُ طارقا تُ السقمِ وَقرًا مُتعِبا
ورنَّقتْ مورِدَهُ أنَّى له أنْ يَعذُبا؟
إني امرؤٌ عشت زما ني حائرًا معذَّبا
عشت زماني لا أرى لخافقي مُنقَلبَا
مسافرًا لا قومَ لي مُبتعدًا مُغتربَا
مشاهدًا عَلِّيَ في مسرحِهِ أن أرقبا
روايةً مُلَّتْ كما مُلَّ الزمانُ ملعبا
وظامئًا مهما تُتَحْ مواردٌ أن أشربَا
وجائعًا لا زادَ في دنياي يَشفي السَّغَبَا
فراشة حائمة على الجمال والصِّبا
تعرَّضت فاحترقت أُغنيةً على الرُّبى
تناثرتْ وبعثرَتْ رمادَها ريحُ الصَّبا
أمشي بمصباحي وحيـ ـدًا في الرياح مُتعبا
أمشي به وزيتُه كاد به أن ينْضَبا
وشد ما طال الصرا ع بيننا وا حرَبا
ريحُ المنايا تقتضيـ ـني نسماتي الخُلَّبا
وليس بالأحداث فيـ ـما قيل أو ما كُتبا
كالعمر والسُّقم إذا تحالفا واصطحبا
لولاكِ ما قلتُ لشي ء في الوجود مَرْحَبا
ولم أَجِدْ ركنًا غنيّـ ـًا بالحنانِ طيِّبا
أنتِ التي أقمت مر فوعَ البناءِ من هَبَا
وإنني الصخرُ الذي أردتِ أن لا يُغلبا
ويضربُ البحرُ عليـ ـه مَوْجَه منتحبا
علمتِ يأسي وجنو ني وجهلتِ السَّببا
يا أملي إنك يأ سُ القلبِ مهما اقتربا
يا كوكبًا مهما أكن من بُرْجِه مُقَرَّبا
فإنه يظلُّ في السَّـ ـمْتِ البعيدِ كوكبا
وأين مني فَلَكٌ قد عزّني مُطَّلَبا
ليس إلى خياله إلا السهادُ مركبا
أستبطئُ الريحَ له وأستحِثُّ الكُتبا
ولو طريقُ حبِّه على القتاد والظُّبا
وقيل للقلب هنا الـ ـموتُ فعُدْ تسلمْ أبَى
إني امرؤٌ عشتُ زما ني حائرًا معذَّبا
لا أحسِبُ الأيام فيـ ـه أو أعُدُّ الحِقَبا
ضقتُ بها كيف بمن ضاق بها أن يَحسِبا
تغيّرتْ واختلفتْ وسائلًا ومطلبا
وارتفعتْ وانخفضتْ طرائقًا ومأربا
ساوت على الحالين حُمْـ ـلانًا بها وأذؤُبا
وشاكلتْ لناظري سهولَها والهُضُبا
دخلتُها غِرًّا وعُدْ تُ فانيًا مجربا
لا أسألُ الأيام عن أعمالها مُعَقِّبا
إن كان هذا الدهر فيـ ـما جرَّه قد أذنبا
فإنه تاب وأدَّ ى وعدَهُ المرتَقبا
لِقاكِ ماحٍ للذنو ب كيف لي أن أعتبا؟
ضممتُ عِطْفيْكِ غدا ة الرَّوْع أبغي مَهربا
كم خِفتُ من أن تذهبي! وخفتِ من أن أذهبا!
كأن طفلًا خائفًا في أضلعي حَلَّ الحُبى
يضربُ ما اسْطاعَ على جُدرانها أن يضربا
يكافحُ الأمواجَ أو يصرعُ جيشًا لَجِبا
إن بَعُد الشطُّ فقد آن له أن يَقرُبا
أنتِ الحياةُ والنجا ةُ والأمانُ المُجتَبَى
قصة حب
مرت حياتي دون أمنيَّهْ وتقلّبت مَللًا على مللِ
حتى لقيتكِ ذات أمسيَّهْ فعرفت فيكِ مطالع الأملِ
•••
طافت بي الأيامُ واحدة لم تلقني فرحًا ولا جزعا
وتمرّ فارغة وحاشدة وقد استوت ضِيْقا ومتسعا
•••
والعمرُ سارَ كأنه العدمُ سقمي به عندي كعافيتي
فأذقتني ما لم يذقه فمٌ من أي كاس كنت ساقيتي؟
•••
ما هذه الدنيا التي اقتربتْ فيها المنى والظلُّ والثمرُ؟
تجتاز وامضة فمذ وثَبَتْ وثَبَ الهوى وتمهَّلَ القدرُ!
•••
قدماك ما انتقلا على دَرَجِ حاشك بل خطرا على ثبجِ
كسفينة خفَّت على اللججِ نشوى بما حملت من الفرَجِ!
•••
في مظلم متعرج كابِ والليل تغزوني جحافلُهُ
دقّت يدُ النعمى على بابي والعيش خابي النجم آفلُهُ
•••
يا للمقادير الجسام ولي من ظلمها صرخات مجنونِ
باكي الفؤاد مشرَّد الأمل وقف الزمان وبابه دوني!
•••
مزّقتِ ظلمة كل ديجورِ وألنت ما قد كان منه عصَى
وفتحتِ مصراعيه للنورِ ما كنتِ إلا ساحرًا وعصا
•••
ماءٌ ضربتُ الصخر فانبجسا وجرى الغداةَ زلالهُ العذبُ
أيقول دهري إن ما يبسا هيهات يرجع عودهُ الرطبُ
•••
صيّرت دعواه لتفنيدِ وحطَمْته وهزمت حجّتهُ
وأعدت ما قد جفَّ من عودي مخضوضرًا وأقمت صعدتَهُ!
•••
يا من رأت طللًا كتمثالِ يستعرض العمرَ الذي مرَّا
وكأنه في رسمِهِ البالي ندم الأسيف ودمعة حرَّى
•••
ورْد ذوي أو طائر صمتا العمر مثل الظلِّ منتقلُ
الناس لا يدرون من ومتى والناس إن علموا فقد جهلوا
ما خطبهم في روضة حالت أو صوَّحت أفنانها الخُضُلُ
•••
نزل الربيع بها فنضّرها وأحالها بشبابه لحنا
ومشى الشتاءُ لها فغيَّرها وأحالها لفظًا بلا معنى
•••
هذا حديثٌ يشبه السِّحرا هيهات أفرغ من روايتهِ
شفق المغيب جعلته فجرًا وبدأت عمري من نهايتهِ
•••
إني لطيرٌ حائر باكِ قد كانتْ الأحزانُ فلسفتي
ذابت حنانًا يوم لقياكِ وجرت أغاريدًا على شفتي
•••
يا من طويت عليه جارحتي وسألت عنه الأنجمَ الزهرا
وضربت في الصحراء أجنحتي أستلهم الكثبانَ والقفرا
•••
والماءَ أنهَل حيثما كانا والبرقَ أَتْبَع حيثما لمعَا
فأرى صفاءَ الوردِ غيمانا والمطلقَ المجهولَ ممتنِعَا
في ظلال الصمت
ها أنا عُدْتُ إلى حيثُ التقيْنا في مكانٍ رفرَفَتْ فيه السعادهْ
وبه قد رفرفَ الصمتُ علينا إنَّ في صَمْتِ الحبيبين عباده
رب لحنٍ قصَّ في خاطِرنا قصَّةَ الساري الذي غنَّى سهادهْ
وكأنّ الصمتَ منهُ واحةٌ هَيّأَتْ من عُشبِها الرَّطبِ وساده
•••
صَمَتَ السَّهلُ ولكنْ أقبلتْ من ثنايا السهل أصداءٌ بعيدهْ
كلُّ لحنٍ في هدوءٍ شاملٍ تشتهي النفسُ به أن تستعيدَهْ
يتهادى في عُبابٍ ساحرٍ باعِثٍ للشّطِّ أمواجًا مديده
فإذا ما ذهب الليلُ بها تزخرُ النفسُ بأصداءٍ جديدهْ
•••
هدأ الليلُ هنا لكننِّي كنتُ في حُسنِكِ بالصَّمتِ أُغنّي
كلُّ لحنٍ لَجِبٍ يغشَى دمي لَعِبَ العازف بالعُود المُرِنِّ
ناقلًا للنّهر والسهل معًا قصةً يشرحُها عنكِ وعنِّي
قصةَ الشاعر والحسنِ إذا اسـ ـتَبَقَا للخلْدِ في حَوْمة فنِّ
•••
ما الذي في خُصْلَةٍ راقدةٍ؟ ما الذي في خطِّه أو كتبِهْ؟
ما الذي في أثرٍ خَلَّفَهُ من أفانينِ الهوى أو عَجَبِه؟
•••
ما الذي في مجلسٍ يَألَفُه عقدَ الحبُّ عليه موعِدَه؟
ربما يبكي أسًى كرسيُّه إن نأى عنه وتبكي المائده
ولقد نحسبُها هشَّتْ إذا عائدٌ هَشَّ لها أو عائده
ولقد نحسبُها تسألُنا حين نَمضي أفِراقٌ لعِدَه؟
•••
كم أعَدَّتْ نفسَها وانتظرتْ واستوتْ موحشةً تحت السماء
وهي لو تملِك كفًّا صافحتْ كفَّكِ الغضّة في كل مساء
•••
رُبّ كَرْمٍ مَدّه الليلُ لنا فتواثبنا له نَبْغِي اقتطافَه
وعلى خيمَته حارسُه عربيُّ الجود شرقيُّ الضيافهْ
وجَد العُرسَ على بهجته وسناه دونَ وَرْدٍ فأضافهْ
ثم وراتْهُ غَياباتُ الدّجى كخيالٍ من أساطيرِ الخُرافه
•••
أرجٌ يعبقُ في جُنحِ الدُّجى حملَته نحو عَرْشَيْنا الرياحْ
كلُّ عطرٍ في ثناياه سَرَى كان سِرًّا مُضْمرًا فيه فباح
يا لَها من حِقبَةٍ كانت على قِصَرٍ فيها كآمادٍ فِساحْ
نتمنى كلما امتدَّت بنا أن يَظَلَّ الليلُ مجهولَ الصَّباحْ
•••
أنا إن ضاقتْ بيَ الدنيا أَفِئْ لثَوانٍ رحبةٍ قد وَسِعَتْنا
إنما الدنيا عُبابٌ ضَمَّنا وشطوطٌ من حُظُوظٍ فرَّقتنا
ولقد أطْفُو عليه قَلِقًا غارقًا في لحْظةٍ قد جمعتنا
ومعاني الحسن تترى وأنا ناظرٌ فيها لمعنًى خَلْفَ معنى
•••
هذه الدنيا هجيرٌ كلُّها أين في الرمضاء ظلٌّ من ظلالكْ؟
ربما تزخرُ بالحسن وما في الدُّمى مهما غَلَتْ سحرُ جمالكْ
ولقد تزخر بالنّورِ وكم من ضياء وهْو من غيرِك حالكْ
لو جَرَتْ في خاطري أقْصى المُنى لتمنَّيتُ خيالًا من خيالِك!
•••
قلتُ للّيلِ الذي جلّلنا والذي كان على السرّ أمينا
أينَ يا قلبيَ مَنْ قلبي اجتَبَى لهواهُ واصطفاهُ لي خدينا؟
لم أكن أطمع أن ترحمني بعد أن قَضَّيْتُ في الوجدِ السنينا
لم أكُنْ أطمعُ أن تُضْمِرَ لي آسيًا يُبْرئُ لي الجُرح الدفينا
لم أكن أعلمُ يا ليلَ الأسى أن في جُنْحِكَ لي فجرًا جنينا
•••
أيها اللائذُ بالصّمتِ كَفَى وأدِرْ وجْهَكَ لي وانظرْ طويلا
لا تمِل واسخرْ من الدنيا إذا شاءت الأيام يومًا أن تميلا
•••
ما الذي مكَّن في القلب الودادْ؟ ما الذي صبَّك صبًّا في الفؤادْ؟
ما الذي ملَّك عينيك القيادْ؟ ما الذي يعصف عصفًا بالرشادْ؟
ما الذي إِنْ أُقْصِهِ عنِّيَ عاد طاغيًا؟ سِيَّانِ قُرْبٌ أو بعاد!
ما الذي يَخْلُقُنا من عدم؟ ما الذي يُجري حياةً في الجمادْ؟
•••
كم حبيب بَعُدت صهباؤه وتبقت نفحة من حبَبهْ
في نسيج خالدٍ رغمَ البلى عَبَثَ الدّهرُ وما يعبثُ به!
•••
أين سلطاني ومجدي والذي حبُّه مجدٌ وسلطانٌ وعزَّه؟
أين إلهامي ونوري والذي أيقظَ القلبَ إلى البَعْثِ وهَزَّه؟
بقايا حلم
آهِ من وجْدك بالهاجر آهْ تتمنى أن تراه؟ لن تراه!
خدَعَتْنا مُقْلَتاهُ خدعتْنا وجنتاهُ خدعتنا شَفَتاهْ
والذي من صوتهِ في مسمعي وخيالي غادرٌ حتى صداهْ
حُلُم مرَّ كما مرَّ سواه وكذا الأحلامُ تمضي والحياهْ
•••
أين يا ليلايَ عهدُ الهرمِ؟ أين يا ليلاي حُلوُ الكَلِمِ؟
هامساتٍ بين أذني وفمِي سارياتٍ غرِداتٍ في دمِي
كلماتٌ عذبةٌ معسولةٌ ضيَّعت وارحمتا للقَسمِ
ذهبت مثل ذهاب الحُلمِ إنني أعلم ما لم تعلمِي
•••
كيف صدَّقنا أضاليلَ الهوى بِنُهَى طفلٍ وإحساس صَبِي؟
حسبُنا منه سماء لمعتْ فوق رأسينا وكوخٌ خشبي
حُلمٌ ولّى ووهمٌ لم يدُم ما تبقَّى غيرُ خيطٍ ذهبي!
•••
ذات يوم في أصيلٍ فاتنٍ ذابت الشمسُ فسالتْ ذهبا
كست النيلَ نُضارًا وانثنَتْ تغمر الصحراء نَخْلًا ورُبَى
ما على الجِيزةِ أن قد أبصرتْ شفَقِي معتنقًا فجرَ الصبا
قد رأتنا مثل طَيْفَيْ حُلُمٍ ما عليها أقبلا أم ذهبا!
•••
قلتُ هيَّا! قلتِ نمشي سرْ فما من طريق طال لا نَذْرعُهُ
قلتُ والعمر بعيني كالكرى وأنا في حلُم أقطعهُ
جمع الدهرُ حبيبًا وامقًا بحبيبٍ وغدًا ينزَعُهُ
أطريقان: طريقٌ دونَه في حياتي وطريقٌ معهُ؟
•••
كلما خلَّى حبيبي يَدَهُ لحظة قلتُ وحبّي أبقِها!
أبقها أنفضْ بها خوفَ غدٍ وأُحِسَّ الأمنَ منها وبها
أبقها أشدُدْ بها أزري إذا ضَعُفَ الأزرُ أو العزمُ وهَى
أبقها أُومنْ إذا لامستُها أن حبي ليس حُلْمًا وانتهى
زازا
أنا وحدي في البيدِ حيرانُ هائمْ فمتى تذكُرُ القفارَ الغمائمْ
رحمةً يا سماء إن فمي جفَّ وحلْقي عن المواردِ صائمْ
غاض نبعُ المُنى ولم يبقَ حتى ومضةُ الحُلْم في محاجر نائمْ
أيها الطاعم الكرى ملْءَ جفنَيـْ ـك وجفني من الكرى غيرُ طاعمْ
أَبكِني واستبِدَّ بي واقضِ ما شا ء لك الحسنُ فيَّ واظلِمْ وخاصمْ
غير هذا النوى فإن ليا ليه ظلالٌ من المنايا حوائمْ
تضمحلُّ الحياةُ فيه وتنهدُّ كأنَّ النهارَ معْولُ هادمْ
لا تكلْني لذلك الأبد الأسـ ـوَدِ في قاعِ مُزبِدِ اللُّج قاتمْ
لا تكلني لِهُوَّة تعصفُ الأشـ ـباحُ في جوفها وتَعْوي السَّمائمْ
لا تكلْني إلى جناحِ عُقابٍ في ضلوعي محَلِّق الرعبِ جاثمْ
لا تكلْني لضائعٍ في حنايا ها غريبٍ في مَهْمَهٍ من طَلاسمْ
يسأل الزهرُ والخمائلُ والأنْـ ـوارُ عن تِرْبها الضحوك الباسمْ
ذاق ما ذاق في الصبابة إلا ذَبْحةَ الرُّوحِ وانفصالَ التوائمْ
إن تَعُدْ محسنًا إليّ فعُد بي للعهود المقدّساتِ الكرائمْ
وإذا ما رأيتَ عزميَ ينها رُ فثبِّتْ بالذِّكْرَياتِ الدعائمْ
جئتني في الخريف والروضُ عارٍ فكسوتَ الرُّبى عذَارَى البراعمْ
وأجالَ الربيعُ أخضرَ كفَّيْـ ـهِ ليمحو اصفرارَه المتراكمْ
رحلة للنجوم لم تك أوها مًا وبعضُ النعيمِ أوهامُ حالمْ
آه كم ليلةٍ أراجع أيا مي أعُدُّ العُلى وأُحصي العظائمْ!
وحسبت الخسار فيها فكان الـ ـغَبْنُ عندي زَمانِيَ المتقادمْ
قبل أن نلتقي فلما تلاقيْـ ـنا عرفتُ الغِنَى وذقتُ المغانمْ
حيثما أغْتدِي فإن الدراري ملءُ روحي وفي خيالي بواسمْ
إن أبِتْ جائعًا فثمَّةَ زادي أو أبتْ معسرًا فثمَّ الدراهمْ
وعجيبٌ قد كنتَ لي حسد الحسَّـ ـادِ فيها وكنت أنت التمائمْ
بالذي صُنتُ عهدَه لم أخُنْهُ ومتى خانتِ الأكفُّ المعاصمْ؟
والذي حكمُه كأقدار عينيـ ـك فما منهما ولا منه عاصمْ
أيُّ صوتٍ من الغيوب يناديـ ـني فأطوي له الدُّنَى والمعالمْ
قدَرٌ مُشْعَلٌ على شفةٍ تد عو فأخطو على اللَّظى غيرَ نادمْ
وفؤادي يحومُ بالنار لا يَحـ ـفلُ أني على المنيَّةِ حائمْ
الهوى مَصرعي وكم من حِمامٍ كان بابًا إلى الخلود الدائمْ
وطريقًا من الأسنّةِ والشو كِ رَوَتْ أرضَه الدموعُ السواجمْ
شهد اللهُ ما قضيتُ الليالي ناعمَ الجنبِ فوق مهْدٍ ناعمْ
أيُّ جَيشَيْك مُغرِقِي ليليَ الطا غي أم الشوقُ وحدهُ وهْو عارمْ؟
آهِ مِن رُبما ومن أملٍ يُمْـ ـسكُ نفسي رجاء يومٍ قادمْ
قد تجيءُ الأنباءُ من شاطئ النيـ ـل غدًا والمبشراتُ النسائمْ
وتكونُ النجاةُ في القمر السا ري على زورقٍ من النورِ حالمْ
ذهب العمر
قضيتَ العمر تذكر لي وأذكر في الهوى جرحكْ
فقم نسخرْ من الأمَلِ ومن أعماقنا نضحكْ!
•••
وقم نسخرْ من الدنيا وقم نَلْهُ مع اللاهي
طويتُ صحيفة الأمسِ فَدَعْها في يد اللهِ
•••
هي الدنيا كما كانت وماذا ينفع الوعظُ؟!
وما عتبت ولا خانت ولكن خانك الحظُّ
•••
أردنا الجاهَ والذهبا فلم يتلطَّفِ المولى
وهذا العمرُ قد ذهبا وأحسن ما به ولَّى
الأجنحة المحترقة
يا أمتي كم دموعٍ في مآقينا نبكي شهيديك أم نبكي أمانينا؟!
يا أمتي إن بكينا اليوم معذرةً في الضعفِ بعضُ المآسي فوق أيدينا
واهًا على السرب مختالًا بموكبه وللنسور على الأوكار غادينا!
قالوا الضباب فلم يعبأ جبابرةٌ لا يدركون العلا إلَّا مضحِّينا
«والمانش» يعجب منهم حينما طلعوا على غوارِبِهِ الحيرى مطلِّينا
فاستقبلتهم فرنسا في بشاشتها تجزي البسالة وردًا أو رياحينا
قالوا النسور فهبَّ القومُ وادَّكروا نسرًا لهم ملأَ الدنيا ميادينا
وهلل «السِّين» إذ هلَّت طلائعنا طلائع المجد من أبناء وادينا
حان الأمانُ ووافَى السربُ فافتقدوا نسرين ظنوهما قد أبطآ حينا
لكنه كان إبطاءَ الرَّدى فهما لمَّا دعا المجد قد خَفَّا ملبينا
فليبْكِ من شاء وليُشبعْ محاجرَهُ ولينتحبْ ما يشاءُ الحزنَ باكينا
يبكي الحبيب وتبكي فقد واحدها من لا ترى بعده دنيا ولا دينا
هُنيهة ثم يسلو الدمعَ ساكبُه لا يدفعُ الدمع شيئًا من عوادينا
فكلما حلَّ رزءٌ صاحَ صائحُنا: فداك يا مصر لا زلنا قرابينا
فداك يا مصر هذا النجم منطفئًا والنسر محترقًا والليث مطعونا!
أغنية في هيكل الحب
كم تجرَّعنا هوانا ولقينا في هوانا
وبلونا نار حب لَم نذقْ فيها أمانا
وإِذا حلَّ الهوى هيـ ـهات تدري كيف كانا
فإِذا ما ملك الأنفـ ـس أصلاها عوانا
فهو نصلٌ مستقرٌّ ولهيب لا يدانى!
يا حبيبي هدأ الليـ ـل ولم يسهر سوانا
لا الدجى ضمَّد جرحيـ ـنا ولا الصبح شفانا
لا الهوى رقَّ على الشا كي ولا قاسيه لانا
قد غدونا غرضِ الرا مي كما شاء رمانا
وافِنيْ بالله نطرقْ هيكل الحب كلانا
ساعة نبكي على الكأ س ونشكو من سقانا!
صلاة الحب
أحقًّا كنت في قربي لعلي واهمٌ وهما
تكلَّمْ سيدَ القلبِ وقل لي: لَمْ يكن حُلما
•••
دنوتَ إِليَّ مستمعا فُبحْتُ، وفرطَ ما بحْتُ!
بعادك والذي صنعا وهجرُك والذي ذقتُ
•••
وحبِّي! ويحه حبِّي تَبيعك حيثما كنتَ
تكَلَّمْ سيدَ القلبِ وقل بالله ما أنتَ؟!
•••
أرى في عمق خاطركَ جلالًا يشبه البحرا
وألمحُ في نواظركَ صفاء الرحمة الكبرى
•••
وأنت رضًى وتقبيلُ وأنت ضنًى وحرمانُ
وفي عينيك تقتيلُ وفي البسمات غفرانُ
•••
وأنت تَهَلُّلُ الفجرِ وبسمتُه على الأفق
وحينًا أنَّةُ النهرِ وحزن الشمس في الغَسقِ
•••
وأنت حرارةُ الشمسِ وأنت هناءةُ الظلِّ
وأنت تجاربُ الأمسِ وأنت براءةُ الطفل!
•••
وأنت الحسنُ ممتنعًا تحدَّى حصنه النجما
وأنت الخيرُ مجتمعًا وعندك عرشُهُ الأسمى
•••
وعندك كل ما أظما وردَّ القلب لهفانا
وعندك كل ما أدمى وزاد الجرح إِثخانا
•••
وعندك كل ما أحيا وشدَّد عزمه الواهي
حنانُكَ نضرة الدنيا وقربُكَ نعمةُ اللهِ!
•••
وفيم هواجسِ القلب وفيم أطيلُ تسآلي
أحبك أقدسَ الحبِّ وحبك كنزيَ الغالي
•••
سناكَ صلاة أحلامي وهذا الركنُ محرابي
بهِ ألقيت آلامي وفيه طرحت أوصابي
•••
هوًى كالسحر صيَّرني أرى بقريحة الشهبِ
وطهَّرني وبصَّرني ومزَّق مغلقَ الحجبِ!
•••
سموت كأنما أمضي إلى ربٍّ يناديني
فلا قلبي من الأرض ولا جسدي من الطين!
•••
سموت ودق إِحساسي وجُزتُ عوالم البشر
نسيت صغائر الناسِ غفرت إِساءَة القدرِ!
الشك
قد يظفر المرء بقرب حبيبه، ولكنه يشك في هذا النعيم الذي لقيه، فيبكي في النعمة كما يبكي في الشقاء.
بي ما تحسُّ وفي فؤادكِ ما بي فتَعال نبكِ أيا نجيَّ شبابي
تجري الدموع وأنت دَانٍ واصلٌ كمسيلهن وأنْتَ في الغيَّابِ
أنكرت بي ناري عشية لَامَسَتْ شفاتي مِنْكَ أناملَ العنابِ
وجرت يميني في غَزيرٍ حالكٍ مسترسل كالجدول المنسابِ
وسألتَ ما صمتي وما إطراقتي وعَلَام ظلَّت حيرة المرتابِ
أقْبِل أذقني ما اليقين وهاته خلوًا من الآلام والأوصابِ
أقبِلْ لأقسمَ في حياتي مرةً إن الذي أُسقاه ليس بصابِ
لهفي على هذا اليقين! وطعمه بفمي وتكذيبي شهيَّ شرابي!
•••
مَنْ أنتَ؟! من أيِّ العوالم ساحرٌ مستأثرٌ بأعنة الألبابِ؟
حدَّثتُ نفسي إِذ رأيْتُكَ باديًا وأطَلْتَ تسآلي بغير جوابِ
ما يصنع الملكُ الطهورُ بعالَمٍ فانٍ وأيَّامٍ كلمع سرابِ؟
ما يصنع الأبرارُ بالأرض التي ساوت من الأبرار والأوشابِ؟
دوَّارةً أبدَ السنين كعهدِها من ليل آثامٍ لصبح متابِ
تغلو الحياة بها إلى أن تنتهي عند التراب رخيصةً كترابِ!
يا هيكل الحسنِ المبارَك ركنه الساحر النور الطهور رحابِ
لا صدقَ إلَّا في لهيبك وحده وجلالُه الباقي على الأحقابِ
قدمتُ قرباني إِليك بقية من مهجةٍ ضاعت على الأحبابِ
وَأَذبْتُ جوهَرَهَا فدَاءَ نَوَاظِر قُدسِيَّةٍ، عُلويَّةِ المحرابِ!
العائد
أجرْ غربتي أيها العائدُ فقد ملّني الداءُ والعائدُ
أجرْ غربتي فبلادي الهموم وليلٌ بطيء الخطى راكدُ
تقاسمني في نواك الديار وأنتَ لي الوطن الواحدُ
محياك داري ومنك نهاري إذا ضمك الصدرُ والساعدُ
•••
أجرْ شفتي من عذاب الظما أما أذن اللهُ أن ترحما؟!
أتمعن في الهجر حتى ترانا بكينا دمًا واحترقنا فما؟
ولي رمقٌ صنتُهُ كي أراك فأشفِقْ على رمقي ريثما
إذا طلب الحبُّ برهانَهُ من الموت لبَّيتُ كي تعلما
•••
لياليّ مرت هباءً عقيمًا فهل تتوالى البواقي سدَى؟
أسائل جرحيَ عمن جناهُ وأرنو فأستخبر العوَّدا
فما اطلعوا اليوم بالبشريات ولا عللوا بالتلاقي غدا …
فلما تنكرَ حتى المحب تلفتُّ أسألُ عنك العدا
•••
سلام على غائب عن عيوني حملت حطامي إلى دارِهِ
وقلت لقلبي تمهل بنا وخبئ شقاءَك أو دارِهِ
تناسَ الأسى ها هنا أو يقال حملتَ الظلامَ لأنوارهِ …
أتغدو إلى عتبات النعيم بلفحِ الجحيم وإعصاره! …
العودة
عاد الشاعر إلى دار أحباب له فوجدها قد تغيرت حالها.
هذه الكعبةُ كنَّا طائفيها والمصلِّين صباحًا ومساءَ
كم سجدنا وعبدنا الحسنَ فيها! كيف باللّه رجعنا غرباء؟!
•••
دارُ أحلامي وحبِّي لقيتنا في جمود مثلما تلقى الجديدْ
أنكرتْنا وهْي كانتْ إن رأتْنا يضحك النورُ إلينا من بعيدْ
•••
رفْرَفَ القلبُ بجنبي كالذبيحْ وأنا أهتف: يا قلبُ اتَّئدْ
فيجيب الدمعُ والماضي الجريحْ لِمَ عُدنا؟ ليت أنَّا لم نعد!
•••
لِمَ عُدنا؟ أَوَ لم نطوِ الغرامْ وفرغنا من حنين وألمْ
ورضينا بسكون وسلامْ وانتهينا لفراغ كالعدم؟!
•••
أيها الوكرُ إذا طار الأليفْ لا يرى الآخرُ معنًى للمساءْ
ويرى الأيام صُفرًا كالخريفْ نائحات كرياح الصَّحراء
•••
آهِ مما صنع الدهرُ بنا! أَوَ هذا الطللُ العابس أنتَ؟!
والخيال المطرق الرأس أنا شدَّ ما بتْنا على الضنك وبتَّ!
•••
أين ناديكَ؟ وأين السمرُ؟ أين أهلوكَ بساطًا وندامى؟
كلّما أرسلتُ عيني تنظرُ وثبَ الدمعُ إلى عيني وغاما
•••
مَوْطِنُ الحسن ثوى فيه السأمْ وسرتْ أنفاسُه في جوِّهِ
وأناخ الليلُ فيه وجثمْ وجرَتْ أشباحُه في بهوهِ
•••
والبِلى! أبصرتُه رأيَ العيانْ ويداه تنسجان العنكبوتْ
صحتُ يا ويحكَ تبدو في مكانْ كلُّ شيءٍ فيه حيٌّ لا يموتْ!
•••
كلُّ شيءٍ من سرور وحَزَنْ والليالي من بهيجٍ وشَجِي
وأنا أسمعُ أقدامَ الزمنْ وخُطى الوحدةِ فوق الدرجِ
•••
رُكْنِيَ الحاني ومغنايَ الشفيقْ وظلال الخلدِ للعاني الطليحْ
علم الله لقد طال الطريقْ وأنا جئتكَ كيما أستريح
•••
وعلى بابكَ أُلقي جعبتي كغريب آب من وادي المِحنْ!
فيكَ كفَّ الله عنِّي غربتي ورسا رَحْلي على أرض الوطن!
•••
وطني أنتَ ولكنِّي طريدْ أبديُّ النفيِ في عالَم بؤسي!
فإذا عدت فللنجوى أعودْ ثم أمضي بعدما أُفرغ كأسي!