رُقم طينية
(إلي ليلى الشماع)
رأيتُها أولَ مرةٍ في ساحةٍ شعبيةٍ بعمانَ حيثُ تختلطُ أصواتُ معاوني سائقي الحافلاتِ بباعةِ اليانصيب بدمدمةِ الأرواحِ الغابرةِ في المدرّجِ الروماني. كانت العاصفةُ الأطلسيةُ التي ارتدتْ براقعَ الصّحراءِ أنشبت زعانفَها في أرضِ السوادينِ فتدفّقَ عراقيونَ وعراقياتٌ لم يغادروا مدنَهم ودساكرَهم البابليةَ من قبلُ.
لم يأبه أحدٌ بهذه الرُقمِ الطينيةِ التي تحملُ إشاراتٍ لا تعني شيئاً لمن يراهنُ علي ثروةٍ سريعةٍ
من ورقةِ اليانصيبِ ولا لفاتحةِ البختِ التي ترمي خرزاً وقواقعَ علي خطوطِ الطوالعِ الجانحةِ في الرّمل.
يمكن أن تشتريها بدينارٍ أو تبادلَها بساندويتش شاورما وزجاجةِ كازوزٍ باردة.
غير أن لهذه الكسرِ الطينيةِ التي تُقلّبُها، بأيدٍ مفلطحة، نسوةٌ متشحاتٌ بالسواد وموشوماتٌ من
أعلي الجبين إلي أسفلِ الذقنِ قوةَ تهديدٍ كامنة.
تمليّتُ أحدَها ملياً، قلّبتُه، قرّبتُه من أنفي، مثلما تفعلُ، لسببٍ أجهلُه، النسوةُ المتشحاتُ بالسواد، فصار يزدادُ ثقلاً في يدي وتنبعثُ منه رائحةُ طميٍ وجعلتُ أري صوراً وأسمعُ أصوات لم آلفها قبلاً.
رأيتُ آلهةً وملوكاً بذقونٍ مدببةٍ، نموراً وأسوداً تزأرُ في أقفاصٍ من الذهبِ الخالصِ، أسري يَرسفونَ بالحديد، عازفينَ يُدمونَ أصابعَهم علي أوتارٍ رفيعةٍ.
رأيتُ بوابةً من الآجرّ المُزجْجِ يطبعُها اللونُ الأزرقُ ( لم أعرف إن كان لونَ سماءٍ أم تَنَهُدةَ بنتٍ)
سأراها ثانيةً وألمسَها بيدي بعد أكثرَ من عشرِِ سنينَ في متحف بيرغامون في برلين.
هاتفٌ قال لي: إرم هذا الرقيمَ.
إرمه.
ليس باليد التي سيأكلُها الدودُ تحملُ عبءَ الأبد.
لندن
نيسان 2003
**********
هارولد بنتر في الهايد بارك
لم أره عن قربٍ.
بيننا موجةٌ بشريةٌ تُرغي ببيارقَ ثوراتٍ مجهضةٍ
ودُمي لمشعليِّ الحرائق في شرقٍ
سيظلُ، حسبَ رؤيا كابلنغ، شرقاً إلي الأبد، يسيلُ من أنيابِها دمٌ،
ولكنني رأيتُ وجهَه السبعينيَّ المُخْدَدَ علي الشاشةِ الكبيرةِ
في الهزيع الأخير للنخيل
وسمعتُ صوتَه
الذي لم ينلْ منه السّرطانُ
يطفو فوق الجموعِ كرفيفِ جناحيِّ طائرِ الرُخّ .
أبطالُه المسرحيونَ مُحْتَشِدونَ فيه،
باغترابِهم
بغضبِهم
بعزلتِهم
بعجزهم عن فَهمِ ضراوةِ ما يجري حولَهم.
َتحَدَثَ عن حربٍ علي بلدٍ مارقٍ
وعن برابرةٍ قادمينَ من وراءِ البحارِ،
لا يشبهونَ برابرةَ كفافي المرحينَ
يسلِّكون أسنانهم بالليزرِ،
سمي بلاداً تدعي أمريكا
لها شدقٌ كبيرٌ
ومعدةٌ نهمةٌ لا يكفان عن الإلتهامِ،
وسميّ رجلينِ يسوقانِ الجنودَ إلي جبهةٍ غامضةٍ كخراف الأضاحي
أحدهُما يشبُه السيدَ بونتيلا
والثاني يشبُه تابعَه ماتي.
لندن
شباط 2003
*********
سكة العاشقين
1
وراءَ مريولِ سحر المقلَّمِ وشَعرِها الأشقرِ المتوهجِ تحتَ شمسٍ
تطبخ الرؤوسَ أمشي بخطي مدروسةٍ بالمنقلِ والفرجار.
المسافةُ بين خطوينا المرتبكينِ أمامَ محالَّ يَغُطُ أصحابُها في قيلولةٍ قاهرةٍ
فيما صبيانُهم يكْرعونَ المرطباتِ خلسةً، ضروريةٌ لدرءِ شهامةِ العابرين.
لفتاتُها للوراءِ المحسوبةِ بالضلعِ والنبضةِ، والأغنيةُ التي تنبعثُ من جانبيّ الطريقِ
تكفيان كي أمشي وراءَ مريولِها الُمقلّمِ وشَعرِِها الأشقر إلي الأبد.
لفتاتٌ لهفي تخشي افترارِ همةِ العاشقِ أو عدمَ وصولِ الرسالة:
أنتَ
نعم أنتَ
لا أحدٌ سواك!
وأغنيةٌ مغناةٌ لنا وحدَنا في فراغِ الدنيا العظيمِ تندبُ مصائرَ العشقِ رُغمَ أنني لم أجرحْ قلباً ولا هجرتُ بلداً بعدُ علي ما هو حالُ حبيبِ المغنيةِ الخؤون.
11
بعد سنينَ لم أعدْ أحصي تَكَسّرَ نصالِها وضعتُ شريطاً في مسجلِ سيارتي علي الطريقِ السريعةِ
من غرب لندنَ إلي وسَطِها (لا أدري بأيّ معجزةٍ نجا من تنقّلِ المنازلِ والقلوب) فانسابَ الصوتُ :
رندا فون تقدم
صوتَ القلوبِ الهامسة
صوتَ السحر: نجاة،
وكرَّ شريطٌ آخرُ مثقلٌ بالخدوشِ إلي الوراء.
................
................
في السنة التاليةِ ارتدتْ سحر مريولاً أطول.
شَعرُها الأشقرُ خفَّ تَوَهجُهُ تحتَ شمسٍ تواصلُ طبخَ الرؤوسِ
المسافةُ بين خطوينا تقلّصتْ حتى صرتُ أسمعُ نبضَها المتسارعَ
لكن النظراتِ أخذتْ تنحرفُ عن الهدفِ قليلاً
لم تعدْ تؤكدُ بلهفةٍ:
أنتَ
نعم أنتَ
لا أحدٌ سواك!
............
في الإجازةِ الصيفيةِ علمتُ من كاتمةِ أسرارِها أنها تزوجتْ جندياً قريباً
لها ورحلتْ معه إلي معان .
غير أن الأغنيةَ التي كانت تنبعثُ من صناديقَ عظميةٍ مُجللةٍ بالأقمشةِ
وتعاويذَ عينِ الحسودِ علي طولِ شارع السعادة ظلتْ تندبُ مصائرَ العشقِ
والحبيبِ جارحِ القلوبِ الخؤون.
من معسكر الزرقاء
إلي قصر شبيب
وبالعكس،
الأغنيةُ التي تدندنُ لي وحديَ، الآنَ، تهوّنُ عليّ الطريق:
طويلة
طويلة
يا سكة العاشقين.
لندن
صيف 2003
***********