آخر المساهمات
2024-05-04, 8:54 am
2024-05-04, 8:53 am
2024-05-04, 8:49 am
2024-04-28, 10:02 pm
2024-04-20, 2:14 am
2024-04-20, 1:54 am
2024-04-02, 5:16 am
أحدث الصور
تصفح آخر الإعلانات
إعلانات مجانية على نوسا البحر مشدات تخسيس إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر مشدات تخسيس إعلانات مجانية على نوسا البحر

11 نتيجة بحث عن سيف_الرحبى

كاتب الموضوعرسالة
الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر T11موضوع: هذا الكيان المسخ هو ابن خطيئة الغرب الذي قرّر دسّها في تلابيب جغرافيتنا وتاريخنا
hassanbalam

المساهمات: 13
مشاهدة: 882

ابحث في: جريدة العربى الجديد   الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر Untitl13موضوع: هذا الكيان المسخ هو ابن خطيئة الغرب الذي قرّر دسّها في تلابيب جغرافيتنا وتاريخنا    الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر Icon_minitime2024-02-18, 3:27 am
في مثلِ هذه الأوقات المتفجّرة التي يصلُ فيها الدّمُ المسفوك ذروةَ غزارته وسطوعه، رعبهِ وبراءته، مصحوبًا بسيلٍ جارفٍ من التّهريج السياسيّ في مستواه العربي خاصةً؛ ذاك المتجسّد بشكلٍ أضحى نمطيًّا جاهزًا في بيانات الشّجب والاستنكار والتّذاكي. يختلط فيه الحابل بالنابل لتغطي ظلال جعجعته اللفظيّة وبلاغته الكاذبة، ساحةَ المجزرة المروِّعة، وتكاد تُنسينا الحدث. ربما من فرط هول المشهد العبثيّ على قسوته وفظاعته، يكون الصّمت المدلهمّ أحيانًا خيرًا من المشاركة في هذه الوليمة الباذخة للكلام المجانيّ المسفوح بموازاة الدّم المُراق في كلّ زاويةٍ ومكان.
لكنّ الخيارات جميعها صعبةٌ ومُربكة..
هكذا هي الحال العربيّة، مجزرةٌ تلي أخرى، وحروبٌ تتناسلُ على نحوٍ يفضحُ أكثر فأكثر، أزمنة الانحطاط الشامل، سواء حروب الأهل، أو مع الأعداء، التي تخوضها غالبًا جماعةٌ بعينها مفصولة بالضرورة عن الجسد العربي المُمعِن في التمزُّق والانهيار، وإنْ كانت موصولة المشاعر والخراب.
حروبٌ لا تكاد تُرخي أوزارها في منطقةٍ إلا وتنفجرُ في أخرى أكثر بشاعةً وهولًا ونكوصًا إلى الخلف، حتّى أعماق الهاوية، تلك الهاويةُ التي تتبدّى من غير سقفٍ ولا قرار.
الخطابُ العربيُّ منذ عقودٍ عديدة، يُقارب هذه المجازر وحروب الإبادة بنفس القاموس السياسيّ والفحوى والمفردات المُضجرة من فرط التكرار، بسبب الشلل التامّ عن الفعل الحقيقيّ في الوقائع والتاريخ.
ما يحصل في غزة الآن من حربِ إبادةٍ يندى له جبينُ العرب والبشريّة جمعاء، هذه البشرية التي يُمعن القـَتـَلة الأقوياء بفعل تطوّر العقل العلميّ، في استئصال ما تبقى من مكاسبها الأخلاقيّة والروحيّة، ليستحيل التاريخُ إلى ركامٍ من الهوان والعار والفلتان الوحشيّ للغرائز.
(غزة) حلقة أخرى، سليلة حتميّة لانحدار التاريخ العربي والفلسطيني الذي وصل منذ زمن إلى أعماق السؤال الأكثر خطورة واحتدامًا، سؤال التاريخ الكبير في البقاء الحقيقيّ الكريم على هذه الأرض الثكلى، أو التلاشي والانقراض؟
الفيلسوف الفرنسي (سارتر) قال: إن كل حروب العالم لا تساوي دمعة طفل.
لكن طفل (سارتر)، لم يعد موجودًا كي تدمع عينهُ.
لقد استلّه القتلة الصّهاينة من أحشاء أمّه المذبوحة وقذفوا به في جحيم البركان التكنولوجيّ.
تحية لغزة فصلًا من تاريخ الإرادة الفلسطينيّة العصيّة، وسط أمواج ذلك الدّمار القياميّ، الذي يفوق قدراتِ قارّة بكاملها، وليس ذلك الشبر من الأرض المحروقة سلفًا بالانشقاق والحصار وحرب الإخوة أبناء الزُّقاق الواحد والخندق الواحد، وهي الأكثر فتكًا من جميع الحروب.
تحية لغزة، وقبلها فلسطين برمّتها ولبنان والعراق والجزائر، وحبلُ المجزرة على الغارب، طالما بقي الزمنُ العربيُّ على حاله والعالم على بشاعته.
في هذا السياق المأساوي نتذكر شاعر الشّعر، وشاعر الملحمة الفلسطينية النبيلة، محمود درويش -رحمهُ الله- في قصيدته: “أحمد الزعتر”، فما أشبه الليلة بالبارحة وإن اختلفت بعض عناصر الاصطفاف في هذا الدّيكور الوحشيّ.
أقول الديكور؛ لأنّ العقل السياسيّ العربيّ، يُضاف إليه هذه المرة الإيرانيُّ الطّامح إلى احتلال الواجهة الزَّعامية والإعلاميّة أو ما يوحي بذلك، دعكَ من الدولي، لا يريد من الدم الفلسطينيّ المُراق من الوريدِ إلى الوريدِ إلا ورقةً لتحسين شروطِ تفاوضِهِ مع القوى الكبرى المَاسِكة في نهاية المطاف، بعناصر الهيمنة والقوة والمعرفة.
“نازلًا من نحلة الجُرح القديم
إلى تفاصيل البلاد
وكانت السنة
انفصال البّحر عن مُدُن الرماد
وكنتُ وحدي
آه يا وحدي
وأحمدُ ..
مخيّم ينمو
وينجب زعترًا ومقاتلين
وساعدٌ يشتدّ
في النّسيان
..
مضت الغُيُوم وشرَّدتني
ورمتْ معاطفها الجبالُ
وخبأتني”

كابُوس المجزرة الرّاهنة
في غزة وفلسطين

الأعمال الإبداعيّة في تاريخها، فلسفةً فنًّا أدبًا، حجرُ بنيانها الألمُ البشريُّ والشرّ والظلم الفادح.
أهراماتٌ من الكتب والأشرطة واللغات، لكن هل يمكن وصف الألم على نحوٍ يُعبّر عن حقيقة المأساة؟
“رماني الدهر بالأرزاء حتى
فؤادي في غشاءٍ من نِبالِ
فصرتُ إذا أصابتني سهامٌ
تكسّرتِ النصالُ على النصالِ”
حتى هذا الإعجازُ الشعريّ؛ هل عبّر فعلًا، أم أنَّ أنين الجراح المُحتشد الصّامت عبر الأزمنة هو التعبيرُ الأمثل؟!

ألمُ الصغارِ برهةَ اشتدادِ المرض والمُلمّات هو ذروة المأساةِ، حيثُ يختلطُ الصّراخ بالأنين بالتشنّج أمام أبٍ وأمٍّ عاجزَيْن عن رفع هذا الألم الذي لا يُغتفر، بانتظار ما يجود به الأطباء والأقدار الغامضة، وعدا الحنان الدّافق بالدُّموع الصامتة والتمنّي بحملِ هذه الأثقال نيابةً عن المُصاب الذي داهمته المصائبُ والأيام قبل الأوان.
كم من الأطفال وصغار السن يُبادون يوميًّا في الحروب البشريّة والطبيعيّة: تراجيديا الوجود التي لا تُحتمل.
أسرابُ العصافير التي تنقر كل صباح على نافذة ناصر ثم تُحلّق في آفاق الحرية والضفاف
حاملةً في مناقيرها أسماء أطفال فلسطين الذين استشهدوا في ساح المعارك والدّمار.

سيركُ مهرجينَ ووضعاء يتسلّقون القضايا والحقوق المقدّسة للشعوب المنكوبة،
بحيث إنّ العبارة التي هي من النزاهة والعمقِ بمكانٍ عالٍ، تضيعُ في هذا الخضمّ الجارف للزّيف والتفاهة.

أنا الذي حين أنظرُ في عينَيْ ناصر حين يُداهمه المرض الأكثر لعنةً في حياتي، وأرى في مرآتهما ذلك الخذلان لجموحِهِ في اللعب والحياة؛ أشعُرُ بهشاشة وجودي وانكساري الأكيد، أنا الذي صمدت في أكثر المواقف دمويّةً وقسوة.
إذن؛ أيّ قدرةٍ إلهيّة عظيمةٍ وخارقةٍ تجعلني أحتمل النظر إلى ملايين الأطفال في فلسطين وسوريا والعراق ولبنان… إلخ.
وأطفال العالم
كيف أحملهم في مساءٍ كهذا المساء، حسبما قال شاعرنا الرّاحل الكبير سعدي يوسف.
هكذا، وعلى هذا النّحو المأسويّ الرّهيب تتوالى السنون والعقود منذ مطلع السبعينيّات حتى هذه البُرهة المتفجّرة بالمجازر والإبادات.
(كيف أحملهم في مساءٍ كهذا المساء؟) كل هؤلاء الملايين من الأطفال والنساء والرجال، أراهم في مرآة ابني ناصر وهو يرفس في خضمّ هذه المِحنة الأليمة من المرض، أراهم جميعًا هكذا، إنهم ملخّص لهذا الفضاء من الآلام البشرية المريعة عبر التاريخ.
وبالمناسبة الشاعر سعدي يوسف قال هذه الجملة ضمن قصيدةٍ حول منطقة الفاكهاني التي كانت معقلَ المقاومة الفلسطينيّة والزعماء والرموز والهاربين من بلدانهم إلى حلمِ حُرّيةٍ ونضال.. قالها في هذا السياق.
(الفاكهاني) تلك المنطقة التي ارتكبت فيها أيضا أبشع المجازر ودارت فيها المعارك الأكثر ضراوة ودمويّة بين الفلسطينيين وأعدائهم المدججين من كل حدبٍ وصوب، وعلى رأسهم طبعا الدولة الصهيونيّة خاصة في غزوها الشامل سنة ١٩٨٢م.
مجازرُ وحروبٌ وكوارث تترى وتتناسل في ضوء ضعفٍ عربيٍّ بيِّن، وتلك الوحوش البشريّة والتكنولوجية الطّالعة من التوراة حسب عبارة لپول شاؤول.

الطّائر ينقر على النافذة كعادته كلّ صباح
أنظرُ إلى تلك الكينونة التي من رهافة وأثير
أراه يتكاثر إلى طيور كثيرة تملأُ الفضاء المحتشد بالغبار والغضب
حشود طيورٍ ومخلوقاتٍ قَدِمت من كل جهات الأرض
لا تحمل في مناقيرها غُصن السّلام القادم
بل طليعة تدميرٍ وانتقام.

كان يصرخُ وسط أشلاء العائلة والحطام
صرخته تزلزل السماوات السبع والأرض، الجنة والجحيم، لكنها لا توقظ ضمير أولئك البشر السّادرين في غيّهم، في فجور الدّم المُعربد بأرجاء المجزرة.

تصحو من نومكَ المُضرّج بكابوسِ المذبحة الممتدِّ من غزةَ حتى سريرِكَ إلى أقاصي الكون المصبوغ بدمِ الضحايا
تحاول النهوض
يجتاحك شلل الأطراف والرّوح الجريح
تحسّ أن ضحايا مذبحةِ التاريخِ البشريِّ يطلقون في أعماقك صرخةً واحدةً تطالب بالعدالة والقصاص.

ماذا يعملُ الأب، ماذا تعمل الأم الثكلى؟ أمام أبنائهم القتلى، أبنائهم الغرقى عراةً.
هل يحجبُ الشمسَ الحارقةَ عن أجسادهم المُسجّاة، هل يمنع البردَ الضاري ويدثرهم بأسمال جسده الممزّق.
لا جنازةَ لا قبورَ في انتظارهم ولا مشيعين، لا شيء لا شيء، عدا هذا الفراغ المُحتشد بالأشباح والغياب.

أفظع ما في كابوسِ المذبحة في غزة بجانب الضحايا والمنكوبين، تلك المزايدات والهذر واستغلال الدّم الطاهر المُراق لصالحِ أهدافٍ وغاياتٍ دنيئة ورخيصة؛
أيْ نقيض قداسةِ القضية بحلم الكرامة الإنسانية وتحقيق العدالة بعد تلك التضحيات الجِسام
وهذا ما يتكرر دائما في الأزمنة والأمكنة المُختلفة، وتأتي القضية الفلسطينيّة العادلة في طليعتها.

الطائرة تندفع إلى هدفها المحدّد عبر خطٍّ واضحٍ مستقيم. التعرّجات الخفيّة للأخطار والمصائر لا تظهر على الخارطة. هكذا البشرية في سعيها اليومي إلى تحقيق الأهداف والرّغبات التي أسَّسها أسلافٌ رحلوا وآخرون يرسمون الخرائط والمذابح والحروب. الفلسطينيّون في تغريبةِ الاقتلاعِ الجديدةِ يندفعون حُفاةً عُراةً من شمال البلاد المدمَّر إلى أقاصي جنوب الهاوية، إلى أقاصي المتاهِ الفاغرِ شدقَيْه على آفاق دمويّة ضارية، هاوية المتاه والدم التي تتمرأى على شاشات العالم في فرجته اليومية لهذه الجموع مندفعةً من غير زادٍ ولا أملٍ يعين على هذه الرحلة تحت وابلِ القنابل وكواسرِ الموت. المجزرة تتناسلُ في أعماقك والطائرة تحلّق بعيدًا بعيدًا في مدلهمّ المُحيطات.

ملبّدٌ طقسُ هذا الصباح
يشبه وجهكِ الغائمَ بالأحزان والحلم
غائمٌ طقسُ هذا العالم
مضرجةٌ هي المجزرة في أرجائها الشاسعة
كل بلاغة العباقرة واللغات عبر التاريخ لا تستطيع حتى الاقترابَ من دموع أطفالٍ أمام الأمّهات الثكالى في انتظار مصيرهم المحتوم، حيث القَتَلة يطوّقون البلادَ من كل الجهات حاقنين الهواءَ الخانق بالسمّ الزّعاف، بأسرار الذَّرَّةِ، بكوابيس الموت القياميّ الصاعق.
ملبّدةٌ ملامحكِ هذا الصباح والصباحات القادمة بدماء المجزرة رغم أنكِ تبعدين آلاف الكيلومترات عن حومة نيرانها الجهنميّة،
إنها مجزرةُ ما تبقى من زادٍ روحيّ ومن قيَمٍ إنسانية، مجزرة العالم وقد تدحرج وانحطّ إلى آخر دركٍ في طبقات الجحيم،
ملبدةٌ أعماقكِ بالمجازر هذا الصباح
لقد وُلدتِ في القدس، وها أنت تعيشين الآن في بوليفيا البعيدة؛ لكنّ أنهار الدم تمتدّ من أقصى الكون بكواكبه ومجراته إلى أقصاه
كيف لنا أن نكتب شعرًا مشتركًا كما في الماضي وأي شعرٍ أو نثرٍ يُعبّر عن عار الإنسان أو بالأحرى عار الحيوان؛ لأنه هو من بدأ هذه المسيرة على الأرض حتى محطة الوصول إلى الإنسان القاتل.

وسط نيرانِ الحرائق والدخان ثمّة معسكرُ لاجئين في العراء الدّامي.
المطر ينهمر بغزارةٍ، الأطفالُ يتقافزون منتشين بزائر الرّحمة الغريب، قلوبُ رجالٍ ونساءٍ ترتجف رعبًا من هول الانفجارات، الأطفال في أفراحهم خارج مدار الحرب، طيورٌ لا لونَ لها تُحلّق بين المعسكر والبحر القريب.
هذا المشهد يحصُل اللحظةَ في غزة وعموم فلسطين وقبلها في بيروت وسوريا، في اليمن والعراق وليبيا، في أرض العرب التي ضاقت على اتساعها حتى استحالت إلى معسكرات لاجئين وثكنات وغرباء.

“إذا كان الفنّ في جوهره شِعرًا فيجب أن يُنسبَ فنّ العمارة والموسيقى والتصوير إلى الشعر”.
هايدغر
“كان الشعرُ عِلمَ قومٍ لم يكن لهم علمٌ أصحّ منه”
عُمر بن الخطاب

هذه اللحظات الأولى من الفجر الدامي بالفراق، وتتراكم الذكرى ومراراتها.. كيف للكائن أن يتدبّر أمرَ رحيله هو المضرّج بكل تلك العناصر والأنقاض والطَّمْيِ الذي راكمه الزمن في صيرورته ذات المسارات المتعددة؟ كيف للفرد الأعزل أن يتدبر شأن حياته العمليّة اليوميّة وهو يتّجه نحو مجهولٍ ضارٍ ينتظره أمامَ كل منعطف وشجرة، ميدانِ قريةٍ وصحراءَ ومدينة؟

(إن ما نستطيع رؤيته من الكون الخفيِّ لا يمثل سوى جزءٍ ضئيلٍ جدًّا، ولكي يقتنص العلماء (اللمحة الأولى) الكونَ الخفيّ من حولنا؛ فإنهم يعكفون على تعلّمِ سبلِ إدراكِ ذلك الشيء المجهول: المادة المظلمة/الطاقة المظلمة ذات الطّبيعة الغامضة والمادة المظلمة هي التي قادت المجرات إلى مواقعها الحالية.)

آمن ويليام بليك بالمتناقضات في الجوهر الأسمى، وعليه تصبح الأبدية في نموٍّ مستمر وليس كمالًا جامدًا مضجرًا. وهكذا مضى جبران خليل جبران حين قال إنه والرب ينموان أمام وجه الشمس.

“عندما تتحدث إلى امرأة فأنصت إلى ما تقوله عيناها”.
فيكتور هوجو

أتأمل هذا الخشب الذي كان يُصنع في صور، ويترحّل على متنه العُمانيّون إلى أفريقيا وبلاد الهند والسند،
مقدرةُ التحمّل والصبر الأسطوري المتبادلة بين البشر وهذه السفن الشراعية وسط بهيم الليل والعواصف المحمّلة بالخطر الجاثم بشبح النهايات.

إلى ثاني السويدي
قبل بزوغ قطرةِ الدم الأولى من جسد الجدّ الأول على سطح هذه البسيطة الأبيض
كنتَ تحدقُ في وجه الموت
لم تكن هناك كينونةٌ
كان الخالقُ والمياهُ والسديمُ
ولم يولد الكائنُ ذو الخليّة الواحدة بعد
وكان العدمُ يُسرج خيولَه في الخواء الشاسع
حدقتَ في الغموض الساطع بوجه الغياب
وهكذا استعجلتَ الرّحيلَ ممتزجًا بأرخبيل الجثث المجندلة في المدن والخنادق
متوحّدًا بمعجزة التراب والشجرة
سلامًا إلى روحكَ النّائمة في مرافئ الأبد.

لحظةُ غروبٍ عُمانيّ
قلتُ لأشباحي: انتظريني على بوّابة المُحيط
فلم تنتظرْني أشباحِي الجَذلى
راقبتُ الدمَ الأحمرَ القاني ينتشرُ على اتّساع الآفاق.

على هذا الليل أن ينقضي، على هذا الليل الكاسر أن ينقضي بفيالقهِ الهائجةِ، بحشراتِه وكوابِيسه،
أن ينقضي وإن كان الصباحُ المُنتَظَرُ ليس بأمثلَ منه.
عليه أن يتصرَّمَ وينقضي، وعليكَ أن تحشدَ كلَّ دفاعاتك ومتاريسك إزاء عدوانه الوحشيّ الذي توارثته السّلالة حتى استقرّ ناصبًا خيامَه في أعماقِ رجلٍ وحيد، أن تُعِدَّ له ما استطعتَ من عقاقيرَ ومسارح فارغة يرتادُها نظّارةٌ وهميّون، أن تخبط الأمواجُ صخورَ رأسك وتتلاشى في مهبِّ المغيب، أن تسرح ظباء في القَفر القاحل الذي لم تزره أمطارٌ ولا آلهةٌ منذ قرون، أن تُعِدَّ ما استطعتَ من عدّةٍ تجاه هذا الليلِ العدواني من الأرق والحروب.

بقرةٌ تقفُ فوق شرفةِ منزلٍ مُهدَّم وأخرى فوق أكوام الجثث والجرحى محدّقةً في غُيوم الدّم العابرة للمحيطات
بقرةٌ وليس نسرًا أو حيوانًا ضاريًا آخر
وحيدةً وحزينةً
فوق جبل الحطام والأنين
بقرة تحدق في (مستقبل الماضي) الذي تتناسل دوائره في عقلها الباطن منذ أسلاف قطعانها الوحشية
حائرةً ووحيدةً هي البقرة الصفراء وسط دخان الحرائق للمذبحة الأزلية.

كل شيء يرتطم بنقيضه في هذا الكون، والأكوان الأخرى ربما، ليُولَد الجديدُ ومعه ديمومة الحياة والاستمرار. صراع الأضداد في الديالكتيك الهيجلي. هذا المسكين (هيجل) ظل عقودًا رأسه في الأرض ورجلاه في الأعلى مشقلبًا مُعذّبا، لاعب جمبازِ المنظومات الفلسفية الكبرى وخاتمها حسب بعض الماركسيين حتى جاء المخلّص البروليتاري الشهير فسوّاه على طبيعته الأصليّة المنطقية، التي ستحرّك آلةَ التاريخ وتدفعها إلى ضفاف الحلم وآفاق الفردوس التي ستكون على الأرض وليس في السماء.
تلك اليوتوبيا التي حين باشرت التطبيق العمليّ على أرض الواقع والتاريخ لم تنتج إلا المجازر والديكتاتوريات والدّمار. كل يوتوبيا إذا خرجتْ من جنّة النظرية الحالمة مع غض النظر عن مصدرها ومنشأها الأيديولوجي والعقائدي، تلقى المصيرَ نفسه كارتطام نيزكٍ عملاقٍ بكوكب الأرض حين يحيله إلى خراب ورماد.

الحبّ بكل معانيه التي تُلامس اللانهائي هو جوهرُ الكينونة ومَعينه الذي لا ينضب لدى القلة الفريدة مهما تقدّم العمر في الألم والمعاناة وبلغت الحياة حدًّا من التوحش الذي لا يطاق.
نتوسّله ونلوذُ به
أو كما يقول الشيخ الفيلسوف محيي الدين ابن عربي:
أدينُ بِدينِ الحُبّ أنَّى توجهتْ
ركائبُه فالحب ديني وإيماني
إن هذا الحب أو ما تبقى من ذلك النور الداخلي، لا نترك مآسي الدّهر وانحطاط القيم الأخلاقية والروحية أن تظفر بالانتصار على إطفائه وسحقه
فلنحافظ عليه في مكان قصيّ ونرعاه بفلذات أكبادنا والقلوب.

أن يقذفك سوء طالعِ الصّدفة وأنت في وهمِ نزهةٍ على رصيفِ مدينةٍ في الشّارع أو في مقهى، في البلدان الريعيّة خاصّة، إلى لقاءِ شخصٍ تعرفه منذ قرون أو لا تعرفه إطلاقًا؛ لكنه في الحالتين يُلقي بثقل حضوره كذبًا وتهريجًا وادّعاءً على اللحظة الممتدّة في الزمان والمكان اللذَيْن سيغمرهما بغلاظة انحطاطه المُنتن، فعليك بعد التخلص من هذا المأزق الوجوديّ الذي لا بد من تكراره رغم الحيطة والحذر في مثل زماننا المجرّد من القيم الأخلاقية والإنسانيّة إلا في النُّدرة المُعتزِلة خارج القطيع السّائد، فعليك لحظة الخلاص بجانب تذكّرك لمقولة سارتر (الجحيم هم الآخرون)، أن تغسل روحكَ بمياه القداسة والمحيطات المُزبدة بالحنوِّ والغضب على هذه اليابسة، كي تستطيع النَّوم برهةً محدودةً محاولة للنّسيان.

(العُزلة وطن الأرواح المُتعبة) الأرواح الجريحة التي طوّح بها النأيُ بعيدًا بين أمواجه المزبِدة الغامضة، فوجدتْ في العزلة بعضَ أمانٍ وطمأنينة يمليها وطنٌ حقيقيّ.
العُزلة ليست خيارًا قسريًّا، زنزانةً يدفع إليها الاكتئاب والقنوط؛ بل الخيارُ الأكثر جمالًا وحريةً وضفافًا لا محدودة.
المكان الذي يمكنك أن ترى منه الأشياء والبشر خارج الأقنعة والمساحيق والقشور، ويمكنك أن تقارب حقيقةَ الوجود والطبيعة في جوهرها المُغَيَّب وسط الصخب والزحام.
إنها ليست منفى؛ بل وطن الأرواح والقلوب التي أثخنتها جراحُ التّاريخ والغياب.

امرأة بجسدٍ رشيقٍ وفخذين صقيلين بمثابة تلخيصٍ لما خفي من جمال الكون، قبالة البحر، في ضياءِ طقس غائمٍ بالسحر على غير العادة، إزاءَ هذا المشهد الجمالي النادر، ماذا يفعل الحاملُ في ضميره ثقلَ مجازر التاريخ من أول مجزرة على أديم هذه الأرض الثكلى وحتى آخرها في هذا الراهن المتفجر بالدماء والنكبات.
ألفُ مقبرةٍ يهرع موتاها في أعماقه كأنما يومُ نشورٍ داخليّ، منها تتشكل أنسجةُ أعضائه والخلايا، ماذا تفعل هذه الروح الجريحة التي تحاول الإفلاتَ من ألَمِها المُمِضّ العميق؟

كل العالم والكائنات في عبورٍ دائمٍ وليس الخلودُ إلا أحدَ تجلياتِ الوهم البشري في رعبه المتجذر في كينونته ولا وعيه واقعًا ومنامًا.
لذلك يحاول خلق علاماتٍ راسخة للبقاء والديمومة، عبر الإنجاب والأعياد القارّة التي تتوارثها الأجيال عبر القرون لتخفيف مسيرة الزّمان الثقيلة على الأجساد والأرواح، كما تتوارث المقدسَ والوعودَ الغيبية الباذخة.

(سِرْ إِنِ اسْطَعْتَ فِي الْهَوَاءِ رُوَيْدًا
لَا اخْتِيَالًا عَلَى رُفَاتِ الْعِبَادِ

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْـ
أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ
ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ
ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِهْ قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ
ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟)

( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ).

#سيف_الرحبى
الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر T11موضوع: تحبل الأرض بالضائع الآن لايتوقّف فيها النسيج عن الرّوغان
hassanbalam

المساهمات: 14
مشاهدة: 704

ابحث في: مرتفعات أو سوناتا الكلام   الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر Untitl13موضوع: تحبل الأرض بالضائع الآن لايتوقّف فيها النسيج عن الرّوغان    الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر Icon_minitime2023-04-30, 11:54 am
ذلك اليوم الذي ضاع في زحمة مواكب الأيام والسنين، حسب فحوى عبارة وردت في إحدى قصص (بورخيس) ذلك اليوم المضيء الذي ربما يشبه الجوهر أو الحلم، وله ملمس الغياب والذكرى، يشبه اليأس المضيء والعدَم المشعَّ بالحقيقة…
ذلك اليومُ الذي ضاع وسط تدافُع أمواج الشهور والعقود الصَّاعق. ربما لو التقينا به ذات صباح، ذات دهر، لأنقذنا من رتابة هذه الأزمنة والأيام.
لو وجدناه، لو صادفناه ولو كبرقٍ يخترقُ حُجُب الرّتابة بإيقاعها الجنائزي، لو نعثر عليه صدفةً وبدون مقدّمات ولا نتائج، ما خلف الواقع والجهل والمعرفة، لو راودنا ولو كحلمٍ نائمٍ على سفح جبل قاف، أو جبل من جبال عُمان في فصلها الشتويّ.

حركة طائرٍ خلف إفريز النافذة إيذانًا باقتراب طلوع الفجر وسط هجْعة الظلام المستبدّ بالفضاء والمكان، حيث لا نأمةَ ولا حركة، عدا مروحةِ السّقف تبدّد الهواءَ الرَّاكد في فضاء الغرفة الغاصّة بالكتب والأشباح.
السقفُ الذي يحدِّق فيه (المتوحِّد) عبر فجوات نومهِ المتقطع المُثخن بالأرق والهواجسِ وكأنّما في مرايا غابيّة، يرى ويتخيّل آفاقًا مأهولة بأشجارٍ باسقةٍ، وطيورٍ وأنهارٍ، ومدنٍ ومكتبات ومقاهٍ، ارتادها ذات زمن وما زال يراوده الحلم بالعودة إليها زيارةً أو عطلة إن لم تكن سُكنى وإقامة.
حركة الطائر اليومية في عراء النّافذة تؤذن بمقدم الفجر وارتفاع صوت المؤذن في المسجد المجاور، الذي يأتي سريعًا خاطفًا من غير ترجيعٍ لحنيٍّ أشبه بالتهدُّج الروحيّ المموسق مثلما في جوامع أخرى وبلدان أخرى. فسحة صلاة الفجر بدموع الخشية من غضب الله، حتى يتصاعد الضوء من جهة جبال (بوشر) الشرقيّة وتطل الشمس بهيئتها الأزليّة المهيبة تضيء كونًا يخرج من نومه إلى حركة العربات وصفير الجبال الممزوج بلمعان المعدن الذي يعشي العيون والأفئدة، ويربكها في الشوارع والأماكن والمؤسسات.

قرفُك واشمئزازك من تصاعد أحداث العالم الموغلة في الوحشيّة وانفجار الغرائز السوداء بأقصاها تعصبًا وتطرّفًا، على ساحات الدّماءِ المُراقةِ والعمران المدّمر، بما يتضمّنه من قيمٍ ومكاسبَ على جانبٍ من النُّبل الإنسانيّ والأخلاقي جهدت البشريّة عبر تاريخها في لملمة أشلائها من المذابح والمِحن والعِبر المريرة التي مرّت بها.
أو عبر السّجالات التي تتفجّر باستمرار وبوتائر متصاعدة، فيما أتاحه التطوّر التكنولوجي المُذهل الذي أنجزه (الآخر) كما درجت التّسمية في الثقافة العربية، سواء حول وقائع الراهن وصراعاته ومعطياته وعناصره الكثيرة، أو حين يتم استدعاء التاريخ بشخصيّاته الفاعلة، ورموزه ووقائعه على ضوء أحقاد الرّاهن وبموجبها تتمّ محاكمة ذلك الماضي الذي أضحى بعيدًا، يُسحب رغم أنفه إلى مستنقعات هذا الراهن ليُذكي ويغذِّي آلة التوحّش والانحطاط للمعارك العبثيّة التي لا تُبقي ولا تذر؛ إذ إنّ الجميع سيخرج منها – إن خرج – بخسائر وأحقاد جديدة تهيئ لقادمٍ ربما أكثر قتامة ووضاعة.
ولأنّ العنفَ بكل تموضعاته وتمظهراته، ليس قابلة حتما، لميلاد تاريخ جديد مشرّف في مثل هذا السياق؛ بل مدعاةٌ لتناسُل دوائر العنف وتناسُل المجزرة على نحوٍ شاملٍ من التّصفية والاجتثاث.
وحدهم تجّار الحروب والمخدّرات والنظم المافياوية التي تؤسس وتنمو وتتعاظم في مناخات الخراب وانحطاط القيم الروحية والمادية والقانونية، هم الرابحون الوحيدون من الجعجعة وهذا الحطام.
في مثل هذه المناخات والأوضاع التي ينسدُّ أو يكاد، فيها الأفق والنور والأمل الذي طالما تغنى به أدباء وفلاسفة متشائمون أو متفائلون وفق هذه الثنائية التي لا يجافيها التبسيط؛ إما أن تدفع (الفرد) إلى شحذ الطاقة الإبداعية، طاقة العقل والخيال والسلوك المفارق الذي ينأى بنفسه عن سلوك القطعان البشرية الهائجة بأعلامها وإعلامها، وهو ما يمكن أن يُدعى (باليأس المضيء) أو الوقوع في السلبيّ المُظلم الذي تنشلّ في ضوء استبدادِه طاقة الإبداع والفعل خاصّة حين تكون في أوساطٍ قاتمة، تُعادي المعرفة والسؤال والبحث، مستكينة إلى المستتبّ البليد القاطع مما تقذفه حِمم وسائل التواصل والإعلام الجماهيري كل يوم، لحظة وثانية، طوفان زيف وأكاذيب وادعاءات، بحيث إن اختراق هذا الطوفان بقبس من معرفة وضوء، سيضيع لا بد في هيجانه الجارف…
وحيث تنأى أزمنة الطفولة وأماكنها وتغرق في الجفاف والنسيان، كما ينأى الأصدقاء الذين تغيّبهم الأوبئة والمسافات والكمد إلى براري الأبديّة.

في معرض الكتاب بمسقط
المعرض كان مناسبة معرفيّة بشمولها واتساعها بهكذا سياق أو تؤسس لهما.
ومناسبة للقاء بعض الأصدقاء الذين وفدوا من أكثر من بلد وقارة لم نرهم منذ زمن بعيد.
ولضيق المدّة بجانب انشغالات أخرى، فاتني لقاء الكثير منهم؛ لكن القليل الذي أُتيحت فرصة اللقاء به كان دالًا وعميقًا:
الهواري الغزالي الذي جاء إلينا من فرنسا مقرّ إقامته وعمله الجامعي، صَحِبته في جولة بمسقط أولًا، وفي اليوم الثاني اقترح أن نذهب إلى عُمان الداخل الذي قرأ عن فرادة طبيعتها بأبعادها الجيولوجيّة والروحيّة، وكانت المنطقة الأقرب هي ولاية (سمائل)، وذهبنا إلى بلدة (سرور)، نزلنا في منطقة (تبينيات) على حافة الوادي حيث يقع منزل الوالد والوالدة -رحمهما الله- والعائلة بأفرادها الكثر الذين تفرّق بهم الشمل في العاصمة وغيرها، وأصبحت الديارُ خاليةً إلا في مناسبات متفرّقة، وذكرى أثيرة على القلوب لأولئك الذين رحلوا، تاركين المعالم والآثار هِبةً للذاكرة والروح العطشى..
وجدت هناك ابن أخي الأصغر إبراهيم بن يعقوب الذي اصطحبنا في جولةٍ وسط أرخبيل النخيل المستطيل نحو (علوى) وفق الدارجة العُمانية الذي لم أذهب باتجاهه منذ زمن بعيد. حيث كانت جولاتي المتفرقة ناحية (حدرى) حتى أصل إلى أقصى القرية من هذه الجهة التي يحدّها الوادي بأشجار الحلفاء والبردي والجبال.
أسلمتنا النزهة العلوية هذه المرة إلى مدرسة المعلم سعود الرمضاني، معلمنا في الطفولات السحيقة الآفلة.
وكان الهواري يتطلع إلى صفوف النخيل والأفلاج والسهوب بحيواتها السّاطعةِ الصّادحةِ في ضوء ظهيرةٍ ما زالت أنسامُها لطيفة وحنونة، وتلك اللامرئية في الأفلاج وضواحي النخيل والأشجار الأخرى، وإلى المساجد الصغيرة الحجم، الكبيرة المعنى والدلالة بمعمارها المتوارث عبر السلف والخلف.
مساجد زاهية متقشّفة لكنها مفْعَمة بالنور والروح المشعّ لأولئك الراحلين الذين بنوها بسواعدهم الصلبة، ورووها بصدق إيمانٍ وإخلاص فضيلةٍ لحقيقة غيبيّة مُتعالية ومُطلقة.
المدرسة التي أتذكّرها وبجوارها المسجد، كانت من غير جدران إسمنتيّة ولا طينيّة بين النخيل محدّدة بمعالم سعف النخيل، وقد تحوّلت إلى بناء إسمنتي.
لا أعرف إن كانت هكذا بقيت كمعلم للذكرى في البلدة العتيدة أم أن التلاميذ مازالوا يرتادونها في أوقات معيّنة خارج المدارس الرسميّة الحديثة.
كان الهواري يحدّق ويسأل ابن أخي إبراهيم، عن تفاصيل وأشياء مبعثرة تُثير غرابته وفضوله المعرفيّ الجماليّ، ويصور مشاهد ولقطات؛ حتى إنه توقّف أمام الأفلاج الثلاثة بأسمائها: (بوجدي) و(الأوسط) و(الحيلي). والأخير أكبر الأفلاج غزارة وتدفّقًا خاصّة في أيام الخصب والمطر.
ثم توقّف أمام ساقيةٍ صغيرةٍ مُتفرّعة من الفلج الرئيسِ بمياهها الضحلة تقريبًا، ولاحظَ أسرابًا من سمكٍ صغير بالغ الصِّغر يسبح وكأنما في مملكةٍ مائيّةٍ فسيحة. حدّق فيه طويلًا وكأنّما يرى ما لا يراه الآخرون، يرى السرّ الخبيء وراء هذه الكائنات الميكروسكوبية السّارحة في برية الغموض والغيب.
حين استفاق من غيابه التأمّلي، قلت له إنّ بعض هذه الأسماك كنّا نسميه (الصد) و(العنكر)، وكان هناك صنفٌ آخر أتذكره عبر هذه الحشود من الأزمنة والنأي يُسمّى (الصالحو) و(الفختل) يبدو أنه انقرض، أو أنه ما زال يأتي بأزمنة النعمة والخصب.
ثمّ تصاعد تدريجيًّا صداحُ طيورٍ مختبئة بين الأكمات بألحانٍ سماويِّة عذبة، حين سألني ما اسم هذا الطائر، قلت له (الصّفرد) وهو نوعٌ من طيور الدرّاج يسرح من غير أن يُرى إلا نادرًا بين الجبال الدّكناء والسُّفوح ولونه يُشبه تلك الطّبيعة الصخريّة وكأنّما وُلد من رحمها وغموضها الشفيف.
أما الصديقان عبده وازن ولوركا سبيتي الآتيان من لبنان الجريح، فلم تُتح الفرصة إلا لجولة قصيرة في مسقط العاصمة، نستبقُ الغروب من فندق كراون بلازا باتجاه بحر (مطرح) القديمة بأسواقها التقليدية ونوارسها المحلّقةِ فوق البواخر والقوارب وما تبقّى من تلك السفن التي صنعها العمانيُّون في الماضي ، لتشقّ بهم مدلهمَّ البحار والمحيطات، باتجاه أفريقيا والهند وفارس.
لاحظ عبده وازن الذي يزور عُمان لأول مرّةٍ فرادة العمران وسط الجبال الممتدة حتى أعماق البحر، حين أشار إلى نتوء جبليٍّ، هذا يشبه (صخرة الروشة) في بيروت. وكنت في كتابة سابقة وأنا أتحدث عن لبنان أتيت على صخرة الروشة، وقد تخيّلتها آنذاك جزءًا من جبلٍ بجهة من الجهات البحريّة في عُمان، ترحّل من مكانهِ الراسخ في رحلة سندبادية بعرض البحار وطولها، حتى أسلمته المشيئة إلى البحر المتوسط ببيروت، واستقرّ هناك شاهدًا على أحوال المدينة المتحوّلة دومًا، المُحتشدة بالأحداث والخطوب، وشاهدًا على عشّاقٍ قضوا انتحارا من ذروة الصخرة إلى فسيح بحر الحضارات والإرادات المُتصارعة بجيوشها الذّاهبة والقادمة …
قضوا من فرط الهُيام والعشق أو يأسًا واحتجاجًا، وربّما شغفًا بحُريّة لن ينالوها إلا بمعانقة المجهول والموت..
حدّق عبده وازن، وهو المتأمل العميق، صاحب الإنجاز الأدبيّ الشّاسع في الصخور والجبال المحيطة وتمتم بأسى جارح:
(ما أطيب العيش لو أن الفتى حجرٌ، تنبو الحوادث عنه وهو ملموم).
أما لوركا سبيتي الشاعرة والإعلامية فسألتني ونحن نقف على كورنيش مطرح وسط صفير السفن وأسراب النوارس، أنّها قرأت أنّ في سلطنة عُمان مدينة تُدعى (صور)، وهل تشبه صور اللبنانية؟
أجبتها، بِما أننا في عجالة حيث الليل المسقطي بدأ بزحفه على الجبال والكائنات:
المُشترك الأعمق بين المدينتين هو البحر، المتوسّط في صور اللبنانية الذي انطلق منه الفينيقيّون باتجاه قرطاجنة وروما والعالم،
وبحر العرب المتاخم للمحيط الهندي الذي انطلق في بهيمِ ليله المليء بالهوام والقراصنة. الأسلاف العمانيّون باتجاه الهند وأفريقيا على الأخص. وكانت المدينة العمانيّة أكبر مركزٍ في الجزيرة العربية لبناء السفن، ورشة صناعة وابتكار متقدّمة بمعايير زمنها.
(دائمًا ما تتراءى لي مدينة
صور العُمانيّة، تركض مع صور اللبنانيّة
في غموض المحيطات
والمطلق:
امرأتان وُلدتا من مخيّلة
بحارة وإعصار.
كبرنا وشاخت المُدُن
وما زالت الطفولة تتسلّق
الأسوارَ والظلال).
وسيكمل الليلُ الزاحفُ قصرَ هذه النّزهة مع عبده ولوركا لاحقًا، بالهذياناتِ والكلام والذكرياتِ حول الأماكن والوجوه الغائبةِ، وهذا الرّاهن العربيّ الذي يُفلت من بين الأصابع والأحلام موغلًا في النأي والخراب.

تحدث عيسى مخلوف بمداخلتهِ في المعرض إيّاه، عن المثلّث الأخطبوطيّ عبر مساره التّدميري، الذي يفترسُ الرّوح والعالم (المال، العولمة، التكنولوجيا) وتحوّلات الثقافة في الزّمن الرّاهن ضاربًا أمثلةً من مدينة الأنوار الثقافية والفكريّة كما درجت التّسمية في الثقافة العالمية، (باريس) التي يقيم فيها منذ نصف قرن شاعرًا وباحثًا يتنقّل بين الحواضرِ خاصة أوروبا والأمريكتين، وكيف أن كبار المليارديرية استولوا بالمال على أعرق المكتبات مثل (هاشيت) وأعرق المؤسسات الثقافية في فرنسا، وهو ما ينسحب على مراكز الحضارة والإنتاج الثقافي الرئيسة في العالم التي سبق لمفكّرين وفلاسفة منذ مطلع القرن العشرين وما قبله وصولًا إلى البرهة الرّاهنة التي اشتدّ فيها سُعار السوق في تبضيعِ وتشييء كلّ أوجه الإنتاج والصنائع التي أبدعها العقل الأوروبي والبشرية جمعاء، في أبعادها المادية والروحيّة، الفكريّة والأدبيّة والسلوكية، مرحلة (النيوليبرالية) الأكثر ضراوة وعنفًا كمحاولة مباشرة أو ضمنيّة لسحق إنسانيّة الإنسان، مشاعرِه وحقيقتِه الجوانيّة، لتحويلِهِ إلى سلعةٍ ضمن قطار (العولمة) المندفع إلى فضاء الهيمنة المُطلقة على كل مفاصل وتفاصيل الحياة والصيرورة والتاريخ.
إذا كان هذا الخطر يحيط بتلك (المراكز)، وكل ثقافة مهما كان مصدرها الحضاري لها نواتها المركزية وتاريخيّتها مهما شطّت نزعة التمركز الأوروبي، فكيف ستكون مقاربة هذا الوضع لبلدان الأغلبيّة الواقعة تحت هيمنة مراكز الحضارة والإنتاج الصناعي والثقافي، حيث إن معظمها تسيطر عليه أنظمةٌ ترتاب وتمنع التعدديّة والرأي الآخر الذي يحاول قول الإصلاح والوعي المختلف لمقاومة تلك الأوبئة وإفرازاتها التي تقصفُ عُمر الكائن وروحَه منذ الطفولةِ وحتى استوائه كائنًا مشوهًا مُعاق الوعي والتفكير والسلوك، إلا القليل النّاجي من هذه المذبحة الجماعية النّاعمة.
فهذه المجتمعات تستقبل وتستهلكُ ما ينتجه (الآخر) المهيمن الذي مهما كانت أعطاب تقدّمه وتسليعه غائرة عميقة حسب مفكريه، يظل محميًّا إلى حدٍّ كبير بالديموقراطية والمؤسسات المدنيّة والتعددية.
وهذه ليست كلمات أو مصطلحات شكليّة هناك أو ترفًا مجتمعيًا ونخبويًا ثرثارًا كما يذهب البعض؛ بل هي في صميم المسار الحضاري ودورته الدمويّة التي تتجدد كلما بدت عليها علامات الوهن والتّداعي والاختناق، وهي كثيرة، حيث إنها محميةٌ (تلك الدعائم والتحصينات) عبر العقد الاجتماعي والدستوري والقانون، وحين يجري اعتداء على أركانها سيبدأ الانهيار الحتميّ.
يكفي أن نلقي نظرة سريعة في الشاشة أمامنا الآن على فرنسا وإنجلترا مثالًا لا حصرًا ، والحراك الاجتماعي والجماهيري العارم الذي يشل مجمل الحياة تقريبًا ويعطّل آلة الإنتاج والصناعة من أجل عدم المساس من قبل رأسمالي (نيوليبرالية) للحقوق الاجتماعية والاقتصادية المكتسبة عبر تاريخ طويل، ومن أجل تحسين شروط الحياة ومستقبل الأجيال.
وكونُ ذلك الإنتاج التكنولوجي يأتي في سياقِ مجتمعيٍّ فيه شيءٌ من السويّة والانضباط الذي تمليه التنشئةُ والمدرسةُ والجامعة وسائر أركان الاجتماع أفرادًا فاعلين ومؤسسات تحاول تصحيح خلل التطوّر المسعور والتقدم على حساب الإنسان وجوهر وجودهِ وحياتهِ.
كلُّ شروط هذا المناخ الاجتماعي، تنعدم بشكل شبه كلي ما عدا الشّكليات والشعارات الخطابيّة الزاعقة، في مجتمعات الاستهلاك والاستقبال بمعناه السلبيّ الناسخ والمقلد بشكل قرديٍّ أو ببغاويٍّ في ألطف أحواله. على هذا النحو المظلم كما يرى الراؤون (المتشائمون) لن يكون في تلك (الأرض اليباب) التي دمّرت بعضها الحروب الأهلية وغير الأهلية ودمرها الاستعباد سلفًا، لن يكون إلا كائنات منفيّة أو مشوّهة تمضي في مركبٍ واحدٍ من الشّعارات البرّاقة والدعاوى التبشيريّة لفردوس المستقبل الدنيوي والأخروي المشرق أيَّما إشراقٍ ورفاه.

في سردٍ لتجربةِ سنان أنطون عبر حوارٍ مع الروائية هدى حمد، ما يثير الانتباه والذهول، كأستاذ في إحدى الجامعات الأمريكية ومترجم وروائي، حيث إنه أثار نقاطًا كنا نظنّ عكسها أو على الأقل ليست بهذه الحِدّة.
سنان الذي التقيته منذ أكثر من عقدين من الزمن ربما أول مرة، وكان ذلك بمطعم في منطقة (جاردن سيتي) في القاهرة، بمعيّة شعراء أبرزهم محمود درويش الذي مرّ على اسمه في مداخلته الماثلة.
وكان اللقاء بدعوة عشاء من الأكاديمية العراقية في الجامعة الأمريكية (فريال غزول) ببهائها المُشعّ، وكانت أيضا تُشرف على مجلة (ألف) العميقة دراسة وبحثًا. منذ ذلك العام كم حلّت بالعراق من النوازل الكارثية (لم يمضِ عام والعراق ليس فيه جوع) كما عبّر السياب، الجوع والغزو والإبادة. في جانب تجربة ترجمته للشعر العربي بأمريكا، العراقي خاصةً، ما أذهلني أنه لم يجد كتابًا واحدًا مترجمًا إلى اللغة الإنجليزية في أمريكا كلها من بدر شاكر السياب وحتى سركون بولص، العراقي العربي الأمريكي عبر معيشه الطويل واحتكاكه مع الثقافة الأمريكية بكل أطيافها وتجلّياتها الفنية خاصةً جيل (البيت) وموجة الشعر الأمريكي الجديد، الذي تعتبر تجربته (سركون) جزءا أقرب إلى هذا الجيل واستلهامه في عالم اللغة الإنجليزية منه إلى المعروفين والمؤثرّين أكثر على الصعيد العربي مثل (عزرا باوند) و(إليوت) ، حتى فاضل العزاوي والقائمة تطول.
كنت وآخرون نعتقد أن هناك وفرة ترجماتٍ ودراساتٍ حول أولئك الرواد بأجيالهم وأنماطهم التعبيرية المختلفة.
لكن ذلك الشعر كما بقية إنجازات الثقافة العربيّة في عصورها وأسمائها ورموزها تعاني هذا الإقصاء وهذا التهميش ولا تقع اللائمة على (الآخر) الذي يتعمّد الإقصاء والحذف حتى التآمر وفق نبرة الخطاب الجاهز. وكانت هذه مسألة مطروحة للسِجال والنقاش بداهةً، ليست بعيدة تمامًا عن الصحّة لكن تقع المسؤولية الأساس على النخب العربيةِ دولًا ومؤسسات بالدرجة الأولى، ومثقفين باحثين ومترجمين.
يتبدّى منذ زمن أن ليس هناك من تخطيط منهجيٍّ مدروس ومُشتَغل عليه من قبل أي نظام عربيّ في هذا الاتجاه البالغ الحيوية والحساسية والخطورة، أي مخطط عربي قومي شاملٍ من الخليج إلى المحيط أو حتى قُطري على نحو من جديةٍ واستيعاب. ومثل هذا المنحى الوحدوي موجودٌ في مناحٍ أخرى، ليس الثقافة والمعرفة التي هي الهمّ الأخير في هذا الفضاء العربي الموّار بالعنف واللَغو وبإهدار المال العام في غير مكانه وزمانهِ الفاعلين حضاريًا، علميًّا وثقافيًّا، مثل ما عملت وتعمل دولٌ ونخبٌ في أمم أخرى والأمثلة باديةٌ للذاكرة والعيان.
تبقى المحاولات الفردية المبدعة مثل مشروع (بروتا) الذي كانت تشرف عليه سلمى الخضراء الجيوسي، ومجلات وأفراد ودور نشرٍ هنا وهناك في مساعيهم النبيلة الطموحة في تلك القارة وبلدان وحواضر أخرى على مسافةِ العالم.

محمود عبدالغني القادم من المغرب (شاعرًا وأكاديميًّا) فتح في ورقته أفقًا معرفيًّا، أسئلةً وإشكالياتٍ تراكمتْ عبر القرونِ على تناقضِ الرؤى والسجالات بدوافع المعرفة ونقيضها.
ونقيض المعرفة هنا هو التنميطُ المسبَق والرؤية التي تُعلّب الآخر وتقصيهِ إلى زوايا ضيّقة ومعزولة خارج الأفقِ الإنسانيّ الشامل للمعرفةِ وتاريخها وسياقها المعقّد.
من تلك التنميطات اللامعرفيّة إقصاءُ العربيّ خارج (الأنا) الإبداعيّ، خارج الفردية والإحساس بالذات، كونه ليس إلا صدى باهتًا لصوت الجماعة والقبيلة.
يذهب على سبيل المثال عبدالرحمن بدوي، مع آخرين عرب وغير عرب إلى هذا المنحى كون الجنس السّامي أو العربيّ خاصة إحساسه بذاته إحساس ضعيف!!!
كلُّ شواهد التاريخ وبراهينه، بأسمائهِ ونصوصه وإنجازاته تقول عكس ذلك.
مع تجاوزنا مؤقتًا للدخولِ في فضاء علم النفس خاصة لدى (يونج) وتحليله العميق للاشعور الجماعي والفردي.
منذ بدايات كتابة (السيرة والتراجم) التي توسّعت وتعمّقتْ جيلًا بعد آخر، وحتّى الشعر؛ الذي هو المؤشر الأكبر على وعي الجماعات العربيّة وسياقات ثقافتها. هذا الشعر منذ ما سُمّي بالعصر (الجاهلي) كان إحساس الشاعر الفرد بذاتهِ تمايزًا وتجاربَ مريرةً أو سعيدةً وهي تغامرُ في ليل الوجودِ والصحراء والحروب، مما لا يتناقض على الأغلبِ مع الانتماء إلى الجماعة أو القبيلة وإنما ينسجم ويتناغم مع ذلك الانتماء.
وهناك طائفة من الشعراء (الصعاليك مثلا) قطعت مع الجماعة وكانت لها سِمات فرادة جمالية وحياتية.
هذه المسألة المتشعّبة التي لا بد أن تتوسّل استقصاءً واسعًا وعميقًا عبر عصور مختلفة لا تسعها عُجالاتٌ، لكن حسبها أن تفتح قوس الأسئلة المأزقيّة على الرؤية الجاهزة والتعليب السّهل الذي ما زال يمارس راهنًا تحت أقنعة حداثات زائفة.
ويشير عبدالغني في سياق بحثه إلى مُنصفين من المستشرقين مثل (كارل بروكلمان) الذي يقول في هذا الصدد (كان العرب في الجاهلية يفخرون بذكر مآثر أسلافهم وأيامهم وأنسابهم وكان سمرهم يجري على رواية أيامهم. ولو كانت الكتابة منتشرة كأداة في ذلك العصر الجاهلي لوصلتنا سرود ذلك الإنسان عن ذاتهِ، والدليل على ذلك أن الشاعر الجاهلي يكثر الحديث عن نفسهِ حدّ الإطنابِ، وقد وصلنا الشعر دون النثر لأنّه أسهل للحفظ والتداول من النثر).
هذه الانتباهة العميقة من قبل (بروكلمان) إلى ما كان عليه النثر من أهمية وازدهار متقاطع مع الشعرِ ولو ضعف تداوله بين الجماعات عبر الزمان لتلك الأسباب، وقد يفوق ذلك النثر الشعرَ إبداعًا وتوهّجًا في بعض الفترات.
ما طرحه وأشار إليه الصديق محمود عبدالغني، الذي كنّا مطلع الأيام الخوالي أو مطلع الشباب نتسامر مع ثُلة من الأصدقاء الفريدين في ليل الرباط وأماكنه الحميمة، ما طرحهُ بحاجة إلى بحث ونقاشٍ تتوسّع رقعته ومداه إلى الكثير من تلك الأطروحات والمفاهيم إن صحّت العبارة، التي حُشر فيها التراث العربي والهوية العربيّة المستَهدفة راهنًا في صميم ذاكرتها ووجودها على جارِي عبارة لميلان كونديرا في إحدى رواياته.. إذا أردت أن تحطم شعبًا أو أُمّةً فلتبدأ بتدمير الذاكرة.
وهذا ما هو قائمٌ على قدمٍ وساقٍ وعدّةٍ مدجّجة باللغة البرّاقة والرؤى المبطّنة بالكراهية والضغينة تحت ثوبٍ قشيبٍ ودعاوى تُغري بنقيضها. الأمثلة كثيرة لمن يُمعن النظر قليلًا في المشهد العربيّ الرّاهن في أبعاده وصُعُدِهِ كافة.
في ضوء هذا لم يكن عبدالرحمن بدوي إلا مفكّرًا باحثًا يخطئ ويصيب كأي باحث كبير، أما من أشرتُ إليهم، وعن تصميم قصد وبنية من ميراث متراكم للكراهية واجتهادات التّدمير تحت أقنعة المعرفة والتاريخ والثقافة.

في ذكرى د.المقالح
في هذه الفترة البالغة الحِلكة والفداحة من تاريخ اليمن والبالغة الانحدار بمعناه الحضاري الشامل على الصعيد العربي، يرحل الأستاذ الكبير عبدالعزيز المقالح المناضل الذي لا تلينُ عريكتُه ولا يتراجع حلمُه مهما شطت المسافة والصحراء، منذ مرحلة التحرّر الوطني وحتى التأسيس المعرفي والثقافي بكل تجلياته ومناحيه وعناصره اللازمة لأي نهضةٍ محلومٍ بها في دروبِ التّاريخ الوعرة والمتقلّبة. النهضة التي كانت حلم الدكتور وحلم النّخب والشعب اليمنيّ الذي بذل تضحياتٍ جسامٍ في سبيل الكرامة والحرية، في بناء الدولة الوطنيّة المستقلة الجامعة. سجون واعتقالات، اغتيالات وتصفيات، لكن اليمنيين ظلوا حاملين شعلة الحلم والحرية لأجيال متعاقبة.
يرحل عنّا الضوء الكاشف والأب الشّاعر الأكاديميّ بمعرفته الشمولية التي سخرها جسدا وروحًا في سبيل اليمن ومحيطه العربي المنكوب.
لا أستطيع أن أنسى تلك الجلسات التي جمعتنا في صنعاء بالأصدقاء من كل مكان في ضيافة الدكتور، وذلك الحضور الأبويّ المتواضع والمُتماهي مع الحضور الموجود، حتى الطلبة والتلاميذ، وليس ذلك الأبوي المُتعالي بحكم الموقع والمكانة التي يتبوؤها في كل الأصعدة. وإذا كنّا مع عائلته الكريمة والأصدقاء والشعب اليمني نتشارك هذا الأسى وهذا الانكسار الذي أصابنا برحيل الدكتور عبدالعزيز المقالح، وهو لم يرحل في واقع حال الثقافة والقيم النبيلة والحلم بتجاوز هذه المرحلة الوحشية المظلمة. إن إرثه وسلوكه المضيئين وما تركه من إنجازات تسترشد بها الأجيال الراهنة والقادمة، لهي عزاؤنا جميعا إزاء هذا الرحيل الفاجع.
ناسكُ اليمن استقطب الثقافة العربية برموزها وأكاديمييها وثقافات العالم إلى اليمن، وأحال اليمنَ إلى مركز يفيضُ بالتفاعل الإبداعيّ والحيّوية والنشاط.
واءم بين المحليّة والعربية والعالمية على نحوٍ من الانسجام الذي تُمليه رؤية فاحصةٌ متفانيةٌ عاشقة. أتذكّر في مركز الأبحاث اليمني حين نكون في زيارته بمقر المركز المطرّز بحدائق وأشجار باسقة، يتوافد إليه اليمنيّون من كل الفئات والمناطق والأرجاء، طلبًا للدعم والمساعدة حتى في الأمور التي لا تدخُل في مجال عمله واختصاصِه.
يصحبنا معه جيئة وذهابًا في الحديقة يستمعُ ويسجّل مطالبهم وشكاواهم ولا يركن إلى طاولة مكتب وبيروقراطية عتيدة.
فكان المثقف العضوي المشّاء حيث تنبثقُ الأفكار والرؤى وإمكانيات الحلول. رحم الله الراحل الكبير الذي سيظل حضوره معينَ حلمٍ وأملٍ لا ينضب مع تواتر الأيام والزمان.

شلة مجرمين
شلّة من أعتى المجرمين، أنهكتهم التجارب المريرة والتقدّم في العمر، بداية انهيار الجسد، لجأوا إلى جزيرة نائية على ضفاف بحرٍ من بحار الشّرق الأقصى، يستمتعون بما تبقّى من زمنٍ ينفد بسرعة البرق، مُعاقرين أفخر الأنبذة ومصاحبين صبايا ذلك البلد الفقير.
لكن أحيانًا في انخطاف النّشوة على إيقاع الموج والفراغ يبدأون بشنِّ غاراتٍ على أعشاش الطيور في جذوعِ وغدران الأشجار، ومطاردات وهميّة مع أسماك القرش الصاخبة في عرينها البحري.
وعلى الشاطئ يشتبكون مع مجرمين يستحضرهم الخيال الجامحُ فيما يُشبه تحضير الأرواح في حفلاتِ الزار، ثم يجلسون متعَبين على الضفافِ، محدّقين في الأضواء الخلابة للمدينة القريبة.
#سيف_الرحبى

الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر T11موضوع: أُسرّح النظر برهافة الغياب قصيدة سيف الرحبى
hassanbalam

المساهمات: 0
مشاهدة: 301

ابحث في: مرتفعات أو سوناتا الكلام   الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر Untitl13موضوع: أُسرّح النظر برهافة الغياب قصيدة سيف الرحبى    الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر Icon_minitime2022-01-26, 8:59 pm
#سيف_الرحبى

أُسرّح النظر برهافة الغياب
فأرى الأربعين
تلهث من غار الى غار
ومن مدينة الى أخرى
وعْلاً فاجأه هياج القنّاص
جنديا نسي عدته في المعركة
باحثا عن سراب استراحة
فأسا ينفصل عن رأس عاشقه
بعد سنين من العناق
مسافرا في ليل نواياه.
*****
أطلق سراح النظر الى آخره
فأرى القوم على المواقد
يرتبون الأيام والشعاب
صامتين ثكالى
يخبط الموج أقدامهم
أمام شمس نازفة في العيون.

أيتها القادمة من فجاج الرأس
ومدافن القتلى
في فمك غصن الانتقام
في يدك أيقونة السكينة
امنحيهم بعض حنانك
قطرةً من بحر الشفقة.

هؤلاء أبناؤك
قادمون من أرصفة الطوفان
من أزمنة البغضاء والعشائر
عشّاقك منذ القدم
جارت عليهم صروف الدهر
وطائر الشؤم
أفقس بيوضه في السلالة.

في أي جهة ستمضي هذا المساء؟
وبأي الآلاء ستقسم على عمر هارب؟
مدن تتقاطر في النوم
تقطعها قطاراتٌ
تحسب صفيرها
نواح ذئاب.

مدن تتقافز من صباحات مُحاصرة
تحمل متسكعين وغرقى
تحمل مقاهي
ربما جلس فيها ذات يوم
عشاق ومقاتلون
في حروب عبثيّة.

البارحة زاروك في النوم
افترسوا المسافة كاملة
بين السور العظيم وصحراء الجزيرة
قالوا إنك غبت طويلا
تحدثوا عن خوفهم من الرمال والجبال
أخذوا يشربون ويضحكون بهستيريا
حتى انفجر الصباح على رأسك
واستيقظت على خوار المكيّفات.

هكذا دأبهم
يأتون من كل جهات الأرض
ملاّحو أفلاك وانهيارات
يقتحمن هدوئي كل يوم
كما يقتحم الرعاة من البلدات المجاورة
طالبين تواقيع على أراضٍ
غير موجودة في الخارطة
أسقيهم قهوة وتمراً
فيرحلون
آخذين معهم هدوئي
وبقايا صباح ما زلت أحلم بقدومه
ربما يحمل لي أخباراً
من ربوع المغرب
من بغداد والقاهرة
من بيروت
صباح أحلم فيه بكتابة قصيدة
(لا تنسف العالم لكنها تزيح قليلا
صخرة الحنين)
قصيدة تأكل نفسها بمرايا جبال غسقية
البحر الذي حاول تعميدها
فاستنفرت أثر الوحش في الصحراء
وفتكت بأسحارها الظنون
حتى تاهت في طريقها الى بيت السبايا
لأنها سكنت بيت الأشباح
عارية كالصرخة يقذفها الملاك أو الشيطان
أمام الله والخلائق
مسحورة بسفرها الليلي
بين بحيرات الشمع
والمياه المتدفقة من فم الخلجان.
الراديو أمامي يغصّ بموسيقاه: FM
كما يغصّ حقل بمائه
في كل صباح
في اليباب المحيط
أصحو
مفرقا أفواج الجراد
لقد طالت إقامته هذا العام
كأنما سيرث الأرض والزمان
انظري إليه يا إيفا
الى عينيه الحزينتين كوريث محتَمل
تدوران في محجريهما طلقةً غاضبة
الى عزلته حتى وهو في السرب
انظري إليه يا إيفا
كيف يحلق فوق سقف المدينة
-التي هجرتها الأيائل والآلهة
مدينة الصبر والطاعة
مدينة الندم،
منجم الكراهية-
محمولا على بساط أصفرَ
من قيء البراكين
وزَبَد الجوائح.

أصفر هو الجراد
صفراء هي الأبقار تجفل فوق السهل
انظري الى الأعراب الجدد
يتطاولون في البنيان
ويتفيأون ظلال الثكنات
انظري يا إيفا
الى القرن العشرين
الى المياه السوداء
تطفو على أديمها الأرواح والجثث
انظري
الى الذريّة المباركة
في كهوفها وناطحات سحابها
انظري
الى الخطيئة الأصليّة.
الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر T11موضوع: البشريّة ثكلى في المنازل والكهوف نص جديد لسيف الرحبى
hassanbalam

المساهمات: 1
مشاهدة: 385

ابحث في: مرتفعات أو سوناتا الكلام   الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر Untitl13موضوع: البشريّة ثكلى في المنازل والكهوف نص جديد لسيف الرحبى    الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر Icon_minitime2021-08-24, 10:24 pm
@hassanbalam
#سيف_الرحبى
صحبة وجوه وأطياف* حين أقفرت مدن الحضارة واحتلتها الأشباح والحيوانات


صحوت من نوم مليءٍ بالهلوساتِ والأحلام في تضاريس ليله المتعّرج. لا أسمع إلا أصوات الغربان الآسيويّة المجلوبة من الشّرق الأقصى تتقافز على الشجرة ونوافذ المنزل، حيث تكرك على بيضها في الفتحات طلباً للبرودة التي تجودُ بها مكيّفات الهواء.
تلاشت أصواتُ العصافير والعنادلِ الصغيرة الصدّاحة بألوانها الزاهية. قمتُ متعثّرًا كأنّما من نوم طويل، لأعوام متعاقبة. فتحتُ النافذة فتدفّق ضوء النهار القويّ غامرًا غرفة المكتبة حتى الصالات الداخلية، ومخزن الحقائب والحاجيّات.



عرفت أنني تجاوزت وقت صحيان الفجر الأوّل بأصواته الحيّية الضاجّة بتغريدٍ وفرح. الساعة الثامنة، قمتُ أغسل وجهي إذ لا ملحق نوم ساعتين للإشباع والتوازن حتى ينقضي النهار المنزلي ويدلف آخر.
في غمْرة هذه الليالي (البيتوتيّة) تتركّز الأحلام الليليّة أكثر: رأيتُني صحبة وجوه من أزمنة وأماكن مختلفة يتوافدون بكرم في حياة الأحلام الصاخبة المُشتعلة، في مدن العالم المختلفة. وجوه ومدن ما إن تظهر وتنجلي ملامحها حتى تميع وتذوب كالشمع في تضاريس الهذيانات والأحلام، في فضاء الشوارع المفعمة بالمارّة والصخب، المطرّزة بالمطاعم والمقاهي والمحلات، وجوهٌ ومدنٌ سكنت الذّاكرة منذ مطالع هذه الحياة التي كلّما تراكم عليها الزمن والأحداث والنكبات، ازدادت بريقاً وجاذبيّة، وازداد أصحابُها تشبثًا بما تبقّى من إغراءاتها وجمالها؛ كأنّما هذا البريق والجمال العابر الفاني حتماً، في لحظات بعينها، يتنازعُ الوهمَ والمكانة مع أطروحات وهم الرسوخ والخلود.



الأخبار تتدفّق كالسيل العَرِم، عن انتشار وباء (كورونا)، ويلفّ العالمَ بحمُولاته الجهنميّة السوداء بأبعاده الواقعية والخرائب.
صوت «الصفرد» وهديلُ يمامٍ يتناهى من التلال القريبة والأودية. أمضي إلى شُرب القهوة والشاي، لعلّي أصحو من ذلك السبات الدهريّ وكوابيس ليلهِ التي لا تنتهي.

إنّ سنوات العمر كلمّا تصرّمت وانقضت، ازداد صاحبُها – خاصّة إذا كانت الصحّة لا تشكو من الكثير- تمسّكًا ورغبة بها ولأوقاتها الجميلة السريعة الزوال.
لذلك يُلاحظ المرءُ أن رغبة الانتحار ونزوعه، تُهيمن في مُقتبل العمر أكثر من متقدّمه. تلك الرغبة التي تحتدم وتلحّ، يغذيها شعورٌ طوباويٌّ بعدم كفاية الواقع وقسوته التي لا تحتمل مثل تفاهته وانحطاطه، فتجمع الحياة وينفجرُ الحنين إلى المناطق الوعرة للقصيّ والمُستحيل، مصحوبًا بهواجس العجز عن تحقيق ذي قيمة وعلوّ، وفق شطح الحالم، وسط هذه المناخات المدلهمّة المسيطرة على تفاصيل الحياة ونوافذها المُغلقة من قبل قوى الانحطاط والخراب.



مع تصرّم سنوات العمر و«نضجه» ربما يقل هذا الشعور ويتقلّص لصالح التكيّف ما أمكن، في استثمار الجانب الجمالي الإنساني الذي تتيحه، ولو من غير سخاء، مساربُ هذه الحياة وتقلباتُ المسار.
لذلك يمكن الملاحظة بسهولة، أن أولئك المنتحرين في تاريخ الأدب خاصة، من الفئة العمريّة المبكرة، حيث العَدم في اندفاعه الفتيّ الطازج، يسدّ الآفاقَ الخصبَة والنوافذ والأبواب.

البارحة، عبر الهاتف قال لي صديق قديم، ضمن سياق الكلام: لا أعتقد أنّك تأثرت من العزل الصحيّ؛ فحياتك السابقة في مسقط، لا تختلف كثيرًا. أجبتُه أن الاستثناء الأهمّ بالنسبة لي هو السفر، متجهًا إلى المطار أو قادمًا منه، وقتما أشاء، والذهاب اليومي إلى حديقة الفندق المتاخمة للفضاء البحريّ بسواحله الطويلة الشّاسِعة، وهذا المناخُ الكابوسيّ الذي يلفّ العالم من أقصاه إلى أقصاه.
اختتمنا المكالمة كبقيّة المكالمات من الداخل العُماني (شدة وتزول)، أو الخارج حيث ينتشر الأصدقاء والمعارف، في معظم أنحاء هذا الكون المترامي بتناقضاته وحروبه المختلفة، الذي وحّده الوباء المستجدّ، أيّما توحيدٍ لم تستطعه حروبٌ عالميّة سابِقة. هذه الولائم والموائد المُحتشدة بالهواجِس، والهَلعِ وترقّب المجهول القاسِي، التي لا تبخلُ وسائل الميديا بسطوتها المطلقة على هذه البشرية الحائرة المتخبطة بين أسنان آلتها الطاحنة، حتى لتكاد لا تميّز بين الواقع والخرافة، بين الرعب الحقيقيّ النّاتج عن الحدث الثقيل الوطأة، وبين أعاصير فيلم خيال علمي ستنتهي (هوليوود) من عرضه بعد انتهاء الفترة المحدّدة.
هل هذا الحدث الوبائيّ غير المسبوق يشكّل بداية زمنية وقيميّة جديدة؟! بطبيعة الحال ستختلف المقاربات من شخص إلى آخر، ومن تجربة إلى أخرى. كتب مفكّر سوريٌّ أنّ هذا الحدث بما يعنيه من خوفٍ وحيرَةٍ وقلق، يقضّ المضاجع وينتزعُ الطمأنينة، ليس بالنسبة له إلا استمرارًا لعذاباتِ سجونِ بلاده التي قَضَى فيها ستة عشر عامًا، وحروب الإبادة الجماعية والتّصفية والتّدمير، فهو وأبناء تجربته الأليمة في كل مكان وزمان (العربيّ الرّاهن في هذه الحالة) ينظرون كما يشعرون بحلقات الألم والمنفى والعزلة القسريّة، متواصلة ومتداخلة بشكل وجودي وعضويّ، فليست محنة الوباء، إلا حلقة في هذا المسار الممضّ الطويل.
وكان المتصوفة قد وصفوا الكون بالإنسان الكبير، ضمن تداخُل مركز الوجود ودوائره، راهنًا يتداعى له بقيّة الجسد بالسّهر والحُمّى، وفقَ حديثٍ شريف، تحت قصف الفيروسِ المستجدّ، وهو نفسه (الكون- الجسد أو الإنسان) لم يتداعى حين حلّت الكارثة على جزءٍ منه في بلد أو قارةٍ ما، بحكم الحروب، والقمع الوحشيِّ والمجازر، إلا كعناوين أخبار روتينية تمرّ مثلها مثل أخبار عروض الأزياء ومنافسات كرة القدم ومستحضرات التجميل. وهو ما يُفصح عن علّة بنيويّة عميقة في هذا الجسد، المُتخم أيضاً بالأنانيّة الوحشيّة وغض الطرف عن الآلام الرهيبة التي تنزل نوازلها بالآخرين في «الأسرة البشرية» النازعة إلى الهيْمنة والاستحواذ والتفوّق بأشكالهِ السيّئة دائمًا.
والنظريّة الفيزيائية القديمة في ترابط أجزاء الكون وخلاياه طبيعة وبشراً، القائلة بأن الفراشة حين تهزّ جناحيها في الصين، تخلق الأعاصير والعواصف في أنحاء العالم الأخرى، ربما تمثيلاً على القصيّ والشديد البُعد في الخيال البشريّ على طريقة الحديث النبوي الشريف «اطلبوا العلم ولو في الصين» من جهة ورود اسم الصين، وليست غيرها من جهات الكوكب الأرضي الذي صدَّرت إليه (الصين) كل هذا الزّخم الوبائيّ الجاثم. في هذا السياق أيضا «إن أي تغيير في نظام المدخلات يؤدي حتما إلى تأثير كبير». ومثلوا أيضا برفرفة الفراشة في البرازيل التي تؤدي إلى زلزالٍ في تكساس. وحسب الفيلسوف الألماني «فيخته» لا يمكنك إزالة حبة رملٍ من مكانها دون تغيير شيء في جميع أجزاء الكل.

أيام متشابهة رتيبة تتناسل في هذه الأضرحة والكهوف «الحديثة» التي تُسمّى بيوتًا ومنازلَ وفيللًا وعمائر. لكنّ التّشابه والرّتابة كانا موجودين قبل الوباء وسيظلان بعده؛ خاصّة في بُلدان الأقاصي والأطراف حيث محدوديّة الحياة والأنشطة البشرية الجارفة. لكن حتى في هذه المتفوّقة بشكلٍ لا يستدعي المقارنة، بأنشطتها وحيويّاتها الخلّاقة المتموّجة السريعة الجريان والحركة، لا بد للفرد والجماعة، من صنع نمطٍ روتينيّ تمضي على هدْيهِ لإنجاز أعمالها ومتابعتها اليومية في المدن والأرياف المختلفة؛ وإلا ستعمّ الفوضى واللانظام الذي انبنت عليه أركان الحضارات والعمران البشريّ بكامله. وهناك المخاوف إيّاها، لكن بشكل طبيعي هادئ، مخاوف الموت والمرض والمجهول الذي رغم تسْطِيره في لوائح وقوانين وأرقام يعرفها الجميع، يظلّ في جزء من أعماق الكائن ملّبدًا بالريْبة والغموض.
لكن بداهةً يظلّ الفرقُ الجوهريُّ بين هواجس ومخاوف جريان الحياة العاديّة وسيرورتها الاعتيادية، وبين شروط هذه الحياة الاستثنائية التي تنزل فيها الأحداث القدريّة من حروب وأوبئة، كالصواعق السامّة في أرجاء المعمورة تجوس فيها أشباح الخراب، على رغم هذه الذرى من التكنولوجيا والتطور العلمي وقوة العمران والحضارة من صنع أيدي البشر وعقولهم التي تصنع قيم العمران والتّرياق والنعمة متواكبةً مع الجراثيم والسّموم والخراب، تقف حائرة مرتبكة، عاجزة ولو لفترة تطول أو تقصر أمام هذا الزّحف الأسود.
أن يرى الواحد منّا على سطوع الشاشات المُختلفة مدن الحضارة العظمى، خاصّة على ضفتي الأطلسي من نيويورك حتى برلين ولندن وباريس وروما… إلخ خاوية على عروشها، تجوسها أشباح الخطر والموت بسب هذا الوباء الذي ليس له من دواء حتى اللحظة، والتضخيم والتهويل الإعلامي أكثر من الوقائع على الأرض. هذه اللحظة من انفجار المخاوف واحتمالات الخطر الكاسح الذي لا يُبقي ولا يذرُ دفعة واحدة كأنّما هو ملخص لانفجار المخاوف البشريّة في عصورها المختلفة، منذ حياة الكهوف حتى هذه البرهة التي كأنّما تدشّن لمشهد قياميّ قادم.
أن نقرأ لكتّاب وفنانين وفلاسفة، يقطنون تلك المدن الكبيرة، بتلك النّبرة اليَائسة الحزينة، التي لم نعرفْهَا لدى أسلافهم حتى في عزّ ذروة تلك الحروب، التي كانت تجندل عشرات ملايين الجثث، في كل الأنحاء والبلدان حيثُ الأنهار تمضي بغزارة الدماء المتدّفقة من الضحايا والمقتولين والجرحى، إنّ ذلك لأمر جللٌ وبرهةٌ تنوء بأثقال احتمالاتِها الجبالُ والمدن والوهَاد.

تدفّقْ بصوتك يا عصفور الصباح
الصادح بالأمل والذكريات
البشريّة ثكلى في المنازل والكهوف
وأنت بسُلالتك البعيدة
تلثم الفضاء المغبرّ بطلائع الصيف الحارق
يا من اختارتك المشيئة والقدر
لتكون الكونيّ رسولَ
الحُبّ والشفاء، على نقيض أوبئة الطّبيعة والبشر الكاسرة
لتكون مع أعراق طيور الصحراء،
وتلك الغربان المكلومة بظلم الأحقاب كنذير شؤم وخراب
وهي الرائية في ليل البشر الأعمى.
بارككِ الخالق يا أشجار الحلم
الميموزا والسّدر والغاف والإثل
المُنتشية، على رغم جبروت القائلة،
بالهُبوب القادم من المحيط
يا طُيورًا تستوطن ضفاف الأودية والنوافذ والأسلاك،
لتكوني ذخرًا في أزمنة الوباء والجفاف.
أيّتها الأرواح المكتفية بذاتها، لا
تُريدين شكرًا ولا امتنانًا من أحد،
لأنّ المشيئة صنعتك على شكل الرحمة المجردة والغفران.

الأحداث العنيفةُ البالغة الشراسة والعدوانيّة مثل حروب البشر والطبيعة، البراكين والزلازل والأعاصير والأوبئة، مثل هذا الوافد الإمبراطوري المستبد بغموض رُعبه، أكثر من وضوحه الذي تحيط به الحقائق العلميّة التي قطع في إنجازها ومكاسبها البشر وتخيّلهم عبر تاريخهم السحيق. والمسافة الأسطوريّة من العلم والمعرفة الرياضية والرقميّة، التي قطعتها وأنجزتها الحضارة المعاصرة، تقف شبه عاجزةٍ مرتبكةٍ أمام هذا الإمبراطور التّدميري الجاثم. الرعبُ الحقيقيّ الذي يمزّق النفوس والمشاعرَ ويقلق الحياة قاذفًا بها إلى هاوياته التي بلا سقف ولا قرار، وإنما يخوض حربَه عبر سراديب الغموض، الألم الممضّ والموت، حتى تتضح ملامح القاتل ويتم القبض عليه وإعدامه، أو كمونه، ليظهر في مرحلة زمنيّة أخرى بأشكال أخرى. الفيروسات في رحلة الحرب هذه أكثر مكرًا وفتكًا من البشر على رغم الإنجازات العلميّة العظيمة وبحثها ومختبراتها، آناء الليل والنهار البشريّين. باستمرار تلقائي تطوّر آليات كينوناتها ودفاعاتها، ضد هجوم البشر، ومصدّاتهم الترياقيّة وذكائهم الاصطناعي. إنه الفصل الجديد في مسار حروب التاريخ الأكثر غموضًا وتعقيدًا وإبادة، حروب الفيروسات والجراثيم التي من صنع الطبيعة الخالقة ومن صنع البشر وذكائهم التّدميري، الذي تجاوز متطلّبات الحياة والقيم والحدود.
هذا النوعُ من الأحداث البالغة العنفِ والغموض في التاريخ والحياة بانعطافاتها الحادّة، ماذا يستطيع التّعبير الأدبي والفنيّ إزاءَها، أيّ طرقٍ وأساليبَ وأشكالٍ تستطيعُ مقاربة الحدث وحتى مُلامسة هوامّه وحضوراته الجارفة؟
إنها الحيْرة، أشباح الموت التي تؤثث مُدن الحضارة الكبرى، بديلًا عن شعوبها المنكفئة خلف النوافذ والأبواب المُوصدة.
إنه سؤال الوجود والعَدم، الحياة والفناء في رحلة العبور البشري على سطح هذه الأرض التي بدأ يستبدّ بها الهرمُ ونداءُ الأسلاف المتواري خلف الأجداث والمجازر والسنين.
حضور العلوم الرياضيّة التجريبية، الرقمية الصّارمة، مع غياب الملاذات الروحيّة والقيمِ العادلة الصادقة على بساطتها العميقة تشكّلُ السلوانَ والعزاء.
لم تستطع التكنولوجيا الرقميّة وغير الرقميّة بسطوتها على البشر الذين أحالتهم إلى قطعان مُذعنة، أن تحلّ محلّ الإله والروح الأعلى.
ها هو الزحف الأسود (الجائحة) جرف الجميع، العلماء والمتحضرين، قبل المتخلفين والجهلة، بمعايير الحداثة السائدة، إلى عرين الحيْرة والخوف، كما في العصور البدائية للكائن، والهروب والارتباك.

«البشر هم المخلوقات الوحيدة التي تدّعي أن لها إلهًا، وتتصرف كأنما ليس هناك إله».. ربما المخلوقات الأخرى تحسّ في أعماق كينونتها (من غير دليلٍ علميِّ ولا غير علمي) بالخالق أو الإله. وتضبط حركتها وسلوكها في الأطوار المختلفة على هذا الإحساس العميق الغور، وغير القابلِ للشّرح المنطقي كما لدى البشر العليّين في سلّم الخلق والمخلوقات.
ولجوء هؤلاء البشر العقلاء، إلى ربهم وخالقهم، في أوقات الشدائد والكوارث بكل أنواعها، ألا يفسّر سلوكاً انتهازياً، يسببه العجز؟ وحين يعودون إلى سوّية الحياة والقوة الواهِمَة التي يستشعرها أو يستبشر بها بعضهم يتصرّفون ويسلكون وكأنما ليس هناك من حدّ قيميّ، وإله؟!

في غمار الحضور الأسطوريّ لهذا الوحش أو ظلاله في أعماق «طيبة» العالم وعلى مداخل الأبواب والنوافذ، كأنّما هو الخلاصة المنتظرة المركّزة الشديدة التكثيف وبذخ الحضور، رغم تواريه خلف الأدغال والأكمات، بدأ الحديث في مكان ما، وعلى مستويات الفنّ والإعلام والسياسة، بافتراض، ماذا لو كان «الخوف»، الخوف وحده، هو البطل الأسطوريّ لهذه الحلبة الكونيّة المضرّجة بالهلع والدماء؟ ستسيل الأجوبة الافتراضيّة والواقعيّة عبر شبكات التواصل والعزلة، سيلانًا يليق بالحدث النوعي غير المسبوق. لكن ما الذي سيتغيّر في سياق النتائج؟ سواء بالنسبة للمخططين اللامرئيّين مثل الوباء نفسه، أو المرئيّين، أو أنّ القدر الضّاري هو المخطّط الاستراتيجي الأوّل، وذلك النّفر من البشر الأقوياء يستثمرون إنجاز القدر الوحشيّ لوجهة مصالحهم وأطماعهم بنهمٍ لا تنضب له رغبة أو معين. أن يكون «الخوف» وحده السند المُطاع أو ذلك المزيج المركّب من حدثٍ واقعيٍّ صُعُده الفزعُ والذعرُ من المجهول، إلى أسطورة رُعب وموت لا تقهر. مهما كانت الافتراضات والوقائع التي من الصعب الفصلُ بينهما في ظل هذا التشويش والضباب الجاثم والارتباك، ستشق النتائج، جرّاء هذا الحدث، طريقها في تشكيلِ عالم الغد، من غير تفاؤل يتّسم بالسّذاجةِ، حول العبرة والدرس الإنساني والتّسامح والتّضامن الذي أمْلته المحنةُ الكبيرة التي ألمّتَ بالبشريّة جمعاء.
على الأرجح سيتربع أباطرةُ المال والنهب المنظّم لموارد أرض البشر في كل القارّات والبلاد، وسيفتح مصّاصو الدّماء طرقًا جديدة لمصالحهم واستثماراتهم على حساب مُعظم شعوب هذا الكوكب الذي تفترسه الحروبُ من كل نوعٍ ونسل، ويفترسه الظُلم والنكبات.

الثلاثاء 7 أبريل الموافق 17 شعبان المُفضي بداهة إلى شهر رمضان المبارك. الخامسة صباحًا، بزوغ صوت العصفور الأول على الشجرة المباركة التي زرعتها يدُ الفنّانة المُبدعة. كان المؤذن في المسجد القريب، أو الأصوات القادمة من بعيد في المدينة شبه المهجورة، قد أنجز مهمّته. لا أعرف إن كان المؤذنون يذهبون إلى الجوامع والمساجد منفردين، أم أنّ الأذان مُسجلٌ ومُبرمج وفق الصلوات الخمس، كأحد أركان الإسلام المقدّسة؟
أحاول الإصغاءَ إلى صوت العُصفور الذي سيتبعه آخر، وهديل يمامٍ وصخب غربان محليّة، وتلك المجلوبة من الأقاصي الآسيوية، بضجرٍ ورغبةٍ تُقاوم الانطفاء والغروب. وكنتُ البارحة مساء مع ناصر وعزان، نتمشّى وقت الغروب، في فناء المنزل وعلى الجنبات خارجه حين بدا القمر بدرًا مكتملَ الهيئة والجمال. وثمّة في هذا الفضاء المُقفر، عائلةُ إنجليزية، مكوّنة من الزوج والزوجة وطفلهما الأشقر، بصحبة خادمة آسيوية يتنزهون في الجوار. كل يوم يأتون من بيتٍ مجاورٍ ليقضوا وقتًا، في جلب الصخور المختلفة الأشكال والألوان، ليبنوا بها في الأرض الفضاء بيوتًا وحدائق بأشكال هندسيّة مُتقنة. هذه العادة صارت جزءًا من برنامج نزهتهم اليوميّة التي تفضي بهم أحياناً إلى وادي (غلا) القريب. وكان دائما بصحبة العائلة كلبها الذي تبدو عليه القوّة والشّراسة في نظراته، التي تتطاير شرراً إلى الأجسام البشريّة القليلة التي يلتقطها بنظره الحادّ. كانوا قد أرْخوا عن خطْمه القناع، ليس قناعَ الكورونا وإنما قناع الضبط والتأديب، وألجموه صخرة بين فكّيه، موثوقًا بحزامٍ بلاستيكي إلى يدِ صاحبه أو يد العاملة الآسيوية.
حين صحوت في الخامسة صباحًا، رأيت القمرَ البدر المُنهك من فرْط الأسفار والترحّل، على وشك الغروب النهائي، دقائق واختفى.
أتذكر، هنري ميللر، في إحدى رواياته، حين كان يمضي ليلًا على غير وجهة في الشارع الكبير، مفلسًا يائسًا، بالغ السخط والقرف، يلعن الكون والكينونة والبشر والحيوان، حين لاح له من بين أكوام المزابل المبعثرة، ضوء القمر الساطع بنشوة وابتهاج، ولسان حاله يقول: من أنت يا هذا، تلعن العالم، لأنك مفلس في هذه اللحظة، لقد صار لي ملايين السنين وأنا أضيء هذه المخلوقات والأكوان من غير أن أسمع كلمة شكر واحدة ولا امتنان من أحد!

ذكّرني كلب العائلة الإنجليزية بنظراته المرتابة المتوحّشة لأي حركة أو ظلّ شبحٍ يعبُرُ أزقّة الحيّ الذي نسكن، بكلاب الزّمن الماضي التي كانت تملأ فضاء الليل بالعُواء والنُباح، وتملأ النّهار بالقفز والحركة. لم تعُد موجودة حتّى كعيّنة لذلك الوجودِ الباذخ، الذي كان جزءًا من ألعاب طفولتنا الآفلة وصخبها سواء في البندر (مطرح) أو في القرية (سرور) أسوة ببنادر وقرى عُمان قاطبة.
تتصرّم الأيام والأسابيع، وأنا أواصل تجوالًا يوميًّا حول البيت الواقع على تلّة جبليّة، تُطلّ على الشارع السريع، وعلى وادي (غلا) الجافّ إلا نادرًا من المياه، لكن المأهول بتلك الأشجار التي تُغالب حتفها في العراء الحارق، الجحيميّ صيفًا، في العزلة والريح. تُغالب العُزلة والموت والمحْل، وتنتصر للحياة والاستمرار فصلًا زمنيًّا بعد آخر. لقد أوتيت هذه الأشجار والحيوات، قدرة خارقة على المقاومة والصمود في وجه عواملِ الذّبول والفناء، أكثر بما لا يُقاس من أشجار الغابات المطيرة والطبيعة التي تشملها نعمةُ الطقس الخصيب والنماء. أشجار العُزلة الحجريّة والأخاديد والقنوات التي جفّت أنهارُها منذ قرون بعد أن دارت الطبيعة دورتها الجيولوجيّة الكبرى، فأصبحت الحياة والنماء مهمّة شاقة وكفاحًا ضاريًا، في سبيل البقاء والاستمرار.
لا في السفوحِ ولا في أخاديدِ الأودية، تلمح قطيعَ الكلاب الشريدة، كما في الذاكرة، أو جزء منها يتكون من كلبين أو ثلاثة، لقد انقرضت على ما يبدو وأدركها السّحق والأفول، كما أفَلَت الحمير الجميلة، المتنوّعة الألوان والأشكال التي كان نهيقها يسرح في الجهات العُمانية قممًا وسفوحًا، بنبراته المموسقة المترحّلة في خضمّات الفضاء المُترامي الذي يطويها في أعماقه السّحيقة.

في اليوم التّالي بنفس التوقيت، القمر البدر أعلى من منطقة الأفول، يمكن رؤيتُه متمايلًا على إيقاع تمايُل أغصان الشجرة، وضّاحًا، أضواءه التي بدأت في التّعب على غدور الشجرة وأغصانها المُتمايلة بفعل ريح خفيفة من جهة البحر العُماني.
كنتُ أتذكّر ابن أبي ربيعة في قصيدته المُدهشة:
«أمن آل نُعمٍ أنت غادٍ فمبكرُ
غَداةَ غدٍ أم رائحٌ فمهجرُ»
حتى قوله:
«وغاب قميرٌ كنتُ أهوى غيابه
ولوح رعيان ونوم سهَّرُ».
لأنّ القمر ربّما سيفضح تسلّله خِلسة إلى الحبيبة
المُحصّنة، الواقعيّة، أو المُتخيّلة، وفي هذه اللحظة وقبل أن يتيه في خمائل العشق وملذّات الغرام، هجمَ على مقطع غنائيّ لمحمود درويش من قصيدته الملحميّة (أحمر الزعتر):
«قمر على بعلبك، ودم على بيروت
يا حلو من صبّك فرسًا من الياقوت»…إلخ.
هذا المقطع يأتي كصوتٍ يُردّده الكورس في سياق تلك القصيدة التراجيديّة الشاسِعَة التي تقارب ذلك الحدث الوحشيّ ضمن سلاسل الأحداث التي لا تقلّ وحشيّة في الحروب «اللبنانية، الفلسطينية، الإسرائيلية» على أرض البلاد الشاميّة التي استمرّت وتستمرّ بُعنف وبربريّة أكبر، تتناسل فصولًا ونكبات.
بعد الإجهاز على العِراقِ الذي أبدى حيويّة في مقاومةٍ تَليق بتاريخه في الفترة الأخيرة، ضدّ كُلّ الأوبئة والفيروسات التي تُحاول افتراسَ ما تبقّى من النّبض والعَصَب والكَرامة، ها هي بلاد الشام أنهار لاجئين وقتلى ومُعتقلين، في كل البلدان والأرجاء والفضاءات التي أضحت مع تضاعف اللجوء، تنظر بعدوانية إلى هؤلاء اللاجئين الجدد. وربّما مع اشتداد وانعدام الحماية التي افتقدوها في أوطانهم الطاردة، لا يُستقبلون في مدن وبلدان الآخرين إلا كأوبئة وفيروسات تؤرق حياة تلك الشعوب الحضاريّة المستقرّة. إن فيروس كورونا، ليس إلا تفصيلًا من تفاصيل المرض والموت والدمار، لهؤلاء النازحين من آلة القتل والخراب، تفصيلًا ضمن تفاصيل لا تُحصى من جوائح الكوارث والأمراض. كأنّما الأقدار المأساوية دومًا، تُلقي بمراسيها في هذه البلدان المُفعَمة بالنكبات، فيروس كورونا، لينضمّ إلى الفيروسات المستوطنة والمتناسلة منذ أزمان، التي تفوق، حتى اللحظة الفيروس المستجدّ، فتكاً وموتًا جماعيًّا وخرابًا من كل نوع.

«لا نسمع إلا زقزقة العصافير وصدى وقع خطواتنا على إسفلت الشارع والساحة المهجورة…» كان المُذيع المُراسل يَقِف على صحن ساحة الكونكورد الباريسيّة الشهيرة، أمام حديقة التويلري، عن يمينه فندق كريّون والسفارة الأمريكية، وقصر الإليزيه.. واستطرادًا إلى الأعلى شارع الشانزليزيه حتى قوس النصر. هذه الأماكن والمعالم الثقافيّة، السياسيّة، والسياحيّة، كانت هي الأكثر احتشادًا بالبشر والمركبات من كافة أنحاء العالم، بالحركة والحياة الكرنفاليّة التي لا تهدأ ليلاً، ولا نهاراً على تعاقب الفصول والأيام، «أضحت يبابًا وأضحى أهلها ارتحلوا». لم يرتحلوا إلى البعيد، بل لاذوا من أشباح وحوش الوباء اللامرئية، بالمنازل والجدران والأسيجة، ولا أخال أن (كلوشارية) المترو في أنحاء باريس إلا أنهم اقتُلعوا من باطن الأرض التي تسرح فيها القطارات إلى ملاجئ خاصة. والصور الناطقة مشهدًا ينضح بالهجران والهلع والغياب القسْري القاهر، الذي لم تشهده المدينة حتى في أقسى احتلالاتها وحروبها، تلخص (الصورة) انطفاء حيوية باريس في كل الأنحاء والأحياء والمعالم، كما تلخص صورة المدن الأوروبية، وعلى ضفتي الأطلسي وصولًا إلى نيويورك وسائر المدن الأمريكية. أركان الحضارة البشرية المعاصرة، نبع الحداثة، والإمبريالية. العلم والفنون وسائر الإنجازات العظمى «أخنى عليها الذي أخنى على لُبدِ». هذا الاختبار، ربما هو الأعظم في تاريخ هذه الحضارة الذي لا يأتي خطره المحقّق من دول وأعداء، من بني البشر يتمّ التعامل معهم وفق المعايير المعروفة لمُقتضيات القوّة الساحقة وإنجازات المَعرفة العلميّة المعدّة والمُنجزَة سلفاً، وإنّما على الأرجح من الطبيعة الصّامتة التي ربّما تراكم غضبُها وعنفُها جرّاء الانتهاك والاعتداء السافر على حُرُماتها ومُقدساتها الملفّعَة بالغموض الميتافيزيقي على رغم التقدّم العقليّ والعلميّ، الذي ذهب بعيدًا في فكّ أسرار هذه الطبيعة وترويضها أيّما ترويض واستئناس حتى الإذلال، ها هي تنفجر وتُبيد بتجليّات وأشكال مختلفة. ها هي ما تزال قادرة على التهديد وبثّ الرعب والشتات في كل القارات والأنحاء، وعلى رأسها البلدان والدول الممسكة بمسار التاريخ والتقدّم الأقصى والحداثة. هذه البلدان أكثر من غيرها بحاجة إلى أن ترى بطريقة مختلفة، بحاجة إلى بعض التواضع والتقليل من تعالي الغطرسة والغرور، وإلى شيءٍ من العدالة في النظر إلى «الآخر» الذي تنظر إليه كفيروسات تهدّد وجودها عبر تحليق خطره الوهميّ واحتقاره، تارة عبر فيروس «الإرهاب» الذي جرى تصْنيعُ وهمه إلى مقتضى الإبادة وتشريد الملايين من ديارهم وأوطانهم؛ ومن ثم التعامل معها كميكروبات، لا بدّ أن تنكفئ إلى ملاجئ ومعتزلات، أو عبر مقتضيات المصلحة الأنانية حدَّ التوحّش، في دعم تصنيع دولة هي خلاصة النفايات الرأسمالية في تاريخها الوحشي مثل «الصين» التي لا يعني البشر والإنسان في مفهومها وسلوكها إلا أداةً رخيصةً و«فائض قيمة». ومن على نَمَطها من دولٍ أقلَّ شأنًا وقدرة بالطبع، حظيت من قبل (الغرب وأمريكا) بالدعم العلنيّ أو الضمنيّ، أو بغضّ النظر عن الارتكابات الفظيعة.
ها هو المشهد الكروني الكالِح يتبدّى في أكثر صوره قتامةً وانحطاطًا وألمًا. هل ستفتح هذه المحنة، طريقًا جديدًا للرؤية والسلوك؟!

أتذكر (أناشيد مالدرور) لـ «لوتريامون», ذلك الكتاب الطالِع من لَهَب الأعماق والمناطق القصيّة في النفس البشرية التي تتقاذفها أمواجُ الغضب التدميري والتشظّي المحتدم بالرغبات المؤودة، وذلك الحنين الغامض إلى الشبيه والمُطلق. كتابٌ فريدٌ أبَدعه خيالُ شابٍّ لم يتجاوزِ الثّلاثين من العُمُر الذي اختُطف باكراً، وقد جعله السورياليُّون أحدَ أناجيلهم ومراجعهم في حريّة المخيّلة وجُموحِها اللامحدود، وفي تحطيم الأنماط التعبيريّة المُتداولة والمُتوارثة، باتجاه فضاء حرٍّ وجديدٍ كلَّ الجِدّة؛ فهو يلتقي مع (رامبو) في أكثر من منطقة حياة وكتابة (ينبغي أن نكون مطلقي الحداثة) من غير قيود.
قُدرَ لي أنْ أقرأ هذا الكتاب حين صدور طبعته العربيّة، في بيروت قرأته وأعدت القراءة عدة مرّات بين الشام وبيروت مطلع الثمانينيّات وبين العاصمتين في (السرفيس) جيئةً وذهابًا، فاستحوذ عليّ كإعصار اقتلعني من كل الجذور والصلات الغرائبيّة والثقافيّة السائدة لبرهة من الزمن.
«هكذا إذا بامالدرور، غلبت «الأمل» من الآن فصاعداً سيتغذى اليأس من أصفى جوهر فيك»
«ظنّ الإنسان نفسَه جميلاً في كل العصور. أنا أفترض أن الإنسان لا يُؤمن بجماله الإبداعيّ إلا بدافع الكبرياء؛ لكنّه ليس جميلًا حقًّا وهو يشكّ في هذا الأمر؛ إذ لماذا ينظر إلى شبيهه بكل هذا الاحتقار».
«إنّ عائلة الآدميين الكونيّة الكبرى هي فكرة طوباويّة خليقة بأردأ منطق».
وذلك المشهد الرهيب وسط لجج المحيط الهائجة، حين يحدّق في عينيْ أنثى القرش، ويقول: ها أنا أخيراً أعانق شبيهي الذي بحثت عنه طويلاً.
كتاب هو المحيط المضطرب نفسه لتعدد مصادره ومصبّاته، بهوامّه وغُموضه، بصمته وصُراخ غضبه الجارف.

في هذا العام الذي شرّفنا فيه رمضان، وقد سبقه حرّ الصيف و»الكورونا» بمناخه الذي وحّد البشريّة توحيدًا قسريًّا غير مسبوق في جميع الأزمنة التي تصرمت على ظهر هذا الكوكب المحدودب من فرط كثافة المآسي والشرور والاختلالات بكل أصنافها ومشاربها. في هذا العام يتقلص الاجتماع البشري الذي كان في الماضي العلامة الرئيسية للطقوس الرمضانيّة، سهرًا ولعبًا لأصحاب الألعاب، وصلواتٍ وتديّنًا لأصحاب الانقطاع إلى الأعلى حقيقة أو تمثيلاً يشبه غسيل الأموال القذرة، وأكلًا لكل أصناف ما لذَّ وطاب يفوق الحاجة والمُتطلّب بحجم خرافيّ كأنما هناك مبارزة بين الجماعات والعشائر والأفراد في قطع أعناق الذبائح المسكينة التي تستكمل حلقاتها الهستيريّة أيام عيد الفطر المبارك، وتكديس الحلويّات والأطباق، وما لا يعدّ ولا يحصى. على الأرجح من غير تفكير ولا رفّة جفن- لدى أولئك القادرين على تبديد هذه الأطباق والصواني كل يوم – تجاه إخوانهم في الدين والهويّة والإنسانية، أولئك العالقين في الملاجئ والسجون والمخيّمات في أقسى الشروط وأعتاها. أتذكّر ذات مرة حدَثَ نقاشٌ من هذا القبيل الأخلاقي والإنساني، وكثر الكلام الذي يُدعى بالتحليل، حتى انبرى أحدهُم وكأنّه اكتشف شيئاً مذهلاً «إذا سلمت ناقتي ما عليّ من رفاقتي»، وأردف أن هذا المثل العُماني هو الحلّ لمثل هذا الوضع، حيث أجبته: أن هذا ليس مثلا عُمانياً؛ إنه إزاء الوضع الذي نحن بصدده، نموذج للوضاعة الأخلاقية، وتجفيف لإنسانية الإنسان بتحويله إلى هذه الأنانية الوحشيّة، قناة بلْع وإخراج وظلم للآخر. أنت تُهين الموروث الشعبي الُعُماني المليء بأمثلة النجدة والإخاء والمودة بين البشر.
في هذا العام الاستثنائي، تقلّص الاجتماعُ والسهر والولائم عدا عبر شاشات الأجهزة التي أحكمت سيطرتها المُطلقة ونفوذها أكثر من ذي قبل، وعدا المسلسلات التي يهيئها أصحابها على مدار العام، ومعظمها تهريج ثقيل الدم والحركة و«دراما» مفتعلة بليدة، ربما تليق بأزمنة الانحطاط البشريّ ورخائه المصطنع؛ لكن ليس في هذا الوقت الذي تشنّ فيه فيروسات الطبيعة والبشر كل هذه الحروب الطاحنة.

صباح الثالث من رمضان، أطلّ من غرفة الأولاد ناحية المباني والبيوت التي شيّدها خيالُ أطفال العائلة الإنجليزية التي يتقدمها دومًا كلبُها الغاضب. صمتٌ مطبقٌ، رؤوسٌ وهميّةٌ تُطلّ من شرفات المنازل المبعثرة في هذه التلال الجرداء. لا شيء، لا نباح كلاب ولا صخب عصافير (أين ذهبت؟!) ينفجرُ الفراغُ عن عامل آسيوي يلبس كمّامة، على الأرجح أنه هندي، فهي الأغلبية المُقيمة في عُمان وخليج العرب الذي يُوصف بخليج النفط. يُخرج العامل تليفونه ويصوّر المنازل والدّيار التي تسفوها رياح السكون والغياب.. «المنازل والديار» كتاب مرجعي لأسامة ابن منقذ، جمع عيون الشعر العربي الذي يتمحور حول البكاء والحنين والوقوف على الأطلال والدمن، تلك الديار التي غادرها الأحبة والأهل والصحب من غير أمل في عودة وإياب.
وكان هذا الفارس الشاعر حين عاد من حروب مع الأعداء، وجد زلزالاً قد ضرب البلاد ودمّر المنازل والديار والبلاد. وكان أسامة ابن منقذ، ينتمي إلى (شيزر) من نواحي حلب الشهباء، التي مزقها الزلزال مع مدينة حمص وطرابلس وغيرها من بلاد الشام الواقعة على خط الزلازل الجيولوجية والبشرية التي تمزق روحها حتى البُرهة الرَاهنة.

كأنما هذا الراعي هو الشاهد الوحيد، النأمة الأخيرة في هذا الفضاء المكتظّ بالتهاويم والأشباح والعشب المحروق، كأنه النغمة الهاربة قبل انكسار الناي.
وكانوا في تلك الفضاءات البعيدة الأبعدَ من نجم سهيل، يستيقظون مع الفجر وأذان بشره وديكته وصخب حيواته الضاجّة في الحقول، يقودون القطيع إلى المراعي في السهول والجبال حتى تميل الشمس إلى جهة الغروب، ثم يعودون إلى المنازل والديار لتبدأ حياة الهدوء والسكينة دورتها ويبدأ الليل بغزارة أحلامه بانتظار تفجّر الندى والصباح.

أقرأ حديثاً شريفاً ذا دلالة تلامس الراهن أكثر من الماضي «اخشوشنوا، فإن النعم لا تدوم». أتساءل في ظلِّ تصاعُد الانهيارات على كافة الصُعد، وفي مقدّمتها شبح الانهيار الاقتصادي المخيف، هل أخذ سكان الخليج والجزيرة العربية بقبسٍ من فحوى هذه الحكمة التي لا تَشيخ مع الزمان، هم الطالعون من رَحِم الخشونة، ذاكرة الصحراء والقسوة والكفاف، ووجدوا أنفسهم وحياتهم بعد صدفة النفط الجيولوجية السعيدة، رغم مثالبها الكثيرة، في حياة الرغَد والنعيم الاستهلاكي والمدنية الطافحة بالأدوات والعمران؟ هل ادّخروا قرشاً أبيض، بمختلف المعاني المادية والروحيّة، لليالي السود الحالكة، التي لا يأمن غدرها الكائنُ مهما شطّت شروط رخائه، قاذفة إياه في خضّم أوهام سرابيّة قاتلة، حين ترتسم في أفقه الوادِعِ المحَن، وتشتدُّ الأزمات؟
أم سنردد- وهذا الكلم ينطبق في هذا المنحى بشكل جوهري على الفضاء العربيّ بمختلف بلدانه- تردد ما قالته العرب (… بالصيف ضيّعتِ اللبن)؟
وها هو الصيف، مصحوبًا برمضان المبارك حتى وسط زحف الأوبئة، غير المسبوقة، قادمًا بعتاده الثقيل ومخاوفه الكثيرة.

الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر T11موضوع: شجرة الفجر شجرة العالم المسمومة نص شعرى جديد لسيف الرحبى
hassanbalam

المساهمات: 0
مشاهدة: 334

ابحث في: تحت طائلة النصوص   الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر Untitl13موضوع: شجرة الفجر شجرة العالم المسمومة نص شعرى جديد لسيف الرحبى    الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر Icon_minitime2021-03-26, 12:02 am
@hassanbalam
#سيف_الرحبى

الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر P_1910epa701

شجرة الفجر شجرة العالم المسمومة


يستيقظ والغبش ما زال يلفّ المكان بردائه الشفيف، على الرغم من أجواء الحرب المدلهمّة بالمحيط. يفتح النافذة، يتناهى إلى سمعه أذان الفجر، يَعبر الشجرة وعصافيرها التي هي في طور الاستيقاظ من المبيت الليليّ.
بداية انبلاج الضوء الأوّل وانبلاج صياح العصافير المرحة من غدور الشجرة الوحيدة التي زرعتها ربة المنزل لتكون العلامة والأمل في هذا البلقع الأجرد، على جوانب سفوح جبال عالية لا تُنبت الزرع ولا تسقي الضرع، جبال بركانية ورسوبية عاتية.
على أن هذا العتوّ وهذه القسوة تكونان على أشدّهما حين تضرب نوازل الجفاف ولا يسقط المطر على التخوم والأعماق، أو حين تكون السماء كريمة كما في هذا العام، فتنبت الحشائش وتحلق الطيور ويخضرّ الشجر الراسخ في أخاديد الأودية والقيعان كالسدر والغاف والسمر والحلفاء.
فيمكن للناظر أن يسرح النظر في غطاء نباتي جادت به المزن، فنما وازدهر كما في السنين الخوالي.
الشجرة تستيقظ عصافيرها، وهو يستيقظ كل صباح باكرًا ليعيش ذلك الصخب العذب لعصافيرها وحيواتها الخفيّة، ليرقب النعمة الإلهية وقد تجلّت في شجرة.

الأودية وما أكثرها وأغربها في عُمان، تلك الأخاديد التي شقّها جريان السّيول واندفاعها عبر أحقاب سحيقة متعاقبة على المكان، ربّما كانت أنهارًا في عُصور مُوغلة في القدم. تربط البلاد في جنباتها وأنحائها المختلفة. سلاسل الأودية مثل سلاسل الجبال ومجرّاتها المتناسلة في عرين الأزل. فكأنّما الواحات والبلدات والمُدن هديّة أو تجلٍّ لهذه الطبيعة المحاطة بالصحراء والبحر بشُحّها وكرمها.
مساء الأمس ذهبت إلى الوادي المجاور (وادي غلا) الذي يمكن الذهاب إليه مشيًا، وتجوّلت في بعض أنحائه الشاسِعة الضاجّة بكونٍ خفيٍّ من الحيوات المتنوّعة التي لا يَلحظها العابرُ على الطّريق الإسفلتي، الذي يقسم الوادي بحيواته وأشجاره وطيوره، المنطوي على أسرار لا نعرفها، ولكنّنا نحسّها وتأخذنا بشفافيةِ الشّعر الكبير وعمقه إلى عوالمها اللامرئية البالغة الرهافة والوحشيّة، وحشيّة الجمال وغموضه الثريّ المفتوح دومًا على الاحتمالات، حتى مغيب المعنى والدلالة أو ذوبانه وتشظّيه في الآفاق.

غمرتني اللحظةَ كآبة ثكلى كعربات ثقيلة على روح مكسورة.
صوت عصفور يغنّي
وفي البعيد ما يتراءى أنّه النخل واليمام.

النّخل وقد بطشت به العاصفة وسط أمواج المياه:
البارحة، وادي سرور كان جارفًا كما في الماضي
يخبط سطوح الجبال والواحات كنذير قيامة أو عزاء آخرة.

الأودية الأودية، ضواحي النخيل والأحلام، بنات الصحراء والبحر، كما الليالي بنات الدهر والزمان في كثافته وسيلانه الدائم.
أقِف الآن في وادي غلا الممتدّ إلى جبال الدّاخل العُماني وأعماقِ هاوياتها اللامحدودة بأواصرها مع عائلات الجبال في الكوكب العماني الذي يتبدّى لي دائما مترحّلا رغمَ ثباتِه ورسوخِهِ، مترحِّلا في الأحلام والشُهب التي تسَّاقط في ليله الطويل. ربّما راعٍ من عصور ما قبل التاريخ نسيَ أغانيه وأحلامه في جروفه وهلوساته المترحّلة بين التضاريس والجروف والأكمات. ربّما بدوية من رمال (وهيبة) وقفت على التلال المشرفة على بحر العرب صارخة بسرّها في وجه الريح القادِمة من المحيط الهندي البعيد الغور والمتآخي مع الأطلسي، وليس الاثنان إلا ذراعين للمحيط الهادي الذي يحتلّ ثلث اليابسة في سعة المعجزة وغموضها، الذي يقول عنه الأمريكيون اللاتينيون أنه محيط بلا ذاكرة! ربما من فرط سطوة مياهه وظلماته المتلاطمة في جنبات الكون ووجهاته، تشظّت ذاكرته إلى سديم وأمواج تلاحق أشباحًا تتمرأى في أفق غاضبٍ مُرعبٍ لا تستقرّ أعاصيره على حال. فالذاكرة بحاجة إلى حيّز زمنيّ ومكانيّ وهو مسكون باللانهائي والمتاه.
هو الآخر مترحّل، مثل كون الحيوات والأسرار والهوامّ التي تستوطن أعماقه على دوام اضطرابه حكمةً وجنونًا.
البدو في عمان وربما في بلاد أخرى لا يستوطنون البلدات والقرى، حتى تلك التابعة والمملوكة لهم جيلاً بعد آخر يظلون على الضفاف والحوافّ، يُحيطون القرية ويزنرون الأمكنة، كما تُحيط الطيور بأعشاشها، لكن من غير الدخول والسكنى.
دائما تراهم جماعات وأفرادًا بحيواناتهم في بيوت الشَعر والخيم على الحوافّ يقطنون، يراقبون الظّعن الواقعيّ والخياليّ الذي توارثوه عبر جينات السّلالة وعبر الحكايات المتواترة في أيامهم ولياليهم.. والطيور المهاجرة وهي تعبر الصحراء إلى القارات والبحار النائية!
أيّ قدر وجودي ضارب في الأعماق لا يحيدون عنه ولو أرادوا قيد أنملة، شرط الترحل والفراق والهباء. هباء الكائن المنهوب شغفًا بالمسافات والحرية؛ مما يجعل من الفيلسوف الحديث كون نظرياته وسفره في فضاء أفكار الترحّل واللاثبات بمعناه المتعدّد المعاني، ليس إلا محض تمارين ذهنيّة آسرة وعميقة، ولكن في النهاية ليست إلا ظلالا للأصل الرازح تحت أقداره المفعمة بالنزوع الغريزي الصافي إلى الفضاء البدئي المليء بلطائف السر وقسوة الوجود.
يفتح النافذة مع طلائع نور الفجر على الشجرة التي غرستها الرسامة ربة البيت، وكبرت ونمت على هذا النحو المبهج وسط اليباب والأوبئة المحدقة من كل حدب وصوب، جاذبة إلى غدورها وأغصانها العصافير وطيورًا أخرى تصدح بتدرج موسيقيّ وعلوّ نبر يصل حد الصّياح أحيانا، لكنّه لا يصل إلى نذر مأساة وفاجعة؛ بل العكس ربما يبشر بعلامة سعد وسط الفضاء الهارب بأنين ضحاياه وغرقاه.
فكّر أن انبلاج الفجر في خيطه الأول لا يعني انبلاج فجر الحقيقة المُرجَأ دوماً، على مرِّ الأزمنة والعصور.
لكنّ شدو الطيور وأصواتها المتناغمة على هذا النحو من الانسجام الروحيّ، ألا يعني الحقيقة في حدّ ذاته. الحقيقة العابرة بجناحها المختلط بأجنحة الطيور وشدوها؟ ليست تلك الحقيقة التي يبحث عن ضالتها فلاسفة وشعراء أضناهم الجوع والعطش نحو المطلق. لكنّها الحقيقة العابرة مع الحيوات والأصوات العابرة كنور يضيء الأفق خطفًا ثم يختفي!
أليست أشجار الكرز في زهرها الموسميّ العابر بسرعةٍ حيث يهرع اليابانيون إليه لقضاء نهارهم رغم الأوبئة والإعلام الراعب ظلّ حقيقة هاربة باستمرار تمنح البشريّة البائسة مهما كان وهم جبروتها، بعض عزاء وسلوان. وربّما الكائنات والحيوات جميعها العابر منها والأزليّ ليست إلا تجلٍّ للحقيقة الكبرى، للمطلق المتعالي والمستحيل.
يفتح النافذة على ضجّة العصافير واليمام الصّادح بنور الأمل الواهن في ليل العُزلة الجافّة والحجر الصحيّ القسريّ الذي أضحى يوحّد بشرَ هذا الكوكب الذي تداعت غطرسة تفوّقه السّاحق كسيّد للطّبيعة. أمام واقعة الوباء التي تُطبق على جهات الأرض موحّدةً أطرافها من الأقاصي إلى الأٌقاصي، بفعل انفجار وسائل الميديا وشبكات التواصل المهيمنة على هذا النّحو الكلّي، توحّد العالم تحت جناحها المُخيف، بعدما وحّدته الرأسمالية عبر تاريخ تطورها انطلاقًا من مراكز الهيمنة والحضارة والصناعة. لم تبلغ هذا الشأن من التّوحيد والدّمج والسّيطرة، أيّ أيدلوجية أخرى قبل استواء الرأسمالية على رأس هذا السياق الأخطبوطي قيمًا وأنماطَ سلوك ومعيش ووهم معيش.. الاشتراكيّة أو الشيوعية انطلاقا من مركزها السوفيتي الآفل دحرت وتلاشت ولم يبقَ منها عدا أشلاء الذكريات وما يدور في أروقة الباحثين ومراكز التخصّص والمعلومات، الرأسمالية في أعلى مراحل إمبرياليتها العولميّة وهيمنتها القطبية شبه المطلقة، الوباء المستجدّ قد زاحمها في هذا التّوحيد الأليم بتدمير مضاجع البشريّة وإقلاقها.
الأوبئة تزحف على المدن والأرياف والجبال والسفوح الفقراء والأغنياء.. وفق أخبار البارحة أصيب الأمير تشارلز بالفايروس الكوروني. الأمير تشارلز المتحدّر من الأصول الجرمانية الملكيّة التي ينتمي إليها معظم ملوك أوروبا، لا أظنّ أن كثيرًا من أفراد سلالته العريقة كانوا يُصابون بالأوبئة حتى في عصور ما قبل الحداثة والعلم والتقنية، ها هو وأقرانه من القادة والمشاهير يصابون في ذروة التقدّم والاكتشافات.
تتبارى وسائل التّواصل الشعبيّ الاجتماعي في هذا السباق اللاهث، وتكاد تذيب الفروق الجوهريّة بين السطحيّ والعميق، الحقيقيّ والزّائف، بين الجهل الزاحف ونقيضه، حتى ليتفوّق هذا الجهل بمراحل على ضوء المعرفة والبحث، فحسب الفيلسوف الإيطالي «إمبرتو إيكو»، إنه زحف الغوغاء والرعاع. أما أهلُ الفكر والمعرفة فيذهبون مذاهب وأهواء شتى؛ فالمفكّر الأمريكيّ اليساري الراديكالي «ناعوم تشومسكي» مدفوعًا بعدائه المعروف لأميركا يجزم أن الدّولة العُظمى هي المصنعة لهذا الفيروس، لتبقى دُركي العالم وقطبه الاقتصادي والعسكري غير القابل للإزاحة، وحتى للمنافسة الجديّة. وبعد سياق تحليل يتسم بالنمطية في الكثير من نقاطه يتوصل لاستنتاج، أنه في نهاية المطاف بعد أن يُنهك الجميع، تضعف الصين وروسيا وتختفي دول بعينها. تشومسكي على أهمية إنجازه الفكريّ والفلسفيّ واللغويّ، لم يتورّع، (أخلاقيا) عن تأييده لأنظمةٍ ارتكبت إبادة جماعيّة في حق شعوبها. ومثله فعل الفيلسوف الهيجلي السلوفيني (سلافو جيجيك) في تأييده تحت اللافتة المستهلكة حدّ الابتذال كونها تقفُ ضدّ الإمبريالية الأمريكية. وفي سياق تحليله (تشومسكي) ستختفي هذه الدول المعادية للإمبريالية، مثل إيران وفنزويلا وكوبا.
طوفان الإعلام والميديا بنوازعها المختلفة وباءٌ آخر يجتاح البشريّة ويطوّح بها إلى أنفاقِ ظلامٍ وكوابيس، تتخبط فيها ليلَ نهار، ولا يفلح نور سماء بريئة على أغصان شجرة وحيدة في بلقعٍ يباب. الشجرة المغمورة بحيواتها ونأيها عن ضجيج العالم والمغمورة بنور فجر وليد، رغم أنّها جزء من هذا العالم في وسطه وعمقه أو بالأطراف والهوامش، الشجرة في الغابات وعلى ضفاف الأنهار المتدفقة أو في هذه الصحراء الموحشة.

ربما ليس هناك مثل الصين الحديثة من هو في العمق على قطيعة جذريّة مع الماضي البعيد المفعم والزاخر بالمدارس والرؤى الفلسفية التي تنحو صوب الروح والحلم والعدالة والشعر. تلك المدارس والتيّارات من البوذيّة والكونفوشيّة والطاوية التي لم تكن معزولة في جبالها وأديرتها حكمةً وتأمّلا، وإنّما كانت تشارك في ترشيد مسار الدّولة والحكم التي يسترشد أباطرتها وحكامها من الأسر المختلفة ببعض تنظيرات ذلك النّفر من أهل المعرفة والإشراق. هذا الغِنى الروحيّ والفكريّ الذي يتوسّل العدالة والحكمة في تاريخ الدولة والمجتمع الصينيين، تقابلها الدولة (الحديثة) التي تشرف إشرافًا مُطلقا على رأسماليّة السوق. توليتارية يقودها الحزب الشيوعي كلافتة؛ لكنّها الأكثر ضراوة ووحشية في تاريخ النظم جمعاء. فهي أشبه بإله مقدس لا يطاله الشك والنقد بحزبها وأطرها الأيقونية ورئيسها المنتخب مدى الحياة، فلا مقارنة في هذا السياق مع الإمبرياليات الرأسمالية الغربية ذات التاريخ الاستعماريّ الشرس والطويل– شراسة الدهاء والتصفيات المباشرة-. فهذه على الأقل تتوفر داخل حدودها على القوانين النافذة والدساتير على القضاء والمؤسسات. إنها (اللويثيان) الرهيب حسب الفيلسوف الإنجليزي (هربرت هوبز) لكن ضمن العقود الاجتماعية والقانون.
الصين حالة خاصة في تاريخ هذه المفاهيم التي انطلقت منها النظم الرأسمالية والبرجوازية في صعودها واستوائها على عرش العالم. وكذلك في تاريخ المفاهيم الاشتراكية أو الشيوعيّة، والاثنان ضمن فضاء تاريخ الفكر الأوروبي بمنعرجات تحوّلاته وتنوّعه.
الصين الحديثة في صعودها الاقتصاديّ القويّ حالة خاصة كما يتبدى من سلوكها وممارساتها التي تتفوّق في وحشيتها على الأنظمة المتخلفة، فهي في هذا المنحى لن تضيف إلى الوضع البشريّ إلا مزيدًا من البشاعة والقبح وانحطاط القيم السياسيّة والجشع.
هذه العُجالة لا ترمي إلى مسؤولية الصين عن تخليق الجراثيم والفيروسات ولا مسؤولية الأمريكان حسب الأطروحات الرائجة هذه الأيام بما يشبه تبادل تهم (المؤامرة) التي مهما حصل من غلوّ؛ فلن تجد لها مرتعًا وولعًا غراميًّا مثلما وجدت في دنيا العرب ونظمهم حتى صارت جزءًا عضويًّا من النسيج والمصير.

أشرت إلى نفايات الرأسماليّة في تاريخها وأزماتها ومنعرجاتها الطويلة التي يشكّل النظام الصينيّ الرّاهن الخلاصة لكل ما هو وحشيّ ولا إنسانيّ في هذا التاريخ ذي الأصول والأسس الأوروبية؛ لكنّي أستعجل السؤال: أليست (النيوليبرالية) التي بدأت تتربّع على عروش أوروبا والعالم مصحوبة بولادات رحميّة لصعود تيارات شعوبيّة ويمينيّة متطرّفة، هي الأخرى خلاصة ذلك المسار الطويل؟
لكن يبقى في الحال الأوروبي حتى الآن ما يشكل الفرق الجوهريّ الحاسم. الدّستور والقانون وسائر المؤسسات الحاكمة. حريات التعبير الديموقراطية والرأي العام.. إلخ.

فجر آخر يطلّ على البشريّة، معبّأ بالهلع وأشباح الأوبئة والبراكين الخامدة في الأعماق المذعورة تنتظر لحظة الانفجار.
فجرٌ مخيفٌ وعدوانيّ، أتمشّى كالعادّة التي بدأت تحفر مجرياتها وتفاصيلها مع الأيّام، إلى نافذتي المطلّة على واحة الشجرة، أنظر إلى كائناتِ الفضاء الأرضيّة تتقافز بين الأغصان، عصافير وجوز يمام وطائر صغير صدّاح، وثمة طائر (المينا) الآسيوي الذي يتعايش مع البيئة بشراسة فارضًا مكانته العدوانيّة على الطيور الأخرى كافتراس البيض وغيره.
الأطفال مازالوا يغطّون في نومٍ عميق بعد أن هجروا المدرسة، ينامون في ساعة متأخرة ويسهرون.
لم يعبأوا بالوافد الثقيل بقدر استمتاعهم بفسحة الحريّة التي أتاحها الوباء بعيدًا عن إكراهات الدروس الملزمة والمدرسة، حتى إن أحدهم قال ذات مرة: (لو كانت كورونا امرأة لتزوجتها).
وإذ ينحدر كاتب هذه السطور العجلى إلى سنوات طفولتِه البعيدة التي يخالها قرونًا تصرّمت من فرط النأي والبعاد، لتذكّر أيام مدرسة الكتاتيب وما تلاها مما يشبه المدارس العصريّة، ولتذكر ذلك الكَبد والمعاناة جرّاء الذّهاب إلى المدرسة، خاصة إذا كانت ثمة امتحانات، حيث كان يتمنى أن تنكسر رجله أو يفلع رأسه كي لا يذهب إلى المدرسة ويسرح مع الغنم والحمير، وحتى حين ذهب إلى القاهرة والتحق بمدرسة البعوث في حيّ العباسية بدأ من المدرسة الإعدادية كان التغيب والمراوغة على أشدّهما، وحين تأتي الامتحانات يذهب مجبرًا ليؤدي الامتحانات بسرعة صاعقة عائدًا إلى حيّ الدقّي، وعلى الشرفة تحديدًا في شارع سليمان جوهر ليغازل التلميذة القابعة على شرفة العمارة المقابلة.. وعادة الجلوس في الشُرفات والبلكونات منتشرة بكثافة في القاهرة وبيروت وبلاد الشام.
أفتح نافذة فجري الخاص لأطل على كينونات الشجرة النابضة بالحياة والأمل في البلقع الأجرد. وكنت مساء الأمس ذهبت أيضا إلى وادي غلا القريب ناحية الجزء الأعلى؛ حيث كثافة الأشجار والنباتات والطيور في هذا الطقس الذي ما زال صامدًا على جماله الحنون قبل انهيارات الصيف الزاحف.
وجدت الجزء الأعلى من الوادي مغلقًا بشريط منعًا للتجمعات المخالفة لقرارات اللجنة العُليا؛ لكنّ الجزء الآخر الذي يمتدّ إلى الجسر الذي تمرّ على حدبته العربات والشاحنات ما زال مفتوحًا وهو كافٍ لنزهةٍ حتى مغيب الشمس في مجهول البحار والمحيطات.
كان ناصر معي، أخذ يلعب على الرمل بين الأشجار والحشائش، وكنّا في الزمن الماضي كثيرًا ما نأتي بها مع نباتات وطيور أخرى إلى المنزل لتشكل وجبة لذيذة هانئة.

عندما يتفتح أوّل غصن في فجر الشجرة، ويغني أوّل عصفور تتفتح الحواسّ وتستيقظ من طمي سباتها المتراكم لتعانق النور والأفق.

من الجميل والرائع أن يكون هناك فجر وعصافير وشجرة، ولكنّ الأكثر روعة وجمالًا أن يكون كامل المشهد غير موجود من أصله وجذوره ليسيطر بهاء العدم على هذه الأرض التي أخذت تفترسها جسدًا وروحًا أوبئةٌ ضارية بعدما مزقت الروح والقلب والخيال لتندفع هذه القطعان الآلية بين براثن أقدارها الأليمة أيّما ألم وكارثة.
(من ظلال حكمة مكلومة للبوذا حول حدث الولادة الكوني، البوذا الذي رأى وصدقت الرؤيا).

في الأزمنة البعيدة نسبيًّا كانت الأوبئة تعصف في عمان وما يشبهها من بلدان، تفتك بآلاف من غير حول ولا قوّة؛ عدا الأدعية والاستغاثات الجريحة المتصاعدة إلى عرش بارئها ليوقف بمشيئته الكليّة هذا الزحف الأسود. لم تكن هناك لقاحات ولا أدوية حتى في حدها الأدنى عدا الأدوية العشبيّة والوصفات الشعبية التي توارثتها الجماعات عبر التجارب والأسلاف.
حدثتني الوالدة عن الوالد -تغمدهما الله برحمته- الذي كان مزواجا على طريقة أقرانه في ذلك الزمان المطمئن اليقينيّ، الذي لا يعكّر صفوه عدا الموت والفراق وتلك الأوبئة والأمراض التي تطوق به إلى الحيرة والارتباك.
تزوج الوالد من تسع نساء على دفعات في عمره المديد الذي ناهز القرن من الزمان، وأنجب ما يقارب الأربعين من الذكور والإناث، الجميع فتكت بهم الأوبئة عدا ستة هم الناجون من مجزرة الأوبئة ليتناسلوا أبناء واحفادًا.

شجرة الفجر على النافذة المطلعة على البراح الأجرد، لكن المؤثث ببزوغ النور الأوّل من جوف الظلمات المحتدمة في مثل هذه الأقاصي والهوامش المنسيّة. ترقب أول نبرة في معزوفة العصافير والأغصان التي تستيقظ من نومها قبل استيقاظ حركة البشر في منازلهم وهم يقضون فترة الحجر الصحيّ. النّغمة الأولى لفجر العصافير والأشجار المحلّقة في بهاء الوادي القريب أمام سجن العالم الدامي.
فكرت أن الطبيعة حتى في ثبات عناصرها وروتينها اليوميّ ثمة ما هو جمالي متجدد ومنعش للروح والحواسّ لا يجعلك تضجر وتقنط على عكس ثبات المشهد البشري في سياقه المملّ الثقيل، إذا لم يحصل تغيّر في سياق المشهد الزمنيّ والاجتماعيّ المتعاقب، وكنت أقرأ عن عالم الروائي الإنجليزي “توماس هاردي” ونزوع أشخاصه للطبيعة كعزاء وملاذ من كلفة التقدّم والتقنية الباهظة على الروح، على نمط «روسو» في نزعته البريّة لاستعادة الإنسان الأول، إنسان الفطرة الصافية والرهافة النشوى.
استعادتها في الحلم والكتابة، وتلك السُكرة التي تمنحها حيوات الطبيعة العابرة السريعة الفناء مثل الفراشات الحائمة على أشجار الأودية، تلك الأخاديد التي حفرتها السيول والأزمان.
النغمة الأولى لهذا العصفور مع خيوط الفجر الأولى وصوت المؤذنين في المساجد المهجورة.

بما أن كاتب هذه الصفحات، بالغ الولع فيما كتب ويكتب عن الحيوانات والطيور وعصافير الدوري، خاصة تلك التي وطنها الكون برحابته وقسوته، فهذه اليوميّات انبلجت مع ضوء الفجر الوليد على الشجيرات الوحيدة في البلقع الأجرد بأصوات عصافيرها وغربانها السحيقة.
أتذكر هنا مذبحة العصافير التاريخيّة التي أمر بها ماو تسي تونغ في منتصف القرن العشرين.
(ففي الصين أمر الزعيم «ماو تسي تونغ»، بقتل كل طيور الدوري في الصين، وهذا بحجة أن هذه الطيور تتغذى على المحاصيل الزراعية، وهو كان يريد تحقيق قفزة كبرى، كانت تسمى «القفزة العظيمة للأمام»، التي كان يرغب فيها باستخدام العدد الهائل من السكان في الصين لتحقيق قفزة اقتصادية سريعة لاسيما في الزراعة، واعتمد في ذلك على نظرية تسمى «نظرية القوى المنتجة»، وبما أنّ هذه الطيور كانت تتغذى على بعض الحبوب والمحاصيل الزراعية؛ فقد أمر ماو بقتلها كلّها وتسبب في حدوث أكبر كارثة بيئية صنعها إنسان على مرّ التاريخ.
وفي بيان رسمي للزعيم ماو عام 1958 أعلن أنه يجب قتل كل طيور الدوري، ووصف هذه الطيور بالآفة التي يجب التخلص منها، ظنًّا منه أنّها تأكل كميّة كبيرة من المحاصيل، وأنّ الحلّ الأمثل لها هو إبادتها كلها واعتبر أن هذا هو الحل المنطقي للأمر، وقال إنّ هذه الطيور بمثابة عقبة كبيرة تقف أمام تقدّم الاقتصاد في الصين، وبالتالي تمّ قتل أعدادٍ هائلة من طيور الدوري بشكل وحشيّ، حيث دفع ماو المواطنين لقتل هذه الطيور وملاحقتها ومنعها من الهبوط أو بناء أعشاش لها، وذلك عن طريق إخافتها وترويعها باستخدام نوعٍ ما من الطبول سبّب لها الإجهاد الشديد، وكان المواطنون يطلقون الرصاص عليها في السماء وعلى الأشجار حتى انقرضت تقريبا في الصين، وكان كلّ شخص يقوم بقتل أعداد كبيرة يحصل على مكافآت ماليّة، ويتم معاملته معاملة الأبطال .
بعد قتل كلّ طيور الدوري تقريبا أدى ذلك إلى انتشار الجراد بشكل مُخيف، وقد كانت طيور الدوري تتغذى على هذا الجراد، وبالتالي مع موتها انتشر هذا الجراد بهذه الأعداد الكبيرة، ومع انتشاره قام بأكل كلّ شيء في طريقه، وقضى على كلّ المحاصيل الزراعيّة ودمّرها، مما أدّى إلى نفاد الأغذية بشكل سريع، وحدوث مجاعة مروّعة تعدّ من أكبر المجاعات في التاريخ)1.

ذلك الرأي القائل إن الطبيعة تنتقم لنفسها من فرط انتهاكات الإنسان وطبعه التدميري، لحرمتها وروحها، لجوهر سيرورتها الأزلية، لذلك يذهب الرأي الناقم على فظائع البشر، إلى جانب الأسباب العلمية لثوران الطبيعة وغضبها، من زلازل وبراكين وأوبئة، موغلًا على نحو لاهوتي ضد الانتهاك والتدمير. لكن الكثير من هذه الظواهر الانتقامية الكاسحة هي من صنع البشر خاصة في البرهة الراهنة من التطور العقلانيّ الصناعيّ الذي يجنح أكثر نحو الشرّ والعنف سواء عنف البشر اتجاه بعضهم أو عنفهم اتجاه الطبيعة، تحت مبررات يقتضيها تطور الحداثة التقنية والحياة التي يعيش – ترفها – البشر المعاصرون، متبوعًا أو مُؤسساً بالضرورة العضوية بجشع الطبقات الحاكمة ونهمها إلى الثروة والنفوذ والهيمنة. من منطلق أنّ كلّ شيءٍ في الحياة والكون ليس إلا أدوات ووقود لهذا الجشع والنهب لغايات لا علاقة لها بجوهر الإنسان ومناقضة للفطرة والأخلاق وحتى للقوانين إن وُجدت كما في الغرب أو لم توجد كما في النموذج الصيني وغيره الكثير.
في هذا المنحى الإنساني الروحي لمناهضة عنف وجشع بشر الطبقات الحاكمة في العصر الحديث خاصة، ربّما تكشف ظواهر الأوبئة وغيرها من مظاهر غضب الطبيعة عن طبيعة تطهيرية، رغم فداحة الخسائر على بني البشر هناك أخذ العبر والدروس التي تنحو نحو الخير والتسامح والعدالة وإن كانت هذه الكلمات النبيلة استُهلكت وابتُذلت مثل موضات الأزياء الموسمية. وتقليل الظلم والنهب المتطرفين، لكون طرف محدود العدد يبدد المليارات والتريليونات وأغلبية البشر الساحقة تتضوّر جوعًا وبردًا وصَهدًا وسقمًا، أي إنها تعيش الدرك الأدنى في جحيم الحياة.
وتزداد هذه الفظاعات الطبقية هولًا واتساعًا بين الأغنياء أو القلة «المحظوظة» وتلك المساحات الشاسعة للفقراء وثقيلي الأحمال حسب عبارة السيد المسيح في البلدان التي لا يحكمها العقد الاجتماعي حيث تتكدس الثروات المنهوبة لدى الثلّة المجردة من خصائص النخبة في المعرفة والثقافة، من غير جهد لجمع هذه الثروات والمكانة الحصينة…هكذا انفتحت السكّة، فتدفق مجد الثروة والمنصب والصدارة. ومثل هذه الفئة بخصائصها البعيدة عن الثقافة والأخلاق لا يمكن انتظار أيّ خيرٍ منها للصالح العام والأوطان المنكوبة، فثرواتها الماديّة الضخمة لا ترتبط بأي انتماء عدا انتماء النهب والاستباحة، فهي مترحّلة بين المصارف والمدن الكبرى والبنوك. وهذا ما أثبتته جزمًا الأزمات والمحن التي ألمّت بمثل هذه الأوطان من حروب وأوبئة وانهيارات. نستدرك القول إذا؛ ثمة وظيفة تطهيرية أو عِبر تستخلص من المحن والملمّات القاسية، فليس من هؤلاء النفر، وإنما يبقى الأفق مفتوحًا على احتمالات الخير والجمال والإنسانية الصادقة، حتى وإن كانت محدودة.

تعليق آخر ورَد في مقابلة مع الفيلسوف الإيطالي، ذات بعد بيولوجي ووجودي؛ إذ إن الانسان لدى «امانويلي كوتشا» ليس إلا عربة بين عربات كثيرة، حيث إن ولادته ليست بداية ولا موته نهاية. بمعنى آخر ثمة زحزحة لمكانة الإنسان المركزيّة في الوجود التي كرّسها عصر الأنوار العقلانيّ الأوربي كونه الإنسان (سيد المخلوقات). من غير المرور على هواجس المؤامرات والمخططات السابقة لهذه الدولة أو تلك. يواصل المفكر الإيطالي القول بأن هذا الفيروس المجهري يعلّمنا ألا نقيس قوّة الكائن الحيّ على أساس أجهزته البيولوجية الدّماغية والعصبية، كما أنّه يكسر نرجسيتنا الغربية التي نتأمل في مراياها عظمتنا، ونعلي بشأن قدراتنا الخبيثة والمدمّرة ولسان حالنا يقول انظروا كم نحن أقوياء. ويعبر عبر استبطان عميق عن أطوار الحياة والموت وأشكال التحوّل المفتوحة دائما. الحياة التي نُعبِّرعنها اللحظة كانت موجودة قبلنا هي حياة آبائنا وأجدادنا تنحدر بممرٍ دائمٍ يصل حتى بداية الحياة على هذا الكوكب. الولادة بهذا المعنى هي مسلسل هجرة الحياة بين الأشكال والأنواع نباتات بشرًا وحيوانات وفيروسات، كما أن الموت شرنقة تسمح للحياة بالانتقال من نوع إلى آخر. ولادات متجددة ونهايات وموت متجددان.

سيف الرحبي

هوامش

جزء من يوميات وكتابات مفتوحة
الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر T11موضوع: نحو سماء الجبل الأخضر نص جديد للشاعر سيف الرحبى
hassanbalam

المساهمات: 0
مشاهدة: 304

ابحث في: تحت طائلة النصوص   الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر Untitl13موضوع: نحو سماء الجبل الأخضر نص جديد للشاعر سيف الرحبى    الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر Icon_minitime2021-01-18, 2:13 pm
@hassanbalam
#سيف_الرحبى
الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر P_1844ginqm1

نحو سماء الجبل الأخضر


{قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ، قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ}.
(سورة هود الآية (43)

أرقب غيمة تتشكل في سماء الجبل الأخضر أرقب بدء ولادتها الأولى، وهي تمتطي سماء مشمسة زرقاء تشبه سماء المتوسط، بأشكال مختلفة، تتشكل حيوانات ووجوهاً بشرية عائمة في شعاع الأفق، بألوانه المتداخلة في هذه الظهيرة التي ستكون غائمة على الأرجح بشمس محجوبة تائهة في عباب السحب والألوان وربما ثمة أمطار قادمة ستعصف برؤوس الجبل وواحاته المعلّقة في المدرجات الحجرية، وبطاحه وسيوحه.
الغيمة التي أرقبها وهي تولد وتتشكل على هذا النحو الجمالي، في هذه الهنيهة التي تكتسب فرادتها إثر صعودي قبل ساعات من العاصمة مسقط البالغة الحرارة والرطوبة المصحوبة بتيارات الغربي اللافح. من النادر أن ترى في هذه البرهة من الصيف الكوروني قطعة سحابة تائهة في السماء المقفرة، وإذا دفعت عواصف الصدفة غيوماً وسحباً في ذلك الفضاء، فتنعقد ألويتها على شكل غبار من الحرارة والرطوبة، حتى يضيع أصل السحب والغيوم في خضمها المستبد.
أرقب أمام ساحة البيت المستأجر، بفرح غامض، الغيوم المتدفقة والمنذرة بالودْق في واقع المساء القادم وفي الخيال المترحل دوماً والأحلام، بينما قطيع ماعز وخراف جبلي يتابع خط سيره متسلقاً تلالاً وشعاباً، يقضم الشجيرات المتناثرة في الدرب والعشب، متوجها من غير انحراف عن الطريق كمن يعرف هدفه المتجه مباشرة إليه.

أطلق سراح النظر إلى آخر المدى السديمي للقمم والتلال والأكمات، متناسلة في مجاهل الغيوب والكهوف.. أرى قطيع الماعز يتسلق التلال المجاورة قريباً من ذروة النهاية التي يمتطيها تيس الطليعة بقرونه الكبيرة، دائراً رأسه في الجهات الأربع كمن يستكشف مجهول الخطر والمفترسات التي تختبئ متربصة في الكهوف والمغاور حتى وصول الفريسة التي ستقاوم برهة من الزمن حتى تستسلم مُرغمة لظلمة الأنياب والأشداق.
التيس القائد الفحل، لابد، أن يعطي إشارات خفيّة لقطيعه بأمان الوصول وضمانه أو العودة والهروب إلى السفح من جديد..

في جو هذا الهدوء المسالم من غير ريبة، كما يتجلى، ينبلج فيلق غيوم متشحٍ بسواد كثيف، ينقض على سهل (الفياضيّة) متسارعاً ينزل حمولات ودْقه وبَرَد حصاه على تلك القرية الصغيرة الوادعة، ولا يصل إلى السهل الذي نعيش، إلا الشآبيب والفيضان الأقل غزارة من مركز نزول النعمة الراعدة. وبالفجأة ذاتها يتبعثر (الفيلق) في جنبات السماء وينجلي عن قطيع ماعز يتقدمه التيس بقرونه الكبيرة الراسخة في الجسد والمكان.

مشيت خطوات حافياً على الأرض التي تتخللها برك المياه والأعشاب، مغيراً مكان المراقبة البريئة، من ساحة البيت، إلى ظلال شجرة علعلان (عرعر) وسط السيح الذي يكثر فيه هذا النوع من الأشجار المترحلة عبر العصور، أشجار قديمة تحدّرت من ذلك الزمن البعيد الموغل في بعده حين كانت الأنهار تجري والبشر والحيوانات يعيشون النعمة بتعاقب الفصول والأحلام. جلست محدّقاً إلى الأعلى، في مرور السُحب والحيوات في أنحاء سماء ما زالت شآبيب المطر تتدلى من بين الغيوم وخيوط الشمس الحنونة كعناقيد ناضجة تتدّلى من كروم الأساطير.
وثمة غيمة تشكلت على هيئة وحش غائم الملامح والقسمات، تنقض على سحابة بيضاء تشكلت هي الأخرى على هيئة فريسة تنتظر، مسلّمة أمرها لقدر البلع والالتهام.

بدأت الغيوم هذا اليوم في الولادة والتشكل، لكنها لا تشبه غيوم الأمس الجامحة، إنها كسولة بطيئة، لكن ربما أحلام البشر والشجر والحيوانات المضروبة بأشباح الجفاف والأوبئة تجعلها تفذّ الخطى مثل أحصنة بريّة، صوب حلبة التكاثف والنضج والاسوداد الراعد المسبوق ببروق خاطفة صاعقة، لتنزل حمولات مطرها المتخلص مع دنوّ المساء ونزول الليل بسكينته الجنائزية التي تمزّقها جمال أنغام الديمة المدرار السكوب.

كم كان ذلك اليوم، ذلك الشهر، وتلك الأعوام، نضِرةً مزهرةً في المشاعر والذاكرة، حين كانت العائلة تجتمع على الموقد في الفضاء الطلق، وقد التأم شملها بأفراح وضحكات عقب طول غياب بسبب الفتن والحروب:
يتذكر الشيخ الجبلي الوحيد، بعد أن طاله البلى وعبثتْ به والمكان السنون.

رعدُ الذاكرة يهمهم في أعماق الشيخ أكثر علواً من رعد سماء توشك على الوّدق والانهيار..
والبروق في جنبات ضلوعه أكثر حرقة من تلك البروق الأزلية والرعود..
إنها النهاية التي لا تقبل العزاء، ولا يخطئها حدس المجرّب العجوز.

فرس النبي، التي كنا نسميها في طفولاتنا البعيدة بعُمان (الشمبعانة) تمشي الهوينى في فمها الفريسة تتسلّق بها الجدران والأعمدة، تسلّي وحدتها بأنس الكائن الصغير المعّذب، قبل الإجهاز النهائي عليه، كي لا تسقط في فراغ ما بعد الافتراس.
سُميت أيضا بـ(الناسك) بجسدها المستطيل، وقائمتيها الطويلتين، بما يشبه الخشوع في حركتها الأقرب إلى التأمل والعزلة. المفارقة تكمن في أنها كائن عنفي لاحم، الأنثى خاصة، فحين يعاشرها الذكر في موسم اللقاح، فعلى الأرجح لا يستطيع الهروب الغريزي، حيث تفترسه بلمحة البرق، فلا عزاء ولا فكاك.

أمشي أمام البيت في الطريق المؤدي إلى منحدر أودية وصدوع لا مياه فيها، لكن نضارة الأشجار والعشب تشي بحدوث تساقط الأمطار ونماء المكان. أصوات صادحة للعصافير والبلابل الصغيرة، ترف على الأشجار البريّة، مثل البوت، والعلعلان و«الشخر» الذي يُعتصر في الأزمنة الآفلة، لاستخراج الأدوية والعلاجات لأمراض بعينها، مثله مثل الشوع والحنظل الشديد المرارة، والحرمل، يستخرج منه الأدوية والترياقات ذات الفاعلية الأكيدة بحكم التجارب المتراكمة في غياب البدائل التي جاءت بها السنوات اللاحقة.
أمشي نحو الوادي المسترسل بصدوعه وهاوياته التي لا سقف لها ولا قرار، أتطلّع إلى السحب القادمة من مرتفعات (حيل المسبت) هناك في الأعالي حيث تزمجر الريح وتعوي ذئاب أوشكت على الانقراض.
في الطريق الوعر الذي تتسلقه السيارات، ذات الدفع الرباعي، نحو الجبل الأخضر والجبال المحيطة، حين أشرفنا على نهايته ليلاً، وبدأنا في منبسطات الجبل وسفوحه، شاهدنا قنفذاً مشعاً يقطع الطريق بشعره الكثيف، ويختفي في الظلام. مما خلق هذياناً يومياً لدى (عزّان) في البحث عن القنافذ بين الصخور والأشجار والأكمات.
وكان الأهالي في القرى النائية في المكان والذاكرة يتصيدون القنافذ في ضواحي النخيل من جحورها، لابسين قفّازات لتفادي الأشواك الجارحة.
تلك الأشجار التي شكلت في زمن ما، مرجعيّة الدواء والعلاج والترياق، ربما لا يزال بعضها لو التفت اليه أطباء الحضارة وعلماؤها، صالحاً لصنع الترياق اللازم لدحر وباء (كوفيد19) الذي ما زال يدير رأس العالم والعلم وكل منجزات الحداثة الرهيبة، ويطوح بها إلى الحيرة والهلع والمرض والموت. لكن أليست الأدوية الحديثة جميعها مصدرها الطبيعة وتجلياتها وأسماؤها المختلفة؟!

أقرأ متابعة للصديقة غالية قباني، حول المخرج السينمائي (مارتن سكورسيزي) الذي أخرج فيلماً قصيراً حول الوباء المستجد، والذي يرى أن الوباء وعزلته القسرية، غير المثمرة ولا عادتْ محطة تأمل وإثراء بعد أن طالت على هذا النحو القاسي وإنها أجلت مشاريعه السينمائية قاذفة إياه أمام النافذة، مع كاميراته وسيناريوهاته الواقعيّة والمتخيّلة. من تلك المشاريع كان الشروع في فيلمه (الجديد) أول فيلم (كاوبوي) ينجزه في هذا السياق، بمعيّة نجمه المفضل (روبرت دي نيرو) لكن هذه المرة مع نجم من جيل مزاج آخر (دي كابيريو) وليس آل باتشينو وجون بيشي).
ولا يعطي وزناً مخرج (سائق التاكسي) و(الثور الهائج)، لا يعطي الآراء القائلة بأن الطبيعة تصحح وتطهّر نفسها، وأن غضبها على انتهاكات الانسان واعتدائه على حرماتها وفضائها، جعلها ترسل هذا النذير التدميري المرعب الذي أوقف حركة الحياة الحديثة، ومظاهرها اليومية، من طائرات وقطارات ومصانع ومشاريع لا حصر لها ولا حدود… الخ.
المخرج الشهير الذي يقترب من ثمانينياته، يرى أن الوقت ينفد منه ويتلاشى أمام هذه الجائحة التي اجتاحت العالم على نحو غير مسبوق، وأنه حزين، لأجل ذلك يتداركُ ما يمكن تداركه في خط العمل والإنجاز الذي أدمن عليه نظراً وسلوكاً في مواجهة التاريخ وهروب الأيام.
رغم اعجاب اسكورسيزي بجيل أسلافه الكبار، من ديسيكا وفيلليني وانطونيوني، حتى صاحب (الامبراطور الأخير) برتلوتشي، الذي تذكّرته مساء الأمس وأنا أشرب الشاي في برية (حيل المسبت)، عبر فيلم (شاي الصحراء) المقتبس من رواية بول بولس (تحت سقف سماء واقية).
نحا في عمله السينمائي منحىً آخر، برؤية وأدوات وتصورات مختلفة، ربما تلائم برهة العصر المعاشة التي تتناهبها الميديا الجهنمية ورأس المال المتوحش أكثر من ذي قبل بما لا يقاس. حين قدم (فيلليني) استشرافه للقادم عبر (جنيجر وفريد) وهيمنة التلفزيون وأنماط المجتمع الاستهلاكي المشهدي المبتذل على كل مفاصل حياة البشر وتفاصيلها. رغم ثراء خيال المخرج الكبير وشطحه الذي لا تحده حدود وعلامات، حين يقارب مراحل الانهيار والانحطاط في التاريخ كما في (ساتركون) لم يصل حدساً ونبوءة إلى حجم البرهة الراهنة في التحلل من القيم والأبعاد الروحية، عبر ميديا العولمة والتكنولوجيا ونظمها المحكمة التي حولت البشر إلى قطعان آلية ملحقة بآلة ضخمة شبه ميتافيزيقية لكن من غير أبعاد روحية أخلاقية بل على النقيض، هي المستبد الفعلي.

كان الذي تجلّى بألوان الغيوب، وبجلال الموت وغموض المتعالي، يوشَّح السفوح المنبسطة بين رواسي الجبال المحيطة، الغسق الجبلي، الغسق القطبي وذلك الذي كنا نشاهده قبل حلول الفجر، في الصحراء المترامية… بتجليات روح الخلود المتشظي في فسيح الأكوان بأفلاكها وبلدانها الكثيرة، وتلك النجوم الظاهرة منها والخفيّة.
الغسق الجبلي ذلك الهلام من أشلاء قتلى وآلهة جريحة.

في مرايا الجبال والعُزلات التي تسرح فيها الوعول بقرونها الطويلة الملتوية، خط دفاعها الأول ضد أعدائها المدججين وتسرح فيها ضواري العصور الأولى حين كان الكوكب تحت سلطتها الوحشية الحنونة مقارنة بالقفزات العضوية اللاحقة في سلاسل الفقرات والخلايا والمنحنيات، التي أفضت إلى «عبقرية» العقل والذكاء البشريين، حيث تكرست أولاً في أقاليم العنف والعدوان والهيمنة أكثر تحققها على أرض السلام والانسانية المشتركة بين سكان الأرض، والطمأنينة والرخاء لهؤلاء العابرين حتماً إلى احتمالات المصائر الغامضة والمآل.
في مرايا العزلات هذه، تندلع نيران وجوه كالحة، وجوه عدوة للحياة والفن والجمال، تلاحق الكائن الهارب من جلبة الظلم والقبح إلى واحات قصيّة، يظنها ملجأً وملاذاً، ستظل تلاحقه قطعانها الضارية، من المهد إلى اللحد، هذه ضراوة القبح والانحطاط بكافة صُعُده، أين منها تلك الضراوة الغريزية لحيوانات الكوكب الأولى؟

تبدأ الكثير من السرود والأشعار والتأملات ذات الطابع والنزوع الفلسفي، من خلف النافذة أو إزاء النافذة. خلف نافذة المنزل المستأجر أو المملوك، نافذة الفندق أو الموتيل، نافذة السجن والزنزانة نافذة الطائرة أو القطار، لو جرى نوع من الاستقصاء للأعمال التي وُلدت أو تشكلت كما تتشكل السُحب والغيوم في عرين الفضاءات المقفر، لكانت هناك كتب ومجلدات وأجيال وعصور مختلفة.
منذ بداية الجائحة، مررت في قراءتي لأكثر من كاتب ومقال تبدأ انطلاقاً من ذلك الحيز المتاح في هذه الفترة الاستثنائية التي تتوّحد فيها أرض البشر جمعاء، عبر هذه العزلة القسْرية. وعلى النمط نفسه، المساجين الموزّعون على مساحة الكون بمستويات وظروف متفاوتة. ويندرج أيضا راكبو الطائرات والقطارات والعربات على صعيد الحيّز المكاني المتاح وإن لم يندرجوا في القدريّة العمياء للقسْر والإكراه.
ها هو مارتن سكورسيزي آخر في سياق متابعاتي المحدقين عبر النافذة، من مدينته الكبيرة (نيويورك) مدينة المدن وعاصمة العالم كما يحلو للبعض نعتها، عبر نافذة شقته، منزله أو مكتبه، إلى فضاء المدينة التي انسحبت من صخبها الكبير إلى هدوء العزلات وسكينة المقابر يتأملها عبر الكاميرا وعبر العين المجردة التي تغذي خيالاته ومشاريعه التي لا يهدأ صخبها واحتمالاتها لأمثاله إلا بالموت وغياب العزلة الأخيرة.
ربما تخيل استيقاظها الجديد من هجعتها المؤقتة، في فيلم أو أفلام قادمة.
وهناك الآلاف من المبدعين في كافة المجالات عبر أنحاء العالم، يحدقون من النوافذ والأبواب، تحركهم الأحلام والخيالات حول القيامة البشرية القادمة.
إزاء النافذة. تبدأ أعمال الخيال والتأمل والكتابة حتى هذه الصفحات العجلى، بدأت بعد أسبوعين من اكتساح الجائحة. من النافذة التي تطل على شجرة أو شجيرات الظل التي لم أكن أعرف اسمها في البلقع الأجرد، وكانت الطيور في طليعتها عصافير الدوري والغربان الآسيوية تحط عليها وتأوي.
وحتى لو لم تكن هناك الجائحة، فحتى في غلواء حرارة الصيف الموصوفة، في جزيرة العرب خاصة إذْ لا بد من اللجوء إلى الداخل المكيّف كي تستمر الحياة، فتكون النافذة في هذا الخضّم الغاضب للطبيعة، هي المنفذ الوحيد للطبيعة والخيال.

بعد النافذة في المدن خاصة الكبيرة والصغيرة، تأتي (الشرفة) التي تلعب دوراً مفصلياً في مسار حياة البشر، عاداتهم ومشاعرهم. شرفة الرومانسية والغزل والأحلام، خاصة في مطالع العمر، شرفة التأمل والقراءة والكتابة. شرفة الترحيب، والوداع، حين تسرْح النظرات الأخيرة للراحلين إلى المعلوم والمجهول. الشرفة التي تنعقد حولها الغيوم والضباب.
خلال كارثة الوباء المستجد، لعبت الشرفة دور الحيّز الكرنفالي لحياة أراد لها القدر أن تكون داخلية محبوسة ومعلبة وكئيبة. تشاهد القوم عبر الشاشات، في روما وباريس ومدريد وغيرها الكثير من مدن العالم المحاصرة من عدوان لا مرئي هذه المرة، كأنما جيوش التاريخ الغازيّة أودعت روح الذعر والهلع، في هذا الكائن المجهري. ترى المدن والبلدات، تخرج إلى الشرفات يتبادل أهلها التحايا والابتسامات والأنخاب، يحرضون الأمل الغامض في النفوس، التي أوشكت على الانطفاء والإنهاك. يحيّون الأطقم الطبية المرابطة على الخطوط الأمامية في المعركة لدحر الخطر والموت.
بسرعة اكتسبت اللغات البشرية، مفردات وقواميس الحروب المتراكمة، في مواجهة خطر الفيروس المستجد. فلم يتعبها النحتُ والبحث، إذ العدّة وطبيعتها اللفظية العنفية جاهزة. وهل هناك في تاريخ الكائن البشري، أكثر ثراء وغزارة من قواميس وأحداث الحروب والصدامات؟! العدة التعبيرية للإعلام جاهزة ما عدا ما يكتشفه الأطباء والمختصون استنباطاً واستنتاجاً من خلال مواجهتهم اليوميّة واللحظية ضمن المعركة المحتدمة، والمتعلق بالحقول العلمية والطبية. إذ تتسرب مفردات ومصطلحات غير معهودة تأخذ طريقها إلى ألفة الاستخدام والتداول.
الآن في هذه الفسحة الهاربة من براثن الحرارة في محافظة مسقط، أجلس في سفح من سفوح الجبل الأخضر. الطقس رائع، غائم أحياناً وممطر في أخرى. أغيّر مرصد الرؤية من النافذة التي يتطلع منها أبطال الروايات والأشعار، إلى مذبحة العالم والتاريخ، كما يتطلع منها نفر وحيدون يتامى تخبط خيوط الضوء المتسلل، هيئاتهم الشبحيّة المرتجفة.
أغير النافذة نحو الشرفة والحديقة الملحقة بالمنزل وحتى إلى الفضاء البري الذي لا تكاد تلحظ فيه كائناً بشرياً أو حيوانياً إلا ما ندر، بعد إغلاق الجبل أمام الزائرين الجدد.
أشهر الصيف الطويلة في مسقط والمناطق الأكثر حرارة ورطوبة ورياحاً (غربية) محت عادات وتقاليد الجلوس في الشرفة، حتى في الأشهر التي يكون فيها الطقس معتدلاً ورائعاً للجلوس في الشرفات والأحلام.. استعاد بعض الأهالي عادة الجلوس قبل اشتداد الحرارة، أثناء عزلة الإكراه الفيروسي، وصاروا يلتزمون بنداءات (اللجنة العليا) في إطلاق التحيات والدعوات للطواقم الطبية الساهرة، والدعوة إلى رفع الفجائع والأوبئة..
من لا يتذكر، في تلك المحطة المبكرة من العمر الهارب، تلك الجلسات الحالمة الحميمية الهامسة التي تشبه برهة من الفردوس المستحيل، في القاهرة وبيروت ودمشق وحلب وشرفات طنجة المطلة على الجزر الايبيريّة واصلة أفريقيا وبلاد المغرب العربي بأوروبا، عبر حلقات من الغزو والحضارة والاجتماع.
الشرفات، منصات اجتماع وتواصل بتجليات مختلفة، وهي أيضاً، تدفع إلى تأمل أليم، في أوضاع الذات والمحيط، بأبعادها التاريخية والوجودية كما في هذا المقطع الذي كتبته منذ أربعين عاماً في دمشق.

(شرفة دمشقية)
الليلُ أسماكُهُ تسبحُ في دَمي
أسماكُ هذا الليلِ الشَّرِسَةِ
مثلُ عرباتٍ عتيقةٍ.
هكذا من غيرِ استئذانٍ هذه المرةَ
نبحتْ أساطيلُهُ /مناراتُهُ/ قوةُ حضورِهِ
في دِماغِ الحَجَرِ.
وحيدٌ أنا أدخلُ غرفتي الأشبهَ بفُوَّهَةِ
مسدَّسٍ
يبحثُ عنْ وليمةٍ
ربما أكونُ أنا أو صديقي.
مرَّتِ البواخرُ يحملنَ الموانئ والدهور الطويلة.
تقلَّبتُ قليلاً في فِراشي / الشاحناتُ
تُلامسُ الأعضاءَ بلطفٍ حريريٍّ
ربما لستُ الوحيدَ الحاملَ همَّ هذا العالمِ
هناكَ آخرونَ يُقيمونَ
خيامَهُمْ في جَسَدي
لكنْ لا مانعَ أنْ أقولَ إني وحيدٌ
ومقيمٌ في رَحمِ الأشياءِ السريعةِ
الزوالِ.
منْ شُرفَتي الدمشقيَّةِ
أُطِلَّ على جحيمِ أيامي الناعمِ مثلَ
ذكرى بعيدةٍ
أسمعُ الأخبارَ العربيةَ
وأسمحُ لنفسي بالتخيُّلِ:
ها هوَ الفضاءُ مشنقةٌ بحجمِ الإنسانِ
المرتدي سلطةَ الحُلمِ
أينَ يُمكِنُ للعصافيرِ والنُّسورِ
أنْ تُحلِّقَ خارجَ جحيمي
أنا الرجلُ المنذورُ للعذابِ
أحدِّقُ في مرايا نفسٍ مقعَّرةٍ
جماجمُ وعِظامٌ وحطامُ أجيالٍ كئيبةٍ
يسكُنونَ القاعَ
ونسوةٌ يَنتحبْنَ في ثيابِ الحدادِ
كأنما العالمُ يجترُّ حطامَ أيامِهِ الأخيرةِ
في قلبي
j h j
الهواء عاصف صباح هذا اليوم في الجبل، على نحو من غبار. لا غيوم في الأفق البعيد أو القريب. مساء البارحة في مرتفعات (جبل المسبت) أشرب الشاي، واقرأ عبر جهاز الهاتف، محدقاً في هذا الفضاء المضطرب بجمال العزلة تحفه أرواح أسلاف آفلين.
شجر العلعلان (العرعر) يكثر في المنطقة التي هي ربما الأكثر ارتفاعاً من بين قمم الجبل ومنحدراته وهضابه. منحوتات الصخور التي تتجلى أحياناً أكثر جمالاً من صنائع الفنون البشريّة، تجثم في هذا الخلاء الموحش منذ ملايين السنين مطلة على قنوات الأودية التي حفرتها الأزمنة والسيول متدفقة بمياه الذكرى حتى ضفاف الغيب.

في (حيل المسبت)
الأشباح تحتضن الفضاء بدم الأسطورة.
لكن لا ظباء ولا وعول تعدو في البرية الفسيحة.
عواء الماضي كالنيازك، يسّاقط على الهضاب والأكمات.

هذا الغروب الجبلي
يحمل بين حناياه
جنازة العالم
مُكفنّة بالأوراد والظِلال.

حين تصحو في الثالثة والنصف تفتح الباب، نحو فناء الدار، ثم تتقدم خطوات في البرية المضاءة بالسكينة والنجوم، تشاهد ما لم تره منذ أزمان وسط ضجيج المدينة وأضوائها.
تلك الجزر التي تشكل ذلك السديم النجمي العذب والموحش. لا صوت إنسان أو حيوان، الليل وحيواته يغمر ويساوي بعدالة بين جميع الكائنات، وحدها السماء تفصح عن ذاتها بمثل هذا الحضور الجمالي المرهف الذي يحيلك إلى طفولات طوتها المسافات والزمان.
في حركتها، النجوم، إضاءة وانطفاء، نعاساً وترحّلاً كأنما تخاطب نفسها، عائلاتها وشعوبها المقيمة في الأزل نجوم الآفاق ودروب الممرات اللانهائية.
تحدق بانخطاف كأنما تخاطبك أيضاً وسط الصمت والعزلة التي تغذي الروح العطشى بعد كراهيات ويباس.
تحدق في جزائر السماء النشوى، أنت الذي لم تبرح مكانك زمناً تخاله عصوراً، ترى ممر طيران من الشرق إلى الغرب ثم ينعطف إلى اليمين مجيئاً ورواحاً، الطائرات تضيء كالحشرات وسط النجوم والسديم الذي يمطر صحواً، متجهة إلى مقاصدها ومحطاتها الأخيرة. فكرت أن حركة السفر والترحّل بين أقطار العالم بدأت بعد حبس وحجر منزلي، في التدفق والانهمار. هذا الكم من الطائرات خلال ساعة، تأخذ سبيلها في هذه المطارح التي يظنها العابر، نائية أيما نأي، أو حتى منسيّة من خرائط الكون.
أخذتني الطائرات من انخطافي وتوحدي مع النجوم والسديم البدئي، صرت أحدق بحنين إلى الطائرات والنجوم، النجوم التي قريباً، سأفتقدها، وسيكون تعويض حضورها كما باقي أركان الطبيعة الخالقة والمخلوقة، في اللغة والأدب، في الخيال والذاكرة. سأعرف كقدر حتمي مثل الموت والغياب، مثل الحب، والأوبئة، في أضواء «المدينة» أو «الحضارة» التي لم أنتمِ إليها في يوم من الزمن الممتد منذ الولادة حتى النهاية، إلا خارجياً وسطحياً بقدر ما انتميت في العمق المعتم، إلى الذاكرة البدئية، إلى هذا الفضاء الوحشي المزدحم بأرواح السالفين، والجوارح والحنين.
هذه المرة حين صعدنا من (بركة الموز) ووادي المعيدن، تلك النازلة القدرية لإحدى الجغرافيات الأكثر غرابة وقسوة، بحيث أن ذات مرة حين صعدنا مع الصديقين الجزائريين أمين الزاوي وربيعة الجلطي المتحدرين من عهود الصداقة المزهرة لبلاد الشام،. حين أشرفنا على الوادي وأخذت السيارة تقطع مجراه الصخري الخالي من المياه التفت إلى أمين الزاوي قائلا: من مثل هذه المناطق المحتدمة بالهواجس والأسئلة والفراغ، يأتي الأنبياء والأئمة والزهّاد… وإلا كيف يستطيعون حمل رسالة إصلاح عالم فاسد في أصله وفصله. طاقة الصبر اللامحدود لتحمل الأذية، شظف العيش والتنكيل ؟
حين صعدنا هذه المرة متسلّقين سلالم الصخور والأزمنة باتجاه هضبة من هضاب الجبل الأخضر التي ترتفع إلى ما يناهز ثلاثة آلاف متر فوق سطح البحر.
كانت ثمة غيوم متفرقة في شعاع المغيب الأصفر، وكان الليل بمراسيه الثقيلة يوشك على النزول.
السيارة تزفر عبر الطريق الصعب، ولم نلحظ أي كائن أو حيوان مثلما لاحظنا في المرة السابقة ذلك القنفذ مُستنفَرا يقطع الشارع الإسمنتي باتجاه الأجمة المجاورة، لكن قريباً من النهاية وعلى مفترق طرق رأينا في الضوء الكاشف ثعلبا وقد دهسته العربات حتى تحول إلى أشلاء وحطام، عدا الذنب الطويل الزاهي (الفريخة) كأنها الروح محمية بعناية المشيئة والخلود.
كان الليل قد دثّر المكان وكائناته الخبيئة بردائه الأسود الحالك.. ليل الجبال والقرى النائية والسهوب.
حمار وحيد يأكل العشب المتاح ثم يتحرك باتجاه ربوة من الأشجار الجبلية، يتبعه ثعلب بسرعة البرق يقطع المسافة، كي لا يلقى مصير سابقه، حتى يختفي بين الشجيرات في الظلام الدامس.
يعود الأرق بهيئات وأشكال مختلفة على شكل وجوه تتوافد من سديم الفضاء الكوني المفتوح على فراغ الأبدية، على هيئة مدن، تنتفض ضباع ليلها في قفار الرجل الوحيد بعزلته (القسرية أو الاختيارية) وهو يحاول نوما عصيا وبعيد المنال.
على شكل أرياف موحشة وقرى محمولة على عواء جريح، ورجال مدججين يحيطون بالأسرى وقد اخترقت أجسادهم
الهزيلة السهام والطلقات.
يعود الأرق على شكل جيش كاسر من الكراهية والانتقام، على شكل بيت مهجور بعد انتحار الأرملة مع صغارها، وبعد بلوغ الجائحة الذروة والهاوية.
يعود الأرق، تعود الأيام والسنون بهذياناتها الثقيلة، وحيد القرن، بنات آوى ينتحبن في المغاور والكهوف.
يعود التاريخ مضرّجاً، تعود المجزرة في مخيال رجل وحيد يحاول النوم والمغفرة.
j h j
تلك الصخرة الساهرة في وادي سرور
بظلال الأسطورة تسبح في المياه
تحرس الموتى في القبور المجاورة
كما رعاة الفجر والنجوم الآفلة تحرس الطيور
في أعشاشها
تهم بالصحيان، حمير القرية والديكة الصادحة في نومها
وتحرس الأزل المتثائب في رؤوس الجبال
تلك الصخرة السابحة في بحر سرور
(كان الوادي يشبه البحر)
وكانت الأعمار والأسماك تكبر
على الحواف المليئة بالطحالب
أصوات القطا تزنر الوادي
شحيج أتان
j h j
شدو يمام في هدئة الظهيرة
يشبه نوح ملائكة جريحة في مضيق

البارحة حاولت في منتصف الليل، أن أخرج من الجانب الآخر من البيت كي أستأنس بمشاهدة النجوم المتلألئة في أعماق سماء بعيدة، لكني أخطأت التقدير، فهناك أضواء الشارع ممتدة إلى الجانب الآخر من أحياء الجبل الأخضر ومنازله التي بدأت تكثر فيها الفلل الفاخرة والقصور بجانب فنادق يتجاوز تصنيفها الخمسة نجوم مثل (انتارا) و(أليلا). ويمكنك أن تشاهد من أحد المنحدرات الجبلية القريبة منه قصر الأمير القطري الباذخ. ومسار تغيير خارطة الجبل البشرية والعمرانية البسيطة باتجاه مستقبل مبني على الحركة والسياحة، نراه في المباني والمنشآت المشرعة في أكثر من مكان.
أخطأت تقدير الخروج من المنزل، فقد كانت الأضواء المدينية تبتلع هيئات النجوم ولمعانها المرسل كهدايا أعياد الطفولة والميلاد، إلى أرض البشر التي تسحقها الأوبئة والجفاف.. وقفت وحيدا… «وما في الموت شك لواقف» لكنه ليس الموت البطولي المتفاخر به لدى المتنبي، انه موت من نوع آخر لا صلة له بالمديح والفخر والبطولات التي ترتفع إلى مستوى الأسطورة.
الموت كهاجس وجودي لدى الفرد المغمور منذ بدايات كينونته الغضة بنزوعات الفناء والتلاشي والزوال. نزوع وهاجس يحاصره ويطبق عليه الفسحةَ والخناق، في اليقظة والنوم، في الحركة والسكون، حتى في لحظة الالتحام العضوي والوجداني مع المرأة المتوهجة بالمشاعر والجمال، لا يغيب شبح الموت والفناء القادم خاصة في هذه البرهة التي يرحل فيها الأصدقاء والأهل واحداً تلو الآخر، مخلفين جراحات من العمق والقسوة بحيث لن تلتئم وتتلاشى مهما حاولنا الهروب والمراوغة إلا باللحاق بهم، إن التأمت، وربما تترحل جراحات ذلك الغياب القدري العاتي إلى رحاب الأبدية ذاتها.
إلحاح شعور الخطر والموت، ينمو ويزداد بداهة لدى الجماعات في غمرة الحروب والأوبئة الكاسحة.
أخطأت تقدير جهة الخروج من البيت، فبقيت واقفاً أُحدّق في مشهد سماء ابتلعت الأضواء نجومها ومجرّاتها، أسمع صوت الطيران العابر من غير أن أرى أثره بين الكواكب والنجوم، وكأنما أسمع رجع أصداء الحنين.
j h j
الحُمُر البرية، الحُمُر رفيقة طفولتنا وحاملتها إلى أقاصي الوادي والنبع، إلى أقاصي الجبال والأحلام، الحمر الحمير أو ما تبقى منها تسرح في غَبش الفجر والأحراش، تبحث عن الرزق الذي شحّ والألفة بعد أن تمزقت أوصال الجماعات التي كانت تسرح قطعاناً، ذكورا وإناثا نراها مفردة تبحث عن الشريك أو بمعيته، وقلما تجد جماعة التأم شملها كما في الأيام الخوالي، حين كانت تسرح، تجفل، تنهق بفرح أو حزن كأنما تنادي غائباً أو مجهولاً ما… مساء البارحة على منحدر حيل اليمن رأيت حمارا وحيدا يقف مسمراً أذنيه، مستنفراً كأنما ثمة خطر قادم. أخذنا في الانحدار إلى الوادي المؤدي نحوه، لكنه وجه خطمه المشرئب الغاضب نحونا. أطلق ما يشبه التحذير والنفير وتحرك قليلا مع نفرةٍ تبعتها صرخة، يريد أن يبادرنا بالهجوم والانقضاض بعد إحساسه الأكيد بالخطر القادم.
حمار وحيد في برية شاسعة موحشة جرداء، أخذنا طريقاً آخر يسلك مرتفعاً بعيداً عنه وواصلنا السير. بين الصخور والأكمات التي بللها مطر قريب.
كنت وأنا أحدّق إلى غضبه المزبد أحاول أن أتذكر شيئا قرأته أو شاهدته عن سلوك هذا الحيوان سواء طور وحشيته او طور استئناسه ورفقته الحميمة المفيدة للإنسان، إلى أن انبثقت تلك الذكرى البعيدة لحمير القرية التي وُلدتُ ونشأت فيها في داخلية عُمان…تذكّرت جارنا في أحد أصياف قريتنا اللاهبة القادم من بندر مطرح لقضاء الصيف وسط أشجار النخيل والمياه. ذات مساء والأهالي مأخوذين بتفاصيل حياتهم اليومية سمعنا جلبة وصراخاً حاداً ينبعث من الجهة الحدرية لوادي القرية الغزير حين تدافع الأهالي من كل حدب وصوب نحو مصدر الصراخ، حتى التموا متدافعين وفي أيديهم السكاكين والخناجر والبنادق، حول الحدث الدموي الذي لم يكن (ضرابة) او شجاراً بين بشر وإنما هجوم حمار هائج هياجا تدميريا، في انقضاضه على «سالم بن سعيد» الذي كانت ذراعه مقدمة لافتراس أو الجسد ربما بالكامل. كانت فكاه القويتان تطبقان على ذراع الرجل والدم ينبثق يمنة ويسرة حين أخذ الموجودون بتخليص اليد والرجل من حتف أكيد.. ولكن ما الذي يدفع حيواناً مستأنساً بمثابة أداة من أدوات السكان في تسيير حياتهم اليومية، وحيواناً نباتياً، إلى افتراس كائن بشري ربما كان مالكه؟!.
ما الذي غيّر، ليس السلوك التفصيلي فحسب، بل وأظهر الغريزة البرية لهذا الحيوان، ثمة نوع من التحول النوعي المتطرف والفريد.
هل هو الاضطهاد والإذلال اليومي والتنكيل، هل هنالك أسباب أخرى؟
الحمير البريئة المسالمة التي لم تكن يوماً مصدراً للأوبئة، يمكن أن تكون لحظة كبرياء وغضب خطيرة ومفترسة.
j h j
في غبش الفجر الجبلي قبل انبلاج أصوات المؤذنين الذي سيغمر الأرجاء والهضاب والمنحدرات المسننة التي تقودك إلى القرى الثاوية إلى مدرجّاتها الحجرية السحيقة. أصوات ديكة تتوزع بنبرات وألحان مختلفة العلو والانخفاض، ونغمة الصداح الذي كان دليل المسافرين في ليل القرى والواحات المبعثرة في التضاريس الغامضة في الجغرافيا العمانية.
كانت أضواء الشارع مفتوحة، لكن وجود القمر الذي ترافقُ دربهُ نجمةٌ واضحة المعالم بكينونتها المستقلة، خفف من سطوة الأضواء الاصطناعية التي تحجب السماء والنجوم والحيوات الأخرى، ليتجلى منها جزء لا بأس به وإن كان لا يشبع فضول رعاة النجوم، والعين المتأملة بضراعة في تجليات هذه الأفلاك والأجرام الراسخة والعابرة.
حشرات الليل الساهرة وصوت ضفادع من برك موحلة، خلفتها أمطار الأيام الماضية، تتصادى مع هسيس النجوم والكواكب في علياء سمائها، نصف المضاءة مثل كهوف القدماء ومنازلهم الممتدة في الطبيعة والجذور… أسمع صوت طائرة أحدق نحوها تعبر الأفق بعلو منخفض، لكن لا أستطيع تبين أي علامة او جناح عدا الهيكل المضاء في المقدمة والجوانب، بينما طائرة أخرى تعبر في الاتجاه المغاير على علو ربما يبلغ الخمسة آلاف قدم كما كنا نسمع نشرة المضيفة وقت الإقلاع ووقت الهبوط.
أزف انسحابي إلى داخل البيت لأكمل نومي من جديد. نظرت إلى جهة الشرق مودعا لاحظت كوكب الزهرة وضَّاحاً بنوره، يخاله البعض نجمة فيدعونه نجمة الصباح، لفرط حضوره ربما من بين محيط الأجرام المتناثرة في منازلها..
هل ما زال على قوة نفوذه الميثولوجي الأنثوي المُغوي كونه يسعف الجرحى والذين ألمَّت بهم النكبات والحروب.

الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر T11موضوع: كقطيع كباشٍ بيضاء فاجأها الهياج نص سيف الرحبى
hassanbalam

المساهمات: 1
مشاهدة: 309

ابحث في: مرتفعات أو سوناتا الكلام   الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر Untitl13موضوع: كقطيع كباشٍ بيضاء فاجأها الهياج نص سيف الرحبى    الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر Icon_minitime2020-10-20, 3:40 pm
@hassanbalam
#سيف_الرحبى

كقطيع كباشٍ بيضاء فاجأها الهياج




مرحى يا شجرة (الغاف) ذات البأس التليد اضحكي عالياً وأنت تحدّقين في نجوم الظهيرة المشرقة بذلك الخواء الشاسعِ بالأسرار البهيّةِ التي لا يدرك مداها غير طيور تعبر باستمرار غدرانَك الوارفة..

* * *

الموج يتدافع أمامي بغيوبه وزَبَده كقطيع كباشٍ بيضاء فاجأها الهياج

* * *

القمرُ، سرَّة امرأة يضيءُ سفوحاً وودياناً، غائرةً في الذاكرة

* * *

ذلك الصبيّ الذي راودته الجنيّة عن نفسه ومضى معها في المفازات والسهوب لم يعدْ بعدُ من رحلته الطويلة التي أخذت أحداثها تتسع وتكبر في الخيال (كما في الواقع) الذي يسردها كل صباحٍ كما تسرد الجداول رحلتها الجبليّة في أعماق الظلام

* * *

ثمة روح تدفعكَ للخروج إلى العالم وسط جَلَبة هذه الحروب والضغائن ثمة روح خبيئة تبزغ من رهافة الأثير تحلّق مع عصافير الشجرةِ التي تحدّق في انكساراتها كل صباح

(١)

نعم هذه هي البلاد هذا هو الوطن العربي التائه بين خرائط ومسافات. أي لعنةٍ مخبّأةٍ بين ضلوعنا أيُّ صرخةٍ يتسلّقها جوعى ومقاتلون في حروب عبثيّة؟ أيّ كوكب يتداعى في الرأس بمثل هذا العتوّ والانهيار؟ أيّ قطارٍ مندفع في براكين الدم تشيّعه النظرات الوجِلةُ ليتلاشى في هباءِ الدخان أي قارب يضمحل في هيجان الغروب؟ إن هذه الحمرةَ التي تصبغ أفقَ العالم هي دمي إن هذا الغبارَ الذي يسدّ منافذَ الكون، ليس ذاك القادم من المرّيخ إنه رفاتُ موتاي وأحلامُ أجيالٍ مزّقها الثُكْلُ ودمّرها الطوفان. وهذا الصراخ المتفجّر من فوّهاتٍ غامضةٍ هو صراخ أطفالٍ يولدون. ماذا تبقّى في زوّادة الراعي يهشُّ الغَنَم في السفوح ماذا تبقى من ضوءٍ لنجمةٍ تستهلّ نشيدها بالبكاء؟ أم تُرى أن الدمعَ تحَجَّر في المآقي كعجوزٍ نسيتها الأزمان؟ أي طريق أكثر رأفةً لهذا الحتف المحيق أي طريق أكثر اختصاراً للإبادة والامحاء؟ لقد أنجز الجلاّدون الطريقَ والخارطة، أولئك القادمون من عصور الفظاظة والظلام وتركوك في قلب المذبحة جريحاً ، ترفسُ تحت هول الانتظار.. شاخصين الأبصار نحو غيمة جفَّ ضرعها تدير الرأس عن أي استغاثةِ أو أنين . (أنتم أبناء الأرض رتّبوا أموركم على هواكم ، حلوا عن سمائي لم أعدْ أحتمل فظاعاتكم وغباءكم) تقول السماء وهي تظللُّ المذبحة بظِلال قليلةٍ شاحبة ، تعبر حدَبَة الأرض المتقيئة كدبْرة حمار تحتله الأشباح والذباب.

(٢)

حسناً: ها أنت في البلاد التي لا تزال تحلم بالعودة إليها وما زال الحنين يأخذك نحو وجوهها الألف والحدائق المعلّقة في الغبار من طريق المطار شعرتَ بالحمّى تعصف بعظامك المتعَبَة من طول الرحلة، وعلى باب العمارة التي نشأتَ في ظلّ أشجارها، يقف (السيكلوب) ذو العين الجهنميّة ملوّحاً بالترحيب والسلامة. تمضي في الشارع لا تحس إلا بروائح موت قادم قَتَلة وشحاذون يجوبون الساحات عربات معبّأة بالجثث والحيوانات . تذهب للسهر في المطعم الذي تبدّى كجُحْر حّياتٍ نافقةٍ .. تتلوى تحت وقع النميمة والقُتام ولا عزاء ينقذك من هذه الأشداق المفتوحة على الحطام. في الصباح التالي تستيقظ مع رأسٍ يتطوّح بعيداً عن جثته الهامدة.

(٣)

هذه الأسطر التي كتبتُها ذات دهرٍ، ربما ثلاثين سنة أو أربعين أو مائة... تحت شجرةٍ تهزها ريح الغربي، أو صخرة جاثمة في الوادي.. وربما في ذلك (المجلس) الذي يستظل به رجال القوافل، هرباً من ظهيرة قاهرة. هذه الأسطر، الأوراق القليلة التي تشكلَّ سؤالاً فقهياً حول الحمل والولادة، البكر والثيّب...الخ تنتصب أمامي صلْبةً، حالمةً، كأنما الزمن لم يأت عليها، الزمن المتسلل كثعبانٍ خبيء يزحف بتؤدة بين أشجار الموز في ضاحية النخيل النائمة.

(٤)

عصافير كثيرة بستان عصافير يحطُّ على أركان الشجر الباسق وعلى مقربة يبني النحل مملكته البهيّة، تتطاير العصافير في الحلم، يسقط عصفورٌ شبه ميّت أكاد أتلقّفه بيدي،ـ وأصرخ في الصِبية الحُفاة ألا يقذفوا الحجر نحوها، ويتركوها تنام وتمرح في رحاب الله الخضراء الشاسعة.

(٥)

هذه هي المدينة الثانية أو الثالثة أو... التي تسكعت بين بواباتها الكثيرة، وأزقتها المفعمة بالقِدم والثورات، تحت وابل أمطار الفجر والنسيم الطلق، مع أصدقاء لم يعودوا أحياء ربما... بحثت في الأنقاض والوحول التي تغطسُ فيها أقدام العساكر والنساء الجميلات، عن التفاتة أو فكرة هاربة من خيالٍ محاصرٍ، تعينك على صوغ الألم والقصيدة... هذه المدينة التي سبقتك إليها الأحلام والأمنيات، تمضي في موكب جنازات لا حصر لها، وجوهٌ أطفأها الذعر والترقب عبر السنين العجاف.. الأنهار جفّت كما تجفّ الدماءُ على أرض الرسالات، وفي العروق المثْخنة بغياباتها وجراحاتها.. ووسط هذه الخرائب والأشلاء لا تستطيع استعادة ذكرى تسعفك على قضاء الليل بأقل كلفةٍ من الكوابيس والدمار. المقاهي هجرها روادها الأوائل واستحالت مرتعاً للسماسرة والشرطة السريّة، وثمة همهمة ضباع تلعب مع فرائسها العاجزة الجريحة، تنحدر من جهة الجبل، لتذكرك بأن الأمور، أُنجزت بضراوة قلّ نظيرها، وأن لا مجال لاستحلاب أمل ما، إلا بما يشبه استحلاب الحنجرة الميتة، ريقاً يبعث فيها دورة الحياة والكلام. لقد أنجزت الأمور بضراوةٍ وقرع السُقوط الكبير طبولَ الهاوية.

(٦)

أنتم يا من تحتلّون كل شيء على هذه الأرض المحتشدة بالذهب والرغبات نصبتم أعلامَكم الحمقاءَ على كل تلّة ومدينة فوق كل بحرٍ أو صحراء وبلغتم الكواكبَ البعيدة جيوشكم البليدة سيّرتموها في كل الاتجاهات. لكنكم لا تستطيعون حتى الاقتراب من تلك الجنان الخضراء الوارفةُ لروحٍ حرّة وقلبٍ طليق.

(٧)

ماذا تعني هذه الوجوه المتقاطرة في نومك منذ بدء الخليقة حتى آخر ميّت شُيّع في تخوم الأمس ألا تكل من الترحال في ذاكرة الآماد؟ وتلك الزيارات المفاجئة في جوِّ يعبق ببخور المآتم وولائم الغبار وجوه مقبلة وأفواج يطويها صلفُ الغياب وجوه صافية أموميّة حنونة وأخرى قادمة من أقصى كهوف الخسّة والجحيم.. إلهي خفّف هذا المدَّ الهادرَ لبحور الموتى يتدفّق في ليل رجلٍ وحيد.

(٨)

النجمة المحمولة على كتف سماءٍ شعثاء تضيء دروب رحّالةٍ يقطعون الآماد السرمديّة بحثا عن حقيقة الوجود.

(9)

ترمقني الغيمة العابرة أمام النافذة بعزيمة الذاهب إلى حقول النسيان.

(10)

الشاعر المحكوم عليه بالنفي والإعدام والمرأة المحكومة بالعطاء والحب كلاهما قطرةُ مطرٍ في ربيع الخراب

(11)

النظرةُ التي تشيّع الميّت المحمولَ على آلته الحدْباء والراحل في راحلته وهي تندفع نحو المجهول، لا تشبه النظرات جميعها، تاريخ النظرات منذ أول عين انفتحتْ على هذا الخلاء الكونيّ: إنها الانفصال القاسي عن هذا التاريخ، التفاتة مذعورة قذفتها الأعماق السحيقة لأحزان الكائن في مختلف عصوره، دمعةً الطفل المقذوف في وهادٍ موحشة.. خلاصة الألم وعجز الأبجديّة.

(12)

لا شيء يعوضني عن غيابكِ في هذه اللحظة، التي تنتشر فيها كتائب الفجر، حزينةً، مكسورةً تتقدم نحو مدينة مهجورة. لا شيء يعوضني، لا سهرة البارحة الحميمة مع الرفقة التي تقاطعت بهم المصائر: كنا نرى أرواحنا ترتجف في مرآة ذلك الليل الذي تنسجه جَلَبة الشاحنات والهزائم، وذلك العواء الفاجع لكلاب متوحشة تحتل المزابل والثكنات.. لا شيء يعوِّض عن غيابك المصنوع من ذهب التذكرّ وأغصان شجر السدر الضارب في صحرائه العاتية.

(13)

مرتجفاً شجر الحور، طوال الوقت، يهتز، حتى حين لا يكون هناك هبوب ريح، دعك من العواصف والأعاصير التي كانت بالأمس تقتلع الجذورَ والحياة في شواطئ آسيا.. مرتجفاً شجر الحور بفعل عاصفةٍ خفيّة تجتاح كيانه الضارب في الغياب، فلا يعرف هدأةً ولا سكينةً، كأنما القدر قذفه في بركان قلق دائم الاشتعال.. وربما بفعل نبوءة متواترة في تلك السلالة الشجريّة التي تسكن البحر والعاصفة.

(14)

يعود المسافر إلى موطن طفولته ليشاهد عن قربٍ نعاجَ روحه تثغو في بساتين الدِمن والخراب

(15)

محمولة على الأكتاف والقلوب أيتها الثورات والانتصاراتُ التي أحرزتها بسالةُ رجالٍ خارقين.. لكن بعد قليلٍ ستنزلين من عليائك إلى الطبيعة النافذة التي نُحت من ترابها الكائنُ وهو يغطسُ في مستنقع أوهامه الأزليّة

(16)

المجد لك أيها السديم المجد لك أيها التيس الجبليُّ للشَبَق الصافر على هضاب الغِبطة والهياج لعصا الراعي يطلع من عروتها شفقُ الصباح المجد لك أيها السقوط المقدّسُ لنيزكٍ يضيء في طريقه ظُلمات الهاويّة المجد لكِ أيتها الأجنحة تحملين زهرة المسافة من أكمةٍ إلى غابة ومن بحرٍ إلى محيط.

(17)

بدأ الشتاء الشتاءُ يبدأ متأخراً هذا العام شتاء القاهرة شتاء بيروت التي فاجأتها الحربُ ومضتْ تعانق قدَرَها بجَمال من أدمنَ الفجيعة والحياة.. المطرُ يهطل من النوافذ الطيور تحلِّق، حاملة في مناقيرها خريفَ القادمين من القرى المجاورة. حبال الغسيل تتأرجح في فضاءٍ جَهْمٍ من الذكريات وعلى مسافة هذا الطمي المائيّ تطفو أصواتُ الباعة والمؤذنين كطيور كسلى تستيقظ من سُباتها الثقيل: ويمكن رؤية المشهد على شكل أحذيةٍ وعرباتِ تتعثّر في البرك والمستنقعاتِ. التي خلفتها سيول اليقظة الأخيرة للفصول.

(18)

أنت الآن بين سماوات تتفتّح زهوراً وينابيع تتطلع من النافذة ويراودك حلم المدينة التي تُولد من خيالات رحّالة يجوبون الآفاق من غير هدف مدينة فائقة الجمال تولد هكذا بحدائقها، بساتينها ومقاهيها بعيداً عن الرقابة وأحلام الجلاّدين... رغم السُحب السوداء والاهتزازات العنيفة أحياناً ورائحةٍ بشريّة منتنة تتطلّع من النافذة وتسرح في حدائق السماء الزرقاء حيث مسكن الآلهة محاطةً بنسورها الفارهة

(19)

سلاماً أيها النسر نَبْلةَ القدر قبطانَ الفضاء تترحل فوق الأرض المقصوفة بالحروب والطاعون وعلى طرف منقارك الغاضب غالباً شبح ابتسامةٍ ساخرة

(20)

بين حدِّ الليل والمطلق واحتدام بروق مدلهمة تقطع طيور الروح رحلتها السرمديّة

(21)

يتطاير غبار طَلْع السماء كشظايا روحٍ أنهكها حلم الحلول بمركب معشوقها المستحيل

(22)

وسط أجواء المجازفة والخطر حيث الذئاب تعوي جائعةً إلى افتراس أثداء الأمهات... والبروق ترسل صواعقَها الغاضبةَ في المنحدرات الأكثر رعباً لسقوط الكائن ويكون الموت قابَ قوسين أو أدنى، تشرق الروح بسناء سعادةٍ ممكنة.

(23)

ها أنت تعود إلى الديار التي هجرت تمنيت وأنت تسمع نداء المذيع باقتراب نهاية الرحلة، أن تعود القهقرى من حيث أتيت أو إلى رحمِ أمك أو تختفي البلاد من الخارطة ويسود الهدوء بمحوٍ صاعق كما مُحقتْ أقوام عادٍ وثمود.

(24)

الغريب يعود الى قريته عاريا كما ولدته أمه لأنه ميّت وقتيل حنين العوْد إلى البدء جرفّه سابحاً في مياه الأحشاء الزرقاء ميمماً شطر حارة الوادي حيث ترقد رفاتُ الأسلاف

(25)

يعود من سهر اليومين الفائتين مثْخناً بجراح الصداقة والنبيذ ينتحي جانباً ويغرق في شميم الذكريات التي هي ليست إلا جماجم وعظام ورأس سمكة يهذي في الغروب

(26)

محمولاً على براثنك أيتها الحياة على أناملك الرشيقة تجوس جسد العاشق كمنجل يستأثر بالحديقة أدافع عنك دائماً باليد العزلاء الوحيدة ضد الأقوام التي تحيلك إلى أنقاضٍ وحُطام

(27)

آبار الذاكرة تتموّج مياهها الغزيرةُ بدويّ الصواعق وزَبد الرعود ولا تتركني أنام... منبلجاً يا فجر حياتي الأخير

(28)

نَفَر من الجنِّ وآخر من الإنس يرتدون ملابس معتمة وقبّعات على حوافها تلمح خيوط شمسٍ حارقة، في حانة مقذوفة مثل كهف بين الجبال العالية والوهاد يجلسون في الجو دخان سجائر أحاديث غامضة عن اقتراب الحشْر والبشر الذين يتحولون إلى ماعز يباع في الأسواق عن حروب البترول واغتصاب الأمّهات في حانة بين الجبال الشاهدةِ على المصائر والأهوال.

(29)

مع أول رشفة شاي وانبلاج عبارة... أتذكرها الآن في ليلٍ فاضتْ أنقاضُه وتوحّشت أحلامُه (وما الإصباح منه بأمثلِ) أصباحٌ أضحت مستوطنة للأحقاد والسرطان

(30)

يا رياح السموم الذريّة ويا عواصف الجليد الكاسحة اقتلعي هذه الأقوام من أمام كوخي ذررّيهم في المسافات والآفاق لا تبقي لهم حرثاً ولا نسلاً ليكونوا عبرةً للأقوام اللاحقة

(31)

أيها المتوحّد كم ضياء عزلتك مبهج وفريد وسط هذا العالم المتفسّخ كعجلات عربة هرِمة تحترق

(32)

طائرة ترتطم ببرج تتبعها أخرى وفي ركن قصيّ من العالم قنابل تنفجر وشموس تستعر من وقعها ترتجف السماوات السبع وعصور الجليد وفي الركن نفسه رجل يقبض بأسنانه على جروح الوحدة والانكسار

(33)

أين ذاك الحمار الذي كنتَ تقوده مهللاً شاحجاً مع طلعة كل صباح، يبعثر الحصى في سيره كمفردات رهيفة، ويُغرق جسدّه في الماء حتى المنتصف، فارداً أذنيْه، محدّقاً في الأفق، وعقاعق خضراء تملأ المكان. وكان في الظهيرة يسترخي واقفاً تحت شجرة السدر بعضوه المتدلّي وعينيه المغمضتين، حالماً بأنثى وحشيّة تركض في السهوب بحثاً عن ظل شجرة.. في المساء حين يعود من تجواله الشبقيّ الصاخب، يتكوم هادئاً، ودموع صافية، دموع النبع الجبليّ تنسكب من عينيه الناعستين، تتجمدّ في المآقي وتفيض على عظام الخدّين، متسلّقةً الجسدَ خيطاً لألاء، حتى تلامس الأرض

(34)

ساجية هي المقبرة هدوء مشوب بأمل الانفجار انفجار بركانيّ يدفع بصبر الأشلاء إلى السطوح. مناديل ورقيّة تتطاير في الفضاء مناديل الموتى الذاهبين في نزهة موتهم المنسحبين أفواجاً من الحياة بأقدام غارقة في الوحل ووجوه عفّرها غبار الأزمان لا أثر يدل على هذا الانسحاب عدا النجمة المنطفئة، نجمة الرماد أمام البوابات السبع لعالمٍ قضى نحبَه قبل أن يولد.

(35)

المريض يهذي إنه يهذي أكثر من أمس هذياناته ترتفع سحائبَ سوداء لجيش مهزوم يسوقه المنتصرون إلى اسطبلات الأسْر: إنه يرى نفسه من غير أن يرى شيئاً ربما رأى نجوماً ومجرّات تتوارى كالدخان خلف هذيانه المريض وكأنها على مقربة من الثقوب السوداء وحيوانات جريحة تحملها الوديان نحو البحر ورأى جنازته تخترق الأزقة تلك التي شيّع فيها جنازة أبيه وأمه قبل سنين ورأى المشيعين يتناوبون الحمل والأدعية وأحياناً ضاحكين كأنما في حفلة عرس، عرس الواويّات التي وُلدت قبل التاريخ نائحةً على ذرى التلال المحيطة.

(36)

ها أنت أيها الغريبُ قد عدتَ إلى مرابع الطفولة بعد أن وصلتَ أطراف النهار بآناء الليل حالماً بالعودة بعناق النجم المضيء على شرفة الطين والنخلة التي زرعْتها اليد المباركة للملاك ها قد عدتَ: تجمّع الأهل والأقارب من كل فجّ وحارة تجمعوا سفحوا دم الذبائح، أكلوا تبادلوا أحاديث كثيرة، وذكريات لكنك بقيتَ شاخصاً بصرك نحو النجومِ التي يسّاقط نورها الميّت فوق الهضاب كالضحكة التي انطفأتْ قبل أن تطلقها مجلجلةً في الفضاء.. لقد جفّت مياهُك أيها الغريب وروح الملاك غادرت الأحبّة والمكان

(37)

تلك الطُرق الملتوية بين جبال وشعابٍ تتناسل أطيافها في الخيال الطِفلِ، لتفضي إلى قرى معلّقة في فراغ الأطواد الباهضة، أو إلى صحراء تبتلع النسرَ والزمانَ كما يبتلع القرشُ صغارَ الأسماك في طريقه إلى مأدبة في أعماق الأوقيانوس... تلك الطُرق الأولى، هي التي أفضت إليك بأسرار الوجود المقذوف في سحيق العَدَم الأزلي.

(38)

النخلة الوحيدة أمام البيت تحيط بها غابة أشجار غريبة جُلبتْ من خارج المكان، تحلم بعائلة النخل والجذور بالأطفال والخِراف السارحة بين الجداول والنجوم.. ما الذي رماها في هذا البلقع الخاوي بين أكوام الخراسانات والنحيب من شنّ عليها هذه الإبادة الأكثر فتكاً من جميع الحروب؟.. نخلة نجران التي بجّلها العربُ القدماء نخلة مسجد الوادي وقد سُفحت حولها الهدايا والنذور.. النخلة تحلم بالرحيل بالإعصار الذي سينتزعها من الموت المتْرَف ويصحبها إلى حيث تريد

(39)

قاتلوا كثيراً ناموا على الأرصفة وتحت ضجيج البراكين القطارات مرّت على الأجساد النازفة وألقتْ بها في مهبّ الفيضان النساء لوّحن من البعيد... ولأنهم في وطيس المعركة لم يستطيعوا اختلاس نظرة إليهن حتى أشرفت نجمة المتحاربين على الغياب.

(40)

النيازك تمخر عُباب السماء تتبعها مذنّبات صغيرةٌ كديناصورات تتمرّن على الركض التماسيح في هدأة الظهيرة تزحف تحت ركام النهر والحمام الزاجل يحمل البريدَ السريعَ إلى مخلوقات الكهوف النخيل الهائم في الفضاء يتحدّث بلسان الغيب: تلك واحدة من العلامات الكثيرة لانبلاج العصور السعيدة في التاريخ.

الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر T11موضوع: فـي أي بقعةٍ وطأتْ لأول مرةٍ قدمُ الجدّ الأكبر ؟ نص سيف الرحبى
hassanbalam

المساهمات: 0
مشاهدة: 393

ابحث في: تحت طائلة النصوص   الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر Untitl13موضوع: فـي أي بقعةٍ وطأتْ لأول مرةٍ قدمُ الجدّ الأكبر ؟ نص سيف الرحبى    الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر Icon_minitime2019-11-08, 1:39 pm
فـي أي بقعةٍ وطأتْ لأول مرةٍ قدمُ الجدّ الأكبر؟
نص جديد لسيف الرحبى
#سيف_الرحبى
@hassanbalam

(مَن أخطأته المنايا قيّدته الليالي والسنون.)
الخليل بن أحمد

في الركن القصيّ من مقهى كوستا
المُضاءَ الجوانب والحوّاف، نرى النُدُل
جيئةً وذهاباً ، وسط غيمةٍ خفيفةٍ
وكأنما في كهف، أشباحه ورسومه
تتموّج بفيض غموضها السحيق.
من طاولتك تنظرين إلى ركني القصي
نظرةَ عاشقة أضناها غرامُ
البحث عن ضالة جوهرها الشريد.
سرحتُ في رحاب النشوة طويلاً
تخيلتُ دموعاً وأشجاراً بريّة، عصافيرَ
وغنماً يسرح بها عذارى وعُشّاق..
لكن الاكتشاف لم يكن أليماً، حين
عرفتُ أنكِ لا تنظرين إلى أحد.
* * *
كان هولاكو يزهو بكبريائهِ
فوق الجبال والهامات
دانت له الأممُ والممالك
أحصنتهُ تخطفُ البَرق والطيرَ
من وكناتِه
قبل انبلاج ضوءِ الصباح.
وحين حانت ساعة احتضارهِ
لم يتذكّر إلا مؤخّرة امرأة قوقازيّةٍ
تهتز بمشربٍ في الساحة العامّة
بينما الجثث تتوزّع في الجنَباتِ
والآفاق
* * *
لست من العابرين ولا من المقيمين.
لستُ إلا ذلك الشبح اللامرئي
وهو يحوم فوق جثة تاريخٍ
أحالتْه الأعاصيرُ الهُوجُ
الى أشلاءٍ وركام.
* * *
الراحلون في بهو الفندق، بالمناكب والأكتاف يتدافعون تدافع الموتى في قبورهم التي تبعثرت من غير شواهد ولا أشجار.
موظفة الفندق في حركةٍٍ عاصفة لا تفكر إلا في آخر الأسبوع وعطلةٍ هانئة.
* * *
من أين يأتي كل هؤلاء التائهين الحيارى والثقيلي الأحمال؟
من كل الجهات يتدفقون كهدير مياهٍٍ أسطوريّة.
لم يعدْ هناك مسيحٌ يُسند أرواحهم التي توشك على الاضمحلال.
* * *
الحقائبُ مُتخمةٌ
والقلوبُ جريحةٌ…
يا حادي العيس
ما في الهوادج من أحدٍٍ
والمسافات مصبوغةٌ بدماء الأحبة
والذين عادوا لم يشهدوا أثراً
لمنازلَ كانت
ظلّ مغيبٍ، رمادُ غضَى
حيث كانت الريح تهفو
والسماء تحن إلى ساكنيها
حين لا فرقَ بين سماءٍٍ
وأرض.
ولائم آلهةٍ وبشر
في شغاف القلوب.
* * *
في أي بقعةٍ أو صقْعٍ وطأتْ لأول مرةٍ قدمُ الجّدِ الأول، بعد مغادرته الفردوس ونفيه بسبب الخطيئة الساذجة التي أسّست لمجمل الخطايا والجرائم اللاحقة على مر الأزمان وتصرّمها؟
في أي بقعة من كوكبه المنكود كأرضٍ للعقاب والنأي عن السعادة، حين قال:
(…) «تغيّرت البلادُ ومن عليها
ووجه الأرض مغبر قبيحُ»
كأنما كان ذلك الجدُ يعرف قبلاً تلك البلاد، أرض المنفى الأخير. حسب ما توحي العبارة المنسوبة إليه، وما حاق بها من انقلابات وصدوع، أفضت إلى هذا القبح شبه المطلق، أرض غبراء كابية لا تنزل النعمة ساحتَها ولا تنزل الرأفة والحنان.
* * *
لو كنتُ ملكاً على مملكة شاسعة الأرجاء والنعيم والمساحات، لارتكبت في ظرف ساعات ما لا يخطر على بال طاغية من سلالة طغاةٍ عريقة القتل والمحتد… ما لا يستطيع أن يرتكبه في كامل حياته وحياة سُلالته المديدة في الزمن والبشاعة والاستباحة ..
يحلم السجين بين الجلدات التي تهوي على جسمه المتداعي من سياط الجلّادين… (بعض توصيف لانسان السلالة الآدمية)
* * *
لست شاعراً ولا حالماً بمجدٍ أدبي تليد.
لكن الغيومَ حين لامستْ جسدي
وأرى الأبقارَ ناعسةً
في الحقول
أتحوّل بنشوة الحلم إلى قوس قزحٍ، سماؤهُ تمطر شآبيبَ الرحمة والأخوّة والحنان.

* * *
مثل نجمةِ الهاوية
تلمعين في ظلام الصحراء
أو في ترّهات الغابة
غضبكِ الوحشي (غضب الشجر المبارك من أجل خلق الخضرة الأبهى)
وحلمكِ الأقحوان

* * *
في هذه اللحظة، من صباح يوم غائم في بلاد الغال القدماء، حيث كانت تحتدم حروبٌ ومذابح من غير اسم ولا تاريخ…
أتذكرك يا ابراهيم الجرادي يا خيري منصور، موسى وهبة، جابر مرهون… وبقية العقد الفريد الراحل في هذا العام وكل الأعوام. وجوهكم أراها في مارّة كُثر توزع ابتساماتها بين الغرباء والحشود.
السحب تعبر ثقيلة ملآى
الأقداح تُقرع على حافة النهر الذي يشطر البلدة إلى جنائن وضفاف..
هذه اللحظة في هذا المكان البعيد الذي ألوذ به من جبروت الظلام والشمس:
أتذكركم أيها الأصدقاء أحياءً وموتى، محمولين على أجنحة النأي والكلمات..
* * *
غروبٌ على دير الراهبات
يسيل شبقاً على النحور والشفاه
غروبٌ على ثكنةٍ للعسْكر
غروبٌ على ضفاف الأحلام
غروبٌ على مكبرات للصوت
تنعق بالكوابيس والوعيد
غروبٌ على الصبايا المراهقات
يتقافزن على حبال الأمنيات
غروبٌ على المقابر والجوامع والاسطبلات
غروبٌ على الشعراء والعُشّاق
على الجلادين والسجون
غروبٌ يحمل البلاد إلى حتفِها
في مقبرة السُلالات..

* * *
بعد قليل: تذهب الأشجار إلى غروبها
تعانق الظِلالَ
والأشباح.
* * *
القرويّات يحملن الغروبَ
في جرار الفخّار على الرؤوسِ
والأكتاف
الحطّابون ، أحلامَ الشجر المكسور
وقوداً لشتاءٍ قادم
رجال الأعمال يحملون الحقائبَ المُثقلة
بالمظالم والجروح..
* * *
عطر حضوركِ
يملأ آفاقي
بحكمة الوردِ وجنون الأطفال.
* * *
كم أنت واهبة للحياة أيتها الأشجار
أيتها الجبال والغابات
كل هذه الحيوات، ما ظهر منها، وما بطن أكثر،
ترعى وتتغذى في ظِلال مجدكِ الباسق.
كل هذه الطيور والحيوات ، والجوارح
والسباع، تتناسلُ جيلاً بعد آخر في أزلكِ
الذي بلاحدود..
يبزغ نمرٌ مرقّش من زرقتكِ الحالكة.
النمر يحمل جمال الآلهة وتمرد إبليس
ذئب يعوي على مقربةٍ من بحيرة
ذئبُ الفَقد يعوي قربَ البحيرة التي
انتحر في تخومها (لودفيك الثاني) من فرطِِ
عواصِفه ورؤاه..
مزدانة بالنجوم والنيازك أنتِ
تسّاقط مع الأوراق الخُضر الأرجوانيّة
في حُضنكِ التليد
أيتها الناطقة بلسان الغيبِ
ولهيب الحواس.
* * *
«في كل حبّة رملٍ يمكن أن نرى العالم بأكمله…»
كم من العوالم في رمال البحار العُمانيّة الشاسعة؟!
لكنّ القوم لا يرون البحر والرمال، ولا يرون أنفسهم…
عمىً وراثي ومكتسب، مُستحكم وعنيد.

* * *
مع كلبتها (آخر ما تبقى من حطام الدنيا) تتنزّه في الحديقة ذات الأبراج والتماثيل، المرأة المُسنة ذات المظهر الارستقراطي. لا تتذكر مجدَ الحضارة، ولا مغامرات الجسد
والمعرفة.. الكلبة وحدَها تقفز في الحديقة والذاكرة.
* * *
مثلما حبّة الرمل تلخص عالماً في رحابتها اللامرئيّة، فهذا العصفور الصغير الأصهب الذي يتقافز أمامي في صباح مأهول بغيوم تطل من قسماتها شمسٌ رحيمة، يلخصُ عالمَ الطيور والغابات في حركته وصوت وحيه الرباني، يسرحُ وكأنما في حقولِ أبديةٍ خالدة..
* * *
الخلود يتناهى أحياناً في حيوات متناهية الصِغر . تكادُ لا تُرى على وجه البسيطة والتاريخ الصاخب بالقادة والرموز، بالحروب والاكتشافات والأساطيل الذريّة..
* * *
«ان الدودةَ هي الامبراطور الوحيد والأكثر خبرةً»، بشأن التغذية، فنحن نسمّن الكثير من المخلوقات لكي تسمننا ، ولكننا نسمّن أنفسنا للديدان»..
أقرأ هذه العبارة لشكسبير التي تعيد اللحن الجنائزيّ لمآلات البشر ومصيرهم وتُذكر الأباطرة عبر التاريخ ، بأنهم ليسوا أعظم من دودة الأرض، فاغرةً شدقيها بشبق انتظار زيارتهم الأخيرة. الدودة أو الديدان التي سيكونون مع حاشيتهم وجندهم في ضيافتها الأزليّة عما قريب.. هذه المرة هي التي ستغمرهم بكرمها ودَفق نِعمها السامية جهةُ الافتراس والتنكيل والمحو.
لكن الأباطرة لا يريدون أن يتذكروا، أن يعكّر صفوَ معيشهم وبذخه أيُ معكرٍ، مهما كانت بداهته وحتميته الصارمة التي لا فكاك منها. رغم كل التمائم والقصور والأسوار العالية والجيوش (… ألفيتَ كل تميمةٍ لا تنفعُ) الأباطرة لا يرعون عن غِواياتهم وظلمهم الساحق لحياة البشر والحيوان والنبات، حتى تستلمهم تلك الهوام الأسطوريّة كي تذكرهم بماضيهم المجيد، وربما النَدم ولاتَ ساعة مندم. وربما سيكونون في مكان آخر خارج الندم والغبطة والعقاب. لكن الأكيد أن الدودة- الهامة، ستكون في استقبالهم بكامل جبروتها وكامل الصفات التي كانت تزيّن حياتهم ببريقها السحري الأخّاذ..

أقرأ العبارة الشكسبيريّة على سبيل الصدفة في الحديقة العامة بهذه المدينة الويلزيّة ذات الصيف الشتوي الممطر فوق البحر وعلى قنوات الأنهار، حيث قراصنة الشمال كانوا يعبرون بلحاهم الصهباء المضرّجة بالعواصف والنبيذ والذين لم يكونوا بحاجة إلى قراءة شكسبير أو إليوت، كي يتذكرون ويدركون صواعق الحياة والمآلات والمصير ، فهم يمتطون وقائعها اليومية وأشباحها المتناسلة، في ظلمات المياه والأعماق كل لحظة وهنيهة تحملهم إلى الأبعد والأكثر خطورة ووحشية.
ألحان الكنائس في غزارة أجراسها تتوالى مجلجلةً في هذا الفضاء المدلهم البهيج..
انه يوم أحد….
* * *
وأقرأ أيضا لباسكال «كل الشرّ الانساني بسبب واحد: عدم قدرة المرء على الجلوس هادئاً في غرفة»
بعد قراءتي عبارة الفيلسوف الفرنسي التي هي من تلك العبارات أو الشذرات المكثفة بالمعاني والدلالات حد الانفجار، تبادر إلى ذهني أن قائلها يقطن بلداً مثل فرنسا طقساً واجتماعاً وحضارة، حيث الجلوس الاختياري في تلك الغرفة الموصوفة، يمكن أن يكون مختبراً يلخص العالم، الأماكن والثقافات والطقوس. جلوس حر في غرفة تمتد لأمتار، لكنها بحجم الكون دلالة ومعنى، يمكنها أن تمتص الشر والعنف اللذين هما من طبائع البشر الأكثر عمقا وأصالة، ويتجنّب صاحبها الارتطام بالخارج حيث يسكن الشر وينتشر العنف الصامت الخبيء أو الصارخ الفصيح. اللجوء إلى الغرفة لجوء إلى سكينة الداخل وهدوئه مقابل الخارج وصخبه.
بهذا المنحى تأخذ الغرفة بعدها الرمزي وليس المكاني فحسب. لكن انطلاقاً من هذا الأخير وسماته المتجسّدة في غرفة يحتويها منزل وحيّ ومدينة أو قرية.. لكن بما أن شذرات من هذا النوع «حمالة أوجه» فهذا. (والعبارة الأدبية عامة على الأرجح كذلك) البعد الواقعي الحسي للغرفة، ينقلب دلاليا ، إذا كان في بلد عربي على سبيل المثال وخليجي على الأخص، حيث اللجوء إلى الغرفة أو الأماكن المغلقة بالتكييف والهواء الصناعي ضرورة واجباراً كهروب من جبروت الطقس وحرارته البالغة. هنا ينتفي فعل الاختيار في معظم أوقات العام، للجلوس الحُر في الغرفة داخل البيت ، لينطلق منها الخيال المثمر، إلى مناطقه الشاسعة ممتصاً عنف الخارج المدلهم الذي يغري عنف الداخل الخبيء بالانطلاق والانفجار. فتجسد الشر كسلوك ونمط حياة، أفراداً وجماعات ودولاً… لكن العزلة، اذا أخذنا الغرفة كبعد رمزي للعزلة عن الحشد وقيم القطيع المهيمنة، تبقى ضرورة في كل زمان ومكان، ولا يمكن للانسان ، المبدع خاصة، أن يحقق شيئا ذا معنى إلا في ظلال نأيها العميق.
العبارة حمّالة أوجه ودلالات وربما ثمة بعد لاهوتي فباسكال بجانب صفتيه كعالم فيزياء وفيلسوف فهو لاهوتي يربط الوقائع والنظريات بأبعاد لاهوتية. وربما غير ذلك.
* * *
هذا الصباح في حديقة فندق (السانت بول) بمنطقة (همر سميث). هذا الفندق الذي يحمل علامة تاريخ حاسمة في التاريخ الأوروبي ، كونه احتضن الاجتماع الذي سيقلب معادلة الحرب الكونيّة، بين ونستون تشرشل والرئيس الأمريكي ازنهاور، مع جنرالات الحرب . ومن أفقه ينطلق إنزال (النورماندي) الذي احتفل أحفاد المنتصرون بوقائعه منذ شهر من هذه اللحظة التي أتسلى بالكتابة في فنائه الأخضر، وقد كان سَكني فيه بمحض الصدفة فذكريات الحروب والمعارك في البرهة العربية الراهنة، لا تبعث إلا الأسى والألم، بعيدة كانت أم قريبة.

أسرّح النظر في الأشجار العتيقة الملتفّة بجذوعها وأغصانها وجذاميرها غير عابئة بحروب البشر وفَنائهم، انتصاراتهم وهزائمهم، وأنا أقرأ كتيباً يُقارب سيرة (روسو) ويختزلها، مما جعل انسجام النظر والتحديق الشارد في أشجار الغابة الصغيرة مع مقولات روسو ورؤاه التي تشبه الشطح الصوفي، حول الحضارة وقذاراتها المرضيّة والوبائيّة «إن تقدم العلوم والفنون يفضي إلى إفساد الأخلاق».. وحنينه إلى (انسان الطبيعة) الفطري الحر المطمئن الذي لا تُحرك حياته المصالح والصراعات التي بالضرورة تفضي إلى سفك الدماء والمجزرة..
والبالغ الطرافة والمفارقة في هذا السياق ، حين بعث (روسو) بمشروع كتابه (خطاب التفاوت بين البشر) إلى (فولتير) والاثنان من أبرز مفكري عصر الأنوار والعقلانية الحديثة الذي مَهد بشكل حاسم لانبعاث الحضارة الأوروبية والبشريّة. ضاق فولتير ذرعاً بمقولات زميله المتشظي بين أطاريح العقل والبناء الحضاري وإنجازاته الدستورية والمؤسسية والقانونية (العقد الاجتماعي) وبين حنينه إلى فجر بدايات الكائن على هذه الأرض والفطرة والغريزة، فكتب فولتير ردّه الساخر «لم يُسّخر أحد فكره بقدر ما سَخرته أنت لكي تجعلنا شبيهين بالبهائم، يشتهي الانسان حينما يقرأ خطابك أن يمشي على أربع».
لو أطلّ (روسو) راهناً من قبره سيرى ما أنجزته الحضارة من عظمة وابتكارات كان نزوعه إلى نقيضها ، رغم مساهمته الفاعلة في صياغتها، لكنه يرى بشكل أكثر انسجاماً مع رؤيته وحدْسه، ذلك الجانب المظلم الوحشي الدامي في السحق والتدمير على مستوى الكوكب الذي انقرض منه شبح (الانسان الطبيعي) واضمحل ليجد رجال الأعمال والتفاوتات الطبقيّة، بأرقامها الفلكية ومسوخات الجشع والمال.
تبدّى (روسو) انه من ذلك الرعيل من الفلاسفة النادرين في تاريخ المعرفة ربما ، أولئك الذين يغنيهم فكر التناقض ويثريهم التباين الغريب بين الواقع والحلم والحنين، فهو يعرف استحالة بعث «انسان الطبيعة» والوقائع راهنا ومستقبلاً هي التي تؤرخ للتقدم الحضاري علماً وفناً وابتكارات لا تنتهي عند حد، لكنه احتفظ بحلم الشاعر وحدسه العميق.
روسو ، الذي يتبنى أكثر الفضائل الأخلاقية سمواً وبعداً عن المنفعة والغاية بنزوعه الطبيعي لا يتورع، عن أن يرسل أطفاله السبعة إلى دور الأيتام .
أي متاهة من التناقضات تتلاطم في الواقع والمخيلة نظراً وسلوكاً لدى بعض أرباب الفكر الثاقب والرؤية العميقة، بحيث يحار الباحث والقار ئ في سبْر هذه الأغوار المعتمة أو الترحل في تخومها المفُعَمة بالالتباس البهيمي وكذلك الانساني السامي؟!
* * *
تضاريس جذوع الأشجار العملاقة وخرائطها المحفورة بمعاول السنين المتراكمة، الخصيبة منها والعجاف، شامخة بحزن، أمام الزمن والعواصف الرعديّة والمطر. كلمة الشموخ لا ينبغي أن تستعمل إلا للأشجار والجبال وتجليات الطبيعة الوحشيّة، وليس لبني البشر… كم من ملك وجنرال تنزه في ظلالها ، ذهبوا إلى عدمهم الساحق من غير أن تحس بوجودهم ولا بالغياب مثل الحشرات والدواب في دوراتها الحياتيّة القصيرة. لكن هذه لا تفكر في مجد أو غزو وإنزال في خضمات هذه الحياة الفانية.
الطيور والسناجب تتقافز بفرح غامر تحت الأكمة الملتفة في دروب الحديقة. والكلب يركض وراء كرة العشب كأنما يطارد حلم أنثى قد تعود بعد قليل، بين القفزة والأخرى يطلق نباح الأمل والانتظار.
حيَوات هذه الكائنات قصيرة لكنها مفعمة بغبطة الغريزة والفرح والحريّة.
* * *
رجل في منتصف العمر على ما يبدو. (لكن أي سنة تحدد مفاصل العمر ومنتصفه؟) يجلس على كرسي الحديقة المستطيل، بحركة مرتبكة يفتح علبة البيرة التي تحدث فرقعة في هدوء الحديقة. على رغم هيئته الرثة لا يبدو عليه انه مشرد (هوملس) مكلوم المظهر والملامح. حدست ان ميله إلى الشقارة لا يجعل منه انجليزياً، انه من نواحي أوروبا أو من بعض دول أمريكا اللاتينية المنحدرين من أصل أوروبي خاصة الأرجنتين، بعد أن سفح عدة علب رخيصة، تحدث عبر السياج مع نادلة المقهى الذي أجلس فيه بلغة تنتمي إلى احدى دول أوروبا الشرقية. فهؤلاء أصبحوا جيش عمالة يمد المراكز بما تطلبه في سياق بنائها وحياتها. تبدو هذه الدول التي تشكل المستوى الثاني في التطور التكنولوجي، أشبه بالهوامش بهذا المعنى، لكنها لا تقارن بالطبع بالهوامش المستنقعيّة للعالم الثالث التقليدي فهي بعد تحررها من عنف التولتيارية الشيوعية، تعبر هذا المخاض العسير من التشظي والفساد والديمقراطية الرخوة… وما زالت تتطلع إلى الحياة والمستقبل الذي يليق بمسارها التاريخي وقدراتها علماً وفناً وجمالاً.
الرجل ينهض من كرسيّه في الحديقة، بعد أن أباد كل مؤونته الخمريّة ماضياً في المدينة الكبيرة إلى مجهوله الخاص.
وهناك طيور دوري وبلابل وعقاعق وطيور ماء وما يشبه القطا تتجمع في مراعي جذوع الأشجار العملاقة تنقر رزقها وتتطاير على مسافات قصيرة في سماء الحديقة الخضراء النديّة.
* * *
غيوم الصيف التي تتلوى وتعبر في سمائها،
تلك هي أعمارنا والذكريات.
الأشجار المنتشرة على كوكب
اليباس
هي ما تبقى من وعد للخليقة المنذورة للهلاك
المدينة هي المدينة، بشريّة
تندفع في بريّة الدم والأرق
دخان وصليل عربات ومذابح
الأنهار تمارس أزليّتها من غير خطأ في الاتجاه.
لا شيء يعلل تحليق الطائر،
عدا علة الطيران في أفق الحرية
طيور تتكاثر على منصّات الأشجار
طيور هائمة
وديعة وأخرى تخبط الجذوع
والأغصان في نشوة سفاد
أو نذير قيامة
طيور لا تعرف المدينة إلا كمقبرة
أو صحراء غادرتها رمالها الأبديّة
طيور تدخل المقاهي والحانات فترتطم
بالجدران والزبائن بعنف مَن أضاع
طريقه ووقع في مصيدة:
المقاهي التي تعبرها كل يوم لا تعرفها
إلا عبر الفضاء الطلْق.
الغريبة المزدانة بالهواء والطيران
* * *
اليوم لا أعرف ما هو اسم هذا اليوم فلم أتطلع إلى الشاشة كي أعرف الأخبار، بداية من اسم هذا اليوم في نهر الزمان الذي أتركه يتدفق في جسدي وجسد الخليقة بمياهه العذبة والمرّة… ما أعرفه أن يوم عودتي من هذه البلاد الباردة يقترب، لكني أحس في هذه اللحظة من الصباح المطل على أشجار الحديقة المتماوجة بفعل ريح خفيفة، أحس بصفاء ذهني لم أعهده في أيام كثيرة تعبرني في هذا المكان أو ذاك الزقاق، صفاء لا أعرف مصدر شفافيته وحضوره الروحي الأخاذ لدرجة انني أريد أن أفتح النافذة وأقفز إلى صحن الحديقة كطفل أو طائر منتشٍ بطيرانه في أنحاء الحقل والنجيل المخضب بندى أمطار البارحة. هذا الصفاء وهذا الانخطاف الروحي في هذا اليوم التائه في زحمة الأيام على رغم الحديث المأساوي في سهرة البارحة مع شخص تعرفت عليه حديثاً على غير عادتي، أسرني مع زوجته، باللطف والدماثة وتلك الثقافة والتجارب، من غير تكلف ولا ادعاء يصاحب عادة سلوك الكثير ممن ينتمون إلى هذه الفئة «المثقفون» أو الكتاب. سرده لبعض تجاربه هو ما تبقى من تلك القرية الفلسطينية التي أضحت قصية وبعيدة من غير ذلك الاسم الذي حملته ، حين كانت مأهولة بسكانها الأصليين، لقد سحقها المحو والاحتلال. تجارب فاجعة أحاقت بالصديق الجديد وزوجته، ليس في البلد المحتل الذي لا يكاد يذكره كحياة ومعيش، وإنما عبر الصدفة المشؤومة في بلاد الحضارة والقانون أودتْ بأمثاله إلى العُصاب والجنون والموت..
وقبل ليلة البارحة كان سياق صدفة الحديث دفعتني إلى أن أروي لشاعرتين من عُمان والعراق، عن ذلك الحدث المأساوي، حيث أواخر الستينيات حين كنت طفلاً أزور مع العائلة صهراً لنا، كان قاضياً في مدينة (نزوى) وشاهدت الحصان المُلقى على الأرض في برهة ألم أقصى واحتضار، وكانت الأحصنة حوله تصهل بنشوة، تسرح في فضاء القلعة بأفراح الحيوانات الخاصة…. تجمع مسؤولو حظائر الخيل حول الحصان المريض الكابي يتبادلون أحاديث غامضة بالنسبة لي في ذلك العمر المبكر، لحظات ورأيت أحدهم يطلق على الحصان عدة رصاصات أودت به في الحال مغمضاً عينيه المرهقتين إلى الأبد.
سمعت لاحقاً أن تلك المقتَلة تُسمى (رصاصة الرحمة) تخليصاً له من أهوال آلام تتفاقم من غير رجاء ولا أمل.. وهو ما انتقل في العصر الحديث خاصة إلى عالم الانسان، حين يبلغ المرض العضال بالكائن درجةً لا عود منها ولا رجاء..
إذا كانت نهاراتي في الأيام الفائتة أقضيها في الحدائق الكبيرة والجنائن مبتهجا بمشاهد الطبيعة والمياه والحيوات، فالليالي الأخيرة مع بعض الأصدقاء المقيمين، على النقيض كانت سرداً مأساوياً لا ينتهي عند حد، وبمثله لا تبخل الأرض العربية خاصة في هذه البرهة من أزمنة الانحطاط الكاسر.
المهم في هذا اليوم الذي لا أعرف اسمه وأنا أتطلع إلى فضاء الحديقة، أحس بهذا الصفاء وذلك الانخطاف الذي يذكرني بلحظات التحليق والشطح الصوفي.
* * *
الحصان المقتول برصاص الرحمة، ظل عبر المسافات والسنين الضوئية، يلاحقني صهيلهُ وأنينه الجريح حتى انطفاء العينين الكبيرتين، كما يلاحقني تاريخ ثورات وشعوبٍ منحورة مغدورة… ولا يفتأ كذلك حتى انطفاء هذا الكائن حامل الجبال والذكريات على كتفين أضناهما ليلُ الهاجرة والرحيل والغياب.
* * *
لكن السؤال، ما الذي يجعلني منتشياً بصفاء روحي وصباح رائق بعد ليلتين من أحاديث دمويّة كابوسيّة، أو بالأحرى ليالي على هذا النحو المحتشد بآلام البشر والحيوان. في البرهة العربية الراهنة، ما ان نلتقي بصديق حتى لو كان يعيش في أجمل مدن العالم ، إلا وينفجر لا شعورياً حول تلك البلاد المنكوبة بكل أنواع الأوبئة والمذابح والكراهيات، ولا نفع من محاولة التخفيف أو نفعه ضئيل ، من الهروب من براثن ذلك الوحش الأسطوري الذي يربض على النفوس والقلوب.
أما تلك الهنيهات من الصفاء والروقان فربما على الطريقة (الأرسطوية) في الوظيفة التطهيرية للمسرح التراجيدي.
* * *
البحر ، أمواجُه تعلو سماءً
خفيضةً في (صور)
والبّحارة يتحدثون عن أمجاد غابرة
حين كانوا يدفعون السفن نحو الأقاصي
بأيدٍ مجدولةٍ من شغف وعزيمة
مشتبكين مع قراصنة ووحوش
بحريّة لا أسماءَ لها
بينما الأعاصير الرعديّة تزمجر في الأعماق
كان سهيلُ دليلهم
والظلام يلف الكون برداء الموت.
هل تذكّروا آخر تلويحة وداعٍ
بتلك الشواطئ والضفاف؟
تذكروا الأطفال والنساء
نشيد العودة القريبة
الى الأهل والديار
صور التي تنام في هدير المحيط
وكتب التاريخ
سلاماً على أرواح بحارتك
في الذاكرة ما زالوا يمخرون العباب..
* * *
رغم أنها تدفع عربة طفلها إلا أن ضحكتها بين أشجار الحديقة، تبعث الرغبة حتى في الموتى والطيور..
* * *
ناصر وعزّان ، ينظران إليّ من علياءِ نافذة الفندق الانجليزي، حيث أجلس في المقهى المتماهي مع الشارع الصاخب بالمارّة والمركبات..
نظرتهما لامست عمق كياني، قبل أن أغرق في أمواج الحشْد، أخذْت بيدي إلى أفق الروح البعيد، أنقذت الغريق من براثن يأسِه الدامي.

* * *
على طريقة السورياليين
وأنسي الحاج..
يقولون: إنكم لا تكتبون شعراً، ومن قال لكم إننا نكتب هذا المسمى كذلك؟!
الشعر ذهب مع أبي مسلم البهلاني وأحمد شوقي وقبلهما أجيال وأطوار، من أفذاذٍ لا يجود الزمان بمثلهم إلا قليلاً..
اننا لا نفعل، إلا أن نمرّغ ونسحب ، عبر الكلمات والصور، جنازةَ العالم إلى هاويتها الأخيرة.
رفيف النورس في الحديقة على حافة النهر ، هو الشعر/ لعب الأطفال مع السناجب والحيوانات هو الشعر.
صمت المقابر والضفاف على غَمْر المياه هو الشعر..
عجوز يتذكر انكسارات أيامه ولياليه هو الشعر ..
نباح الكلاب ونقيق الضفادع في الليل العماني الحالك هو الشعر..
سيلان الأودية الجارف ، بعد طول انقطاع ومَحلٍ هو الشعر..
الصلاة المرفوعة بإخلاص إلى بارئها
دعوة المظلوم ولعنته
ظباءٌ ترعى في ذاكرة المحبين ، نورسٌ يقود البحّارة إلى جزيرة الكنز المنهوب،
حيث لم يتبق إلا طيف الذهب والحطام،
هناك يقيم الشعر..
ويسكن أيضا في عينيْ القرصان، خريطة التيه ، وفي الأوزّ المهاجر.
في الموجة التي تعيد تكرار نفسها
في عبث مرآة الوجود.
طفل يلهو باطعام الحمام والسناجب في البلاد الويلزيّة، بانخطاف فرحٍ أقصى، على رغم أجواء سماءٍ مدلهمة حيث الغداف يكرك على صغاره خوفاً من الرعد والعاصفة.
الشعر ليس إلا ذلك التحديق المذعور في صخرة الأزل..
دورات عقاب نسْر القفقاس وهو يفترس كبد سارقِ نار الآلهة.
إلا عزلة الموتى البهيجة
وحلم الفارس المكسور في حوْمةِ الوغى
ارتجافة جسدين وحّدهما، وَلهُ أبديةٍٍ عابرة
الشعر ليس أكثر من هذا المشهد، حيث أطفال الحياة يلعبون الغمّيضة مع الطيور والحيوانات وسط أشجار الغابة، وكأنما في أركاديا الإغريق حيث (انسان الطبيعة)
في انسجامِه العميق
الشعر أن تخرج من مخبئك وتقتل أي شخصٍ تصادفهُ في الطريق
أو تفتك بما تيسر من سبايا وسائحات
الشعر أن لا تقول شعراً
أن تصمت ، وتذهب إلى أعمق طبقةٍ في الكراهية والجحيم
وتباً في العصر الحديث والقديم.
سيف الرحبي

* (روسو) أندريه كريستون .ت: نبيه صقر.

الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر T11موضوع: ليل المقاهى والجرائم والقطارات نص جديد لسيف الرحبى
hassanbalam

المساهمات: 0
مشاهدة: 390

ابحث في: مرتفعات أو سوناتا الكلام   الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر Untitl13موضوع: ليل المقاهى والجرائم والقطارات نص جديد لسيف الرحبى    الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر Icon_minitime2019-08-24, 5:16 pm
@hassanbalam

ليل المقاهي والجرائم والقطارات
#سيف_الرحبى

كان الليل ينأى عن مريديه الأثيرين باتجاه الأقاصي، والهاويات التي لا يلملم قطعانَه السود إلا في أنحائها ليأخذ غفوة قبل أن ينتشر في أرجاء الكواكب والمجرات والغيوب.
ليل قطبي البرودة والمزاج، وآخر صحراوي الهاجرة أجردَ بزحفِه الشرس على الكائنات والأشياء والعناصر.
ليل المتصوفة والعشاق يودعونه سرهم بعيداً عن الرقباء والحاسدين. ليل الغنوصيين، والأقوام التي كانت تقدّس الظلام والليل وتعبد الجبال، لأمواج الظلام التي تضطرم وتصخب بغموض أسرارها، في أعماقها الصخريّة العصيّة حتى على الزمان…
الليل نبع الشعر والفلسفة والتأمل في أوجه الخوافي والحقائق الهاربة خلف وعول الغيب، والعناصر والحيوات وقد لفّها الظلام بردائه العميق.
ليل ينزلق بين الصخور الجاثمة والوديان الموحشة بحيواتها النافرة كالجواهر والأسرار الشريدة بين الأزمنة والعصور.
ليل لا يمكن سبر أغواره وطبقاته بمجسّات العلم والهندسة ولا يمكن تشريحه وتهديمه كالأجساد والأمكنة والمواد الأخرى. ولا يمكن تمزيق تماسكه الصلب من فرط تناغمه بطاقة النيران والقنابل والمتفجرات. يمضي وهو محصّن إزاءَ أدوات البشر التدميريّة. انه الأزل وقد تجسّد في صحرائه الأبديّة.

* * *
أم تحمل طفلها بحنان طاغٍ في ليل المقهى المضاء بالنيون. المقهى الواقع أمام محطة القطار، مقهى المسافرين، والغرباء والمقيمين. جلستُ فيه منذ عقود وها أنت في اللحظة بنفس الكراسي والطاولات والردهات المتلألئة باللوحات والألوان والأشكال المتداخلة كأرواح مريديه الذين رحلوا وفرقتهم أنواء الحياة وربما جرفهم الموت والمصائر والمسافات. كنا حين الليل أمواجَ أشباحه وبرده القارس، نلجأ إلى المقهى، يلجأ الغرباء إلى المقاهي ومن لا يمتلك حداً أدنى من المال يلجأ إلى محطات المترو والقطار، لينال دفء الظلام في تلك الأغوار والأحشاء الأرضية التي تمتلئ بالصفير والزئير، بالنحيب والأحلام المحطمة.
حفظنا مقاهي المدن والبلدات في القارات المختلفة، بمداخلها الأمامية والخلقية وبمخارجها، ردهاتها المعتمة ونصف المضاءة المنعزلة عن الجمْع الصاخب، للراغب في النأي والكتابة والتأمل، أو القرفان الذي لا يريد الاختلاط والحديث… مقاهي تتناسل في الواقع والخيال في اليقظة والنوم، راقية ملفّعة بنعم الحضارة والمعمار البديع المشرق، والكابية البائسة مثل المكان الذي قذفته الصدفة فيه، من مقهى (زهرة الدقي) وريش وعلي بابا، في القاهرة إلى مقهى اللوتس في الجزائر، وباليما في الرباط، مقهى الروضة والنافورة وساحة النجمة في الشام. الهورس شو والمودكا والوينبي في بيروت. مقاهي شارع أبي نواس.. حتى كلني والبيري جوردين وغيرها الكثير الكثير… كنا نعرفها أكثر من معرفة غرفنا الغارقة في البؤس والغموض، والعابرة، التي لا نغشاها إلا للنوم والراحة بعد أن يهدنا تعب المدينة واللهاث ونكون على مشارف الانهيار. لتكون تلك الهجعَة، التجديد الضروري الحتمي، لنبدأ دورة اليوم الثاني بوتيرة أقوى وأكثر حيوية من أجل هدف ما أو من غيره، لا فرق، فدورة الحياة تواصل اندفاعها العبثي والجمالي على رغم ضيق ما في اليد وضآلة المورد إن وُجد فهو متقطّع وغير قار، سيكون الإفلاس طيرك الأليف. والتضامن بين الغرباء ما زال موجوداً تقتضيه طبيعة هذا النوع من الحياة المترحلة.
يحدث أحياناً أن تنعدم أي فرصة ماديّة تؤهل لشرب فنجان قهوة، فنظلّ نحوم على المقاهي والمطاعم والمحلات. من يمتلك حس المغامرة في الاختراق والجلوس والسرقة البريئة سيقضي يومه وليله، اعتياديا مطمئنا، وإلا فليطوي على عوز وجوع، حتى الماء يعز أحيانا في البلاد المتحضّرة، حيث إن دخول الحمام على الأرجح له تسعيرته الخاصة.
صديق عزيز حين تداهمه هذه الواقعة من الإفلاس وينفض من حوله هباءً في أفق ليل المدينة الشتوي العنيف، تنفجر فكرة في رأسه، إلحاح ضرورة الحياة ومواصلتها حيث يدخل القطار المتجه إلى بلجيكا على سبيل المثال. وبما أنه يمتلك مراساً طويلاً وخبرة قاسية في التحايل على المواقف، من تذاكر وغيرها، يستمر في القطار حتى يبلغ الحدود المرسومة بين البلدين ويعود أدراجه إلى المدينة نائماً مرتاحاً حليق الذقن لامع الحذاء، بحيث أنه حين يدلف المقهى في الصباح، كأنما نام في منزل وثير مترف، هو الذي لا يعرف منزلاً أو غرفة يأوي إليها، في ذلك الزمان، عراء المدينة وقلوب الأصدقاء، كانا ملاذه ومسكنه.

* * *
الليل الممطر بغزارة وسخاء كأنما السماء تسفح دموع البشر والحيوان منذ وجودهما على هذا الكوكب. ليل ممطر، ناعم رهيف ومتوعد مخيف. الساكنة ترفع المظلات بألوان وأشكال مختلفة، الساكنة المتدفقة إلى المقاهي والمطاعم والساحات، بعد قليل تندفع إلى البيوت والملاذات. المظلات ومارة تجري مسرعة، ثمة مشهد في أحد أفلام هيتشكوك، لموكب مظلات متفجر بالهواجس والريبة.
الأشجار العارية في الحدائق والغابات والشوارع الكبيرة والأزقة تستقبل مدرار المطر بفرح غامض يلفّعه حزن الشتاء الذي سيخلي المكان بعد قليل لقدوم الربيع والنماء الموْرق والاخضرار، أشجار الشتاء والخريف لا تخبئ شيئا إنها الحقيقة عارية في مغيب المطر والصحو.. الحقيقة المتشظية إلى أوراق ساقطة وأغصان وجذوع عارية تواجه المطر والريح العاصفة والمجهول. مجهول الليل القادم الذي بدأت طلائع أعاصيره في الصفير كنذير يترى ويتقدّم غامراً الأنهار والشوارع والعمران حتى مخابئ البشر في الحانات والأزقة والمغاور لا تنجو من الوعيد والخوف والريبة.
ليل المطر والعاصفة والبشر الذين تتحول أفراحهم إلى تكهنات ومخاوف وربما انهيارات.
ليل بربري الوجهة والمزاج..

* * *
ليل الشاحنات، سائقو الشاحنات في تلاطم المسافات المظلمة الوعرة الموحشة أيما وحشة، وسط الخطر الداهم من كل الجهات يوجهون كتل الحديد والعجلات الضخمة، صوب الوجهة البعيدة، ناقلين البضائع والمنافع التي يتبادلها البشر وفق الحاجة والطلب وسط الزوابع المتنقلة التي قد تتحول إلى عواصف مدارية وأعاصير يسوقون الشاحنات. ثمة عطل هنا أو انفجار عجلة وتوقف محرك، وسط المطر العاصف والغبار. وحين تشتد الوحشة الليلية بالسائقين يتبادلون الأحاديث البذيئة والنكات من النوافذ والأبواب. أو يفتحون الراديو على أهازيج وأغانٍ شعبية حفظوها منذ الصبا والطفولة، ويأخذون في ترديدها وترجيعها بنشوة وعذوبة تبدد عزلة الليل الانتحارية الدامية. يحدقون في صور العائلة والأطفال التي علقوها أمامهم كتعويذة تقيهم مفاجآت الأخطار والحوادث، وتكبح جموحهم إلى السرعة وتجاوز حدود السياقة اللائقة في مثل هذه الظروف. ربما مروا في طريقهم على مجازر وحوادث وحشية ارتطاماً وانهياراً لزملاء عرفوهم عن قرب أو لم يعرفوهم. إنها حرب السائقين والآلة الجامحة الثقيلة والطرقات الطويلة. من أجل كسب الرزق، والعيش الكريم وتربية الأطفال.
ليل السجناء والمجلودين تحملهم شاحنات الليل الشديد القسوة والوحدة والظلمة الكاسرة.
لا يعرفون وجهتهم وإلى أين يذهب بهم جلادوهم، معصوبو العيون والوجوه، ترتجف أعضاؤهم وترتعش، كما ترتعش أفخاذ الذبيحة بعد فصل عنقها، يظل يرتجف لحمُها المُدمى، أو مثل رقصة الديك المذبوح بعد ذبحه.
ليل المحكومين بالإعدام، في هذه الفسحة المحشورة في شاحنات الليل والألم والموت، هل يسعفهم الزمن والذاكرة في استحضار شيء من ماضٍ مضى وانقرض، عن طفولة لم تكن لأحد، عن هنيهة حب غارق في السديم والضباب.
هل تعبرهم رغبة في شيء ما من هذه الحياة الآفلة، هل يودون الاعتراف أو لقاء كائن بعينه، صلة رحم أو صداقة ماضٍ مشترك أو صاحب النفوذ لينفجروا صرخةَ مظلومين تهز مجلس الحاكم وتهز عرش الكون.
الشاحنات تمخر عُباب الظلمة الوحشية وتحث الخطى والعجلات نحو وجهتها المجهولة الراعبة.
* * *
في الزمن الماضي في تلك البلاد النائية في الذاكرة والزمن والتاريخ، كانت هناك بضع شاحنات تمخر ليل الواحات الجبلية والبلدات المبعثرة بين الجبال والتلال والمنعطفات الكهفية بظلامها الغزير، ظلامها المحتدم كأنه تجمع أجيال من الظلمات تكدّست، وانتشرت وتراكمت في هذه البقاع التي نسيتها العناية، ونسيها الزمان.
شاحنات قليلة تحمل بضائع المؤونة لسد رمق الساكنة الموزعة في ذلك السديم الوحشي، وتحمل البشر على ظهرها المحدودب بفعل الحمولة الثقيلة، حيث أبسط حركة توقف مفاجئة، كأن يعترض سيرها حمار، أو جمل أو أي حيوان تائه في تلك البرية الشاسعة المقفرة، يفر الركاب من أماكنهم وترتطم الأجساد ويعلو الصراخ، وإذا لم يسقط أحد منهم فوق الصخور المسنّنة، فلا بد من رضوض وجروح وارتجاجات يصنعها الخوف أكثر من الارتطام. ولأن الصمت الجنائزي وسط ذلك الليل المحتشد بالهوام والأشباح، يسمع أهل القرى والواحات من البشر والحيوانات، صوت الشاحنة ويصغون السمع برهافة وترقب باحثين عن مصدره الموزع في الأرجاء وبين الصخور العاتية، حتى ينبلج ضوء خافت من جهة ما، يقترب ويتعالى بسطوعه، كما يتعالى صوت الشاحنة الذي يشبه الحنين المخنوق.

* * *
في إحدى حانات بغداد، حين ينزل الليل بكلكله، يدلف (س) إلى الركن المعتم من المكان الصاخب بالويترية وقناني العرق والأقداح مختلطاً بغناء أم كلثوم، وناظم الغزالي وزهور حسين ذلك النواح الكربلائي الذي لا ينقطع عبر الزمن والفناء. أم كلثوم على المحل، في صورة جداريّة تصافح عبر (الفوتومونتناج) صاحب الحانة من فرط إعجابه بعالمها الشاسع.
المهم أن (س) يجلس في مقعده المعهود يجرع العرق المسيّح من غير كلل ولا وقفات، انقضاض جمل برّحته الهاجرة والعطش على نبع ماء في قلب الصحراء…. وحين يأزف وقت إغلاق المحل لأبوابه التي يستأنف فتحها في اليوم التالي، ويرحل آخر السكرجيّة، يبقى (س) من غير حراك في مقعده الذي يشبه الكنبة، ثم يتهاوى بقامته على طولها وشخيره يغمر الحانة ويتسلل إلى أرجاء الحارة البغدادية وقد غرقت في ليل نومها العميق. هكذا حتى اليوم التالي ويأتي الويترية لإيقاظه، يأخذ كؤوس التوازن التي يسميها العراقيون (كسر خماريّة) والمغاربة (تحيّيد التمن). ومن ثم يذهب إلى شأنه حتى ينزل المساء بمرساته الثقيلة ويعاود (س) سيرته اليومية التي اعتادها واعتاد عليها آخرون.

* * *
كتائب الليل الدامس تتوافد على المدن تحمل أنباء الأعاصير والجوائح القادمة.. ألهذا شبّه (الحديث الشريف) الفتن بقطع الليل المظلم التي تفترس في طريقها كل إنسان وطفل وشجرة وعلامة حياة.
الفتن والحروب حين تنزل على الأقوام نزول الصواعق الليلية الماحقة، تكون أعظم ابتلاء وبشاعة على بني البشر، على القيَم الانسانية والجمالية والأخلاقية. كما هو موجود على أرض العرب خاصة، حيث تفترس الوحوش الهمجية المطلقة السراح والشر موغلة في ليل الانحطاط والقذارة والغدر.
الجرائم دائما في الأدب والنص الشعبي والخرافة، يرتبط ارتكابها بالليل والظلمة التي تحمي وتموه المجرم والجريمة، تحت جنح الليل تسري كتائب القتل والإبادة، وتحت جنْحه تُحاك الدسائس والمؤامرات حتى حين تكون الجريمة أو الحرب التي هي بلا ريب ذروة الجرائم وخلاصاتها المكثفة، تحت جنح النهار وفي ضوئه الساطع، يستحيل إلى ليل وظلام وغبار كقول بشار بن برد:
(كأنّ مثار النقع فوق رؤوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكُبه)
في هذا الطقس الملحمي المظلم للجرائم والفتن، التي تسوّقها أنظمتها وعصاباتها ينغمس فيه الجميع قطعاناً إلى الذبح بصناعة أيديها وأدواتها وذكائها ذكاء المجرم في التخطيط المحكم لإنجاز أفعاله بأقصى درجات الضراوة والخسّة.
في مثل هذا المناخ المدلهم، يبقى أفراد معدودون لا يصغون إلا إلى ذلك الانبجاس الخفي لحياة غير مرئية، لتفتح زهرة في ليل نشوتها السرية، لغناء طائر يعبر المضيق، لأرواح وحيدة تتنزه في الحدائق والكتب، لامرأة عاشقة تنحني أمام صورة حبها الراحل، لغيمة تُنزل ماءَها ليطفئ عطش الحقول.

* * *
كان على طاولة الإفطار الصباحي، يفكر مع تصاعد روائح القهوة الزكية المتناغمة على نحو هارموني مدهش مع غناء وحركة الجرسونة الأسبانية الفتيّة، ألا يذهب هذا اليوم إلى الحديقة الكبيرة التي تشبه الغابة، وأن يأخذ الاتجاه العكسي نحو حديقة (الهايكو) الصغيرة المكثفة التي تتوسطها نافورة مزنرة بتمثال (فينوس) آلهة الجمال عند الإغريق، وأن يذهب باتجاه النهر القريب.. لكنه وهو يخطو خارج النزل، وجد نفسه محمولاً للسير باتجاه الحديقة الكبيرة، محمولا بفعل قوة غامضة تتمثل في رجليه اللتين تقودانه عكس إرادته …. ها هي وظيفة أخرى أكثر حسماً تضطلع بها الرجلان. ليس حمل هذا الجسد الذي صدعته السنوات والذكريات فحسب، بل التفكير وأخذ المبادرة أو خطفها من العضو المختص منذ بداية دبيب الكائن البشري على الأرض.
لماذا أعطى فلاسفة اليد الأهمية الأكثر حسماً، إلياس كابتني على سبيل المثال، ولم تُولِ الرجل ما تستحقه إمكاناتها المفتوحة على التعدد والاجتهاد؟
الحديقة أو الغابة ملفعة بليلها حتى في ذروة النهار، حين تكون السحب والغيوم متدافعة في سمائها، كثيفة ومحتدمة حتى الانفجار الوشيك. تخلع معاطف وأردية ظلال ليلية قاتمة على الأشجار والنباتات والسواقي وعلى كل الحيوات والتماثيل التي تستحيل أشباحاً ترقص الفلامنكو، في أرجاء قارتها التي بدأ المطر يخضّب أرواحها بنضارة متجددة..
من الطبيعي أن يكون ليل نهار الحديقة والغابة أقل وحشةً ودجنةً.. انه ليل مُستعار من كوكب آخر من طبيعة أخرى. أما حين يندمج ليل الاستعارة بليل الطبيعة الذي يعقب النهار والمغيب فتكون هذه القارة السوداء محتشدة بكل ما هو سري وجاثم وخطير.

* * *
ليل الأقفال الحالمة على جسر الفنون، أقفال المحبين والذين أضناهم الهوى والحنين، تُرى بماذا تحلم في ليالي الشتاء القاسي، وقد ضرجها بأرواح الذين رحلوا من غير عودة، تركوا أسماءهم وجملاً ضاربة في الشعر والهيام تخليداً لذكرى عبرت قلوبهم الهائمة في الآفاق.
هذا العام تقلصت الأقفال أعدادها ومساحتها كما تقلص الحب هارباً من عالم الأرقام والأزرار التدميرية، جراح المحبين ولوعتهم، هارباً إلى عالم النيازك والنجوم.
لكن النهر الكبير يجري متدفقا عبر الأجيال، حاملاً معه الشعر والجمال وأسماء المحبين المجهولة وقد اختزلتها ذاكرته الشاسعة في الليل والزمان.
هل الزمن يشبه النهر أم النهر يشبه الزمن تلك مسألة تعود إلى هيرقليطس وإلى الارجنتيني المبصر في ليل العمى والمياه…

* * *
ليل الحديقة والورود البرية في تفتحاتها الأولى بغفلة عن العالم وصخَبه. تفتحات الطبيعة في وثبة صحْوها وإشراقها على الروح العطشى إلى الجمال والحرية. بغفلة عن العالم تمارس طقسها السري لإمداد شجرة البهاء بغصن جديد وشجرة النعمة وهي تستقبل ربيعاً جديداً في فصولها المتعاقبة.

* * *
الغرباء يعبرون في ليل الحديقة. النشوة الغامضة والخطوة المتعثرة بين الأكمات، بصمت يعبرون وبعيون زائغة بالغياب صوت الأفق تحدق الأبصارُ والأفئدة، كأنما تبحث عن الكنز الذي طمرته السنون والضباب، عن الحبيب والولد والقرين، عن مرابع طواها النسيان، بعد أن حملها النسر بين جناحيه إلى حيث لا عودة ولا أثر يشطح نحوه الهذيان والحنين.

* * *
يبحث النسر عن بيوضه في ظلام الغابة المحتشد، في الأعالي والسفوح جيئة وذهاباً يدخل في هياج وجنون، بعد أن فقد الخيط الذي يقوده إلى عش أفراخه وسكناه.
القطاة أكثر فطنةً وبصيرة، تهتدي إلى عشها حتى في الظلمات المتلاطمة بالرعود والمطر في ليل الغابة الرهيب.
الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر T11موضوع: تطاول هذا الليل وبطشه نص جديد لسيف الرحبى
hassanbalam

المساهمات: 0
مشاهدة: 492

ابحث في: تحت طائلة النصوص   الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر Untitl13موضوع: تطاول هذا الليل وبطشه نص جديد لسيف الرحبى    الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر Icon_minitime2019-06-10, 9:25 pm

#سيف_الرحبى
@hassanbalam

ألا هَلْ على اللّيْلِ الطويـلِ مُعِيـنُ
إذا بعـــدت دارٌ، وشــطّ قــــريــنُ
تَـطَـاوَلَ هذا الليْـلُ ، حتـى كأنّمـا
على نجْـمِـهِ ، ألاّ يَـعـودَ ، يَـميــنُ
كَـفَـى حَـزَنـاً أنّـي بفُـسـطاطَ نازِحُ
ولي نحـو أكْنافِ العِـراقِ حَنيـنُ
أبونواس

موريس بلانشو الفيلسوف الفرنسي ربيب العزلة والنأي، يقول عن أولئك الذين يطوّح بهم الأرق كل ليلة ، بعيداً في اليقظة القاسية، إنهم يجعلون الليل حاضراً… في حين يغيب الليل وظلماته المتلاطمة وأهواله وكوابيسه لدى النائمين بوداعة وغبطة تشبه غبطة الحيوانات والصخور في نومها الأبدي..
حضور الليل في الوعي المؤرّق وصَحوه، مقذوفاً في تيهِ الهذيان والهواجس والذكريات التي لا ترحم، متوافدةً من كل حدْب وصوب في المكان والزمان. خاصة لأولئك الذين تقدّم بهم العمر قليلاً أو كثيراً، سيكون هذا الاستعصاء للنوم أكثر ذعراً وخطورة… يتوازى حضور الليل، ثقله وغلاظته مع حضور العالم والتاريخ والوقائع في ذهن المؤرق ووعيه المضطرب، إذ يجد نفسه في معركة لا متكافئة مع جبروت هذه الصحراء الدمويّة التي يتيه فيها الدليل وتمّحي علامات الطريق.

* * *
يحدث أحياناً أن يتغلب المؤرق أو المؤرقون (بضم الميم وشد الراء) على فراشهم يمنة ويسْرةَ، للأعلى والأسفل بحثاً عن خلاص ما، خلاص مؤقت يقي شرّ هذه الليلة وهوامها المحتدمة، بحثاً عن نور حنون يتسلل من نافذة بعيدة، من هديل يمام في الجوار، أو ذلك الهسيس الخافت لحقول الطفولة وسط أنفاس الجبال بانحدار طيورها إلى السفوح تلتقط رزقها من التمور المجفّفة والحيوات الصغيرة اللامرئيّة. وعلى مقربة تضيء عيون الثعالب خُطى الطير، وتعوي الذئاب في مخابئها عواء خفيفاً حانياً على الصغار وهم يخطون الخطوات الأولى على أديم هذه الأرض الشاقة..
يحدث أن يتسلل في ضوء فجر المحنة، ذلك النور البعيد الحاني إلى فراش المؤرقين في ليل العالم الدامي، فينعمون بهنيهة راحة مُستحقة عابرة.

* * *
«لا نستطيعُ أن نفك شباكنا
من براثن الجوارح
لا نستطيعُ الذهاب أبعد من ربقة المضيق
سارحين بعذوبةٍ في مهب المقيل
آكلين السمك الذي ادخرهُ أهلنا
للصيف
وبشيء من المواربة كان القمرُ يسطعُ فوق
نُوام السطوح
إكليلَ شجر وطلاسم
ولا شيء يفصلُ بين أجسادنا
وطيور الأبدية».

* * *
أبطال الأرق ، إذ لا بطولة في الفراش إلا للأرق كما عبر فيلسوف آخر.
ولكسر تمادي هذه البطولة يلجأ المؤرّق إلى القراءة. ثمة كتب يحبها أكثر من غيرها وهي الأثيرة إلى قلبه ومشاعره، يدخرها لمثل هذه الليالي المدلهمة، وما أكثرها… يقرأ ويعيد العبارة، الصفحة والسطر، تدخل العواطف والأطياف والأزمنة، إلى مسامّه وخلاياه، لتخفّف من أثقال ليله وسيلانه وحضوره. تنطلق شخوص الكتاب منفلتة من عقال الحبر والصفحات، لتنتشر في الغرفة كما في أحاسيسه وأعماقه، مترنحة أحياناً بجراحها، ومبتهجة نشوانةً في لحظات أخرى. وفي كلتا الحالتين يغمره حميم المشاركة في هذه الحياة السريّة الخارجة على مواصفات المحيط، الاجتماعي والتاريخي.
فثقل حضور الليل، ليس إلا حضور التاريخ والاجتماع مقذوفاً في تلاطم الظلم والمجزرة التي تلف الكون منذ بدء الخليقة الأولى، وحتى الأكثر ضراوة في عصور الحضارة الحديثة. كل بمقدار غلتِه من الإنجاز والمعرفة.
إذا لم يكن مزاجك مدفوعاً لقراءة الكتب التي تحب، فثمة لحظات تكون الأفلام المشرقة بالجمال والرؤى والجنون المبدع، حلاً آخر من حلول تبديد كوابيس الليل والأرق. وهي بداهةَ منحى معرفي وجمالي، يكون أحياناً أكثر تأثيراً من بعض الكتب في السياق نفسه، أو هي تحويل لكتب مشهودة في سياقها إلى لغة السينما، بالشخصيات الحيّة والحركة والأضواء والألوان، لتغتني أكثر بالجمال الحسي والروحي وتكتسي بالمشاهد الضاجّة بالتعدد والحيوات والأمكنة. مثل أفلام فلليني ورفاقه في السينما الايطاليّة، وكيروسافا في اليابان، برجمان في السويد وأورسون ويلز في أمريكا والقائمة تطول وتطول متاخمةً لأفق المغيب واللانهاية قراءةً ومشاهدة.. من باب التذكير السريع، تلك التحف الخالدة التي خضعت للاقتباس الأدبي أو التحويل، لفضاء السينما الشاسع، (كازنوفا)، (ساتركون) لفلليني، حين جمح خيال هذا الساحر، إلى ما يشبه محو الأثر الأول مبتكراً طرق تعبير ورؤية شخصيتين شديدتي الفرادة. وهناك (الفهد) رواية الكونت الصقلي، حول انهيار الطبقة الارستقراطية وقيمها النبيلة إزاء صعود البرجوازية التجارية، وقيمها الجديدة؛ التي حولها (انطونيوني) إلى فيلم شاسع الأرجاء. (راشمون) لكيروسفا، و(العيون على اتساعها) لستانلي كوبريك… الخ . فطيش ليل هذه الصحراء أو المدينة وجبروته، خاصة في فصول الصيف حين لا يستطيع أن يخطو بضع خطوات خارج الغرفة والتكييف؛ هذا الليل الذي لا تعرفه المِلل الأخرى بكل مستويات بشرها ونخبها، لابد من إعداد العدة لمحاولة دحر هجومه الكاسر، أو التخفيف من بطش عدائيته وسَحْقه.
في البلاد الأخرى، أو حين يكون الطقس لطيفاً وحنوناً يكون المشي والتأمل والكتابة أثناء التجوال وهذه تتواصل مع القراءة خلف الأبواب المغلقة، كنوع من حل.. تمشي وتمشي بينما البشر نيام، وسط الظلال الحنونة والأشباح والشجر متمايلاً بذؤاباتِه مع الريح، حتى يغمرك التعب والنعاس وتظفر بهِبة الانتصار على بطش الظلمة والليل.
ليكن اللجوء إلى حلول الجسد والجنس، أحياناً ناجعاً، وأحياناً يقذفك إلى يقظة وفراغ بعد الانتهاء وتظل تتخبّط في عَدَمه من غير نوم ولا ضوء أمل قريب.
اللجوء إلى جسد المرأة بحقوله المتموّجة، وذلك الفرج الذي ينبتُ في ضفافِه عشبُ الخلود، والنهدُ الذي يقفز حُراً في نسيم الحديقة. تلك الانحناءات والحنايا والنتوءات، لطائف الأنوثة وزخم اللهفة والشوق، التي خلقها الله ، كملجأ وعزاء خاصة حين تدلهم الليالي وتُهزم الإرادات والبطولات، إذ لا بطولة في الفراش، إلا للأرق، والجسد الأنثوي ليس إلا عزاء وهروب وملاذ، «ولباس» وفق الآية الكريمة، كما هو جسد الرجل للمرأة. ومن يدعي البطولة والفحولة في هذا الفعل الغريزي الذي تمارسه أصغر الحشرات على الأرض، ليس إلا ساذج لم ينله من قبس الألم العميق، ليس إلا طفيلي حياةٍ وسقط متاع..

* * *
«أضلّ النهار المستنير طريقه
أم الدهر ليل كله لا يبرّح؟»

أولئك الذين عانوا وكابدوا، طويلا من ليل الانحطاط على كل صُعُده، مثل الانحطاط العربي الراهن، يمكنهم أن يتمثلوا بيت الشاعر كأحد أوجه الاحتمال والمجاز التي يزخر بها الشعر الكبير، حين يطل عليهم ولو من أفق نافذة بعيد، نور خلاص أو وهم خلاص. بهذا المنحى يلتحم أرق الليل الشخصيّ، بكابوس الأرق الليليّ المظلم العام، وينصهر الاثنان في محرقة ذات جرّحها التاريخ وأضنتها الظُلمات.

* * *
الأرق في البلدان الواقعة في تخوم الصحراء وقبضتها الضاربة، أكثر قسوة، من أرق البلاد التي ينساب فيها النهر أو الأنهار، في أعماقها وعلى الحواف والضفاف. تلك المياه التي تجري في عروق الأنهار، قبل أن تجري الدماء في العروق البشرية حسب شاعر أمريكي. تخيل النوم في مدينة مثل عاصمة السويد الاسكندنافية (استوكهلم) التي تسيّجها سبعة أنهار تسبح في نعيم جناتها الخضراء. دعك من النوم في الأرياف التي جمعت بين نعمة الحضارة وهدوء الطبيعة والمجتمعات البدائية. سيكون نوم النائم، حتى المصاب بلوثة الأرق وحيرة الوجود وأسئلة المصير ، سيكون أقل مشقة وأقرب إلى النوم الطبيعي المنعش.
في البلاد العربيّة التي حَظيت بكرم الأنهار أريافاً ومدناً، قضّ مضاجعَها هيمنة الفساد والاستبداد، تلك الهيمنة البهيمية التي يكتسح ظلام ليلها كل جمال في الطبيعة والبشر، ويكتسح نبل الانسان فطرته وأحلامه بسعادة ممكنة ولو عابرة، كونها سعادة الانسان الفاني والعابر على أديم هذه الأرض الشعثاء. حريّة الكائن الحقيقيّة ليست من ترف الكماليات، إنها الضرورة الوجودية الأكثر إلحاحاً، القيمة الجمالية والحياتيّة التي لا تعلوها قيمة أخرى وسط القيم التي تنبلج منها كما ينبلج النور المخلّص من الأرق والكوابيس، من منابعه اللامرئية البعيدة.

* * *
كانت الصحراء في الماضي الذي أضحى سحيقاً، مرتع هدوء روحي وسموِّ أخلاقي لا يُضاهى. مرجع عُزلات كبرى وتأمل وابتكار فيما يخص القيم العليا التي تحلم بانتشال الانسان من سقطة وجوده من مستنقعه وبهيميّته الضاربة في ليل القِدم والغريزة الوحشيّة.
منها انبعثت الرسالات السماويّة بسردياتها الكبرى التي أنارت سماء العالم وأخذت بيده نحو حلم الإنقاذ والخلاص. ومنها خرج شعر ونثر عظيمان، صحراء البلاد العربيّة والمشرقيّة خاصة، قيم البطولة في خوض غمار حياة شاقة، لكن مسيّجة بسياج قيم التضامن والنزاهة والصدق في الخطاب والسلوك. حتى أن نبي الاسلام الكريم قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» بمشروعه الحضاري الكبير. كان يمكن للنائم المؤرق أن يخوض غمار «هذه التجربة الكئيبة» براحة وبمشقة أقل..
كل ذلك ذهب بدداً في خضمّ عواصف التغيير ودورات التاريخ والطبيعة الماكرة…. وإذا عدنا إلى عصور أكثر قدماً وتوراياً في طبقات الأزمنة، فنذكر ما ذكره «الجيولوجيون» حول تلك الدور الكبرى من التصدع والانزياح، التي نقلت الجزيرة العربيّة نقلة نوعيّة من الخضرة والخصب والنعيم الغابي بطقسه الآسر الذي تشقه الأنهار والجداول والقنوات ، إلى حقبة القحالة والجفاف.
لم تكن الصحراء في الماضي، تَعِد بمصالح شخصيّة وطموحات بالمعنى المنفعي الفج، أصبحت على النقيض بعد تفجرّ باطنها بالثروات والمعادن الثمينة.
كانت الكلمة فيها للطبيعة وتجلّياتها، أصبحت الكلمة للآلة والإنسان.
في العصر الراهن لم تعد الصحراء إلا مكبّ نفايات ومحارق نفط. سماسرة دوليين ومؤامرات. لقد اغتُصبت روحها وقُذفت في أقصى طبقات الجحيم من التنكيل والعذاب. ولم يعد لبدوي تائه في خضمّات الرمل المتحولة، من شجرة يستظل بها لغفوة مُستحقة في ليل الظهيرة القائم..

* * *
(…) «وإنك كالليل الذي هو مُدركي
وإن خلتُ إن المنتأى عنك واسعُ»

ليل النابغة الذبياني، ليل المذعور المحاصر من قبل ملك الحيرة، وهو يقذف سهام رعبه إلى قلب الشاعر الكبير في عصره وكل العصور، هذه السهام المسمومة التي انطلقت من جعبة الدسائس والأكاذيب بداية موغرةً قلب الملك الغضوب ذي المزاج الزئبقي المتقلّب.
لكن خوف الشاعر وجزعه من الخطر الملكي الذي يحاصره في الصحارى والحواضر، أبدع شعراً خالداً لكل زمان ومكان.
شعر الليل الشرس الممتد على مساحة العالم حيث لا عزاء ولا خلاص، فهذا الليل بقسوته اللامحدودة يتمدد بأشداقه الفاغرة ملتفاً نحو مخلوقاته، كما يلتف وحش أسطوري على ضحاياه في كهف مليء بالأشلاء والخفافيش…

* * *
(…) «ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثلِ»
هذا الليل الطويل، الطويل وكأنه الدهر مضغوط في حيّزه وثناياه المحتشدة بالألم وهواجس الافتراس والموت، حيث يتفجر نداء جريح من حلم الشاعر وخياله نحو انبلاج صبح خلاص ما، ولو كان سراباً ووهما، لكن حتى هذا الوهم والسراب لا يلبث أن يتبدد هباء في سياق النداء الشعري المتوسل، إذ ان ذلك الفجر أو الصبح ليس بأقل فداحةً من ذلك الليل الأليل، بعتاده الثقيل وضباعه المنتنة…
بيت «الملك الضليل» هذا، بطاقته الدلالية وثرائه الذي لا ينضب معينه ينطبق على وجوه واحتمالات شتى من الضنى والعشق المأساوي والشقاء واليأس والغياب… لكن في هذه البرهة من تاريخ هذه التراجيديا الكونيّة والعربية على وجه الخصوص، في الإبادة والتهجير واجتثاث الكائن البشري من كينونته وأرضه التي تناسل فيها الأسلاف جداً بعد آخر، في سلالات لم تنقطع أواصرها منذ القِدم….
هكذا منذ «نكبة» فلسطين 1948 وحتى اللحظة كأنما تلك المأساة الكبرى، التي ارتكبها الصهاينة مدعومين من بلاد الحضارة والعالم الحر، شكلت التلخيص الزمني المكثف (مثل كثافة بيت امرئ القيس)، لما ستؤول إليه أحوال الأمة في الفترة الراهنة التي تنفجر بحاراً من الدماء والجثث والاقتلاعات… لكن هذه المرة بشكل أساسي، على يد احتلالات الداخل ومنطق الطغاة والتناحر والتشظي الذي لا يقيم أي وزن لأي قيمة أخلاقية أو فطرة انسانيّة، دعك من عقد الاجتماع والقانون والدستور الذي لم يعرف طريقه في دنيا العرب وأشباههم…

* * *
كيف ستكون حالة أولئك المشردين والمقتلعين من ديارهم وسط الصحارى والغابات وفي عرض البحار.. كيف ستقر عينٌ للأمهات والآباء وسط أشداق الخطر الهائج، وسط دوّامة الموت والاعصار؟
من ينجو من براثن هذا الموت المحقق سيظل ذلك الجرح العميق يفترس الأحشاء والذاكرة وعبر أجيال تتوارث هذه القسوة والثأر والدمار.
وضعية هؤلاء الذين قذفتهم حروب بلدانهم وفسادها، لا يقارن إلا من بعيد، بأولئك الذين همشتهم مجتمعاتهم، أو هم اختاروا هذا الهامش. ينامون، يصحون تحت أنفاق المترو ومحطات القطارات ووسط الهدير والقيء، حطام الزجاج المكسّر والحشرات، تراهم في الصباح الباكر، منتفخي العيون والعروق جرّاء السهر والكحول القوي ، وهم على الأرجح لا ينامون إلا خلسة نتيجة التعب الجاثم والإرهاق.
* * *
الأطفال مثل الأشجار عند هرمان هسّه، التي لا تعترف بالتفاصيل والتاريخ، بقدر التزامها بقانون القِدم وحده…. كذلك الأطفال لا يتبعون إلا غزيرة البراءة الأولى في انطلاقتها الفوضويّة التي لا تحدها حدود مسبقة أو قوالب ومواصفات… كنت ماراً على الشاطئ، حين رأيتهم يمارسون رغبة الهدم والبناء على الرمال المتحركة، وسط زوابع ريح آسيويّة، من غير ضجر، يبنون قلاعاً وبيوتاً وأنقاض بيوت. سمعتُ أحد الأطفال يقول لقرينه هل تؤويني هذه الليلة، لقد تهدم بيتي ولم يعد لدي جدار أو سقف ألوذ به؟

* * *
ترى كيف ستكون عليه أحوال أولئك البشر المقتلعين عنوة وقسْراً في الداخل والخارج بملايينهم المستعصية على العد والإحصاء، في المعسكرات والملاجئ والمخيمات في ذلك الليل الدموي المجرد من أي رحمة أو شفقة حتى ذلك التوّسل الطاعن في وهمه وسرابه.
كيف سيكون ليل المشردين والهائمين على وجوههم في صحراء العالم الجليديّة أو المفرطة الحرارة والهاجرة، الصحراء التي درستْ كل علاماتها وأعلامها، فلا شحيح ضوء في أفق مستعصٍ على النظر ولا تباشير محطة قادمةٍ تلوح…

* * *
«على الأقل سيكون الليل هادئاً» هكذا كتب أحد شعراء السورياليّة، غداة انتحاره. سينتهي الصخب والضجيج، الحيرة والأسئلة التي تمزق دماغ الشاعر وتفترس أحشاءه، ستنتهي جلبةُ الليل وحضوره الماثل الثقيل، بعد فعل الموت الاختياري الذي سيضع خاتمة لكل الوجود والموجود ربما… وربما ليس إلا تغيير عوالم ، كما عبر شاعر (المايا) في الحضارة اللاتينيّة التي كانت تلجم بطش ليل آلهتها بالقرابين الدمويّة والأضحيات. تلك الآلهة التي لا يخفف غليل انتقامها الصاعق إلا الدماء البشريّة المُراقة في المعابد والقصور والفيافي..
الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر T11موضوع: الغرباءُ في مرآةِ المكان
hassanbalam

المساهمات: 0
مشاهدة: 625

ابحث في: مرتفعات أو سوناتا الكلام   الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر Untitl13موضوع: الغرباءُ في مرآةِ المكان    الوسم سيف_الرحبى على المنتدى نوسا البحر Icon_minitime2016-07-07, 4:57 pm
#سيف_الرحبى
@hassanbalam

في البلاد التي تبني فيها العصافير أعشاشَها ، على أعمدة الكهرباء والأسلاكِ، بلاد الوحدة والنأي المظلم ، التقى الغرباء السورّيون ، في المكان المزدحم الذي لا يتسّع لأنّة جريح أو صرخة مستغيث…
آه ؛ أنت وليد … نعم نعم ، لقد كنا معاً في ستينيّات القرن الماضي، في بلغاريا … أنتِ خوله خانم ، نور الدين مكسيم ، وأنت بسّام ، أين سميح ، مضى زمن ومجازر ..
كيف حال والدتك لقد مضى نصف قرن لم أرها في المدينة،
التي أضحتْ يباباً وأضحى أهلُها ارتحلوا أو أُبيدوا …في غسق الأضواء لا يكاد حديث السورّين يُسمع بين الباعة الأنيقين والضجيج..
وحدَها عصافير الدويّ تخبط أجنحتهَا في السقف ؛ وطيور سوداء ، تحتشد حول الجُثث المتفسّخة التي يحفرها في مرآةِ المكانِ حيالُ الغرباء.
***
حين يحسّ بإشراق الفرح الغامض ؛ يهرع باحثاً عن السبب : إنه الضيف الوحيد الذي لن يحييه مرتين.
***
القهوة الأكثر مرارةً
من أرواحنا
هي التي تلعب دائماً
بطولةَ الصباح.
***
يحملون الأيام الثقيلةَ
يجرجرونها كسلاسل السجين
هي التي حملتْهم عبرَ غابات عصيّةٍ
وجبالٍ تسرح في أمدائها
أحلامُ الوعول
***
ينام في قلب موجةٍ عارمةٍ من سُكرْ الحياة ليصحو على لهبِ الفجائع والحروب.
***
خذيني أيتها الموجة (التي تدحرج خاصرتَها منذ طرواده) خذيني بعيداً بعيداً عن هول هذه المذبحة.
***
أيتها اليمامةُ
تُؤْنسين أسيرَ الروم
تربكين أعمى المعرّةِ
ليصلَ إلى وحدة الأضداد
وتشربين من النبع ببراءة طفلٍ
على وتَرِ الطمأنينة والنوم..
مُستجابة صلواتكِ لأطفالِ المحارق والمُدن المحاصرة.
يا مُطلقاً يسبح في الفضاء على شكل طائرٍ ويمامة.
***
ما حاجتي إلى دعوةِ الماضي
وهو يجثم أمامي مقابرَ تتطايرُ منها الأشلاءُ والأشباح؟
***
تتوسّلُ الضحيّة للقاتل
أن يمهلها هنيهةً بحجم دعاءٍ أو صرخةٍ،
لكنه أرتأى الإسراع في إنجاز مهمّته المقدسّة.
***
كم أنتِ طويلة أيتها الظلْمةُ العربيّة
طويلة وغليظة
أطولَ من الزمن
أكثر طولاً من الزمنِ والجبال
***
كان يحفر في الغياب
كان الغياب يحفر في قلبهِ وفي رئتيه، من فرط القهوة والذكرى
من فرط عويل الغائبين ، أولئك الذين خلّفهم وراءه أطفالاً ضعفاء في جَلبة المجزرة.
***
كانت البواخر تعبر المضائق باتجاه برمودا ، البواخر التي تحمل الجرحى والمُهجّرين .
كان يرقب المشهد ، كان كمن يرقب المشهد والضَبابَ، كانت البواخر التي تُبحر في أعماقِه وحناياه.
***
لحظة الوداع العصّية حتى على الدمع والآلهة
يخاتل المترحّل اللحظةَ المرتجفةَ بالزوغان والهواجس ، وهو يقترب من مركبة الرحيل ، التي لا تكاد تمضي على حافة بحرٍ أو صحراء، إلاّ وتغرق في لَهب الظنون والعاصفة..
سيترك الأهل والديارَ محمولاً على حلم الطيور المهاجرة ، التي تعود دوماً إلى مواطن أسلافها الأولى.
***
المرأة النائمة على الكرسّي في بهو الفندق :أي هناءةٍ تجرفها في هذه الإستراحة العابرة؟

الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
انتقل الى:  

حفظ البيانات | نسيت كلمة السر؟

حسن بلم | دليل نوسا | برامج نوسا | هوانم نوسا | مكتبة نوسا البحر | سوق نوسا | قصائد ملتهبة | إيروتيكا | ألعاب نوسا