آخر المساهمات
2024-05-16, 2:37 am
2024-05-04, 8:54 am
2024-05-04, 8:53 am
2024-04-28, 10:02 pm
2024-04-20, 2:14 am
2024-04-20, 1:54 am
2024-04-02, 5:16 am
أحدث الصور
تصفح آخر الإعلانات
إعلانات مجانية على نوسا البحر مشدات تخسيس إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر مشدات تخسيس إعلانات مجانية على نوسا البحر

 

 مدونة الكشكول لبلال فضل فى العربى الجديد

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
hassanbalam
® مدير المنتدى ®
® مدير المنتدى ®
hassanbalam


رسالة sms : سيرى ببطئ ياحياة
لكى أراك بكامل النقصان حولى
كم نسيتك فى خضمك
باحثا عنى وعنك
وكلما أدركت سرا منك
قلت بقسوة
مأجهلك!!!!

ذكر

عدد المساهمات : 11556
الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى
العمل : مهندس
نوسا البحر : مدونة الكشكول لبلال فضل فى العربى الجديد 15781612


مدونة الكشكول لبلال فضل فى العربى الجديد Empty
07072018
مُساهمةمدونة الكشكول لبلال فضل فى العربى الجديد

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
كانت هزيمة مجتمع
بلال فضل

5 يوليو 2018

في مثل هذه الأيام قبل خمسين عاماً، صحا الأسرى المصريون في المعسكر الإسرائيلي الذي بدأ احتجازهم فيه عقب هزيمة يونيو 1967، ليجدوا في لوحة الإعلانات المثبتة في مدخل المعسكر صورة زنكوغرافية لمقال كتبه محمد حسنين هيكل في صحيفة (الأهرام) يقول فيه إن الجيش الإسرائيلي كان يحارب بطرق علمية أكسبته النصر، وإن القيادات المصرية أصابها الذعر والارتباك فلم تستطع الصمود.
وبعد ذلك بأيام قليلة، وجدوا في نفس اللوحة مقالاً كتبه أحمد بهاء الدين في مجلة (المصور) عن ضرورة قيام دولة عصرية في مصر، وأن "السبب في الهزيمة أننا لم نكن نأخذ أمورنا بمقاييس الدولة العصرية، وأنه مستحيل أن يؤمن عامل بالاشتراكية التي يحدثه عنها رئيس مجلس الإدارة ذو العربة وجهاز التكييف والملابس المستوردة، وأنه لكي يؤمن الشعب بضرورة شد الحزام لا بد أن يرى شد الحزام هذا عملياً على قيادات العمل السياسي والمهني".

لم يكن قد مضى على الأسرى في أسرهم الأليم سوى أسابيع قليلة، ولأنهم عاشوا سنين شبابهم كلها في بلد لا يجرؤ أحد فيه على أن يقول كلاماً انتقادياً جريئاً مثل هذا في العلن، ولو حتى بين أهله وأصدقائه، فقد كان بديهياً أن يشكوا من كون النسخ التي رأوها من المقالات مزورة، صنعها الإسرائيليون لتأكيد تفوقهم وللتأثير فيهم نفسياً، حتى أن بعضهم دلل على كون المقالات مزورة، بما حدث في سورية بعد الانفصال عن مصر عام 1961، حين طبعت سورية صورة مزورة من جريدة الأخبار تحمل خبر حدوث انقلاب في مصر ووفاة عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، مما دفع الضابط المصري جلال هريدي إلى أن يتسرع ويقوم بسب الحكم وفساده في التلفزيون السوري، في حين رد أسرى آخرون على هذا الكلام مؤكدين أن ما قرأوه هو أسلوب هيكل وبهاء الدين فعلاً، فرد عليهم آخرون بأن الأسلوب يمكن تقليده، ليرد عليهم زملاؤهم بسؤال منطقي مفحم "وهل معقول أن يكتب في مصر"، وينتهي النقاش الطويل بعبارة "سنعود في يوم ما ونعرف الحقيقة"، ثم يستأنف النقاش مجدداً حين يحضر لهم الإسرائيليون كتاباً كتبه مندوبو وكالات الأنباء يحكي قصة النصر العسكري الاسرائيلي، فيرفض أحد الضباط أن تتم قراءتها لأنها كتب مسممة للأفكار، ويثير رفضه عشرات الأسئلة تدور كلها حول ما حدث في 5 يونيو ولماذا حدث، فتزيد مرارة الحديث قسوة الأسر ووجعه.
" ينتهي النقاش الطويل بعبارة "سنعود في يوم ما ونعرف الحقيقة"، ثم يستأنف النقاش مجدداً حين يحضر لهم الإسرائيليون كتاباً"


لم يكن المعماري والمقاتل والأديب محمد حسين يونس وزملاؤه من الأسرى من كافة الرتب والأفرع بحاجة إلى مقالات هيكل وبهاء، لكي يدركوا كيف كانت تدار الدولة المصرية بطريقة قادتها إلى الهزيمة، وقادتهم إلى أن يُلتقطوا بتلك الطريقة المهينة من رمال سيناء، ليس فقط لأنه شاهد كغيره من المواطنين رئيسهم جمال عبد الناصر وهو يعقد مؤتمراً صحافياً قبل الحرب يعلن فيه أنه قادر على تأديب إسرائيل، وحين سأله صحافي إنكليزي هل أثر فيه مرور عشر سنين على حرب 56، رد قائلاً: هل تتخيل أنني مثل مستر إيدن الخرع؟ بل لأنه حضر كمقاتل قبل الحرب مباشرة مؤتمراً تم عقده في مقر قيادة الفرقة الرابعة المدرعة، حضره المشير عبد الحكيم عامر وصدقي محمود قائد الطيران وعبد المحسن مرتجى قائد الجيوش البرية وعدد من قادة الأسلحة، تكلم فيه المشير عن المعركة القادمة بصفتها نزهة عسكرية، وحين طلب من الضباط توجيه أسئلة لم يسأل أحد لأن قائد الفرقة المعين حديثاً عثمان نصار أدلى بتعليماته قبل حضور المشير "لا شكاوى لا طلبات نحن مستعدون للتضحية فقط".

بعد أن ألح المشير على تلقي أسئلة الضباط سأله أحدهم: هل نحن مستعدون للحرب؟ فأجاب غاضباً: بالطبع عندنا أقوى طيران في الشرق الأوسط، أنتم جهلة قل لهم يا صدقي عن السوخوي والتوبيلوف، فرد صدقي: يا فندم لن يحتاج المشاة للحرب، سأنهي المعركة ولن يحتاج جندي المشاة حتى لتطهير الخنادق سأطهرها بالطيران، فصفق الضباط، وحين سأل ضابط آخر: يا فندم الجيش كله في سيناء وهذا ما حدث في 56، ماذا سيحدث لو هاجموا مصر؟ فدق المشير المنضدة بقبضته بعنف وقال: أنا قادر على حماية مصر وتحقيق نصر في اليمن وتحقيق مصر في سيناء ثم انتصب واقفاً وغادر القاعة وهو يبتسم ويقول إن شاء الله لن يحدث شيء، وطمأنت إجابته الضباط الذين بدأوا يحسبون موعد الإجازة والزيادة المتوقعة للمرتبات، ولم يكن بعضهم يعلم أنه بعد أيام سيخوض أقسى تجارب حياته.
""أنا قادر على حماية مصر وتحقيق نصر في اليمن وتحقيق نصر في سيناء" ثم انتصب واقفاً وغادر القاعة وهو يبتسم ويقول إن شاء الله لن يحدث شيء"


في كتابه (خطوات على الأرض المحبوسة)، يروي محمد حسين يونس ـ متعه الله بالصحة والعافية ـ كيف انكشفت الأوهام التي عاشها هو وعدد من زملائه الضباط والجنود بصورة مفزعة، حين وجدوا أنفسهم محاصرين من الدبابات الإسرائيلية، التي انبعثت منها نداءات بعامية مصرية ركيكة: "سلم يا مصري.. قومي..مفيش حد حنضربه.. احنا مش متوحشين..قومي"، ليصبح هو ورفاقه عرايا أمام الحقيقة الداهمة، فيتحول بعضهم إلى أطفال ينهنهون ويتحول بعضهم إلى جبال صلدة شامخة، أخذ أحدهم يبكي أطفاله الذين سيتيتمون، وآخر يستجدي عطف آسريه بإطلاق مجموعة من الشتائم في كل من يحلو لهم سماع شتائمه فيهم، وآخر يقرأ سوراً من القرآن، ورابع يخرج صورة زوجته ويكلمها ويقبلها، وخامس يخلع رتبه العسكرية وينهمك في حفر حفرة ليدفن فيها سترته والفانلة والكلسون لأن الإسرائيليين يعرفون الضباط من ملابسهم الداخلية، في حين أخذ يقول لنفسه: "تشجع إنه القدر الذي كتبه عليك ذوو الكابات الحمراء، تشجع فإن متّ فلتمت شجاعاً، تشجع لو ضعفت فستندم طول عمرك، تشجع فلن يجدي انهيارك شيئاً إلا لذة عدوك".

حين عاد محمد حسين يونس من أسره، شهد قيام أول مظاهرة في القاهرة بعد الهزيمة احتجاجاً على الأحكام الصادرة ضد قادة الطيران، كانت أول مظاهرة يشهدها منذ قيام الثورة، "احتاج الأمر لستة عشر عاماً وهزيمة عسكرية حتى يستطيع الإنسان المصري أن يحتج ويعلن احتجاجه في مظاهرة جماهيرية"، رغب في الاشتراك في المظاهرة لكنه كان يعلم أنه أصبح محل اتهام لدى الأجهزة الأمنية هو وزملاؤه الأسرى، لذلك خاف على المظاهرة من أن يقبض عليه، فيقال إن المخابرات الإسرائيلية هي التي حركت المظاهرة بفضل عملائها الذين قامت بغسل دماغهم خلال الأسر فيفسد الهدف منها، ويؤكد على نفسه تهمة كان مجرد الشك فيها يوجعه ويهينه.

رأى الأسير العائد في المظاهرة أملاً في التغيير، لأن معاناة الأسر الطويلة كانت قد أكدت له أن الهزيمة التي تمت كانت هزيمة مجتمع، لا بد من حدوث تغييرات أساسية فيه لمواجهة الهزيمة، ولذلك كان يقول دائماً "لقد كنا نعيش ونحن نتخيل أننا نستند إلى حائط صلب ونقف على أرضية متماسكة، وكنا نرمي بكل ثقلنا على القيادة، متصورين أنها تصنع المعجزات، هكذا علمونا، لذلك أخذنا موقف المتفرج وفي أفضل الأحيان المتعاطف الساذج، ولم نتحمل أبداً مسؤولية اتخاذ قرار استناداً إلى أن القيادة أفضل وتعرف صالحنا أكثر، وقرارها سيكون الأصوب وتغاضينا عن أشياء كثيرة وسلبيات حادة تراكمت ونخرت في البناء، حتى أصبح بناءً من قش طار مع أول صدمة".

لم تعد الأرض التي تعرض فيها محمد حسين يونس للأسر محبوسة بنفس الشكل القديم، ولم تصبح محررة بشكل كامل أيضاً، تغيرت أشكال حبسها وأسر مواطنيها رهائن لقرارات هوجاء تساعد على صناعة الإرهاب وتدعيمه، لم تدم حلاوة النصر طويلاً، لتعود الهزيمة مجدداً بعد أن تغيرت أشكالها، لكنها كانت وما زالت في جوهرها هزيمة مجتمع لا زال يظن أن قيادته تعرف صالحه أكثر.

............................................

"خطوات على الأرض المحبوسة" ــ محمد حسين يونس. صدرت طبعته الأولى من دار المستقبل العربي في الثمانينيات بمقدمة للشاعر محسن الخياط، ثم أعادت طبعه بعد ذلك دار الشروق.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

مدونة الكشكول لبلال فضل فى العربى الجديد :: تعاليق

شهيد التلفزيون!
بلال فضل

4 يوليو 2018
توقف عن لوم أبيه حين أصبح أباً.

كان من قبل يضيق ذرعاً بإفراط أبيه في ذكر تضحياته من أجل أولاده بمناسبة وبدون مناسبة، ثم بتذكير أمهم الدائم لهم بتلك التضحيات بعد رحيل الأب المفاجئ. لم يكن يشارك أمه وإخوته في رأيه أن أباه قد جنى عليهم بأحلامه العريضة وخطواته الانفعالية المتسرعة، التي قادته إلى تلك النهاية التي كان لوقت طويل يراها انتحارية، لكنه الآن لا يكف عن تذكر تلك التضحيات وتبجيلها والحزن على تلك النهاية التي باتت تثير رهبته، منذ أن بدأ يكابد أهوال الحياة من أجل إطعام زوجته وولديه.

أنجب أبوه سبعة أبناء كان أكبرهم. لم يكن أبوه متعلماً، ولذلك حرص على أن يعلمهم جميعاً. سيرة التعليم وعلاقة أسرتهم به، كانت تستدعي على الدوام أطرف حكاية تمتلكها الأسرة في مخزونها العاطفي، وأكثر حكاية تتباهى بها على الملأ، حكاية أن الأب قرر أن يكمل تعليمه الذي كان قد انقطع في طفولته، وأن يأخذ الشهادة الابتدائية في نفس السنة التي حصل ابنه الأكبر عليها، ثم يواصل تعليمه حتى الحصول على الشهادة الإعدادية، ليشارك أبناءه الأصغر بعد ذلك في دراسة مناهجهم، ويساعدهم فيها في الوقت ذاته، متفوقاً عليهم في إدمان قراءة الصحف والمجلات وسلاسل الكتب، بكل ما يصحب ذلك الكفاح من مباهاة عليهم بما حصّله من معلومات، وتقطيم لكسلهم وزهدهم في المعرفة التي أتتهم مبكرة ودون تضحيات.

تخرج من الأبناء اثنان بدبلومات هزيلة لزوم تمشية الحال في الحياة الدنيا، وكان الثالث الأصغر سناً على وشك اللحاق بهما في نادي الشهادات المتوسطة، أو الشهادات "الهفق" كما كان الأب يصفها في لحظات الغضب، في حين تخرج أربعة بشهادات عالية، قبل أن يتضح أنها ليست عالية فعلاً، لأنها لم تجلب وظيفة ثابتة سوى للبنت الوسطى، التي تخرجت من كلية التربية وعملت مدرسة رياضيات لكنها لم تتزوج، وكَسرة نِفسها بسبب الزنّ على الآذان والكلام الذي يسمّ البدن، سدّت نِفسها عن أداء الدروس الخصوصية التي لا يعيش المدرس إلا بها، فرفضت كل ما كان يأتيها من عروض، واكتفت بالإخلاص لوظيفتها اليومية هزيلة العائد، والعودة إلى البيت للتقوقع فيه في غرفتها التي اشترت فيها تلفزيوناً صغيراً تنفرد فيه بالمسلسلات العربية والأفلام الأجنبية التي أدمنتها على عكس إخوتها، فزادت مباعدتها عن سائر أفراد البيت. أما أختها الكبرى التي تخرجت من كلية الآداب في جامعة إقليمية "كتيانة"، لم تجد عملاً، لكنها وجدت العَدَل، وتزوجت بمدرس ثانوي غطى معشره الحلو على مظهره المكعبر، وأنجبت منه على التوالي ثلاثة أبناء، أضافوا إلى حياة الأسرة دراما منعشة بعد رتابة كئيبة لازمتها لسنوات.
"في الحلقة التالية لم يعرض البرنامج شيئاً عن الأب، لكي لا يعرف المشاهدون أن مذيع البرنامج تسبب في قتله، بعد أن أصابته أزمة قلبية حادة وهو يشاهد اسمه مذاعاً على الهواء في برنامج يعرف أن أغلب أهله وزملائه يشاهدونه"


كان الأب قد خرج على المعاش في خريف 2006 بعد أن بلغ سن الستين، ومعاشه الذي تجاوز الستمائة جنيه بقليل، كان كافياً للإنفاق على نفسه وزوجته وابنه الطالب وأخته الصغيرة المخطوبة، بعد أن فارقه الباقون وأصبح لهم بيوتهم ودنياهم، وتكفلت البنت الوسطى بمصاريفها مع مساعدة هزيلة في مصاريف البيت. وفي لحظة أمل غير محسوب، قرر الأب شراء قطعة أرض لأبنائه في أطراف مدينته الريفية الصغيرة ، وقرر أن يبدأ في بناء بيت عليها، على أمل أن ينفعهم بعد أن يموت، ولعلهم إن فشل في إكماله، يكملون بناءه يوماً ما، فيجمعهم بيت واحد بعد أن يتكل على الله.

وفي سبيل شراء الأرض وبناء الدور الأول من منزل الأحلام، طارت مكافأة نهاية الخدمة ولحقت بها تحويشة العمر الهزيلة، وذهبَ ذهبُ زوجته، مصحوباً بعشرة آلاف جنيه، كان قد استدانها من بعض الأصدقاء والأقارب وأضيف إلى كل ذلك 15 ألف جنيه أخذها سلفة من بنك ناصر، ليبقى له من معاشه بعد سداد قسط السلفة الشهري حوالي 300 جنيه فقط، فيضطر في خطوة مزلزلة، للسماح لزوجته ذات الخمسة والخمسين عاماً بأن تخرج صباح كل يوم، للعمل في محل ملابس في أحد أسواق المدينة الصغيرة، يملكه أحد أفراد عائلتها، لتساعده على الحياة، متحملة في ذلك كلام الناس وشماتة ذوي القربى، في حين اضطر لقبول وظيفة كاشير في مطعم مشويات، يملكه قريب له في مدينة طنطا القريبة، يذهب في الصباح إليها كأنه ذاهب إلى مهمة سرية، ويعود في آخر اليوم منهكاً، لا يعوض شقاءه سوى تشبثه بحلم تسديد ديونه، الذي استعان عليه ببركات السيد البدوي، آملاً في الانتقال بعدها إلى حلم آخر، هو بناء الدور الثاني إن عاش وكان له عمر.

في اللحظة غير المناسبة انهار الحُلمان، بفعل فضيحة كادت تودي بحياة زوج البنت الكبرى، الذي دخل في علاقة فاحشة مع تلميذة فائرة قبل الأوان، فأجبره أهلها الباطشون على الزواج بها ستراً على الجنين القادم، ولأن فلوس الدروس كانت قد بدأت تجري في يده، فقد عرض على زوجته البقاء مع ضرتها الجديدة إلى حين توفير منزل مستقل لها بعد تحسن الأحوال، لكنها لعنت خاش أهله، وهددته في لحظة غضب بقطع عضوه الذكري الذي لم يعد فعالاً منذ أنجبت له طفلهما الثالث. وهي مسألة لم تكن إثارتها جديدة، لولا أنها قررت أن تشاركها مع الجيران عبر البلكونة، فانهال عليها بضرب مبرح. تركت له البيت على أثرها آخذة عيالها معها، لتزاحم بهم إخوتها في بيت أبيها، فأصبح الأحفاد كثيرو الحركة مصدر شقاء بعد أن كانوا منبع بهجة، وباتت مع أولادها مسؤولة من أبيها، الذي رفض التذلل لطليقها، لكنه سمح لإخوتها بضربه علقة معتبرة، صورها الأخ الأصغر بالفيديو شفاء لغليل أخته.

تفاءل الأب خيراً حين أكرمه الله بزواج البنت الوسطى "المعصلجة" من زميل لها. أخذها بشنطة هدومها وسافرا إلى الخليج، كان ازدحام البيت ومشاركة أختها لها في غرفتها، قد أتلف أعصابها فسارعت باتخاذ القرار قبل أن تفقد ما تبقى من عقلها، وتجاوزت كل ما أبدته الأم من ملاحظات على عائلة العريس وصلعته ورائحة عرقه المتفردة. وبعد رحيلها لم يتبق للأب سوى هم المطلقة والمخطوبة والطالب آخر العنقود، بعد أن توقف بناء البيت، لتصبح خوازيقه الراشقة في الأرض كناية سافرة عن حاله الكرب، لم يكن يغضب حين يحولها ابنه الأكبر إلى مثار للدعابة في لحظات الصفاء النادرة التي تجمع العائلة.

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فقد اجتمعت عليه ثلاث مصائب: أتعاب المحامي الذي وكّله للدفاع عن ابنته التي قدم طليقها الراغب في الانتقام بلاغاً فيها يتهمها بمحاولة إجهاض زوجته، والذي اقترح بدوره رفع قضية على الطليق للمطالبة بحقوق ابنته وأحفاده، للضغط على الطليق اللعين. ومصاريف تجهيز المخطوبة التي حرّك زواج أختها غضب خطيبها وأهله، بسبب تأخره في الالتزام بما قطعه من مواعيد، فبدأوا يلوحون بفسخ الخطوبة إن لم يلتزم بوعوده. ومصاريف المعهد العالي للسياحة والفنادق الذي ألحق به ابنه في القاهرة والتي ارتفعت فجأة إلى ثلاثة آلاف جنيه، أصبح مطلوباً منه أن يدفع ألفين منها خلال أسبوع، وإلا تم وقف ابنه عن الدراسة تمهيداً لفصله.

ولأنه كان قد استنفد سبل السّلَف المتاحة في محيطه القريب، قرر في لحظة يأس أن يلجأ إلى شقيق زوجته الأكبر، الذي كان يطيق العمى ولا يطيقه، منذ أن وقف ضد قصة حبهما قديماً، وحذّر أخته من الاقتران بموظف تافه ليس لديه أرض ولا عزوة، وليس لديه سوى لسان حلو سيجني عليهما في النهاية. تناسى الأب كل ذكرياته المريرة، وسافر إلى نسيبه الكريه في الإسكندرية، حيث يقيم في شقة فاخرة تطل على بحر سان ستيفانو، بعد أن مهدت زوجته في مكالمة تليفونية طويلة للطلب العاجل، وحلفت له أن الأخ وعدها بتلبية طلبها ورفع رأسها، لكنه بعد أن خبط المشوار الثقيل على قلبه، فوجئ بأخيها يعطيه نصف المبلغ الموعود، ويطلب منه أن يعود إليه بعد شهرين من أجل بقية المبلغ، ويعطيه بالإضافة إلى ذلك محاضرة لزجة في أهمية التخطيط للمستقبل وعيب الخلفة الكثيرة لمن لا يقدر على مسؤولياتها.
"لعنت خاش أهله، وهددته في لحظة غضب بقطع عضوه الذكري الذي لم يعد فعالاً منذ أنجبت له طفلهما الثالث. وهي مسألة لم تكن إثارتها جديدة، لولا أنها قررت أن تشاركها مع الجيران عبر البلكونة، فانهال عليها بضرب مبرح"


حين بكت زوجته فور علمها بما حدث، وهوَت لتقبل قدميه أسفاً على حقارة أخيها، احتضنها وقبل رأسها ويديها وهمّ بتقبيل قدميها، معتذراً عن وضعه لها في هذا الموقف السخيف، لتنهمر الدموع من عيون الأبناء والأحفاد، وينخرط الكل في حضن جماعي، بدأ بالبكاء وانتهى بضحك عارم حين أطلق أحد الأحفاد قنبلة لا إرادية بددت كآبة اللحظة، لكن الأب أثار قلق الجميع، حين تعشى بنفس مفتوحة، ولاطفهم طويلاً قبل نومهم، وأطال في صلاته، لتقضي الزوجة ليلها كله في تفقد أنفاسه حين ينقطع شخيره، وحين استمر هدوءه في الأيام التالية، واصل الجميع الاطمئنان عليه في الرايحة والجاية، خوفاً من أن يطق له عرق من فرط الأسى، لكنه استمر في صموده الهادئ بشكل أذهلهم، ولم يفهموا سره إلا بعد أن اكتشفوا أنه أرسل خطاباً بالبريد المسجل المستعجل إلى برنامج تلفزيوني كان قد اشتهر بفقرة (الحالات الإنسانية) التي يوزع فيها المساعدات على مستحقيها من سائر محافظات مصر.

حكى الأب في خطابه قصته بالتفصيل، مستخدماً كل ما منحته له سنوات القراءة من مخزون في المفردات والتعبيرات البلاغية، ليكتب عبارات درامية حارة كان لها مفعول السحر على المذيع الشهير الذي قرأ بعضها على الهواء بتأثر، لكنه أعجب بشكل خاص بعبارة (مأساتي أنني أحب أولادي فلا تجعلوا ذلك الحب جريمتي) والتي يبدو أنها أعجبت الأب نفسه وهو يكتبها، فكررها في مطلع الخطاب ونهايته، لكن ما أعجب المذيع أكثر كان قصة حصول الأب على الابتدائية مع ابنه الأكبر، وتفاصيل تعليمه لنفسه ولأبنائه وكفاحه من أجل ذلك، لكن المذيع للأسف أعجب بذلك أكثر من اللازم، فتجاهل الجزء الذي ناشد الأب فيه أسرة البرنامج أن تحافظ على سرية اسمه "حرصاً على صورتي بين أهلي في البلد وأصدقائي خاصة وبعض الأقارب عقارب كما لا يخفى على سيادتكم"، ليقرأ المذيع ذلك الجزء ثم ينظر إلى الكاميرا وقد كسا وجهه التأثر، وهو يلوم الأب على ما كتبه، طالباً منه ألا يخجل من كفاحه، لأن عليه أن يفخر بنفسه، فهو بطل حقيقي في زمن لم يعد فيه أبطال، ولذلك سيقرأ اسمه وعنوانه على الهواء، داعياً لتكريمه على المستوى الرسمي والشعبي، قبل أن يتوجه فريق البرنامج إليه لزيارته في بلدته وعرض اللقاء الذي سيتم تسجيله معه في حلقة قادمة.

في الحلقة التالية لم يعرض البرنامج شيئاً عن الأب، لكي لا يعرف المشاهدون أن مذيع البرنامج تسبب في قتله، بعد أن أصابته أزمة قلبية حادة وهو يشاهد اسمه مذاعاً على الهواء في برنامج يعرف أن أغلب أهله وزملائه يشاهدونه، ومع أن الأسرة لم يكن لديها رغبة في الشكوى لأحد مما فعله مقدم البرنامج، فقد تسبب هو في إثارة غضب الأسرة، حين أرسل مع أحد العاملين ظرفاً به خمسة آلاف جنيه، "هدية من أسرة البرنامج"، لينجو حامل الظرف بفضل الجيران من علقة ساخنة، ويتوجه الابن الأصغر إلى مقر صحيفة معارضة في القاهرة، فيحكي لأحد صحافييها قصة أسرته مع المذيع الشهير، لتنشر الصحيفة الموضوع مزوداً بالتوابل التي تذم الزمان الوغد الساحق للفقراء، ومصحوباً بصورة الأب التي نشر إلى جوارها عنوان يصفه بـ (شهيد التلفزيون!)، وهو لقب تجاهلت الأسرة التباسه الذي زاد بفعل علامة التعجب، حتى ذكره خال الأولاد باستنكار بدا أنه لا يخلو من السخرية، فكان ذلك سبباً في صفعة تلقاها من الصغير الأهوج، قاطع بعدها أخته إلى الأبد.

لم يكن أحد في الأسرة ليتصور أن ذلك الموضوع الذي نشرته الصحيفة متوسطة الانتشار، سيحل كافة مشاكلها المادية، وأنه سيحضر مذيع البرنامج على ملا وجهه إلى بلدتهم، حاملاً تبرعات من مشاهدي البرنامج، تكفي لإكمال جهاز المخطوبة وتأمين مصاريف الطالب حتى تخرجه، بل وإكمال بناء الدورين الأول والثاني من البيت الحلم، وتحقيق حلم الأم في زيارة الحبيب النبي، مقابل أن تظهر الأسرة في حلقة من برنامجه للحديث عن كفاح الأب وبطولاته، والحديث أيضاً بشكل مفصل عن صحته المتدهورة وقلبه العليل الذي لم يحتمل فرحة حل مشاكله في البرنامج، الذي كان يدمن الفرجة عليه ويدعو لمقدمه بالصحة والستر، ولم تكن الأسرة برغم كل احتقارها للبرنامج ومقدمه، لتُضيع فرصة مثل تلك الحلقة التي ختمها المذيع بعينين مغرورقتين بالدموع، وهو يشير إلى صورة الأب المعلقة على الجدار مردّداً عبارته الخالدة: "مأساتي أنني أحب أولادي فلا تجعلوا ذلك الحب جريمتي".

"لا تذهب نفسك عليهم حسرات"

على الورق أو على سطح اللسان يجري الحل المفترض سهلاً: لا تتوقف عن الدفاع عن مبادئك، لكن اجعل مسافة بينك وبين ما تحارب من أجله، ولا تأخذ ما يقال عنك بشكل شخصي، خاصة وقد أصبح استهدافك بسبب رأيك شيئاً معتاداً في عالم "السوشيال ميديا". عليك أن تتذكر أن الذي يقوم بتخوينك أو تكفيرك أو لعن سنسفيلك، ربما لا يكون معنياً بشخصك، فأنت بالنسبة له لوحة تنشين ترمز لما يكرهه من مواقف وآراء، والسوشيال ميديا تجعلك هدفاً يسهل الوصول إليه نظرياً، وما قد يقوله لك ذلك الكاره بجلافة وعنف في عالمه الافتراضي، لن يستطيع أن يقوله لآخرين في عالمه الواقعي، قد يؤمنون بما تؤمن به، ربما كانوا من أقاربه أو رؤسائه أو من تجمعهم به علاقات ومصالح، ولذلك لن يستطيع أن يقول ولو بتهذيب ما يقوله لك بحدة وشراسة.

لكن كيف تستطيع تطبيق كلام لطيف كهذا في واقع يزداد شراسة؟
بالتأكيد، لو كان لدي وصفة مضمونة النجاح لكتبتها وترجمتها إلى الإنجليزية، لعلها تصبح كتاباً مليوني المبيعات. لي صديقة أمريكية كتبت كتاباً مليونياً غير حياتها إلى الأفضل، مع أنه لم يكن من كتب التنمية الذاتية التقليدية، بل كان كتاب سيرة ذاتية يتحدث عن قائد نجا بمن هو مسئول عنهم من كارثة محققة، وحين تشجعت وقررت أن تكتب كتاباً عن التنمية الذاتية بشكل مباشر، لم ينجح الكتاب، مع أنني حين قرأته اندهشت من تميز المنهج الذي يقدمه الكتاب وقدرته على مساعدتك في التعرف على تعقيدات النفس، ومحاولة التعامل معها، وحين حاولت فهم أسباب فشل الكتاب، قلت لنفسي ربما كان الناس يحبون القصص التي تساعدهم على فهم أنفسهم، أكثر من المناهج المباشرة التي تحاول تفهيم أنفسهم لهم.

أصبحت أتخذ من ذلك الواقعة دليلاً إضافياً على وجود رسائل ساخرة مستمرة يبعثها الكون إلى أصحاب المنطق المتماسك دائماً، لتذكيرهم باستحالة تلخيص الكون "في قشرة جوز"، لأن أي معرفة لحقائق الحياة لن تمنع خلو النفس من الألم والحسرة، وأي تجاهل كامل لحقائقها لن يديم على المتجاهل البهجة وخلو البال، ولذلك على الإنسان أن يحضر نفسه دائماً لأقسى الاحتمالات، وأن يفسد نشوة الحلم الجامح بقليل من الواقعية المزعجة، ويفسد رتابة الواقعية الراكدة بكثير من الأحلام الممكنة وقليل من الأحلام الجامحة، ويستعد دائماً للتعايش مع الحسرة التي تصيب الإنسان حين ينسى تواضع قدرته على التحكم في كل شيئ في الكون.

في أيام عزه تجلى الخال عبد الرحمن الأبنودي في وصف مخاطر حالة التوحد التي تحدث بين الإنسان وأحلامه العامة، حين قال:
"تتعسني فكرة إني هموت
قبل ما اشوف - لو حتى دقيقة-
رجوع الدم لكل حقيقة..
وموت الموت
قبل ما تصحى..
كل الكتب اللى قريت
والمدن اللي ف أحلامى رأيت
والأحلام اللي بنيت
والشهدا اللي هويت
والجيل اللي هدانى
والجيل اللي هديت
قبل ما أملِّس ع الآتي
وادفن كل بشاعة الماضي في بيت
حاقولها بالمكشوف:
خايف أموت من غير ما اشوف
تغير الظروف.
تغير الوشوش..
وتغير الصنوف
والمحدوفين ورا
متبسمين في أول الصفوف.
خايف أموت وتموت معايا الفكرة
لا ينتصر كل اللي حبيته..
ولا يتهزم كل اللى كنت أكره..
اتخيلوا الحسرة.. اتخيلوا الحسرة"

بعد أن استعدت هذه القصيدة التي اخترتها مقدمة لأحد كتبي قبل سنوات، تذكرت الحسرة التي أصابتني حين قرأت الأشعار الركيكة التي كتبها أستاذي وصديقي الذي أحن إليه كثيراً عبد الرحمن الأبنودي في مديح عبد الفتاح السيسي، فذهبت لأتلهى عن حسرة الذكرى بالبحث عن استخدامات كلمة (الحسرة) في العديد من النصوص التراثية والأدبية، فقابلت ذلك التعبير الجميل: "فلا تذهب نفسك عليهم حسرات" والذي جاء في الآية الكريمة: "أفمن زُيّن له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يُضلّ من يشاء ويهدي من يشاء، فلا تذهب نفسك عليهم حسراتٍ إن الله عليم بما يصنعون"، وعرفت أن بعض القراءات تضع الضمة على التاء في كلمة "تذهب"، وبعضها يضع الفتحة، والقراءة الأولى تزيد من تأثير الشخص في اختيار نفسه للحسرة، والقراءة الثانية تجعل زمام الحسرة في يد النفس، فيكون على الإنسان أن يقاومها قبل أن تذهب حسرات.

حين بحثت عن سبب نزول يرتبط بتلك الآية، وجدت من يقول إنها ارتبطت بتمني النبي عليه الصلاة والسلام لأن ينصر الله دينه بعمر بن الخطاب أو أبي جهل عمرو بن هشام، فهدى الله أولهما وأضل الآخر، لكنني وجدت أن تلك الرواية تحد من رحابة المعنى الموجود في الآية، والذي يشير إلى ارتباط النبي عليه الصلاة والسلام بقضيته إلى حد بعيد، جعله يكاد يذهب نفسه من الحسرة على من ضل وأضل، فجاءت الآية لتنبهه إلى محدودية دوره، وتذكره بأن اندفاعه وراء قضيته واحتراقه من أجلها، لن يجعله بالضرورة سبباً في انتصارها، فللنصر والهزيمة أسباب كثيرة أبعد من رغبات الإنسان ومخاوفه.

لسنا أنبياء ولا حكماء، وكل محاولاتنا للاقتداء بالأنبياء والتشبه بالحكماء، ستصطدم يوماً ما بحقيقة عاديتنا وهشاشتنا، وبأننا أضعف من أن نقاوم التورط عاطفياً فيما نؤمن به، ولذلك تجد أغلبنا يحب الحديث عن مرارة الهزيمة، أكثر من تفضيله الحديث عن أسطورية المقاومة التي لا ترتبط بالنتائج، لأن قلوبنا ستظل معلّقة بالنتائج، مهما قيل لنا أو قلنا لأنفسنا أننا لسنا مسئولين عن صنعها، وأن علينا أن نواصل السير على الطريق مهما حدث، ألا ترتبط حياتنا منذ بدأت بفكرة النتيجة؟ فكيف يمكن لنا أن نقرر الآن تجاهلها حين تأكد لنا أنها لن تكون دائماً كما نرغب، وإذا قررنا أن نستمع إلى من يطلب منا ألا ننشغل بغير الطريق، فأي طريق إنساني هذا الذي يمكن أن يضمن الانشغال به دوام النجاة من الحوادث المريعة والقدرة على تفادي المنعطفات الحرجة والمطبات خازوقية الطابع؟ وإذا صدقنا من يقول لنا إننا قادرون على صناعة البهجة، فهل يمكن أن نصدق من يقول لنا إننا قادرون باتباع منهج ما على الإفلات الدائم من وطأة الحسرة؟

لأننا لسنا أنبياء، لسنا مطالبين أصلا بالحكم على الآخرين بالهداية والضلال، مهما بدا لنا إطلاق تلك الأحكام سهلاً ومخففاً لآثار الحسرة، بل نحن مطالبون بأن نبحث في دنيانا عن من يحقق أحلامنا المشروعة ويعدنا بالتنمية والعدالة ويتحلى من أجل تحقيق وعوده بالكفاءة والمهارة، وهي محاولات عصيبة ومراوغة، لن تنفعنا فيها كتب التنمية البشرية ولا كورسات التعرف على النفس، لأن تحقيقها سيصطدم بمصالح عاتية وشبكات معقدة من العلاقات والتربيطات، ستجلب لمن يصطدم بها الكثير من الحيرة والحسرة، مهما بدا في لحظة ما قادراً على استخدام عصا الحكمة في الإمساك بالعالم، أو تخيل إمكانية السيطرة عليه بغمره بالحب، أو توهم فك ألغازه بالاقتباسات والحكم والقراءات.

وإذا كان إدراك ذلك محبطاً لأحلامنا على المدى القريب، فربما استطعنا على المدى البعيد تخطي ذلك الإحباط، حين ندرك أن أحوال عالمنا أصبحت من السوء بمكان لم يعد يتيح لنا رفاهية "الركن على جنب"، وأن بقاءنا على قيد الحياة، مجرد البقاء على قيد الحياة، لم يعد يفرق معه كثيراً رؤيتنا لأنفسنا: هل نحن أبطال أم مهزومون؟ ضحايا أم جلادون؟ صابرون أم يائسون؟ ألم يقلها أبونا صلاح جاهين من قبل وقد كان وقتها في عز شبابه:
"صبرك ويأسك بين إيديك وانت حر
تيأس ما تيأس الحياة راح تمر
أنا شفت من ده ومن ده عجبي لقيت
الصبر مر وبرضك اليأس مر
عجبي"
وهي أبيات لا أعدكم أن تأملها والاقتناع برسالتها، سيغير حياتكم فوراً وإلى الأبد، فهي لم تغير حياة كاتبها، ولم تجلب له السعادة، ولم تساعده على الإفلات الدائم من وطأة الحياة، لأنها كشأن غيرها من الحكم والوصايا والنصائح، قد تساعدنا على التقاط الأنفاس في صراعنا مع الحياة، لكنها لن تعفينا من خوضه بشكل دائم، "فاتخيلوا الحسرة، اتخيلوا الحسرة"، ثم استعينوا على الشقا بالله.

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]

خواطر مِلَخفِنة عن البطيخ والقدر

وقفت أمام ركن البطيخ في السوبر ماركت الشاسع، مبحلقاً في كميات البطيخ الكبيرة التي تم رصها على طاولة خشبية، ومحاولاً تخير البطيخة التي ستثبت أنني لست فاشلاً على الدوام في تنقية البطيخ، لكن عملية الاختيار طالت أكثر من اللازم بفعل تداعيات ذكرياتي مع البطيخ.
لأسباب لها علاقة بالوزن والحجم والسعر والشيلة، نتعامل مع البطيخ بجدية أكثر من غيره من النباتات المقفولة القابلة للأكل، كنت سأقول "أكثر من الفواكه المقفولة"، لكنني خفت أن يطلع لي كالزنبوق عشرون عالم نبات، لينبهوني إلى أن البطيخ من الخضروات وليس من الفواكه، وحسماً للجدل، راجعت الحافظ جوجل فاتضح أن البطيخ من الخضروات لكنه عاش حياته محسوباً على الفاكهة، وهو سبب إضافي لمحبته والتعاطف معه، القصد يعني أننا عادة لا نغضب بنفس القدر، لو خاب أملنا بعد فتح ثمرة كانتالوب، خفت أن أقول "شمّامة" فيطلع لي من يقول إن وصف الكانتالوب بأنه شمّام أمر غير دقيق علمياً، أو لا يليق احتراماً لاختيارات الشمامين.

القصد يعني أن موضوع البطيخ اكتسب في ثقافتنا أبعاداً أكبر منه، فأصبحنا نتوارث عن أجدادنا قولهم إن الجواز مثل البطيخ، لا يمكن أن تدرك كنهه إلا بعد أن تتورط في تجربته، وبالطبع لم أقل "إلا بعد أن تفتح وتدوق"، لأن هذه العبارة الغليظة التي كانت على أيامهم تجلب الكركعة بوصفها من أطرف ما يُقال، صارت على أيامنا تستوجب "البلوك والريبورت"، القصد يعني أن الكلام السلس عن البطيخ صار صعباً كالعثور على بطيخة حلوة ومرمِّلة تجيب هم شيلها وسعرها، وربما تكون هذه فرصة للتأكد من صلاحية كلمة "مرمِّلة" للاستخدام، وأنها لا تجرح شعور أحد.

كان لي صديق تافه، لم يكن يمتلك مهارة حقيقية في الحياة سوى قدرته على اختيار البطيخة الحلوة، وكان يدعي أنه ورث تلك المهارة من أبيه الذي كان شيخ طريقة في فتح البطيخ، لدرجة أن البطيخة كانت تكلمه وتقول له "افتحني تجد ما يسرك"، أو "سيبني وخد اللي جنبي"، وإذا تصورت أنني أهزل فأنت لم تصل بعد إلى الدرجة الكافية في إدراك تفاهة الإنسان، ولذلك لن تصدق أن هناك صديقاً أتفه، كان مثل حالاتي من المبتلين بسوء البطيخ، استفزه تبجح صديقنا بقدراته كعارف بالبطيخ، فظل يصطحبه على مدى صيف كامل إلى عربات البطيخ ليتحقق من قدراته، وحين لمس تلك القدرات بنفسه، حاول التهوين من شأنها، بالبحث عن أسباب موضوعية لها، طالباً من صديقي أن ينقل له بعضاً من معرفته بالبطيخ، والتي أصبحت تراها الآن في فيديوهات تتحدث عن "تون" الصوت الذي تسمعه حين تخبط على البطيخة، ولون قشرتها ودرجة انسيابيتها، وكل هذا الهراء الذي يحاول به بنو البشر إضفاء طابع منطقي على قدرية البطيخ، وكونه في النهاية رزقاً جعله الله "للموعودين مش للحسّابين".

في أول مرة اشتريت فيها بطيخة بعد زواجي، سألتني زوجتي: "هتفتحها على وش مين؟"، فلم أفهم السؤال في البداية، وتخيلت أنها ترغب في أن أفتح البطيخة برأسي جلباً للحظ، لكنها قالت لي إن والدها عودهم في كل مرة يشتري فيها بطيخة على ذلك السؤال الفولكلوري، ليختاروا أحد أفراد الأسرة لكي يتم فتح البطيخة على شرف وجهه، فينال التحية إن جاءت حلوة، وينال البستفة والتريقة إن جاءت قرعة أو ماسخة، ولأنني أعرف تعاسة حظي مع كل ما اشتريته من بطيخ طيلة حياتي، قررت تأمين نفسي، وقلت إنني سأفتحها "على وشي" لأثبت لها براعتي في اختيار البطيخ الذي تعلمت أسراره من أحد أصدقائي التافهين، وحسناً فعلت، فقد كانت أبشع بطيخة يمكن أن تراها في حياتك، ولم يكن ينقصها إلا أن يخرج منها ثعبان أقرع، وزوجتي التي لامتني قبل فتح البطيخة لأنني بدّيت نفسي عليها، انهالت علي تريقة كما يقتضي الطقس العائلي، لتتكرر تريقتها مع كل اختيار فاشل للبطيخ، فينتقل ملف البطيخ إلى يدها طيلة الخمس عشرة سنة الماضية، وأشهد أنها أحسنت إدارته، بدليل أنني حين توليته ذات مرة خلال سفرها أصبت بتسمم حاد وكدت أروح فيها، وكتبت يومها مقالاً ستجده في كتاب (ضحك مجروح) افتتحته بقولي: " يا سبحان الله، معقولة؟ أنا الذي ما في جسدي إلا موضع لسندوتش كبدة كلاب، أو أثر لسجق مشبوه النسب، أو طعنة من سيخ لحم تغير طعمه ولونه، أو رشفة من تمر هندي آسن، أرقد على فراشي كما يرقد البعير إثر أكلة بطيخ. فلا نامت أعين الفكهانية".

منذ أن اجتاح كوفيد 19 الكون، خرجت مسئولية اختيار البطيخ من يدي ويد زوجتي، وأصبح عمال التوصيل التابعون لتطبيق التسوق الإلكتروني يختارون لنا البطيخ، فمرة يصيبون ومرة أو مرتين يخيبون، وحين يطلب مني "الآب" أن أقيم أداءهم، أستحرم فكرة تقليل النجوم الخمسة التي أعطيها لهم كل مرة، لأنهم أحضروا لي بطيخة ماسخة، فأستعوض الله في البطيخة التي راحت فلوسها أونطة وأمدحهم لدى "الآب"، وحين تأتي البطيخة التالية زي العسل، أتعامل معها كمكافأة كونية على ضبط النفس والتضامن الإنساني المطلوب في سفاسف الأمور قبل عظائمها.

حين جئت إلى نيويورك قبل سنوات، اكتشفت أن جميع محلات البقالة تبيع البطيخ مفتوحاً بعد تقسيمه وتغليفه، وهو ما يعفيك كمحب للبطيخ من المقالب التي تفسد شوقك إليه، لكنك في المقابل تدفع في ربع البطيخة المفتوح سعراً يوازي سعر البطيخة المقفولة، كأنك تدفع ضريبة اللعب في المضمون، وتفقد في الوقت نفسه بهجة سفح كميات أكبر من البطيخ، مصحوباً بالجبنة الحادقة والعيش المحمص كأقرب بديل متاح للعيش "المفقّع"، لكن ذلك أرحم من شراء تلك العلب التي يضعون فيها قطعاً صغيرة من البطيخ ليأكلها المستعجلون بالشوكة، وكأن أكل البطيخ يمكن أن يكون له لزمة إذا لم أن تملأ قطعة البطيخ فمك، فيصدر عن قضمها ذلك الصوت المبهج الذي لا يقترن بأي فاكهة أخرى غير البطيخ، وتترحم على أيام الصبا، التي كنت تسفح فيها البطيخ وأنت ترتدي الفانلة الحمالات، لكي لا يغرق ماءه ملابسك، ويجيب لك الكلام من ست الكل التي قطم الغسيل ظهرها، ثم تشعر بالسعادة لأنك ساهمت في تقديم صورة سينمائية مشرقة لكيف ينبغي أن يؤكل البطيخ في فيلم (وش إجرام) الذي ألفته وأخرجه وائل إحسان، بذمتك يعني هل يؤكل البطيخ إلا كما كان يأكله هنيدي وسعيد طرابيك ولبلبة؟ لكنه الغزو الفكري قاتله الله، الذي جعلنا كأمة مهزومة نفرح بفيديوهات تقطيع البطيخ إلى مكعبات غير قابلة للهط والسفح.

بمناسبة علاقة السينما بالبطيخ، كانت عملية اصطحاب البطيخة إلى المنزل قد أثارت اهتمام مخرج مغرم بالتفاصيل مثل محمد خان، فصنع عنها فيلماً قصيراً لطيفاً، لكن البطيخ ظل مظلوماً في الدراما السينمائية والتلفزيونية مقارنة بغيره من الفواكه، وهو ظلم امتد إلى الغناء والشعر، فلم يجد البطيخ برغم مركزيته في حياتنا، خصوصاً في الصيف، من يغني له مثل غيره من الفواكه، ربما لأن أي أغنية ستقوم بالتغزل بالبطيخ، ستحيل بالضرورة إلى معانٍ سافلة تثير حفيظة الرقابة بأشكالها المتعددة.

لذلك لم يكن غريباً أن يقتصر الغناء للبطيخ على الأطفال، حيث وجدت على اليوتيوب أغنية باللهجة الشامية للأطفال يقول بطلها (توم المتكلم): "أنا لو ألف الدنيا أو أطلع عالمريخ، أبداً ما راح ألاقي أطعم من البطيخ"، في السياق نفسه نبهني الحافظ جوجل إلى أن الشاعرة عبير عبد العزيز أصدرت ديواناً للناشئة بعنوان (ما قبل البطيخ) رسمه الصديق الجميل سمير عبد الغني، جاء في عناوين قصائده "من المنتصف، بين يديه، حقل بطي، في الداخل، ثلاث حكايات عن الشعر والبطيخ، صوت من داخل بطيخة"، وأهدته الشاعرة "إلى من أخرجني من البطيخة عندما أدارها سبع مرات"، وكنت سأشتري الديوان الذي بدا واعداً لبناتي، لولا أن إحداهن لا تحب البطيخ، والثانية لا تحب الشعر.

حين بحثت عن قصائد أخرى عن البطيخ ظهرت لي مقالة بعنوان (البطيخ في الشعر الفلسطيني)، فاستبشرت بها خيراً، لكني لم أجد سوى قصيدة حلمنتيشية للشاعر سمير سليمان أبو زيد يتغزل فيها ببطيخ فلسطين في أبيات ختمها بقوله:
يشفي ابن آدمٍ من حصوٍ ومن رملٍ
والضغط ينزلُ بعد الأكل في الحينِ
ربيع أمتنا البطيخ والعنبِ
قال الرسول وهذا القول يكفيني"

وهو قول لا أدري من أين أتى به الشاعر، لأنه ليس قولاً مشهوراً، وإلا لكنا رأيناه على كل عربات البطيخ في بلادنا، تقليداً لمحلات عصير القصب التي تضع في صدارتها لافتة (وسقاهم ربهم شراباً طهوراً)، لكنني أحببت أن الشاعر قام في أبياته بتعديد المناطق الفلسطينية التي تشتهر بإنتاج البطيخ، وفكرت في غرابة الدنيا التي تعامل الشعراء والفنانين بمزاج يشبه مزاجها في تقسيم حلاوة البطيخ بين الناس، فلو كان محمود درويش قد كتب قصيدة عن البطيخ، لغناها مارسيل خليفة وأضيفت إليها موسيقى الإخوة جبران، واستشهد بها كل من هب ودب مصحوبة بصورته مع البطيخة التي اشترتها له أمه، لكن محمود درويش كان فيما يبدو يحب الفاكهة صغيرة الحجم، ولذلك قال مثلاً: "امرأة تدخل الأربعين بكامل مُشمُشها"، مع أنه كان سيكون أوقع وأجمل لو قال "بكامل بطيخها".

القصد يعني، أن البطيخة التي اشتريتها بعد أن طاف بخاطري كل هذا الهذر، طلعت قرعة وماسخة كالعادة، ولست أشكو والله، لأن البطيخ ليس على قائمة أولوياتي فيما يتعلق بالحظ والتوفيق، فماذا يفيد الإنسان لو كان كل شيء في حياته ماسخاً إلا البطيخ؟

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
أرقام للتأمل

ـ بعد كل هذه السنين من الحديث عن خطورة الأسلحة النووية وأهمية الحد من التسلح النووي وضرورة الاهتمام بالبيئة، يحتل عام 2019 المركز الأول في قائمة الأعلى إنفاقاً من دول العالم على التسلح النووي.
ـ خلال السنوات التي قضاها هوجو شافيز رئيساً لفنزويلا، أنفقت الحكومة الأمريكية على دعم أغنيات روك مناهضة له بمبلغ قدره 22 ألف و970 دولار أمريكي، وهو مبلغ قد يكون بسيطاً في أمريكا، لكنه ضخم في فنزويلا، لكن فرق العملة لا ينفي الهيافة والغباء بل يؤكدهما. (المصدر بحث أجراه تيموثي جيل في جامعة نورث كارولينا ويلمينجتون ونشرته مجلة هاربر في عددها الأخير).
ـ بلغ عدد الدراسات العلمية المرتبطة بفيروس كورونا التي تم سحبها والتراجع عن نتائجها منذ اندلاع الوباء 22 دراسة، مما يكشف طبيعة الغموض المرتبط بهذا الوباء اللعين.
ـ عدد أفراد الحرس الوطني الأمريكي العاملين في الخدمة داخل الولايات المتحدة في 1 يونيو 2020 بلغ 66 ألف و700 شخص، أما العاملون في الخدمة خارجها في نفس التاريخ فقد بلغ 28 ألف و300 فرد.
ـ طبقاً لتقرير إسرائيلي نشر مؤخراً، منذ فبراير الماضي ارتفع عدد اليهود الأمريكيين الذين طلبوا الهجرة إلى إسرائيل بنسبة 64 في المائة عن الأعوام الماضية.
ـ في استطلاع رأي نشر مؤخراً، واحد من بين كل خمسة كنديين يرى الولايات المتحدة بلداً غير صديق أو عدو.
ـ تقدر الخسارة التي ستحدث للولايات المتحدة بسبب انخفاض عوائد السياحة هذا العام بحوالي 550 بليون دولار أمريكي.
ـ أعلنت شركة بوينج الأمريكية لصناعة الطائرات عن خسائر قدرها 2 بليون و400 مليون دولار أمريكي في الربع الأخير لها، وهو ما تزامن مع إعلان تخفيضات كبيرة في ميزانيتها وتسريح للمزيد من العاملين، في الوقت الذي أصبح من المؤكد أن يتم إيقاف بناء طائرات بوينج 747 الشهيرة والتي دخلت الخدمة في عام 1970، لتكون سبباً في إتاحة السفر جواً للملايين حول العالم.
ـ متوسط عدد التغريدات اليومية التي كتبها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على تويتر في عام 2017 يبلغ سبع تغريدات، وهو رقم ارتفع في عام 2020 إلى 32 تغريدة يومياً، وهو أكثر من عدد التغريدات التي يكتبها مخترع منوفي عاطل عن العمل والأمل.
ـ قالت دراسة أجراها باحث في جامعة فيرمونت إن الأسبوع الذي بدأ من يوم 29 مايو وانتهى يوم 4 يونيو يحتل المركز رقم واحد في قائمة الأسابيع الأكثر حزناً وكآبة على موقع تويتر على مستوى العالم.
ـ واحد من بين كل أربعة أمريكيين اشتركوا في دراسة أجراها معهد كينزي قال إن شريكه السابق أو شريكته السابقة تواصل معه خلال فترة العزل الصحي، أما عدد الذين قاموا بالتجاوب مع مبادرة "الإكس" فقد كان أربعة من بين كل خمسة، وهي دراسة أقترح لها حين تنشر مترجمة إلى العربية عنواناً هو (الإنسان مننا ضعيف).
ـ 35 ألف و287 روحاً كان يمكن إنقاذها لو تم فرض إجراءات التباعد الاجتماعي في الولايات المتحدة قبل أسبوع من موعد إعلانه، و58 ألف و322 روحاً كان يمكن إنقاذها لو تم فرض الإجراءات قبل أسبوعين، طبقاً لدراسة أصدرتها جامعة كولومبيا الأمريكية.
ـ عدد المطاعم التي تم إغلاقها داخل أمريكا في شهر مارس الماضي 20 ألف مطعم تقريباً، من بينها خمسة مطاعم في الحي الذي أسكن فيه، ومن بينها مطعمان فقط حزنت على فراقهما وأتمنى عودتهما قريباً.

ـ أصبحت شركة أبل الأمريكية أول شركة تتخطى قيمتها حاجز الاثنين تريليون دولار أمريكي، وقد كانت قبل عامين أول شركة تتخطى قيمتها حاجز التريليون دولار أمريكي.
ـ من بين أكبر خمسمائة شركة في العالم، هناك 13 شركة فقط تديرها نساء، في العام الماضي كان هناك 14 شركة، ولأول مرة منذ عام 2014 تخلو القائمة من أي شركة تديرها امرأة ملونة.
ـ بعد حصولها العام الماضي على الطلاق من مؤسس شركة أمازون جيف بيزوس بسبب خيانته لها، وحصولها على تسوية مالية جعلتها ثالث أغنى امرأة في العالم، قامت ماكينزي سكوت بالتبرع بمبالغ ضخمة من الثروة التي حصلت عليها، حتى أنها في عام واحد تبرعت بما يقارب بليون و700 مليون دولار أمريكي، ذهبت إلى 116 منظمة غير ربحية حول العالم تعمل في مجالات مكافحة التمييز العنصري والاحتباس الحراري والتمييز ضد المثليين والعابرين جنسياً، معلنة أنها لن تتوقف عن التبرع بأموالها حتى "تفضى الخزنة تماماً" طبقاً لتعبيرها الذي يتمنى الكثيرون ألا يكون بلاغياً.
ـ كشفت دراسة نشرها موقع بلومبرج أجريت على 26 ألف شركة حول العالم يعمل بها حوالي 3 مليون ومائة ألف عامل أن يوم العمل العادي زادت مدته حوالي 48 دقيقة ونصف مقارنة بزمنه قبل وباء كورونا المستجد، وأن عدد الاجتماعات التي يتم عقدها بشكل منتظم زاد بنسبة 13 في المائة تقريباً.

ـ قام شخص من مرتادي كنيسة في ولاية أوهايو الأمريكية بنقل عدوى فيروس كورونا لحوالي 53 شخص ترددوا على الكنيسة في نفس اليوم في شهر يونيو الماضي، وهو ما قاد إلى نقل العدوى في نهاية المطاف إلى 91 شخص، وهو رقم ليس غريباً حين تعرف أن حوالي ستين في المائة من مؤيدي دونالد ترامب وغالبيتهم من أصحاب الأفكار المتشددة والمحافظة يعتقدون أن الفيروس أكذوبة أو مبالغة إعلامية، وهو ما يفسر مواصلة انتشار الفيروس في كثير من الولايات التي يتولى مسئوليتها محافظون من أنصار ترامب وقيادات الحزب الجمهوري الذي لم يكن مخطئاً من وصفه بأنه أخطر تنظيم سياسي في العالم الآن.
ـ بلغ عدد البحارة والعاملين في السفن الذين تضرروا من إجراءات الحجر الصحي المفروضة عقب انتشار وباء كورونا، والذين ظل بعضهم عالقين في السفن والمراكب لفترة حوالي 200 ألف بحار وعامل حول العالم.

ـ بلغت نسبة الزيادة في تشغيل أغنية "Fuck tha Police" لفريق الهيب هوب الأمريكي N.W.A. على الإنترنت حوالي 272 في المائة، خلال الأسبوع الذي أعقب قتل المواطن الأمريكي من أصل أفريقي المرحوم جورج فلويد على يد ضباط شرطة في مدينة مينيابوليس بولاية منيسوتا.
ـ في الوقت الذي تقدر فيه تكلفة شراء ملابس مدرعة وواقية لضباط قوات مكافحة الشغب الأمريكيين بمبلغ قدره 790 دولار أمريكي، يتم تخصيص مبلغ قدره 11 دولاراً فقط لشراء مستلزمات وقاية لكل فرد من أفراد الطواقم الطبية العاملين في المستشفيات الأمريكية، طبقاً لتقرير أصدرته جمعية متخصصة في مراقبة أحوال المستشفيات والعاملين فيها ونشرته مجلة (هاربر الأمريكية) في عددها قبل الأخير.

ـ استخدمت وزارة الأمن الداخلي في أمريكا نظام المراقبة الجوية للتجسس على المظاهرات وتصويرها في 15 مدينة أمريكية هذا العام، ليتم تصوير 270 ساعة على الأقل للمظاهرات والمشاركين فيها، كما تلقت قوات الشرطة معدات عسكرية لتعزيز قدرتها على قمع المتظاهرين قامت بتوزيعها إدارة ترامب تبلغ قيمتها 965 مليون دولار أمريكي تقريباً. في الوقت نفسه قالت دراسة نشرتها كلية القانون في جامعة شيكاجو إن قوات البوليس في 20 مدينة أمريكية كبرى لم تقم تطبيق إجراءات التعامل مع المظاهرات بالشكل الذي يتناسب مع حقوق الإنسان وتقره معايير الأمم المتحدة، أما عدد المدن الأمريكية التي تم فيها تطبيق تلك الإجراءات بشكل سليم فقد كان: صفر.
...
الأرقام السابقة مأخوذة من قراءات في العددين الأخيرين لمجلة Harper's الشهرية، والأعداد الأخيرة من مجلة The WEEK الأسبوعية، والعدد الأخير من مجلة The Economist.

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
أبو زعبوط

في العادة، كان يمكن لتلك المناقشة العبثية أن تطول ويضيع معها المزيد من الوقت والجهد، لكنها والحمد لله استغرقت وقتاً قصيراً جداً بفضل الأستاذ "أبو زعبوط"، الذي جعلتني معرفته التي جاءت بالصدفة، أعيد النظر في جدوى الكثير من المناقشات التي يغريك الأمل بخوضها، خصوصاً حين تتوهم قدرتك على إقناع من أمامك بوجهة نظرك، وتنسى أن الحياة أقصر من أن تنجح معها في شرح وجهة نظرك للجميع، خصوصاً إذا كانوا ليسوا مهتمين أصلاً بطرح وجهات نظرهم الراسخة للنقاش والجدل.

خلال واحدة من زياراتي المنتظمة إلى ذلك الجزء من شارع ستاينوي في حي كوينز النيويوركي الذي يطلقون عليه اسم "ليتل إيجيبت" لامتلائه بالمحلات والمطاعم والمقاهي المصرية، قابلت الرجل الذي أطلقت عليه اسم "أبو زعبوط"، لأنني حين قابلته أول ثلاث مرات خلال أشهر الشتاء القاسية، كان في كل مرة يرتدي زعبوطاً أبيض على بالطو وترينج تغير لونهما في كل مرة بعكس الزعبوط الذي ظل ملتصقاً برأسه، وما فهمته من صاحب المطعم الذي أتردد عليه أن "أبو زعبوط" يسكن بالقرب من المنطقة، ويحب أن يقضي أوقات فراغه الطويلة في التسكع بين المحلات والمقاهي والمطاعم المصرية، وجرّ شَكَل أصحابها وبعض من يعرفهم من الزبائن، أو جر رجلهم إلى الرغي والحواديت، لكي يخفف من شعوره بالغربة، خاصة أنه اختار أن يعيش بمفرده في نيويورك، ولا يصطحب أسرته معه، "خوفاً على أبنائه وبناته من الانحراف والبوظان"، ولذلك فهمت لماذا كان "أبو زعبوط" يبادر في كل مرة ألتقيه فيها إلى سؤالي عن رأيي في قضية أو حدث، ثم يفتح معي مناقشة كانت تطول، برغم كل مجهوداتي لتقصيرها، لكن ذلك لم يكن حاله في آخر مرة، وهو ما استغربته.

في أول مرة كانت المناقشة التي فتحها عن حسني مبارك الذي كان لا زال حياً يُرزق ويُحاكم وتنطلق الشائعات عن وفاته مرة كل أسبوعين، وكان أبو زعبوط يدافع عنه بشراسة كان واضحاً أن هدفها هو الاستفزاز، لكنه حين اكتشف أنني لست معنياً بنقاش جاد لما يقوله، وأنني قلبت الحكاية إلى هزار يتجاهل استفزازه بل ويزايد عليه، ضحك وهو يعترف برغبته في استفزازي، ثم قال لي إنه كان أيام ثورة يناير في أجازته المعتادة في مصر، لكنه لم يكن متابعاً لما يجري في الثورة ولا مشغولاً بها، وينتظر أن تهدأ الأوضاع، ليتمكن من العودة إلى نيويورك دون أن يقلق على أسرته، لكنه نزل مع أخيه الثورجي إلى ميدان التحرير يوم 11 فبراير، وزاط مع الملايين في زيطة التنحي، وقال إنه كان يأمل في أن ينوبه من الأموال المنهوبة أي نايب، لكن أمله خاب واتضح أن مبارك قام بتأمين "نهيبته" كما يليق بفلاح قراري يعرف كيف يتعامل مع تصاريف الزمن، وبعد قليل اعترف صاحبنا أنه كان مؤيداً بشدة لمحمد مرسي وجماعة الإخوان وكان يأمل فيهم الخير لأنهم "في الآخر بتوع ربنا ومش هينهبوا البلد"، لكنه مع ذلك لم يزعل على مرسي عندما تم عزله وسجنه، "لأنه اتضح إنه مش قد الشيلة" وأن البلد تحتاج إلى الخباز الشاطر حتى لو سرق نصف الرغيف، ولذلك أصبح مؤيداً شرساً لعبد الفتاح السيسي، ثم أضاف ملخصاً: "وبعدين ما ملاش عيني بعد سنتين مما مسك، فرجعت أقول على مبارك إنه كان أحسن، على الأقل كان عارف يدوّرها، وبعدين احنا إيش عرفنا إنه كان حرامي أصلاً، أهوه كله كلام".

حين قابلت "أبو زعبوط" في مرة تالية، كان القضاء قد أصدر حكماً بتأييد الحكم على حسني مبارك وأبنائه في قضية سرقة المال العام في القصور الرئاسية، فبادرته مشاكساً: "قولي بقى.. أخبار حبيبك الحرامي إيه.. مش انت بتحترم القضاء الشامخ.. أهوه صاحبك طلع حرامي بحكم محكمة"، ففاجأني أبو زعبوط حين اختص المخلوع بمجموعة منتقاة من الشتائم أضاف بعدها: "أنا عمري ما كنت باحبه والله.. ده نهب البلد وجاب أجلها هو وحبيب العادلي.. بس خلاص بقى عايزين ننساه ونبص لقدام والبلد تهدا.. عشان مش عارفين نعيش كويس في الغربة من كتر القرف والهمّ اللي بتجيبهولنا الأخبار اللي بنسمعها.. والمهم إن قرايبي وصحابي واجعين دماغي عشان عايزين يسافروا أمريكا وكل واحد فيهم شغال نبر ونق ومش عارفين إننا بنتفشخ هنا عشان نعيش ونبعت القرشين للعيال كل شهر".

قلت لـ "أبو زعبوط" إن ما قاله للتو يشكل بالنسبة لي فهماً جديداً ومتطوراً لفكرة الوطنية، حيث يطمح المواطن المغترب لاستقرار بلده، فقط لكي يستطيع الاستمتاع بحياته الجديدة وينسى الحياة القديمة التي ابتعد عن وطنه بسببها، حتى لو اضطر للتوقف عن متابعة أخبار بلاده التي تحرق الدم وتعكر المزاج، فنظر إلي محاولاً تحديد هل أتفق معه في الرأي أم أتريق عليه، ثم قرر تغيير الموضوع، حين أشار إلى كيس بلاستيك غامق وضخم كان يحمله على كتفه كأنه "مِخلاة"، وقال لي بابتسامة خبيثة: "على فكرة أنا الكيس ده لو اتمسكت بيه في مصر أتحاكم محاكمة عسكرية"، وقبل أن أسأله توضيحاً لاعترافه الغامض المفاجئ، فتح الكيس وأخرج منه عبوات واقيات ذكرية كبيرة الحجم، وأمسك بعبوة منها وقال لي بجدية: "أهي العلبة دي لوحدها تكفّي ألف ضابط".

وحين سألته لماذا اختص الضباط في كلامه، ولم يقل "تكفّي ألف راجل"، سكت سكتة طويلة، كأنه يفكر في اتخاذ قرار بالإجابة بدلاً من التطنيش، ثم قال إن أخوه كان صاحب صيدلية كبيرة في مصر، ولذلك كان يساعده خلال فترة تجنيده على تحسين أوضاعه في الجيش، بمنح هدايا للضباط من بينها الواقيات الذكرية التي كانت وقتها من مستحدثات الأمور، وكان وجودها مع "الضابط الدكر" في جيبه أو مكتبه، يوحي أنه "مقطع السمكة وديلها"، حتى لو لم يكن له ثقل على السمك أصلاً، بالإضافة إلى قيامه بإهداء السادة الضباط تشكيلة من المقويات والمنشطات الرائجة في عصر ما قبل الفياجرا، وقبل أن يسترسل في المزيد من التفاصيل، تذكر أبو زعبوط أنه سبق أن أثنى في حديث سابق على الحكم العسكري الذي لا يصلح للشعب الفاسد غيره، لأن الضباط على عكس المدنيين ليس لهم في الحال المايل الذي جاب البلاد ورا، ولذلك سكت أبو زعبوط، وأدرك أن الحكي سيورطه في المزيد من الاعترافات التي سأستغلها ضده في نقاشاتنا القادمة، وحين طلبت منه أن يكمل حكايته التي بدأها، ابتسم ابتسامة شهر زاد حين تسكت عن الكلام المباح، وقال لي "نخليها في وقت تاني".

بعد أن ترك لنا أبو زعبوط المكان، قلت لصديقي إنني أتمنى أن يمنحني هذا الرجل بعض الوقت والكثير من الثقة، لأكتب بالتفصيل سيرة تحولاته الفكرية والسياسية كمواطن، لأنني أزعم أنه لا يمثل شخصه فقط، بل يمثل قطاعات ضخمة من المصريين، الذين يشبهون أشقاءهم من الجماهير الغفيرة في أي مكان في العالم، في أنهم لا يتبنون مواقف سياسية حقيقية وحاسمة، كما يخيل لبعض حسني النية، خصوصاً أولئك الذين تأثروا بنموذج زينهم السماحي الذي صكه أستاذنا أسامة أنور عكاشة، وأصبحون يرون فيه معادلاً بصرياً ودرامياً للشعب. مع أن الغالب الأعم من خلق الله في كل بلاد الله، أبعد ما يكونون عن تبني المواقف السياسية الحاسمة والقاطعة، بل يميلون لمن يمتلك القوة، ويدورون معها حيث دارت، ويؤمنون بأن "الدنيا لمن غلبا" على حد تعبير أمير الشعراء أحمد شوقي، ويستمتعون بفكرة التشجيع التي ذاقوا طعمها الساحر في الكرة، ونقلوها إلى السياسة بكل ما يصحبها من رزالات ووساخات، لكنهم في الوقت نفسه يعرفون بالغريزة أن التشجيع في السياسة ليس فيه ولاءات طويلة المدى مثل الكرة، ولذلك يكتفون من تشجيعهم السياسي بمتعة أن تكون مع المنتصر فتشجع تطليعه لأيمان أم معارضيه، وتظل معه حتى ينهزم، فعندها تشجع طلوع أيمان أمه هو والذين انهزموا معه، وهكذا حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

للأسف، تسرع صديقي ونقل لـ "أبو زعبوط" أمنيتي فأصابه ذلك بتوتر شديد، جعله يبتعد مسرعاً عني حين رآني آخر مرة، لينتهي مع ابتعاده مشروع كتاب واعد كنت أنوي أن أسميه (أبو زعبوط)، لكنني لا زلت حتى الآن أتذكره كلما أوشكت على خوض مناقشة عبثية مع واحد من آباء الزعابيط الراغبين في تزجية وقت فراغهم على قفا وقتي، فأستعيد ابتسامة "أبو زعبوط" العريضة، وأقول لهم بهدوء شديد: "نخليها في وقت تاني".

ثمن البطولة الفادح!


ما الذي يدفع نظام السيسي الذي يحكم سيطرته على مقاليد البلاد ورقاب العباد، لأن يفتعل أزمة سياسية لم يكن في حاجة إليها، حين قرر القبض على كل من جاسر عبد الرازق وكريم مدحت عنارة ومحمد بشير العاملين بمنظمة المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ليجلب لنفسه الكثير من الاحتجاجات الدولية رفيعة المستوى التي اضطرته إلى الإفراج عنهم قبل أيام من زيارة السيسي المهمة إلى فرنسا، والتي يعتمد عليها النظام كثيراً في رسم خريطة تحالفاته الدولية القادمة في عالم ما بعد ترامب؟

ما الذي يدعو ضابطاً عكر المزاج منحط الطباع لأن يُصرّ على حلق شعر جاسر عبد الرازق فور القبض عليه، ويقوم بإبقائه في الحبس الانفرادي دون منحه بطانية تدفئه من برد الشتاء في انتهاك واضح لأبسط قواعد الحبس الاحتياطي، وما الذي يدفع زملاءه القائمين على تشغيل الأذرع الإعلامية لاتهام جاسر ورفاقه بالإرهاب وإحالتهم إلى قضية تتهمهم بالعمل على مساندة جماعة إرهابية، مع أن أي تفكير شبه عاقل كان يجب أن يدرك أن هذا التصرفات الرعناء لن تمر بهدوء وستثير الكثير من ردود الأفعال الغاضبة من شخصيات دولية تعرف قدر جاسر عبد الرازق، وتدرك أهمية المبادرة المصرية للحقوق الشخصية التي تعمل منذ 18 عاماً في مصر ويمتلك العاملون فيها سمعة حسنة وعلاقات دولية جيدة؟

ما الذي يدعو قبل ذلك وبعد ذلك قوات الأمن لإلقاء القبض بشكل غير قانوني على الناشط السياسي تلو الآخر، وإخفائهم لأيام أو لأسابيع دون العرض على النيابة ليعيش أهلهم وأحبابهم ليالٍ سوداء من القلق عليهم والخوف من أن يلقوا مصير آخرين اختفوا ولم يظهر لهم أثر، مع أنه يمكن أن يقوم بالقبض عليهم وتحويلهم إلى القضاء دون حاجة إلى كل تلك الممارسات المفزعة والمنحطة؟

بالتأكيد صادفتك مثل هذه الأسئلة الحائرة كثيراً في الفترة الماضية خلال تصفحك لما يكتبه على مواقع التواصل الاجتماعي بعض أصدقائك المهتمين بالشأن الداخلي والمكتوين بناره، وربما دفعك الضيق والأسى إلى اعتبارها أسئلة بريئة إلى حد السذاجة، لأنها تنسى أن كل هذه التصرفات الأمنية لم تحدث بشكل عشوائي أو اعتباطي، بل كانت تهدف طبقاً لتصور القائمين على الملف الأمني إلى تأكيد مشاعر الردع والترويع التي يعلم ضباط الأجهزة الأمنية الدارسون في "بلاد برّه" أهميتها لاستمرار السيطرة والشكم، ولدفع كل من يفكر في التحرك لعمل شيء ما أياً كانت محدوديته إلى أن يفكر ألف مرة قبل أن يتحرك، وهو ما لن يتحقق إلا بتوسيع دائرة الخوف لتشمل الذين يفكرون في الاعتراض أو التظلم أو حتى البرطمة.

أنت تعلم كل ذلك، وربما كان كثير من الذين يسألون تلك الأسئلة يعلمونه أيضاً، لكنهم يستخدمون الأسئلة كوسيلة للاستنكار لا الاستفهام، لكن المؤكد أن هناك من لا يزال يسأل مثل تلك الأسئلة بجد، لأنه لا زال محكوماً بالخيال السياسي للفترة المباركية التي سادت قواعدها ثلاثة عقود من الزمان، فأصبح الكثيرون لا يستطيعون قراءة ما يحدث الآن خارجها، خاصة وقد شاع بين الناس خطئاً أن نظام السيسي يمثل عودة بالزمان إلى الوراء، مع أن كل الشواهد تؤكد أن نظام السيسي قفز إلى الأمام قفزات غير مسبوقة في مجال القمع، ستذهل عبد الناصر والسادات ورجالهما لو عرفوا بها، وسيتحسرون على الفرص التي أضاعوها لحسم سيطرتهم على السلطة، حيث لم يقم أحد قبل السيسي ورجاله بارتكاب مذبحة جماعية يسقط فيها المئات من المواطنين، ثم يتم الاحتفال شعبياً وإعلامياً بوقوع تلك المذبحة، ولا يتم عقاب أحد من الذين تورطوا فيها، بل وتتم محاكمة الذين نجوا من القتل في ذلك اليوم، وتصدر عليهم أحكام مشددة، وحين يرد اسم (ميدان رابعة العدوية) الذي وقعت فيه المذبحة، ينفعل رئيس الدولة ويطلب من الضابط الذي قام بذكر اسم الميدان أمامه أن ينطق الاسم الجديد المعتمد رسمياً للميدان (ميدان الشهيد هشام بركات)، وحين يقوم أحد بالتنبيه إلى فداحة ما جرى في تلك المذبحة المؤسسة لكل ما جرى بعدها من قمع في مصر، يتم اتهامه من قطاعات كبيرة شعبياً بعضها من المعارضين لسياسات السيسي بأنه من أعضاء جماعة الإخوان أو من المتعاطفين مع الإخوان.
وهو ما يوصلنا إلى سؤال أكثر أهمية وأكثر جلباً للضيق والأسى من كل الأسئلة السابقة:
هل يمكن فصل كل ما جرى ويجري في مصر عن لحظة المذبحة التي جرت في ميدان رابعة العدوية في 2013؟

يعتقد الكثيرون أن ذلك ممكن وضروري ومهم، وبعضهم لا يفعل ذلك رغبة في التواطؤ مع نظام السيسي، بل لأنهم يدركون أن فتح ملف المذبحة أمر لا يحتمله الواقع الأليم في مصر، والذي صار الكثيرون فيه يبحثون عن ملاذ آمن لالتقاط الأنفاس ومداواة الجراح، لكنهم ينسون أن من ارتكب المذبحة لا يمكن أن ينساها، حتى وإن نسيها بعض الذين اكتووا بنارها، ولذلك لا يمكن أن يسمح لمعارضيه بلحظة هدنة واسعة، ربما استغلوها لتنظيم صفوفهم والتفكير في وسائل بديلة لمهاجمته، ومهما حلفت له أن أغلب ضحاياه ليسوا مشغولين بما هو أكثر من البقاء على قيد الحياة وبأقل خسائر ممكنة، لن يصدقك، لأنه رأى بأم عينيه خطورة فتح منافذ التنفس والتنفيس، التي ظنها النظام السابق له وسيلة للتسلية، وحين أدرك خطورتها، كان الوقت قد فات.

سيتأكد لك كلامي، لو كنت قد تابعت ردود أفعال بعض عتاة السيساوية الذين لا يفارقون مواقع التواصل الاجتماعي ويعتبرهم نظام السيسي جزءاً من أذرعه الإعلامية الممولة والموجّهة من ضباط أجهزته، وسيلفت انتباهك أنهم حرصوا خلال الفترة التي أعقبت حبس قيادات المبادرة على الإشارة إلى التقرير الموثق والمفصل الذي أصدرته المبادرة عن مذبحة رابعة، واعتبروه تأكيداً على كون المبادرة ذراعاً إخوانياً وجزءاً من الخلايا الإخوانية النائمة والطابور الخامس المتواطئ مع المؤامرة الدولية على مصر، مع أن ذلك التقرير لم يعجب الكثير من قيادات وقواعد الإخوان لأنه أشار بوضوح إلى وقائع التحريض والعنف الطائفي التي ارتكبها أنصار الإخوان في تلك الفترة المؤلمة.

لكن ذلك لم يشفع لمسئولي المبادرة ولم يعفهم من اتهامات السيساوية التي ينسقها ويشرف عليها ضباطه الأشاوس، لأن مجرد التفكير في ترديد رواية تختلف عن الرواية الرسمية لنظام السيسي يعتبر جريمة لا يمكن غفرانها، ولا يعني التأخر في معاقبة مرتكبي هذه الجريمة الشنعاء أن نظام السيسي تسامح معهم، ربما لم يكن الوقت ملائماً من قبل، لكنه بدا مناسباً حين احتاج النظام إلى إظهار تماسكه ـ أو إخفاء تخبيط رُكَبه ـ بعد فوز جو بايدن برئاسة الولايات المتحدة، أو ربما لأنه تصور أنه بحاجة إلى صيد ثمين يمكنه من التفاوض مع سيد البيت الأبيض الجديد، فلم يجد من هو أثمن ولا أفضل من بعض قيادات المبادرة التي تحظى بتقدير دولي لعملها الحقوقي المستمر والدؤوب، وربما لذلك لم تكن صدفة أن يتم إلقاء القبض على الباحث كريم مدحت عنارة أبرز المتخصصين في ملف العدالة الجنائية والمهتم بقضايا (العدالة الانتقالية)، تلك العبارة التي يثير ذكرها الرعب والتقزز لدى ضباط النظام الذين لا يفضلون سوى شكل وحيد للعدالة، هو العدالة التي يتم إنفاذها بقوة السلاح وعبر المكالمات الهاتفية مع القضاة ورؤساء النيابة.

بالطبع لم يكن النظام يتصور أن حملة التضامن مع المعتقلين الثلاثة ستصل إلى المدى البعيد الذي وصلت إليه، مع أنه كان قد وجد تضامناً شبيهاً حين قام من قبل باعتقال مؤسس المبادرة الصحفي المتميز حسام بهجت بسبب بعض ما كتبه في موقع (مدى مصر)، فلماذا إذن قام باتخاذ إجراءات غشيمة كهذه تدل على غياب كامل للقدرة على المناورة السياسية التي يحتاجها النظام في فترة عصيبة كهذه، بدلاً من أن يتوسع في الإفراج عن المعتقلين السياسيين ليثبت حسن نيته ورغبته في فتح صفحة جديدة؟

يسأل البعض هذا ببراءة أو برغبة في إنكار الواقع، وينسون أن رأس النظام اكتسب شرعيته الشعبية لدى قطاعات واسعة من مؤيديه، بوصفه بطلاً عسكرياً "مالوش في السياسة ولا دراسات الجدوى"، وهو ما تفاخر به السيسي في أكثر من مناسبة، ولم يكن يمكن لمذبحة رابعة ولا لكل ما سبقها أو تلاها من إجراءات قمعية غير مسبوقة في تاريخ مصر أن تمر لو لم يكن السيسي يتعامل مع نفسه ويتعامل معه أنصاره بوصفه بطلاً أنقذ مصر وفوضه شعبها لكي يقضي على أعدائها الفعليين والمحتملين، وربما كانت هذه المرة الأولى في تاريخ مصر الحديث الذي يطلب فيه زعيم أو رئيس من الشعب أن يفوضه للقضاء على "إرهاب محتمل" فضلاً عن الإرهاب القائم بالفعل، ولم يجد ملايين المفوضين والمؤيدين وبينهم كثيرون ممن شاركوا في ثورة يناير وآمنوا بها مشكلة في ذلك، وإذا كان البعض يميل الآن إلى القفز فوق هذه المرحلة وتناسيها، إدراكاً منهم لخطورة فتح ملفها، فالسيسي نفسه لا يكف عن تذكير الجميع بها في خطاباته وتصريحاته، وحين تتضاعف مآزقه وأزماته سيتضاعف لجوؤه للتذكير بهذه الحقيقة المرة والمؤلمة.

بالطبع، تحتاج فكرة البطولة وارتباطها بموقع الرئيس إلى تأمل سريع لفهم موقعها المهم لدى المصريين وتفكيرهم السياسي.
بعد أن نجحت مصر في صد العدوان الثلاثي عام 1956 بفضل بطولات شعبية ومهارة سياسية ودعم دولي، استحق جمال عبد الناصر لقب (البطل)، لكنه وبرغم أن شهادات موثوقة تشير إلى تغير كبير في طريقة إدارته لعلاقته مع زملائه في مجلس قيادة الثورة بعد أن بدأ يتعامل مع نفسه كبطل شعبي، إلا أنه في الوقت نفسه لم يفقد قدرته على المناورة السياسية، خصوصاً بعد أن تعرض لأزمة الانفصال بين مصر وسوريا التي هزته بقوة، ومع أنه كان يجيد توظيف صورة البطولة على المستوى الإعلامي للمزيد من التعبئة والتجييش وتمتين الجبهة الداخلية، إلا أنه احتفظ بمرونة سياسية عالية واتخذ إجراءات عديدة في قراراته الخارجية تتناقض مع صورة البطل، وتضاعفت تلك المرونة السياسية عقب هزيمة يونيو 1967 التي سمح بعدها بدرجة محدودة من الانفتاح كانت تعتبر هائلة بمعايير ذلك الزمان.

أنور السادات الذي استحق لقب (البطل) بجدارة بعد حرب أكتوبر، تقول الشهادات الموثوقة من محبيه قبل المختلفين معه إن فكرة البطولة أثرت كثيراً على توازنه السياسي بعد النصر، وحرمته من كثير من مهارات المناورة السياسية التي تمكن بفضلها من التغلب على خصوم شرسين وأقوياء توقع الكل أن يفتكوا به، وحين نزلت عليه لطمة انتفاضة 18 و19 يناير 1977، لم يقرر السادات استعادة مهاراته السياسية بل تصرف كبطل جريح آلمه الخذلان ونكران الجميل، وقرر المضي إلى أبعد مدى في كل الملفات، ودفع ثمن ذلك غالياً.

تعلم حسني مبارك الكثير من دروس السادات وعبد الناصر، وقرر أن تكون بطولته في الاستمرار، ولذلك وجد ضالته في شعار (الاستقرار)، مقرراً استخدام القمع دون هوادة فقط حين يتعلق الأمر بتحركات شعبية واسعة، وتخفيفه إلى أبعد مدى حين يكون مرتبطاً بتحركات نخبوية أو محدودة يمكن أن تكون مفيدة له لدى الجهات الدولية المانحة التي أدرك أن السادات كان محقاً في امتلاكها للغالبية العظمى من أوراق اللعبة، لكنه أدرك أيضاً أن السادات كان مخطئاً في الإعلان عن ذلك، ولذلك قرر أن يفعل كل ما تطلبه منه أمريكا وإسرائيل التي أصبح كنزها الاستراتيجي، في نفس الوقت الذي تقوم فيه أجهزة إعلامه بالحديث عن الإرادة الوطنية والشموخ السياسي، وتذكر بأمجاد العبور والضربة الجوية وأذكى جهاز مخابرات في العالم، ولذلك سرى العفن واستشرى في جسد الدولة والمجتمع دون أن يجد الكثيرون مشكلة في ذلك، بعد أن تحول الاستقرار من وسيلة إلى غاية وهدف وحيد.

لذلك لم يكن غريباً أن يبدي عبد الفتاح السيسي احتقاراً واضحاً لطريقة مبارك في إدارة الدولة التي تؤجل مواجهة الأزمات، وهو ما ظل يشير إليه في مواضع متفرقة في السنوات الأولى من حكمه قبل أن تتغير استراتيجيته ويجد أن الأفضل له هو إلقاء اللوم على "يناير" دون استدعاء ما قبل يناير، وهي استراتيجية تأكدت بعد لحظة الخضّة التي رافقت مظاهرات سبتمبر 2019 وتسريبات المقاول والممثل محمد علي وحديثه عن القصور الرئاسية وما رافق بناءها من فساد، ليقول السيسي صراحة إن كل الأجهزة نصحته بتجاهل ما جرى، لكنه قرر أن يتصرف كبطل وضع رأسه على كفه من أجل إنقاذ مصر، ويقول للشعب إنه ليس مهتماً بكل ما يقال عنه، وأنه بنى وسيبني ولن يتوقف عن فعل ما يريده لأنه لا زال يمتلك التفويض الذي منحه له المصريون على بياض، وإذا كانوا قد منحوه له على بياض فهذه مشكلتهم وليست مشكلته، ولذلك قرر إطلاق أيدي الأجهزة الأمنية إلى أبعد مدى، ونجح في امتصاص تلك الصدمة، وقرر معاودة الحفر على الناشف، هوايته المفضلة، واستبعد من أجهزته كل من ارتخت قبضتهم الأمنية وتصوروا أن الدولة قد نجحت في فرض الأمر الواقع إلى الأبد، ليستبدلهم بمن لا يكلون ولا يملون عن القمع، ومن يدركون أن الأمر الواقع ليس أبدياً بل هو حالة مستمرة يجب التذكير الأبدي بسطوتها وفداحة معارضتها.

من هنا يمكن أن تفهم الإلحاح المستمر لجميع الأذرع الإعلامية على فكرة الحرب المستمرة التي يتم شنها على مصر وكونها تعيش في معركة أبدية، وهو ما كان يقال في ظل رئاسة ترامب الذي كان يعتبر السيسي "ديكتاتوره المفضل"، فكيف سيكون الحال حين يصل إلى البيت الأبيض رئيس سبق له التنديد بالسيسي وبعلاقته بترامب، ولذلك لن يتوقف التذكير بتلك الحرب الأبدية، حتى حين يتمكن النظام من الوصول إلى تفاهمات ما مع سياسي براجماتي مثل بايدن، لن يجد مشكلة في لحس كلامه السابق المندد بالسيسي، واستبداله بكلام جديد قديم عن الضرورات الأمنية والمصالح الاستراتيجية.

مع الأسف، مهما تغيرت التفاصيل، لن تختفي فكرة الحرب الضروس التي تواجهها مصر، لأنه لا يمكن تصور وجود الحاجة إلى بطل دون حرب، ولأن الحرب أصبحت أبدية ولها أجيال تتضاعف أرقامها كل لحظة، فلا بد أن يكون وجود البطل أبدياً، ولا بد أن يعمل على أن يرثه أبناؤه من بعده، ليضمنوا استحالة فتح ملف المذبحة، الذي سيكشف لكثير من زبائن الوهم أنه لم يكن هناك حرب حقيقية على مصر، ولم تكن هناك بطولة من أي نوع في قتل المدنيين، وأنهم شربوا أغلى المقالب وأكثرها فداحة ودموية، حين صدقوا أنهم بحاجة إلى بطل لحسم مشاكلهم وأزماتهم إلى الأبد.

يبدو التذكير بكل هذا الآن عبثاً وسط كل الأصوات العالية التي تتحدث عن الإنجازات ومعدلات النمو وشهادات المنظمات الدولية المانحة للقروض وصور المباني والمنشآت، والتي يرى الكثيرون أنها تستحق أن نضحي من أجلها ببعض الضحايا، خصوصاً إذا كان عددهم لا يتجاوز الآلاف في شعب يضيف إلى تعداده الملايين كل عام، لكن النظام نفسه الذي يطنطن بالإنجازات ويتباهى بها، هو الذي يقوم بزيادة عدد أعدائه وخصومه ويستمر في فرض مناخ الخوف والقهر، ليس لأنه غبي سياسياً أو قاصر عن إدراك الواقع، بل لأنه لا يستطيع أن يكون سوى نفسه، مهما ظن بعض مؤيديه أنه يستحق أن يكون أفضل وأشيك، لكنه في الوقت نفسه لا يتوانى عن فعل كل ما يمكن أن يؤدي إلى تمتين جبهته الداخلية المكونة من تحالف الجيش والشرطة والقضاء، وهو ما يمكن أن تقرأه في إدارته لملف الانتخابات الهزلية لمجلسي الشعب والشورى، والتي تم التضحية فيها بكل من يشوش على الصفاء الداخلي الذي يحتاج إليه النظام بشدة في المرحلة القادمة، لأن الأبطال قد لا يحتاجون إلى السياسة، ولكنهم يحتاجون إلى أصوات عالية جعجاعة تشد من أزرهم وتدق طبول الحرب إلى جوارهم وتغلوش على أخطائهم وكوارثهم.

لكن، هل يعتقد السيسي فعلاً أنه بطل، أم أنه يضحك على نفسه مثل كثير من مؤيديه؟
لعلك الآن بحاجة إلى أن تعيد تشغيل ذلك الفيديو الذي تحدث فيه السيسي بمنتهى الجدية عن كونه طبيب الفلاسفة الذي يسأله الناس من شتى أنحاء العالم عما يجب عليهم فعله للتصرف في مشاكلهم وأزماتهم، وتذكر نفسك بعمق المأساة التي تعيشها مصر، والتي لن تجد لها حلاً طالما بقي السيسي على رأس النظام، وهو ما يجعل السيسي برغم سيطرته الكاملة على مقاليد الأوضاع، يتصرف كأنه رئيس على كف عفريت، يحتاج إلى إخماد أي تحرك معارض أو صوت مزعج، وهو ما سيستمر حتى اللحظة التي يدرك فيها ملايين المصريين أن استمرار السيسي في الحكم أصبح أمراً يستحيل التسامح معه، وأن حكاية أخذه على قد عقله والتعامل معه كبطل صار ثمنها مكلفاً بشكل لن يتمكنوا من الاستمرار في دفعه، وعندها سيخرجون للإطاحة به كما فعلوا مع مبارك في يوم الثامن والعشرين من يناير 2011، والذي ربما ينساه الذين شاركوا فيه، لكن الضباط الذين شهدوه لا يمكن أن ينسوه ولا يمكن أن يتصرفوا بمعزل عن روحه وذكرياته، وربما يرى بعضهم ـ بالتنسيق مع جهات خارجية أو داخلية ـ في وقت ما فرصة ما لاستباق تلك اللحظة والإطاحة بالسيسي قبل أن يتكرر ذلك الغضب الذي ربما جاء هذه المرة أعمق وأوسع، وربما وجد هؤلاء ضالتهم في بطل جديد تجدد فيه البلاد علاقتها مع فكرة البطولة بآثارها المدمرة.

إذا بدا لك هذا التصور مضحكاً أو غير واقعي، فلعلك تحتاج إلى أن تراقب طريقة تعامل النظام مع الكثير من الأسماء البارزة في المؤسسة العسكرية خلال السنوات الماضية، وحرصه على أن تتم إدارة جميع الملفات الحساسة من خلال دائرة ضيقة يمكن إحكام الرقابة اللصيقة عليها من قبل السيسي نفسه الذي سيظل حتى لحظة النهاية يصدق أنه بطل، والأنكى والأمر أنه لن يعدم من يشاركونه ذلك التصور، حتى وإن كانوا من ضحايا سياساته التي لن يدرك الكثيرون فداحتها وخطورتها إلا حين يأتي الوقت الذي يُفتح فيه ملف اللحظة التي أسست لكل ما جرى ويجري، لحظة المذبحة.
والله أعلم.

hassanbalam يعجبه هذا الموضوع

في صحبة حرامي الأنبوبة (1)

كانت قد انقضت أيام قليلة على خلع حسني مبارك، وكانت قد مضت أسابيع دون أن أمر بجوار مبنى محاكم الجلاء المحترق، والملاصق لمبنى مؤسسة الأهرام في وسط القاهرة. يومها كان كوبري أكتوبر مزدحماً كعادته، وهو ما ساعدني على تأمل تفاصيل المبنى المحترق ذي الشكل العِفِش، ليندهش من معي في السيارة، وهم يرونني أتنهد وأحوقل وأضرب كفاً بكف، وأنا أتذكر بمزيج من الشجن والأسى، وقائع ذلك اليوم العصيب من أيام مارس 1998، الذي قضيت بعض ساعاته بداخل هذا المبنى، كتفاً إلى كتف، أو فلنقل كفاً إلى كف في صحبة حرامي الأنبوبة.
كنا يومها في أواخر شهر فبراير 1998، حين وقّعت بالاستلام وبعلم الوصول على استدعاء نيابة السيدة زينب لي للتحقيق العاجل، بتهمة إفشاء أسرار عسكرية ومخالفة قانون تنظيم الصحافة، مع أنني لم أعد رسمياً على قوة العمل في أي صحيفة يمكن أن أخالف فيها قانون تنظيم الصحافة، فصحيفة (الدستور) التي كنت أعمل سكرتيراً لتحرير إصدارها الأول، كانت قد أغلقت قبل أيام من توقيعي على الاستدعاء، بفعل قرار رئاسي غاشم قطم رقبة صحيفتنا بعد حوالي عامين وثلاثة أشهر من مناورات مريرة ومبهجة على طريقة (علي الزيبق)، كنا نخوضها كل أسبوع مع أجهزة الأمن والرقابة والإعلام، لكي تصل الصحيفة إلى الآلاف من قرائها بانتظام، حتى وإن تعرضت لرقابة غشيمة، كانت تشوه بعض صفحاتها كل أسبوع، لأن (الدستور) كانت وقتها حاصلة على ترخيص إصدار قبرصي، كانت الصحف تلجأ إليه للتحايل على قيود إصدار الصحف داخل مصر، فقد كان القانون القبرصي يتعامل بمرونة بالغة مع الراغبين في الحصول على رخص لإصدار الصحف، ليس فقط إيماناً بالمعايير الأوروبية لحرية الصحافة، بل كجزء من "بيزنس النشر" الذي راج في قبرص منذ مطلع الثمانينات، وفتح الباب لإصدار صحف ومجلات قبرصية الهوية عربية اللسان، لم تجد فرصة للصدور القانوني في بلادها التي تم تأميم الصحافة والإعلام فيها.
لم يكن القانون القبرصي يشترط طباعة الصحيفة الحاصلة على الترخيص وتوزيعها في قبرص، بل كان يسمح للصحيفة الحاصلة على الترخيص بالطباعة والتوزيع في مصر، طالما قامت بدفع المعلوم، لكن السلطات المصرية كانت تشترط إطلاع الرقابة على محتويات أي صحيفة حاصلة على ترخيص أجنبي، ولكن بعد الطبع وليس قبله، لتبقى الصحيفة مهددة بعد طباعتها، بعدم توزيعها لدى باعة الصحف المصريين، وهو ما كان يعني مخاطرة مالية كبيرة ودائمة لأي ناشر صحفي، مهما كانت علاقاته بمسئولي الرقابة حسنة، ومهما قرر أن يبتعد عن الخطوط الحمراء، لأن الخطوط الرقابية الحمراء في مصر كانت ولا زالت متغيرة بشكل غير مفهوم، مهما ظن البعض أنه قد أحاط بها فِهماً.
في ظل هذا الوضع الزئبقي، تعرضت صحف ومجلات كثيرة للمصادرة بسبب موضوعات فنية واجتماعية كانت تبدو عادية، أو حتى بسبب أخبار في صفحات الحوادث والمجتمع، مع العلم أن كثيراً من المواد الصحفية التي جلبت لأصحابها المصادرة ووجع القلب، كانت تُنشر بشكل عادي ودون أي مشاكل في الصحف المصرية، وخصوصاً في الصحف الحزبية التي كانت تحظى بهامش واسع في الحركة، في تلك السنين المباركية التي لم تكن قد شهدت صدور الكثير من الصحف السياسية المستقلة. حين صدرت صحيفة (الدستور) في نهاية عام 1995، لم يكن هناك صحف سياسية مستقلة تصدر في الأسواق، باستثناء صحيفة (الأسبوع) التي نجح صاحبها مصطفى بكري بحكم علاقاته القوية في إصدار ترخيص مصري لها، وحتى صحيفة (النبأ) الأسبوعية التي كان يملكها ممدوح مهران وكانت تمتلك رخصة مصرية، لم تكن مهتمة بالسياسة في ذلك الوقت بقدر اهتمامها بالحوادث والفضائح لتكون أبرز وأنجح ممثل للصحافة "الصفراء" في مصر، وهو ما تغير بعد وفاة ناشرها ممدوح مهران وتولي أبنائه مسئولية إدارة الصحيفة.
في الوقت نفسه، كانت (الدستور) قد نجحت في التحايل على كثير من القيود الرقابية بفضل شطارة وفهلوة ناشر الصحيفة المرحوم عصام إسماعيل فهمي، وخبرته العريضة في التعامل مع الأجهزة الرقابية، فقد كان قبل إصداره للصحيفة يمتلك مع شقيقه سمير شركة (ساوند أوف أمريكا) للكاسيت التي اشتهرت في البدء بتوزيع الألبومات الغنائية الغربية لجمهورها المتعطش للحصول على الجديد باستمرار، ثم بإنتاج بعض ألبومات محمد منير الناجحة، ثم أنشأ بعدها دار نشر (سفنكس) التي نشرت عدداً من الكتب الرائجة للكاتب اللامع عادل حمودة وتلميذه وأبرز مساعديه في مجلة (روز اليوسف) الأستاذ إبراهيم عيسى. (كان الصديق هشام يحيى قد كتب شهادته على الفترة التي سبقت صدور الترخيص القبرصي لصحيفة الدستور، وقد كان هشام أول من عمل في الصحيفة التي كان يفترض في الأصل أن يرأس تحريرها عادل حمودة لكنه اعتذر لرغبته في الاستمرار في مجلة (روز اليوسف) التي وعدته الدولة برئاسة تحريرها فقام عصام فهمي بالاتفاق مع إبراهيم عيسى ليتولى رئاسة تحرير الدستور بعد أن قدم استقالته من روز اليوسف).
تمكن عصام فهمي بفضل علاقاته الواسعة والمنتظمة بموظفي الرقابة، من "تجنيد" مسئول من الدرجة المتوسطة داخل مكتب الرقابة، ليقوم مقابل مبلغ مالي شهري، بالمجيء إلى مقر توضيب وتجهيز الصحيفة ليلة الطبع، ليقوم بالاطلاع على كامل موادها، ويوصي بشطب ما لا يمكن السماح بنشره، طبقاً للتعليمات الأمنية الثابتة لدى الرقابة، ليصبح علينا أن نبتكر له بدائل، فإن كان موضوعاً كاملاً يرى الرقيب أنه يستحيل السماح به حين عرضه على الرقابة رسمياً، قمنا بإيجاد بديل له، أو قمنا بالتفاوض معه على تغيير عنوانه أو حذف بعض فقراته بشكل يضمن تمريره في الغد، ليتم طبع الصحيفة فجر كل ثلاثاء، بعد أن يوافق الرقيب "ودياً" على أن ما بداخل العدد، لا يهين رئيس الجمهورية وكبار مسئولي الدولة، ولن يقوم بزعزعة استقرار الدولة، ولن يهدم ثوابت المجتمع، ولن يخالف الدستور والقانون، وهي موافقة كانت في الغالب الأعم تصدر بشكل رسمي ظهر الثلاثاء، حين يقرأ بقية الرقباء العدد مطبوعاً، فيجيزون توزيعه لدى باعة الصحف عبر شركة (الأهرام) للتوزيع.
برغم ذلك الاختراق الودي لجهاز الرقابة، الذي أًصبح مع الوقت عُرفاً مارسته صحف كثيرة حاصلة على تراخيص أجنبية، كانت صحيفة (الدستور) عرضة كل أسبوعين أو ثلاثة، لمن يتهمها في بلاغات رسمية وعرفية بزعزعة استقرار الدولة وهدم ثوابت المجتمع ومخالفة الدستور والقانون، ويتهم الرقابة على المطبوعات بالتقصير في دورها في حماية المجتمع مما يرد بالصحيفة من أفكار هدامة، ولأن "الإفراج" عن الصحيفة ـ طبقا للمصطلح المستخدم رقابياً ـ لم يكن من دور رقيبنا "الودي" وحده، فقد كان يحدث أحياناً أن يكون هناك رأي آخر لرئيسه لطفي عبد القادر، الذي ارتبط به منصب مدير جهاز الرقابة على المطبوعات، بعد أن لبث فيه سنين عدداً، وكان بحكم خبرته الطويلة كرقيب، يدرك أن بعض الموضوعات ستثير زوابع بعد نشرها، فيبلغ عصام إسماعيل فهمي، بأنه لا بد من أن يستأذن رؤساءه في وزارة الإعلام قبل الإفراج عن الصحيفة، وكان رئيسه المباشر هو وزير الإعلام المزمن صفوت الشريف، الذي لم يكن يكتفي بسلطاته المباشرة على الصحف الحكومية، بل كان يمارس سلطة غير مباشرة على الصحف الحزبية والمستقلة، سواء كانت حاصلة على ترخيص من داخل مصر أو خارجها.
ولأن أحداً لم يكن يدرك طبيعة الحسابات التي تدور في عقل صفوت الشريف، فتجعله يقرر الإفراج عن عدد بالكامل، أو مصادرته بالكامل، أو طلب تغيير بعض مواده، كان عصام إسماعيل فهمي يقوم صباح كل ثلاثاء بطبع كمية صغيرة من كل عدد، خصوصا حين يدرك أن هناك موضوعاً أخطر من أن يعبر رقابياً، ليتفاوض فيما بعد على تغيير بعض عناوينه بدلا من حذفه، وليتم إلصاق قطعة تحتوي العنوان البديل على اللوح الزنكي المستخدم في الطباعة، وكانت تلك التجربة المريرة هي التي تدفع الأستاذ إبراهيم عيسى رئيس تحرير (الدستور)، إلى بذل مجهود في اختيار موضوعات مثيرة لاهتمام القارئ، ويمكن أن تمر بسلام من تحت مقص الرقيب في نفس الوقت، وربما لذلك اشتهرت (الدستور) في ذلك الوقت بموضوعاتها المثيرة للجدل عن التاريخ المصري القديم والحديث والمعاصر والدين والثقافة والفن والقضايا الاجتماعية، والتي لم تكن تجد الرقابة مشكلة فيها، طالما لم تكن تهاجم مباشرة رئيس الجمهورية أو وزارة الإعلام أو الأجهزة الأمنية.
وحين تمكنت (الدستور) من فرض نفسها على الساحة الصحفية في مصر، وأصبح تعرضها للمصادرة يمكن أن يسبب مشكلة سياسية للحكومة، أصبح موقفها السياسي والصحفي أقوى، وأصبح بمقدورها أن تنشر موضوعات أكثر جرأة تخص الشأن الداخلي، وتهاجم سياسات الأجهزة الأمنية، وكان ذلك يؤدي لاعتراض عصام فهمي نفسه على بعض ما تزمع الصحيفة نشره، لكيلا يتسبب له في خسائر مادية، لو تعرض العدد للمصادرة، أو لكيلا يؤثر على علاقاته السياسية التي بدأت تقوى وتترسخ، وأيقظت بداخله أحلامه السياسية القديمة كعضو قيادي في حزب الوفد.
لكن الحسابات السياسية المحيطة بالصحيفة تغيرت بعد ذلك بشكل مفاجئ، بعد أن أصبح هناك صراع مباشر بين وزارة الإعلام ووزارة الداخلية، وذلك بعد أن نشأت بوزارة الداخلية في عهد الوزير حسن الألفي، وحدة أطلق عليها اسم (إدارة الإعلام الأمني) رأسها اللواء رؤوف المناوي، والذي كان زوجاً لسناء قابيل الصحفية بمجلة روز اليوسف، وابن عم الصحفي عبد اللطيف المناوي الذي كان يعمل في مجلة (المجلة) اللندنية وقتها، ثم رأس قبل فترة من ثورة يناير قطاع الأخبار أو "انقطاع الأخبار" كما كنت أفضل أن أسميه، وبفضل معرفة رؤوف المناوي الوثيقة بالوسط الصحفي وزخانيقه، قامت وزارة الداخلية من خلال تلك الوحدة بتوثيق علاقاتها برؤساء تحرير كافة الصحف والمجلات، بدعوى التكاتف بين الصحافة والداخلية في محاربة الإرهاب.
اعتبر صفوت الشريف عمل تلك الوحدة، تدخلاً مباشراً في مهامه وتهديداً لنفوذه على الصحافة، الذي كان بسببه يتمتع بنفوذ لدى حسني مبارك، تماما كما كان فاروق حسني يتمتع بنفوذ لدى مبارك، بفضل سيطرته على كبار المثقفين وعلاقاته المباشرة معهم، وفي هذه الظروف، وبفضل غضب صفوت الشريف على وزارة الداخلية، اتسع صدر الرقابة فجأة، واستطاعت (الدستور) أن تنشر طيلة عام 1997 عدداً من الموضوعات الصحفية الجريئة التي تهاجم سياسات وزارة الداخلية، بدءاً من اختلال معايير القبول في كلية الشرطة، والعلاقة المتوترة بين وزير الداخلية ورئيس مباحث أمن الدولة، ووصولاً إلى الحديث عن بعض انتهاكات الضباط في أقسام الشرطة، كما نشرت موضوعات عديدة تتخطى بعض الخطوط الصحفية الحمراء، من بينها الموضوع الذي أوصلني في النهاية إلى أن أكون شريكاً في كلبش واحد مع حرامي الأنبوبة.
بالطبع لم يكن يعلم القراء المبهورون بشجاعة (الدستور)، أن نشر تلك الموضوعات، لم يكن وراءه ارتفاع مفاجئ لسقف الحريات المنخفض في البلاد، بل كان وراءه في الحقيقة تصفية طاحنة للحسابات بين "مماليك" مبارك، وهو ما لم يكن سيتوقعه القارئ العادي الذي يرى جميع أولئك المماليك ماثلين بكل رضا وحبور في حضرة الرئيس الأزلي خلال اجتماعاته وجولاته التفقدية، وهو أيضاً للأمانة ما لم يكن كتاب (الدستور) وصحفيوها مسئولين عنه، لأنهم كانوا قبل كل شيء وبعده يؤدون عملهم بكفاءة وإخلاص، ويكتبون ما هم مقتنعون بأهمية وصوله للقارئ، تاركين فرصة مروره إلى القارئ للظروف السياسية المتغيرة، والتي انتهت تقلباتها في فبراير 1998، بصدور قرار حاسم بإغلاق الصحيفة، بعد أن وقعت في فخ نصبتها لها الأجهزة الأمنية بعد مذبحة الأقصر، حين نشرت بياناً منسوباً إلى الجماعة الإسلامية التي نفذت مذبحة الأقصر، يتوعد رجال الأعمال الأقباط بالتحديد بتنفيذ عمليات موجعة ضد مصالحهم وشركاتهم.
كان ذلك البيان قد وصل ـ بالصدفة أو بحيلة شديدة الذكاء، لا أدري بالتحديد حتى الآن ـ إلى مكتب إحدى وكالات الأنباء بالقاهرة عبر الفاكس، والذي كانت تعمل فيه صحفية متزوجة من أحد قيادات الدستور وحين رفضت وكالة الأنباء نشر البيان لعدم قدرتها على التحقق من صدقيته، قامت الصحفية بإعطائه لزوجها الذي أعطاه لإبراهيم عيسى الذي رأى فيه خبطة صحفية، وتسرع بنشره على صفحة كاملة وأفرد له عنواناً كبيراً في الصفحة الأولى، ليحدث ذلك النشر حالة من الرعب في أوساط رجال الأعمال ومن بينهم المهندس نجيب ساويرس صديق (الدستور) الأول، بل ولنقل أنه ظل لفترة طويلة صديقها الوحيد، فقد كان يدعمها بإعلان أسبوعي منذ عددها الأول، وكان قبل نشر ذلك البيان يقوم بالتحضير مع إبراهيم عيسى لإصدار مجلة فنية تحمل عنوان (سواريه) وقام بدفع مبلغ مائة ألف جنيه لتجهيز أعدادها التجريبية، وبعد أن تم إغلاق الدستور حاول عصام فهمي وإبراهيم عيسى إصدار صحيفة فنية بعنوان (ألف ليلة) لكنها منعت من النشر، وأصبح من المؤكد أن أي صحيفة عليها اسم إبراهيم عيسى لن تصدر، برغم أن المحاولات تكررت حوالي سبع مرات..
لذلك أصيب نجيب ساويرس بصدمة بعد نشر البيان في (الدستور)، لأنه رآه في نهاية المطاف تشجيعاً على استهداف مصالحه، في فترة كانت الأعصاب منفلتة بعد مذبحة الأقصر، وهو ما جعله يقوم بتصعيد الأمر إلى حسني مبارك خلال إحدى الاجتماعات التي جمعت مبارك برجال الأعمال، ويشكو علناً من (الدستور) ومجلة (روز اليوسف) التي علقت أيضاً على البيان في إحدى تغطياتها الصحفية، فيصدر حسني مبارك قراراً فورياً بإغلاق (الدستور) فوراً والإطاحة بعادل حمودة من منصب نائب رئيس تحرير مجلة (روز اليوسف)، ولأن عادل حمودة كان مقرباً أكثر من النظام، فقد تم تعويضه بمنحه مقالاً أسبوعياً في صحيفة (الأهرام)، في حين تمت الإطاحة بإبراهيم عيسى ومن معه إلى الشارع، وهو ما لم يستسلم له عصام اسماعيل فهمي وإبراهيم عيسى، حيث بدءا في محاولة إصدار العديد من الصحف التي صادرتها الأجهزة الأمنية الواحدة تلو الأخرى، وبدأ عصام فهمي في خوض معركة قانونية للحصول على حكم قضائي يتيح له الحصول على رخصة لإصدار صحيفة (الدستور) من داخل مصر، وهو ما حدث بعد ذلك بكثير، وبالتحديد في عام 2005.
طيلة الوقت الذي سبق إغلاق الإصدار الأول لصحيفة (الدستور)، كان التعامل الأسبوعي مع ذلك الرقيب "العرفي" واحداً من مهامي الثابتة، بوصفي سكرتيراً للتحرير، وقد كانت التجربة بكل تفاصيلها العبثية، من أكثر التجارب أهمية وإفادة في حياتي المهنية، خاصة بعد أن أصبحت مع مرور الوقت صديقاً لذلك الرقيب الأريب، الذي لا أعرف أين أراضيه الآن، فحين كانت الصفحة الأولى تتأخر في التجهيز، بسبب انتظارنا لبعض التقارير المهمة لكي تردنا من صحفيي قسم الأخبار، كنت أذهب أنا وهو إلى مسمط شهير بمنطقة الناصرية القريبة من مقر تجهيز الصحيفة، التي كنا نقوم بتجهيزها في القسم الفني بصحيفة (العربي) الناصرية الكائنة بشارع يعقوب المتفرع من ميدان لاظوغلي بوسط القاهرة.
كان ذلك الرقيب النحيل يعشق النيفة بشكل جنوني، وكنت من عشاق الفتة والممبار والسجق، وكان يلفت انتباهي حرصه الشديد على أن يدفع حسابه كل مرة، لأنه لا يقبل أن يأكل على حساب أحد، مع أنه في حقيقة الأمر لم يكن سيتمكن من دفع حساب النيفة لو لم يكن يمارس ذلك العمل غير القانوني الذي يكسب من ورائه أضعاف ما يكسبه من مرتبه الحكومي، وأذكر أنني حين سألته مرة عما سيحدث له، لو عرف أحد ما يقوم به، رد بإجابة هي من أبلغ ما سمعته في حياتي حتى الآن، حيث أمسك بقطعة نيفة ولوّح بها في وجهي قائلا: "ما هو مش أنا لوحدي اللي باكل نيفة"، فصارت من وقتها مثلاً يحضرني كلما حضرت سيرة فساد صغير أو كبير.
...

في صحبة حرامي الأنبوبة (2)

حين تسلمت ورقة الاستدعاء العاجل إلى النيابة، أدهشني أن أعرف أن سبب الاستدعاء موضوع صحفي شاركت فيه مع الزميل سمير عمر ـ مراسل قناتي الجزيرة وسكاي نيوز فيما بعد ـ كان يحمل عنوان (من وراء اغتيال المشير أحمد بدوي)، فقد تم نشر ذلك الموضوع قبل شهور طويلة من إغلاق (الدستور)، ولم يعترض عليه الرقيب "العرفي" حين قرأه، كما لم تعترض عليه الرقابة بشكل رسمي حين رأته مطبوعاً في العدد، وزاد استغرابي حين قال لي المُحضَر الذي سلمني الاستدعاء، إنه يحمد الله لأنه وجدني سريعاً في المقر، لأنه تلقى تعليمات من رئيس النيابة بأن يرابط في مقر الصحيفة حتى يقوم بتسليم الاستدعاء لي ولزميلي سمير عمر، ولم يكن المحضر حريصاً علينا في الحقيقة بقدر ما كان حريصاً على أن يشاهد في بيته ووسط عياله مباراة مصر وجنوب أفريقيا في نهائيات كأس الأمم الأفريقية التي تزامنت مع إغلاق الصحيفة، لأن المُحضَر كما قال لي يتفاءل بالفرجة مع عياله، وكان يتوقع من أجل المصلحة الوطنية أن أساعده في الوصول إلى سمير عمر، لكي لا يضيع عليه الماتش وتحدث عكوسات تؤدي إلى خسارة مصر للكأس المنتظر.
كان سمير عمر قد قام في ذلك الموضوع المشترك بسؤال بعض الشخصيات العسكرية السابقة المرتبطة بالمشير أحمد بدوي عن ملابسات واقعة مصرعه في حادث الطائرة، في حين قمت بعرض مطول لكتاب ألفه الصحفي اللامع محمود فوزي يتضمن حوارات مع بعض شهود الواقعة الغامضة، وقمت بعدها بصياغة ما كتبه كل منا في موضوع واحد، ولأن ما قام به سمير كان عملاً ميدانياً به مجهود أكبر، في حين كان ما قمت به عملاً مكتبياً به مجهود أقل، فقد حرصت على وضع اسمه قبل اسمي، وحين اقترح أحد الزملاء في الإشراف الفني أن نقوم بتبديل الاسمين، بوصفي سكرتير التحرير، رفضت معتبراً أن ذلك لا يليق بالمجهود الذي بذله سمير، ولم أكن أدري وقتها أن ذلك التصرف البسيط، سيكون سبباً هو والرقيب ورسالة أحد القراء في إخراجي بأعجوبة من ورطة مستقبلية، كان يمكن أن أدفع ثمنها "سنتين سجن" على أقل تقدير.
لم يكن موضحاً في ورقة الاستدعاء من الذي قام بالضبط بتقديم ذلك البلاغ ضدنا، ولم تفلح "كوباية شاي بثلاث معالق سكر وسيجارتين" في إقناع المُحضَر بأن يعطيني معلومات أكثر هي في الأصل من حقي القانوني، خصوصاً أن فرائصي كانت قد ارتعدت، حين وجدت ضمن توصيف التهمة الموجهة إلينا عبارة "إفشاء أسرار عسكرية"، فقد تذكرت أن صديقا أقدم منا في المهنة يعمل في مؤسسة قومية، قال لنا عقب نشر الموضوع، إنه يستغرب كيف أجازت الرقابة نشره، خاصة أنه يتعلق بقضية عسكرية كان الجيش وحده الذي قام بالتحقيق فيها، خاصة وقد كان في الموضوع الذي نشرناه ما يشير إلى وجود تواطؤ من بعض قادة الجيش أيام حكم أنور السادات على إغلاق تلك القضية بشكل سريع لا يتناسب مع خطورتها.
لم يكن لارتعاد فرائصي علاقة فحسب بما كان يعرفه كل صحفي وقتها، عن خطورة الوقوع في خصومة صحفية مع القوات المسلحة، لأنها ستجلب لصاحبها محاكمة عسكرية فورية، وسجناً لا يعلم مدته ولا مكانه إلا الله، في أيام لم تكن صعبة وبائسة كأيامنا هذه، لكنها لم يكن فيها وسائل اتصال اجتماعي تتضامن مع المحبوسين، أو قنوات فضائية تبث من خارج مصر، يمكن أن يمر صوت المظلومين من خلال بعض برامجها، أو منظمات حقوقية قد يشكل أداءها ضغطاً خارجياً، يمكن أن يكون له أثر ما، بالتحديد في ساعات زنقة النظام وحاجته إلى المعونات والمنح اللازمة للنهب، فبالإضافة إلى إدراكي لذلك كله، كنت قبل بضعة أشهر من ذلك الاستدعاء، قد مررت بتجربة مريرة قصيرة بسبب واقعة نشر عادية، لم يكن يخطر على بالي أنها يمكن أن تصنف بوصفها جريمة عسكرية، وسأرويها لك الآن، لأضعك في الأجواء أكثر، أو ربما لأنني لا أضمن أن تأتي فرصة أنسب لحكيها.
شوف يا سيدي، كانت صحيفة (الدستور) تصل إلى فَرشات وأكشاك باعة الصحف في القاهرة بدءاً من ليل الثلاثاء، في حين كانت تباع في بقية المحافظات صباح الأربعاء، ولذلك كان مقر (الدستور) يخلو من أغلب العاملين فيه يومي الثلاثاء والأربعاء، وهو ما كان يشجعني على الذهاب إلى المقر لاستغلال هدوئه، في إنجاز مهامي الأسبوعية، وعلى رأسها كتابة صفحة البريد التي كانت تحمل عنوان (صوتٌ عالٍ وصدى أعلى)، وكانت واحدة من أنجح صفحات (الدستور)، ثم البدء في كتابة تحقيق أو عرض كتاب أو الإعداد لحوار صحفي، لكي لا أُدفن كصحفي بفعل عملي المرهق كسكرتير للتحرير، فضلاً عن قيامي كل أسبوع بأداء مهام ما يعرف بـ (الديسك) أو إعادة الصياغة، والتي كان يشاركني فيها بدءاً من مطلع العام الثاني في عمر الصحيفة، صديقي حمدي عبد الرحيم الذي كان يحرر الصفحة الثقافية، وكان يشاركنا في غرفة الديسك يومين في الأسبوع صديقنا أكرم القصاص الذي كان يعمل وقتها رسمياً في صحيفة العربي الناصرية ولذلك كان يوقع مقالاته باسم (أكرم حسين)، ولأن الغرفة التي كنا نعمل فيها سوياً كانت متناهية الصغر، فقد استحقت عن جدارة لقب (الزنئور).
كنت أحتل المكتب الأكبر داخل (الزنئور)، باعتبار أن مهامي كانت أكبر ـ وحجمي أيضاً ـ في حين حظي حمدي بواحد من أصغر المكاتب في تاريخ الأثاث البشري، وكان أكرم يضطر في اليومين الذين يحضر فيهما للعمل في إعادة صياغة بعض الموضوعات، إلى الجلوس على كنبة مجاورة لمكتبي، تحتل ما تبقى من فضاء (الزنئور)، مستنداً إلى طرف المكتب لينجز عمله، ومبدياً من حين لآخر ضيقه المبرر من رائحة العرق الملتصقة بحشية الكنبة الإسفنجية الرخيصة، والتي كنت أحولها إلى سرير في ليالٍ كثيرة، لتوفير أجرة التاكسي الذي لم أكن أجد غيره في أنصاص الليالي، لكي يقلني إلى حيث كنت أسكن في حارة سمكة بالجيزة.
كنت في أحد الأربعاءات، منهمكاً في فرز رسائل البريد، التي كانت ترد إلى الصحيفة بالمئات كل أسبوع دون مبالغة، فلم نكن قد عرفنا بعد عصر الإيميلات والمنشنات والبوستات والإنبوكسات، وكان العاملون بالصحيفة يعلمون أن دخول (الزنئور) في ذلك الوقت أمر غير مستحب، لأنني كنت أقوم بتصنيف الرسائل بعد فردها على سطح المكتبين والكنبة وبلاط (الزنئور)، ليساعدني ذلك على اختيار ما يستوجب النشر السريع منها، وما يجب أن يذهب إلى أصحاب الشأن من الزملاء للرد عليه أو متابعته في صورة أخبار أو تحقيقات، وما يجب أن يذهب إلى سلة المهملات، التي لولاها لغصّت مقرات الصحف بما يرد إليها من رسائل.
فوجئت خلال أداء تلك المهمة العسيرة، بأحد عمال البوفيه وقد فتح الباب بقوة، لتطير الرسائل المتراكمة على سطح المكتب الملاصق للباب متناثرة في جنبات (الزنئور)، وقبل أن أصرخ فيه غاضباً، وجدته يصرخ بفزع من رأى الثعبان الأقرع لتوّه: "الحقني يا أستاذ بلال.. الجيش دخل الجرنان"، ولأنني كنت أعلم علاقته الوطيدة بالبانجو، الذي كان يفضله على الحشيش، ليس فقط لأنه أرخص وفي متناول يده العاملة، بل لأنه أشد وطأة على طاسة النافوخ، فقد كان نصيبه مني شخرة اسكندرانية، اجتهدت في تجويدها لعلها تفيقه من "سطلته" المزمنة، وقبل أن ينصبّ من فمي شلال شتائم "مِشكّلة" ومتعارف عليها، وجدته يقفز عابراً المكتب الصغير وقد داس على الرسائل، ليضع يده على فمي، وقد تحول صراخه إلى همس متحشرج، وصلني منه بوضوح عبارة تقول: "ما توديش نفسك في داهية يا ريّس.. أكسوم بالله زمبئولك كده.. الجيش دخل الجرنان".
و"الجيش الذي دخل الجرنان"، لم يكن سوى قوة مكونة من ضابط شاب وثلاثة عساكر، وجدتهم حين خروجي لاستطلاع الأمر، يجلسون إلى جوار مكتب السكرتيرة الفارغ في مدخل المقر، منتظرين قدومي أنا بالذات، كما قالوا لعامل البوفيه المذعور، الذي كان قد حاول "زحلقتهم" من المقر بالقول إن رئيس التحرير لا يحضر في هذا اليوم، وأنهم يمكن أن يأتوا لمقابلته يوم الجمعة، فأخرج الضابط أوراقاً من ملف كان يمسكه، وقال له بحزم أنه لا يريد مقابلة رئيس التحرير، بل يريد مقابلة فلان الفلاني الذي ينزل اسمه على رأس هذه الصفحة، مشيراً إلى رأس صفحة البريد المنتزعة من العدد الذي صدر في نفس ذلك اليوم.
قبل أن أخرج لملاقاة مصيري، كان عامل البوفيه قد انهار طالبا مني العفو والسماح، لأن المفاجأة لم تعطه فرصة لارتجال كذبة، فيدعي أنني غير موجود أو مسافر أو تركت العمل في الصحيفة، لتزيدني طريقته في التعامل توتراً، وحين أخذت أبحث عن حذائي في جنبات (الزنئور) المغطاة بالرسائل، كان توتري وقلقي يزيدان بفعل أسئلة عامل البوفيه المتلاحقة عن ما إذا كنت هارباً من التجنيد، وعن طبيعة ما كتبته في صفحة البريد وأغضب الجيش إلى هذا الحد، وعما إذا كنت أعرف "حد تقيل" في الشرطة العسكرية، وعن إمكانية أن نتصل بالأستاذ عصام أو الأستاذ إبراهيم ليشوفا لهما حلاً فيما أصبح يصفه بأنه مصيبة ووقعت على رأسي، قبل أن أعرف أصلا كُنهه.
ومع أن توتري بلغ أقصى ذراه، بمجرد أن رأيت الضابط وعساكره بملابسهم "الميري" في مدخل الصحيفة، وقد كان ذلك مشهداً غير مألوف بالمرة في ذلك الوقت، إلا أن أعصابي سرعان ما هدأت قليلا، حين وجدت الضابط يستقبلني بشكل ودود، لأفهم سر مودته حين قال لي إنه يقرأ (الدستور) بانتظام، وأنه معجب ببعض ما أكتبه وبالأخص ردودي الساخرة على القراء في صفحة البريد التي يتابعها بشغف، فحمدت الله في سري وأثنيت على كرمه، وبدأت أستمع بهدوء إلى الضابط الذي قال إنه ينتمي إلى وحدة عسكرية لها رقم ما نسيته الآن، لكنها ليست تابعة لإدارة الشئون المعنوية، بل لما يسمى بجهاز الاستطلاع الحربي، وأن وحدته تلك تقوم بعمل جرد لكل ما ينشر في الصحف عن القوات المسلحة، للتوقف عند ما يمكن تصنيفه بأنه أسرار عسكرية أو شئون حربية.
عاد توتري للتصاعد بفعل ما قاله الضابط، وأنا أحاول أن أجرد في داخل ذهني سريعاً، كل ما نشر في الصفحة المدعوقة، لأفهم علاقته بالأسرار العسكرية، وحين أخرج الضابط من ملف يحمله صفحة البريد التي كشفت ذلك السر العسكري الخطير، وجدت دائرة حمراء تحيط بشكوى صغيرة منشورة في ذيل الصفحة تقريبا، يشكو فيها مواطن بمحافظة القليوبية من ضياع محفظته التي تحوي بطاقته الشخصية ورقمها كذا وبطاقته العسكرية ورقمها كذا، ليقول لي الضابط إن مجرد نشر رقم بطاقة عسكرية يعتبر مخالفاً للقانون، لأن أحداً يمكن أن يستغل ذلك الرقم في تزوير بطاقة عسكرية، واستخدامها في أعمال غير شرعية، وأنه كان من واجبي أن أمتنع عن نشر بيانات عسكرية كهذه، لكي لا أقع تحت طائلة القانون.
كان يمكن لكلام الضابط أن يصيبني بإغماء فوري من فرط التوتر، لولا أن ساق الله إليّ في خلفية الكادر، وجه عامل البوفيه الذي كان على وشك أن ينفجر في البكاء، وكأنه سمع للتو قراراً من المحكمة العسكرية بإعدامي، وحين رأى الضابط أن نظري مركز على زاوية ما خلفه، التفت ليرى عامل البوفيه وقد أوشك أن يتصدع فيخرج منه الماء، فضحك الضابط بشدة، لتزيد ضحكته من عبثية الموقف، ويشجعني ضحكه على طرح السؤال الذي كان يتراقص حولنا منذ بدأنا الحديث: "يعني سعادتك أنا مطلوب القبض عليّا؟ وهل ينفع أتصل بمحامي الجرنان؟"، ليضحك الضابط مجدداً، ويقول مستغربا من جهلي ببديهيات الحياة: "وهو لو كان مطلوب القبض عليك كنا هنقعد ناخد وندي كده؟ ده كانت الشرطة العسكرية قامت بالواجب وزيادة من زمان".
وحين انطلقت مني ضحكة عصبية كنت أخفي خلفها عدم فهمي لموقفي من الإعراب العسكري، وهل أنا مقبل على فشخة مبينة أم لا؟ أخذ الضابط يشرح أنه ليس قادماً للقبض عليّ وإلا لحضر بصحبة الشرطة العسكرية، وأن مهمته لها علاقة بالحصول على أصل ورقة الشكوى المقدمة من المواطن، لاستكمال أوراق القضية التي يحاكم فيها، وحين سألته ببلاهة أي قضية يقصد، قال بابتسامة كأنه يروي أملوحة إن الشرطة العسكرية كانت قد قامت صباح اليوم بالقبض على الشاكي وأحالته إلى المحاكمة لأنه قام بإضاعة بطاقته العسكرية، ثم قام بنشر الواقعة في الصحف، بدلا من التوجه إلى قيادته المباشرة للإبلاغ عن الأمر.
ولكي يطمئنني الضابط الدمث، وينفي تسببي في فشخ ذلك المواطن المسكين، الذي كنت أتصور أنني أسدي له خدمة بنشر شكواه، قال إن الأمر بسيط، وفيه شهر سجن بالكثير، وست شهور تأديب على أقصى تقدير، "لإن ده العادي يعني في الجيش"، ثم طلب مني أن أسرع في إحضار نص الشكوى، لأنه لا بد أن يعود إلى مقر وحدته، موصياً إياي قبل رحيله مباشرة، بالحذر في المستقبل حين أنشر أي رسائل أو موضوعات لها علاقة بالجيش، وقد ساعدني على الإسراع بتلبية طلبه، تعودي على الاحتفاظ بالمواد المنشورة في كراتين كنت أخزنها في بلكونة (الزنئور) تحسباً للظروف، لينتهي الموقف المكهرَب بأسرع مما تخيلت، حين قمت بتسليم أصل الشكوى إلى الضابط، فنصل إلى ختام المشهد العصيب الذي أضفى عامل البوفيه عليه لمسة كوميدية في الختام، حين قام بأداء التحية العسكرية للضابط والجنود، حال خروجهم من المقر، قبل أن يطير مرتميا في حضني، وهو يهمس بعبارات مثل: "كفارة يا برنس.. كنت هتروح في أبو نكلة وتفشخنا معاك.. لازم تدبح حاجة بأربع رجلين.. فُكّها علينا زي ما ربنا كرمك".
كرّ شريط هذه الأحداث أمام عيني، بمجرد أن قال لي المُحضَر ضاحكاً بين شفطتين من كوب الشاي: "وهو لو الجيش كان اللي مبلّغ فيكو يا أستاذ.. كنت أنا برضه اللي جيت.. كان زمان الشرطة العسكرية مشمّعة المقر وساحلاكو كلكو على س 28"، ومع أنني كنت أسمع لأول مرة لفظة "س 28" التي أصبح كثير من المصريين يعرفون بعد ثورة يناير أنها مقر النيابات العسكرية، من فرط ما تردد اسمها في فواجع المحاكمات العسكرية للمدنيين، إلا أنني لم أسأل المُحضَر عن معنى ذلك الاسم الغريب الذي لفظه، والذي ذكرني بدروس الكيمياء القديمة، فقد كنت حريصاً على زحلقته، بعد أن ثبت انعدام جدواه في تقديم أي معلومات إضافية.
اتكل المحضر على الله فرحاً بإكمال مهمته بدون أن يضيع عليه الماتش، في حين سارعت بالتوجه إلى مركز للتجهيزات الفنية، كان يقع على بعد عمارات من مقر الصحيفة في شارع سعد زغلول، كان يتواجد فيه رئيس التحرير الأستاذ إبراهيم عيسى، ليشرف على تنفيذ عدد جديد من (الدستور)، كان قد اتفق مع عصام إسماعيل فهمي على اصداره، تحدياً لقرار الدولة بإغلاق الصحيفة، وكان يفترض أن يتم ذلك من خلال حيلة قانونية بسيطة قام عصام فهمي بفعلها، حين اشترى ترخيص صحيفة حزبية من أحد الأحزاب الكرتونية التي لم أعد أذكر اسمها الآن، فقد كان القانون يتيح للأحزاب السياسية وحدها حق إصدار الصحف دون أخذ إذن مسبق من المجلس الأعلى للصحافة، ولم تكن الدولة تشعر بقلق من إساءة استخدام الأحزاب لهذا الحق، فقد كانت الدولة من خلال أجهزتها الأمنية العتيدة، مخولة بالموافقة على تأسيس الأحزاب السياسية، مما كان يجعل الساحة السياسية قاصرة على "الأحزاب برخصة"، وللتأكد من عدم خروجها على الخطوط الحمراء تحت أي ظرف، كان يتم تفخيخها من الداخل بأجسام مضادة للأحزاب، تؤدي إلى الإطاحة بالقيادات المشاغبة، وأحياناً إلى انقسام الحزب إلى أربع أو خمس جبهات، لو فكّر قادته أن يقوموا بما هو أبعد من دور المعارضة الكرتونية، والتي تساهم في تكريس انطباع شعبي عام، بأنه لا يوجد في البلاد بأسرها أحد كفء وجاد وحريص على مصلحة مصر سوى الرئيس القائد المفدى ورجاله وحزبه.
في الوقت نفسه، كان جهاز مباحث أمن الدولة الذي يقوم بعمل رقابة صارمة على الأحزاب ومتابعة دائمة لما ينشر في صحفها، يغض النظر عن عمليات المتاجرة بتراخيص الصحف الحزبية، التي كانت تتم بعلم بعض الضباط الكبار مقابل حصولهم على نسبة من ثمن بيع التراخيص، وكان عصام إسماعيل فهمي وإبراهيم عيسى يظنان أن عملية شراء الترخيص الجديد من ذلك الحزب، ستفلت من قبضة الرقابة الأمنية هذه المرة، بسبب انشغال الأجهزة الأمنية بتداعيات حادث الأقصر الإرهابي، خاصة بعد أن تم تصعيد رئيس جهاز أمن الدولة حبيب العادلي ليصبح وزيراً للداخلية، بعد إقالة اللواء حسن الألفي والإطاحة برجاله، وكانت (الدستور) قبل إغلاقها بأسابيع، قد نشرت ضمن سلسلة هجومها على وزارة الداخلية، تحقيقاً صحفياً سمحت به الرقابة عن أسرار الصراع بين وزير الداخلية ورئيس جهاز أمن الدولة، وكان عصام فهمي سعيداً للغاية بالتحقيق من باب الكيد في وزير الداخلية ورجله القوي رؤوف المناوي، وكان يظن أن التحقيق سيساعد الصحيفة ضد حملات وزارة الداخلية الشرسة المطالبة بإغلاقها، فربما رفع جهاز أمن الدولة إلى رئاسة الجمهورية تقريراً يوصي بعدم إغلاق الصحيفة، ليعضد ذلك من فرملة صفوت الشريف لمحاولات إغلاق الصحيفة، وكان عصام فهمي قد روى لنا قبل ذلك على سبيل الفخر واقعة قال فيها إن أحد المسئولين اشتكى في اجتماع مع حسني مبارك من خبر نشرته (الدستور) في أعدادها الأولى ـ العدد الخامس على ما أذكر ـ فنظر حسني مبارك إلى صفوت الشريف وقال له مؤنباً: "هو مش الجرنان ده كان قفل يا صفوت"، ومع ذلك لم تغلق (الدستور) بل استمرت حتى نهاية شهر فبراير 1998، وبالطبع لم يكن ممكناً أن يحدث ذلك بدون علم حسني مبارك، فربما أقنعه صفوت الشريف إن بقاء الصحيفة وهي تحت سيطرة الرقابة سيكون أكثر فائدة للنظام الذي كان لا يكف في ذلك الوقت عن التغني بشعار "لم يُقصف في عهده قلم ولم تُغلق صحيفة".
كان لدى (الدستور) صديق قوي آخر ينتمي إلى الدائرة المحيطة بقرينة رئيس الجمهورية سوزان مبارك، هو فاروق حسني وزير الثقافة، الذي كان يرتبط بصداقة وثيقة مع إبراهيم عيسى، منذ أن لمع ككاتب في مجلة (روز اليوسف) من خلال مقالاته المناهضة لتيارات الشعارات الإسلامية، ورغم أن صفوت الشريف وفاروق حسني كانا في ذلك الوقت في حالة عداء معلن، يعرفها كل المطلعين على كواليس السياسة في مصر، إلا أن فاروق حسني كان حريصاً على أن يوثق علاقته بصحيفة (الدستور)، دون أن يطلب منها بشكل مباشر دعمه أو التوقف عن انتقادها لوزارته، بل وكان يخبر إبراهيم عيسى ببعض تفاصيل الحملات الأمنية التي كانت تحرض حسني مبارك على (الدستور)، مؤكدا أنه كان يقول كلاماً طيباً للرئيس والهانم بحق (الدستور) وأهمية وجودها كصوت معارض "وطني"، وهو ما جعل إبراهيم عيسى يقرر في إحدى المرات، أن يفرد صفحة كاملة لمدح أعمال فاروق حسني الفنية، كتبها صحفي كان يعمل بالأهرام المسائي اسمه محمد عبد الواحد، سيصير فيما بعد مستشارا لوزارة الثقافة، وستجمعني معه تجربة أخرى مضحكة مبكية بعد سنين حين تشاركنا في إصدار صحيفة (القاهرة) الثقافية الأسبوعية التي أصدرتها وزارة الثقافة ولم أكمل العمل فيها أكثر من ثلاثة أشهر.
لكن إبراهيم عيسى في المقابل كان كعادته ذكياً، فقد نشر تلك الصفحة المحتفلة بفن فاروق حسني في موضع آخر من الصحيفة، بعيداً عن صفحة الثقافة التي كان يشرف عليها في العام الأول من (الدستور) الشاعر الكبير إبراهيم داوود، وخلفه في تحريرها والإشراف عليها الروائي حمدي عبد الرحيم، ولم يقم إبراهيم عيسى بفرملة هجوم الصفحة المستمر على مؤسسات وزارة الثقافة، في نفس الوقت الذي كان يعلن فيه في أكثر من موضع عن إعجابه بفاروق حسني ويتفاخر بصداقته له، قبل أن ينقلب عليه ثانية بعد إغلاق (الدستور) لأنه تصور أنه لم يقم بفعل اللازم لإنقاذ (الدستور)، ولذلك قام بالسخرية اللاذعة منه في ثنايا روايته (مقتل الرجل الكبير) التي تعرضت للمصادرة لسنوات، قبل أن تعود صداقتهما وثيقة بعد ذلك، وهو ما حدث أيضاً مع نجيب ساويرس الذي ناله الكثير من غضب إبراهيم عيسى في تصريحات "نارية" متعددة قبل أن تطفئ المصالح نار الغضب كالعادة، وهذه قصة أخرى بضم الألف أو بفتحها إن شئت، لكن هذا ليس موضعها.
...

...

في صحبة حرامي الأنبوبة (3)

كان عصام إسماعيل فهمي وإبراهيم عيسى يظنان أن حبيب العادلي المثقل بمهامه الأمنية الجسيمة، قد يغض النظر عن صفقة شراء عصام فهمي لترخيص الصحيفة الحزبية، وكانا يظنان أن ما حدث للصحيفة ـ من إغلاق صارم لم يترك لها فرصة للمراجعة أو الاعتذار عن خطأ نشر بيان الجماعات الإرهابية الذي اعتقد الكثيرون أنه مفبرك و"مزقوق" على الصحيفة بذلك الشكل الذكي ـ كان مجرد غضبة حكومية مؤقتة سببها التوتر العام في البلاد بسبب حادثة الأقصر، وأن شكوى نجيب ساويرس ساهمت في تأجيج الغضب ضد الصحيفة برغم كونه من أبرز داعميها، وأن ذلك يمكن أن يتغير بعد أن يهدأ الموقف ويتاح للجميع فرصة توضيح مواقفهم.
ظن عصام فهمي وإبراهيم عيسى أيضاً أن عودة (الدستور) من خلال الترخيص الحزبي ولو بشكل مؤقت، يمكن أن يساعد في تحقيقها عوامل كثيرة من أهمها وجود سند جماهيري للصحيفة، لن يجعل جماهيرها يتوقفون عن شرائها حين يجدون عنواناً جديداً على ترويستها إلى جوار عنوان (الدستور)، أو بدون وجود عنوان (الدستور)، لأن ذلك الجمهور بنص تعبير عصام فهمي كان سيشتري أي صحيفة عليها اسم إبراهيم عيسى، وأظنه كان محقاً فيما قاله لأن (الدستور) كانت قد حققت جماهيرية مذهلة بالمعايير الصحفية في مصر وقتها، وهو ما جعل الأستاذ إبراهيم يقول لي ذات مرة جلسنا فيها على قهوة بائسة في شارع متفرع من شارع القصر العيني بعد إغلاق الصحيفة بأسبوعين، إنه حزين ومستغرب لماذا لم تخرج أي مظاهرات من جمهور الصحيفة المحب تحتج على إغلاق صحيفته المفضلة.
لكن الرهان على الجمهور لم يكن السبب الوحيد للإقدام على خطوة كهذه، فقد كان هناك رهان مبالغ فيه ـ كما ثبت فيما بعد ـ على علاقة عصام إسماعيل فهمي الطيبة بصفوت الشريف، وعلاقة إبراهيم عيسى الطيبة بفاروق حسني المقرب من "الهانم"، وبعض العلاقات الطيبة التي كان عصام إسماعيل فهمي وإبراهيم عيسى قد كوّناها في مناسبات عديدة مع بعض رجال الدولة، وعلى رأسهم زكريا عزمي رئيس ديوان رئاسة الجمهورية، وهي العلاقة التي استمرت لسنوات طويلة، لكنها لم تخرج إلى العلن، إلا حين تناقلت بعض صفحات الإنترنت باستغراب في مايو 2010 ، الصور الودودة التي جمعت بين زكريا عزمي وعصام فهمي وإبراهيم عيسى في حفل زفاف أحمد نجل عصام فهمي، والحقيقة أن ذلك النوع من العلاقات الشخصية لم يكن أمراً غريباً أو يخص (الدستور) وحدها، بل كان جزءاً من التركيبة السياسية الخاصة لعهد مبارك، الذي كان يحرص فيه رجال دولته على إبقاء ضفائر وجدائل مع أغلب رموز المعارضة السياسية والصحفية، من أجل لملمة المسائل في لحظات الأزمات، وهو ما لم يدرك أهميته جمال مبارك، بعد أن تمكن هو ورجاله من الإطاحة برجال أبيه القدامى، ولا يدرك أهميته السيسي الآن بعد أن جرب بنجاح ساحق فاعلية أسلوب الشخط والزغر في المعارضين.
كان يمكن لكل تلك العلاقات التي كوّنها عصام فهمي وإبراهيم عيسى برجال الدولة وببعض أجهزتها أن تكون مجدية، لكنهما تحت وطأة الحماس المستند إلى نشوة النجاح الجماهيري التي دامت عامين وثلاثة أشهر، قررا أن يلعبا مع أجهزة الدولة لعبة الأمر الواقع، بحيث تنزل الصحيفة الجديدة فجأة إلى الأسواق بعد طبعها في مطابع (الأهرام) التي كان عصام إسماعيل فهمي قد كوّن مع الوقت علاقات وطيدة مع مسئوليها، والذين كسبوا لمؤسستهم أيضا الكثير من طبع وتوزيع الصحيفة الأكثر مبيعاً في مصر، ولم يكن ممكناً بالطبع أن يبقى ذلك التحدي سراً، ولذلك حين وصلت أنباؤه إلى الرئاسة عبر الأجهزة الأمنية تضاعف غضبها، وحين تغضب منك رئاسة الجمهورية، لن يرد عليك من تعرفه من رجالها بعد أول جرس كما كانوا يفعلون، بل سيطول انتظارك كلما تكرر اتصالك، وحين ينقطع الاتصال تماماً ستزيد خيبة أملك، ويزيد انفعالك، وتتملكك رغبة هدم المعبد على رؤوس الجميع، وتتلبّسك حالة نضالية ربما لم تكن من الأصل أهلاً لها، وكل ذلك يبدأ في اللحظة المريرة التي تدرك فيها أنك لم تكن صديقاً حقيقياً لأحد، بل كنت صديقاً مرحلياً، فقط لأنك تمتلك صحيفة مؤثرة، وحين لم تعد تمتلكها، أصبحت مجرد رقم على "إنديكس" التليفون، لا يلتفت إليه أحد.
حين وصلت إلى مقر التجهيز الفني الذي كان قد بدأ العمل فيه قبل فترة وجيزة، وفي ظل سعي جميع من في المقر لإنجاز العدد الأول من (الدستور) في ثوبها الحزبي الجديد، قبل أن يحل ليلاً موعد مباراة نهائي كأس الأمم الأفريقية، أخبرت الأستاذ إبراهيم عيسى بموضوع الاستدعاء العاجل لي بتهمة افشاء أسرار عسكرية، فانطلقت منه ضحكة مجلجلة، وأشار إلى بروفة الصفحة الأولى للعدد المرتقب، والتي قرر أن ينشر فيها فوق ترويسة الصحيفة، قصيدة عمنا أحمد فؤاد نجم الشهيرة (كلمتين لمصر)، مُفرِدا على ثمانية أعمدة بعرض الصفحة الأولى عبارتها الجميلة: "حد ضامن يمشي آمن أو مآمن يمشي فين"، ولا زلت حتى الآن أحتفظ بقطعة الفيلم المعدة للطباعة والتي تحوي تلك القصيدة الخالدة التي لا زالت للأسف من ثوابت الحياة في مصر.
كان الأستاذ إبراهيم في ذلك الوقت يعاني نفسياً من آثار استفحال مرض السيدة والدته التي كانت مهددة للأسف ببتر قدمها، كجزء من آثار علاج خاطئ تورط فيه طبيب شهير، وبدا لي أن ذلك الوقت لن يكون مناسباً للحصول منه على الكثير من التضامن في مصيبة الاستدعاء، فلديه من المصائب ما يكفيه، وفي ضوء ما كان يعانيه وقتها، قرأت ضحكاته العالية بوصفها منبئة عن شحنة انفعالية يمتلئ بها صدره، قبل أن يتضح أن ضحكاته الملفتة، كان لها علاقة بمصائب جديدة لا تخصني بل تعم كثيراً من زملائي، وأن استدعائي للنيابة، لم يكن أمراً يخصني أنا وسمير عمر فقط، بل كان جزءا من حملة قضائية، قررت الدولة أن تشنها على (الدستور) وعدد من العاملين فيها بعد قرار الإغلاق مباشرة، حيث تم تحريك بلاغات عديدة في نيابات مختلفة، كان بعضها موضوعاً في الأدراج منذ سنة، وهو ما فسّر لي لماذا تأخر تقديم البلاغ بعد مرور عدة أشهر على نشر موضوع قتل المشير أحمد بدوي، وحين علت ضحكة مجلجلة أخرى من إبراهيم عيسى، توقعت أن يكون هناك مصيبة أخرى قادمة في الطريق، وهو ما حدث بالفعل.
المصائب كما تعلم لا تأتي فُرادى، ومصيبتي الثانية كانت أنني لن أتمكن من المثول أمام النيابة برفقة محامٍ قدير، أطمئن إلى مساعدته لي على الإفلات من تهمة مقلقة مثل "افشاء أسرار عسكرية".
في هاتيك الأيام التي كان يحكم مصر فيها نظام لم يخلع بعد برقع حيائه مع القضاء بشكل كامل، كان وجود المحامي الضليع في القانون، يفرق معك كثيراً في قضايا الرأي والنشر، فلم تكن إدارة سلطات الأمن لتحقيقات النيابة بالتليفون والأمر المباشر قد تحولت من استثناء إلى قاعدة، يعني، لك أن تعلم أنه في أول مثول لي أمام نيابة أمن الدولة العليا، كان من يدافع عني المحامي العظيم الأستاذ أحمد الخواجة نقيب المحامين الأبرز، ولذلك تحول التحقيق من رحلة مرعبة يفرضها اسم نيابة أمن الدولة العليا، إلى تجربة لطيفة ممتلئة بضحك عبثي، كنت قد كتبت تفاصيلها من قبل في تدوينة بعنوان (كوكو واوا يا سيادة العميد).
لكن الأستاذ أحمد الخواجة كان قد فارق الدنيا إلى رحاب الله قبل عام ونصف، ليتولى بعده الدفاع عن أغلب القضايا المرفوعة على صحيفة (الدستور) المحامي البارز عصام الإسلامبولي، والذي كان يمتلك خبرة واسعة بقضايا النشر والرأي، وكان من شأن حضوره معي أن يطمئنني كثيراً، لكن إبراهيم عيسى أخبرني أن ذلك لأجل حظي لن يكون متاحاً، لأنه سيذهب إلى النيابة في نفس اليوم، للحضور مع إبراهيم عيسى في بلاغ تم تقديمه ضمن سلسلة البلاغات التي انهمرت على الصحيفة عقب غلقها، إما لأن أحداً في رأس الدولة المصرية طلب ذلك، فامتثل كثيرون لرغبته، أو لأن من كانوا يكنون العداء للصحيفة وكتابها، شعروا أنها أصبحت فريسة سهلة، بعد أن فقدت مصدر قوتها الأهم، أو لنقل الوحيد، وهو قدرتها على تقديم صحافة ناجحة مؤثرة، فلولا ذلك لما سعى هذا المسئول أو ذاك لاستغلالها، ولولاه لما خشيها هذا الجهاز، ولما خطبت ودها تلك المؤسسة.
اكتملت ملامح الصورة السوداء المقبلة، حين جاء إلى مقر التجهيز، زميلنا محمد رضوان الصحفي بجريدة الأخبار وقتها ـ مدير تحرير (المصري اليوم) فيما بعد ـ والذي كان يقوم بتحرير صفحة الحوادث والقضايا في (الدستور) دون أن يضع اسمها عليه، وقال لنا إنه تأكد من مصادره في الأجهزة القضائية، أن هناك تعليمات حكومية صارمة أمرت بـ "الشد على بتوع الدستور"، وهي عبارة مشحونة بالدلالات، خطر في بالي للحظة أن أسأله عن معناها التفصيلي، لكنني التزمت برأي الدين الحنيف: "لا تسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تسؤكم".
وفي حين كان الحاضرون في ذلك الجمع الكئيب، يتحدثون عن تفاصيل تحريك بلاغ رفعه الروائي القديم ثروت أباظة ضد جمال فهمي مدير تحرير (الدستور)، بسبب مقالة ساخرة نشرها في صحيفة (العربي) الناصرية ـ تعرض جمال بسبب تلك المقالة للسجن الفعلي ستة أشهر بعد أسابيع من غلق (الدستور) ـ كنت قد قررت أن أشغل وقتي فيما هو أجدى لي، وهو التفكير في اسم محامٍ قدير، يحضر معي التحقيق دون أن يحصل على أتعاب مادية لا أمتلكها أصلاً، قبل أن أحمد الله وأثني عليه، لأنه ابتلاني حتى الآن بقضية وحيدة تنتظرني، فقد كان يمكن أن أكون مثل غيري مطلوباً في قضيتين أو ثلاثة.
ولأنني لم أكن وقتها عضواً في نقابة الصحفيين، لم تكن النقابة سترسل معي محاميها المخضرم الأستاذ سيد أبو زيد للدفاع عني مجاناً، فقد ذكّرت نفسي بأن والدتي كانت تعاني من ظروف مادية سيئة في ذلك الوقت، ولم يعد لديها ذهب لكي تبيعه لدفع أتعاب المحامين، وفكرت في مدى تعاستي لأنني سأُحرم من ذلك المشهد الحميم الذي رأيته في عشرات المسلسلات والأفلام، ولن أرى أبدا يدي أمي الطاهرتين، مع "كلوز أب" على عروقهما البارزة من وعثاء السفر وطول الطريق، وهي تحمل صرة مليئة بالغوايش طالبة مني بيعها للإفلات من غياهب السجون، فأقبل يديها باكياً وأنا أصدمها بأن كل ما تحمله من ذهب، لن يدفع أصلا أتعاب أسبوع عمل لأي محامٍ عُقر.
ظللت ساهياً في غمرة تلك الأفكار العبثية، حتى أخرجني منها صوت إبراهيم عيسى وهو يشد من أزري، قائلاً إن (الدستور) لن تتخلى عني، وأنه سيتواصل فوراً مع ناشرها عصام إسماعيل فهمي لكي يأخذ منه وعداً، بأن الصحيفة ستكلف محامياً كبيراً لحضور القضية معي، واتصاله العاجل بعصام فهمي انتهى بإطلاقه لضحكة عريضة مجلجلة، كانت تحمل كالعادة مصيبة جديدة، لأن المحامي الكبير الذي رشحه عصام فهمي لكي يدافع عني، قائلا إنه الوحيد المتاح في وقت ضيق كهذا، كان في الحقيقة رجلاً بيني وبينه ثارات أسبوعية، ولو كان أمري بيده، لأصدر بنفسه قراراً بحبسي مع الشغل والنفاذ، فكيف سيقوم بالدفاع عني إذن بقلب جامد؟
كان المحامي المتاح طبقاً لترشيح عصام فهمي، هو الدكتور إبراهيم على صالح النائب الأول السابق لرئيس محكمة النقض، والذي كانت تربطه صداقة قديمة بناشر (الدستور)، أظنها بدأت عبر اشتراك الإثنين في أنشطة حزب الوفد السياسية، قبل أن يقرر عصام فهمي استغلال تلك الصداقة لتوفير نفقات الدفاع فيما يرفع عليه من قضايا، مقابل أن يسمح للدكتور المستشار بقدح زناد فكره عبر صفحات (الدستور)، وكان لعصام فهمي في ذلك سوابق عديدة، يلح عليّ من بينها الآن نموذج فريد، لا يمكن أن أفوت فرصة حكيه لك، هو نموذج طلعت جاد الله، الذي كان النموذج الجنيني الذي تولدت منه نماذج جديدة فيما بعد، من بينها نموذج الدكتور إبراهيم علي صالح.
شوف يا سيدي، حين بدأت (الدستور) الصدور في نهاية عام 1995، لم يكن لناشرها عصام إسماعيل فهمي صداقات بأسماء شهيرة أو مهمة، باستثناء نقيب المحامين الأسبق والأبرز الأستاذ أحمد الخواجة الذي ولدت الصحيفة أصلا على يديه، وظل اسمه على ترويستها بوصفه مستشارها السياسي والقانوني، وكان للرجل المخضرم دور مهم في إنقاذها من أزمات عاتية في الأسابيع الأولى من صدورها، وبعد أن انتقل "أحمد بيه" كما كنا نناديه إلى رحاب الله، بعد حوالي سنة من صدور (الدستور)، كنت أنا وإبراهيم عيسى نتندر بأن الشخص "المهم" الوحيد الذي يرتبط عصام فهمي بعلاقة وثيقة معه، كان عبد الإله عبد الحميد عضو المجلس المحلي لمحافظة القاهرة، والذي كان عصام يطلب من حين لآخر نشر أخبار قصيرة له مصحوبة بصورته، وبالطبع لم يكن عصام فهمي يعرف أنه خلال أشهر قليلة من نجاح الصحيفة الساحق، سيصبح هاتفه المحمول مقصداً لكل كبار الساسة ورجال الأمن ونجوم المجتمع.
كان عصام فهمي مبهوراً بشخص فؤاد سراج الدين، زعيم حزب الوفد الأسطوري الذي كان برغم مرضه وتقدم سنه، لا يزال مسيطراً على مقاليد الأمور في الحزب، وكان عصام حريصاً على أن يثبت لأستاذه "فؤاد باشا" أنه بعد أن تم تهميشه في الحزب، استطاع انشاء صحيفة أهم بكثير من صحيفة (الوفد)، التي لم يكن الحزب في ذلك الوقت يفعل شيئاً عليه القيمة غير إصدارها، وفي سياق إرضاء طموحه الحزبي، فرض عصام فهمي على (الدستور) استكتاب أحد قيادات الصف الثاني في الحزب، وهو الأستاذ طلعت جاد الله، والذي كان شخصاً مهذباً أكثر من اللازم، وكان يبدو بما يرتديه من "بلاطي شتوية فضفاضة" وقمصان صيفية حريرية مشجرة شخصاً شديد الأناقة من وجهة نظر شاب بائس رثّ الملبس مثل حالاتي، لكن تلك الأناقة المفرطة لم تكن مشكلته معي، بل كانت مشكلته أنه كان يكتب مقالات تعيسة بالغة الركاكة، يغتصب فيها قواعد النحو والإملاء والمنطق، ومع ذلك فقد كفلت له علاقته الوثيقة بعصام فهمي فرصة نشر عمود رأي أسبوعي، مع "زملائه" محمد مستجاب وصافي ناز كاظم وأحمد فؤاد نجم وخيري شلبي وصلاح عيسى وأسامة أنور عكاشة وحسين أحمد أمين ولينين الرملي ومحمد عفيفي مطر وغيرهم من كبار الكتاب الذين قد لا يلحق بعضهم بموعد النشر الأسبوعي، في حين يبقى مقال طلعت جاد الله وحده ثابتاً كل أسبوع، دون أن يفهم أحد ما يكتبه، ولا لماذا يكتب أصلاً، ولذلك كنت أتلقى كل أسبوع رسائل من بعض القراء "النمكيين" الذين لا تفوتهم فائتة، يلحون في السؤال عن سر نشر مقالات ذلك الكاتب المجهول، الذي يأكل شنبه الضخم نصف مساحة صورته.
لا أظن بعد كل هذه السنين أن أحداً من الذين شاركوا في تجربة (الدستور)، استطاع أن يفهم سر إصرار عصام فهمي على النشر الأسبوعي لطلعت جاد الله، لدرجة دخوله في مشادات عنيفة مع إبراهيم عيسى، حين كان يطلب تأجيل نشر هرائه أحيانا، من أجل نشر مقالة لكاتب أجمل وأهم، وكان عصام فهمي يبرر ضرورة الإبقاء على تعاسات طلعت، مرة لأنه مقرب للغاية من فؤاد سراج الدين، ومرة لأنه مقرب للغاية من البابا شنودة، في حين قال لنا بعض من يعرف الطرفين، إن الأمر له علاقة بصداقة طلعت الوثيقة برجال أعمال مسيحيين، كان أحدهم يمتلك شركة سيارات شهيرة، وأحدهم يمتلك شركة أدوية أدخلت إلى مصر حبوب (الميلاتونين)، التي كانت في ذلك الوقت اختراعاً شبيهاً بالفياجرا، يعد الناس بالشباب الدائم والحيوية الأزلية، وأذكر أن (الدستور) نشرت بعد بدء استكتاب طلعت جاد الله، إعلانات لمنتج الميلاتونين ولسيارات رجل الأعمال، ليبدو التفسير الاقتصادي لتلك العلاقة الملغزة أكثر منطقية.
ما زاد الأمر عبثاً على عبث، أن عصام فهمي قال لإبراهيم عيسى خلال إحدى المشادات، التي اشتكى فيها إبراهيم من طول مقالات طلعت، إنه لا يهمه إذا قصصنا نصف ما يكتبه أو حتى ثلاثة أرباعه، المهم أن ننشر بعضاً مما يرسله كل أسبوع مصحوبا بصورته، وهو ما وجد فيه إبراهيم فرصة سانحة لتطفيش الرجل من الجريدة، فأوكل إلى محسوبك مهمة قصقصة مقالاته، التي وضعناها في التبويب أسفل مقالة الأستاذ أسامة أنور عكاشة، التي كانت تطول في بعض الأحيان أكثر من المتفق عليه، فكنت بالطبع أختصر من مقالة طلعت جاد الله، لأنشر مقالة أسامة أنور عكاشة كاملة، معتمداً على تصريح عصام فهمي لنا بأن نحذف من مقال طلعت ما نشاء، طالما أبقينا على نشره مصحوباً بصورة لصلعته البهية وشاربه الكث، ومع ذلك فقد أثار الأخ طلعت أزمة حادة، بعد أول مقالة له تم اختصارها، وبعد أن قال له إبراهيم عيسى إن اختصار المقالات من اختصاصي كسكرتير للتحرير، شكاني طلعت لعصام فهمي، الذي كانت قد نشأت بيني وبينه في وقت قصير علاقة إنسانية لطيفة، مرتكزها الأساسي تقديري لدمه الخفيف وحبنا المشترك لفن البذاءة الشعبية.
يعني، لا أعتقد أنني قابلت أحدا في العالم، لديه تنوع في مفردات الشتائم الشعبية المبتكرة مثله، حتى أنه فاق في ذلك عمنا أحمد فؤاد نجم وعمنا خيري شلبي، الذين كانا يحفظان كل ما جاد به الشعب المصري عبر تاريخه من شتائم، فضلا عن النكت والأشعار والمواويل والأمثال والحكايات، وكان عصام فهمي يتميز عنهما وعن غيرهما، بقدرة عجيبة على تدكيك الشتائم وتضفيرها، بحيث تتحول من كلمات يتم بها تطعيم الجمل والعبارات للتعبير عن الغضب أو السخرية، لتصبح هي الجمل والعبارات ويلحق بها كلمات أخرى شارحة أو موضحة للمعنى، وحين يصبح لدينا كسائر الشعوب، دارسون جادون لفن الشتيمة، سأضع تحت تصرف أحدهم، ما لا زلت أحتفظ به في ذاكرتي من عطاء الرجل، لكي لا يطويه النسيان، وتستفيد منه الأجيال القادمة.
...

في صحبة حرامي الأنبوبة (4)

حين أخبرني عصام فهمي بشكوى طلعت جاد الله من النتف المستمر لريش مقاله، حتى أنه لا يصبح أحياناً مفهوماً على الإطلاق، كنت مستعداً للرد، حيث أريته مقال طلعت الأصلي الذي كان يكتبه على ورقة فلوسكاب مسطرة، ويقوم بلزق الكلمات ببعضها البعض، بشكل تطلع منه أعين زملائنا في قسم الكمبيوتر، وطلبت من عصام فهمي أن يقرأ المقال الأصلي، ويصدر قراراً برفدي من الجريدة، إذا استطاع فهم ما يقصده طلعت من المقال، وحين ألقى عصام فهمي نظرة ناشر قديم على المقال، أصدر شخرة عريضة وقصيرة في نفس الوقت، ثم قال لي ضاحكاً إن المقال أصبح مفهوماً بعد اختصاري لثلاثة أرباعه، ثم طلب مني بمودة أن أراعي الرجل من أجل خاطره، وأن لا أغضب من شكاويه، لأنه رجل طيب وابن حلال، وسيتعود بعد قليل على اختصاراتي، وربما دفعه ذلك لأن يختصر من تلقاء نفسه، المهم أن يستمر الرجل في النشر كل أسبوع، رافضاً أن يفصح لي عن سر تمسكه به بذلك الشكل الغريب، قائلاً بلهجة يختلط فيها الجد بالهزل أن ذلك من أسرار الجرنان العليا.
ما عرفته فيما بعد أن عصام فهمي قال لطلعت جاد الله، إنه لن يستطيع أن يفعل شيئاً بخصوص شكاويه، وإن عليه أن يحل مشكلته معي بنفسه، لأنني شاب طائش حديث التخرج، وما يدفعه لتحملي هو أنني "شايل الجرنان على أكتافي"، مؤكداً له أنه تمكن من إحباط مؤامرة للإطاحة بمقالاته من الصحيفة، ونجح في فرض بقاء مقاله كل أسبوع، ولن يستطيع فعل أكثر من ذلك، لأنه لا يريد الدخول في أزمات أسبوعية مع مسئولي التحرير.
حين عرف الأستاذ إبراهيم بما جرى بيني وبين عصام فهمي، وجد فيه مخرجاً سحرياً للكثير من المشاكل التي تحدث مع الكتاب والصحفيين، فدعاني ذات يوم إلى مكتبه، وقال لي بهدوء شديد إنه سيحدث منذ الآن وصاعداً، أن يدعوني لأحضر إلى مكتبه على وجه السرعة، فأجد أمامه كاتباً أو صحفياً من الذين كانوا يتعاملون مع الصحيفة من الخارج، وأنه سيقوم دون مقدمات بتعنيفي على الخطأ الذي قمت به في حق ذلك الكاتب أو الصحفي الكبير، وأنني سأكون مطالباً وقتها بالاعتذار عن ذلك الخطأ بحرارة، وأن أعد بعدم تكراره، وإلا سأتحمل أنا المسئولية عن ذلك في المستقبل.
ولأننا لم نكن قد "أخذنا هذه الحتة" من العمل الصحفي في كلية الإعلام، التي كنت أول دفعتي فيها، فقد حاولت ببراءة شاب حديث التخرج أن أفهم مغزى هذا الظلم الذي وقع على رأسي من حيث لا أحتسب، فقال لي الأستاذ إبراهيم ضاحكاً إن هذه أشياء لا يدرسونها في الكليات، وأنه تعرض لها حين عمل سكرتيرا لتحرير مجلة روز اليوسف، وأن عليّ أن أقبل بها كواحدة من مستلزمات مهنة سكرتير التحرير، الذي أصبحت بعد سنين من ممارستها، أُعرِّف دوره الوظيفي لمن يسألني من طلبة كلية إعلام بأنه "الرجل الذي ينزح خراء الجرنان بأكمله دون أن يشكو همه لأحد، ودون أن يشم رئيس التحرير رائحة الخراء، ودون أن يطرطش على القراء بعضٌ منه".
بعد ما قاله عصام فهمي لطلعت جاد الله عن محسوبك، قرر الرجل أن يغير طريقة تعامله معي، فأصبح يعاملني بمودة غامرة، بعد أن كان يتجاهلني كلما مر إلى جواري، بوصفه صديقاً شخصياً لرئيس مجلس الإدارة. كان طلعت يأتي كل جمعة ليقوم بتسليم "المقالة"، وكان على ما يبدو يحب أن يسمع نفسه وهو يقول للرائح والغادي في أروقة المقر الضيقة: "أنا جاي عشان أسلم المقالة"، وكانت ترتسم على وجهه وهو يقول ذلك علامات رضا أورجازمي بالغة، سرعان ما تختفي حين أنظر إليه بامتعاض وأقول له: "بس طويلة أوي المقالة يا أستاذ طلعت"، فيقول بابتسامة مطليّة بمودة يخفي خلفها رغبة في التنكيل بي: "البركة فيك بقى.. بس خليك حنين عليها الأسبوع ده".
كان من سوء حظ الرجل أن يوم الجمعة الذي يأتي فيه، هو أكثر أيام العمل ازدحاماً وإرهاقاً، لذلك كان يجدني على الدوام متجهما، أحاول الإفلات من فخ نصبه لي أحدهم، أو أحاول نصب فخ لأحد، فتفشل كل محاولاته لإقامة علاقة إنسانية بيننا، تجعلني أكثر حناناً على مقالاته، ولذلك سلم أمره للمولى، وبدأ يتعامل معي بلطف، كأنني لا أقوم أبدا بـ "جزّ" مقالاته وشدّها من شعرها وتقليم أطرافها، حتى تلائم المساحة المحددة لها، فيناولني المقالة الجديدة وقد افترّ وجهه عن ابتسامة "طويلة"، ثم يقول لي بهدوء راهب بوذي: "يا رب تكون مقالة الأسبوع اللي فات عجبتك، أصلها الحمد لله عاملة صدى كويس"، فأستلم المقالة صامتاً، وأسلم الأمر فيه للمولى، وأنصرف لحال أفخاخي، سائلاً الله ألا يوقعني يوما في ضيقة كضيقة هذا الرجل.
بعد أشهر من استقرار أوضاع طلعت جاد الله، ورضائه بالقليل الدائم بدلاً من الكثير المنقطع، سطع في سماء صفحات الرأي في الصحيفة نجم المستشار الدكتور إبراهيم على صالح نائب رئيس محكمة النقض سابقاً، وصار واحدا من ثوابت عصام فهمي التي لا يملك أحد أيا كان هزّها. كان سيادة المستشار قد خرج على المعاش منذ فترة وفتح مكتباً كبيراً للمحاماة، لكنه قرر أن يشبع رغبة قديمة لديه في كتابة الرأي، عن كل ما يجري في مصر من أحداث، وكان الرجل الجليل يحب كثيراً أن ينصح مصر المحروسة، التي كان يتعامل معها كأخته الكبيرة المسافرة إلى الخارج منذ فترة، والتي لا يجد وسيلة للتواصل معها سوى مقالاته الإنشائية المطعمة ببعض النصوص القانونية وأحكام محكمة النقض والمحكمة الدستورية العليا، وأشهد للرجل أنه جعلني أستعيد علاقتي بكلمات وتعبيرات لم أكن قد قرأتها مطبوعة، إلا في صحف النصف الأول من القرن العشرين التي كنت أطلع عليها في دار الكتب، أثناء إعداد أبحاثي الجامعية.
كان سيادة المستشار معتاداً على كتابة الأحكام التاريخية والمذكرات القضائية الملحمية، ولذلك كان من الصعب إقناعه بأن للصحيفة الورقية مساحة محددة لا يمكن تجاوزها، وأنه ربما تمكن العلم الحديث مستقبلاً، من اختراع وسيلة لتعبئة مئات الكلمات الفائضة من مساحة مقالته، في كيس يحصل عليه القارئ مع الصحيفة كل أسبوع، وحتى يحدث ذلك، ليس أمامه إلا أن يختصر مقالته، أو أقوم أنا بذلك عنه، مع مراعاة أن سيادته لا يكتب جزافاً، أو من أجل أن تنشر صورته مع المقالة، بل يكتب لكي تصل كلماته إلى مصر بانتظام، ولذلك يجب أن يكون كلامه مفهوماً، لكي لا تفهمه مصر خطئاً فـ "يتوكس" حالها أكثر مما هو موكوس، وهو ما كان يحدوني للارتحال بين سطور مقالاته بحذر، لاختصارها بشكل يجعل المقالة تخرج متماسكة، خاصة أن اللقب الملتصق بصورته سيجعل القارئ يقرأ المقالة بجدية إضافية، وقد كنا في زمن لم يكن المستشارون فيه بعد قد "رطرطوا" في جنبات الصحف وزواريق القنوات، ولعلي أزعم أن معاشرتي المنتظمة لمقالات الدكتور المستشار، جعلتني أتفوق على نفسي في فن "التقضيب" الذي تفقد فيه المقالة أكثر من ثلاثة أرباع حجمها، دون أن يظهر عليها آثار الغرز، فلا تتعب مصر في قراءتها، وتصلها نصائح سيادته في أبهى حُلّة.
لكن سيادة المستشار للأسف، لم يكن يشاركني الإعجاب بفن "التقضيب"، ولأنه كان قد بلغ من العمر عتياً، فلم يكن يتاح له المجيئ إلى مقر الصحيفة، بل كان يشكوني هاتفياً لإبراهيم عيسى، الذي كان يستدعيني خلال المكالمة، ويعنفني لأنني لا أقدر المستشار الدكتور حق قدره، ثم يهددني ـ وهو يكتم الضحك ـ بالويل والثبور إن امتدت يدي إلى مقالة سيادة المستشار القادمة باختصار أو حتى تشذيب، ثم يعطيني السماعة لأعتذر لسيادة المستشار عن هذا الخطأ غير المقصود، وأعد بعدم تكراره، لأسمع بعد ذلك "كلمتين بايخين من جَنابَه في جِنابي" عن جيلي الغرّ المنفلت، الذي لا يقدر الكلمة الصادقة حق قدرها، ولا يعرف أهمية تعريف الأجيال الجديدة بنصوص الأحكام القضائية الشامخة.
ظل ذلك المشهد يتكرر بحذافيره، كلما نشر سيادة المستشار مقالاً لدينا، دون أن يملّ ثلاثتنا من ترديد نفس الكلام في كل مرة بمنتهى الانفعال والحرارة، حتى أنني كنت أتوقع أن يتدخل الضابط المكلف بمراقبة تليفونات (الدستور) ذات مرة، ليشخر لنا ويطلب منا التوقف عن أداء هذه التمثيلية الرديئة، أو حتى التجديد في أدائها، ليبقى ذلك الحال على ما هو عليه، حتى جاء اليوم الموعود الذي وجدت فيه نفسي واقعاً تحت رحمة السيد المستشار الدكتور، الذي لم أكن أملك محامياً قديراً ومجانياً غيره، لينقذني من تهمة إفشاء أسرار عسكرية، وكنت أظن أن حالي وحال (الدستور) سيدفعه للعفو والصفح، لكن رغبته في الانتقام كانت أقوى من سعيه للعفو، كما عرفت بعد أيام، حين وصلت إلى سراي النيابة.
لم أكن أتوقع أن الدكتور إبراهيم على صالح سينتقم مني بسبب ما فعلته في مقالاته الشاسعة، ربما لأنني أحسنت الظن بتاريخه القضائي المشرق، أو لأنه جعلني أقتنع بقدرته على التجاوز حين ذهبت إليه في مكتبه في زيارة سريعة للتحضير للتحقيق، فاستقبلني بحفاوة بالغة، وطلب مني ألا أقلق أبداً لأن الموضوع "باين عليه لعب عيال"، وأننا برغم كل ما نعانيه من أزمات في ملف الحريات، لم نصل بعد إلى الدرجة التي يعاقب فيها كاتب قام بعرض كتاب تم نشره في الأسواق منذ سنوات، وأنه سيقوم بحسم القضية فور لقائه برئيس النيابة، ولأنني وجدت كلامه منطقياً فقد قررت أن أدع القلق وأواصل الحياة، وربما لذلك لم أسهر طيلة الليل أتقلب على جمر الهواجس، ولم أذهب إلى النيابة قبل موعدي بساعات كعادتي، بل وصلت إلى مجمّع محاكم الجلاء الذي تقع فيه النيابة قبل الموعد بربع ساعة، وكان لدي من الثقة في أن القضية ستخلص مثل شكّة الدبوس، ما جعلني آخذ موعداً مع صديق يعمل في صحيفة (الأهرام) لكي نلتقي فور خروجي من النيابة، يعني قل مثلاً في العاشرة صباحاً أو الحادية عشرة بالكثير، فنتسكع قليلاً في وسط البلد، ثم نتغدى في مطعم مجاور للأهرام كان يتميز بتقديم الطبيخ بشكل أقرب ما يكون إلى الأكل البيتي الذي نفتقده، وبعد أن اكتشفت ضخامة مجمع المحاكم، قررت أن أتأخر عن موعدي مع صديقي لأتسكع بين قاعات المحاكم على أمل مصادفة قصة ملهمة، وهو ما لم تكن تبخل علي به المحاكم والنيابات أبداً.
حين صعدت إلى مقر نيابة السيدة زينب الذي كان في الدور الرابع على ما أذكر، لم أجد أثراً للدكتور إبراهيم علي صالح في محيط المكان، فظننت أن زحمة المرور أعاقته عن الموعد، فوقفت أنتظره إلى جوار الباب المفضي إلى النيابة التي كانت مكونة من عدة غرف، ولاحظت أن هناك رجلاً ملفتاً في جمعه بين قصر القامة البالغ والبدانة المفرطة والصلع النسبي يتفرس في ملامحي، فظننته قارئاً قوي الملاحظة رأى صوري التي نشرت عدة مرات مع مقالاتي في (الدستور)، لكنه حين أخذ خطوتين باتجاهي ثم تراجع بعدها، رجحت أن يكون قد رأى فيّ شبهاً مع أحد أقاربه، وحين أدرك بُعد الشبه قرر أن يتركني في حالي.
وحين خرج موظف متجهم ممسكاً بورقة ونادى على اسمي بصوت زاعق، اتجهت نحوه مبتسماً فنظر إلي بعدائية، وأشار إلي بقرف لكي ألحق به نحو مكتب رئيس النيابة، وحين وصلت إلى باب المكتب، لفت انتباهي أنني لم أصل إليه لوحدي، بل كان بصحبتي ذلك الرجل الذي شخط فيه الموظف لكي يبتعد فقال له بثقة مفرطة: "أنا محامي حاضر مع المتهم من مكتب الدكتور إبراهيم علي صالح"، فنظرت إليه بذهول وريبة، ليس لأنه ذكرني بالممثل الأمريكي داني دي فيتو حين لعب دور الرجل البطريق في فيلم (باتمان)، ليس لأنه كان قصيراً وبديناً مثله، فتلك خلقة ربنا ومن أنا بمنظري هذا لكي أعيب عليها؟ ولكن لأنه لم يكن يوحي بالثقة في قدراته القانونية، ربما لأنه كان يرتدي بدلة غريبة الشكل واللون والرائحة، أو لأنه رأى أن حلاقة ذقنه والاعتناء بمظهره أمر غير مستحب، فضلاً عن أنه لم يكن يحمل حقيبة من التي نراها مع وكلاء المحامين في الأفلام، بل قرر أن يضع بعض ما لديه من ملفات وأوراق في قلب صحيفة (الجمهورية).
كان لدي أسئلة كثيرة أرغب في توجيهها للمحامي المباغت عن اختياراته المختلفة في الحياة، لكنني اكتفيت بسؤال واحد عن الدكتور إبراهيم علي صالح وسر اختفائه، وقبل أن يجيب الرجل الذي كان قد قال إن اسمه عبد الله حاجة، قاطعنا رئيس النيابة شاخطاً فينا بغلظة، وطلب مني أن أجلس على المكتب لاستئناف التحقيق، فقلت له إنني لا يمكن أن أبدأ التحقيق دون حضور "المحامي بتاعي"، فصوّب نظرات محتقرة للأستاذ عبد الله وسألني: "هو الأستاذ مش مالي عينك ولا إيه؟"، فقلت له إن الأستاذ على رأسي من فوق، لكنني أفضل أن يكون معي الدكتور إبراهيم الذي يعرف تفاصيل القضية، وقبل أن أسترسل في الحديث عن أهمية الدكتور إبراهيم بالنسبة لي، قاطعني الأستاذ عبد الله البطريق بمداخلة قصيرة كشف فيها أن الدكتور إبراهيم "مش جاي عشان عنده قضية في محكمة النقض"، وحين وقفت أتهته كأنني بطلة تعيسة في مسلسل عربي تلقت ورقة الطلاق للتو، سمعت من بعيد صوت رئيس النيابة وهو ينادي على أحد ما، حين دخل إلى الغرفة اتضح أنه أمين شرطة، طالباً منه أن يضع في يدي الكلابشات ويجعلني أنتظر في الطرقة، حتى يقوم بإنجاز بعض المهام المطلوبة منه.
أذهلني ما قاله رئيس النيابة، لدرجة أنني لم أفكر حتى في الرد عليه، بل نظرت إلى الأستاذ عبد الله البطريق نظرة عاجزة مستغيثة، كانت بمثابة توكيل في الشهر العقاري له لكي يدافع عني، فشجعه ذلك على أن يسأل رئيس النيابة بما بدا لي شبيهاً بخفر العذارى "لازم يعني سعادتك؟"، ففتح رئيس النيابة فيه جاعورته قائلاً: "جرى إيه يا أستاذ؟ انت هتعرّفني شغلي؟ هو مش متهم زيه زي غيره ولا إيه؟"، فخرج الأستاذ عبد الله البطريق جارياً من المكتب، مما أوحى لي أنها كانت المرة الأولى التي يتعرض فيها لشخط أحد من أيام السيد الوالد، ولذلك كان لا بد أن أدافع عن نفسي فأقول لرئيس النيابة قبل أن تصل الكلابشات إنني في الحقيقة لست متهماً زي غيري، وأنني سبق وتعرضت للتحقيق في قضية نشر قبل ذلك، فلم يتم وضع يدي في القيود، وعوملت أحسن معاملة، وقبل أن أكمل كلامي، فوجئت به يخبط المكتب بكلتا يديه ويقول لي: "مش ذنبي يا بيه إن اللي حققوا معاك ما طبقوش القوانين.. انت هنا زيك زي أي متهم.. والصحفيين مش على راسهم ريشة.. وبعدين انت أصلاً مش عضو نقابة صحفيين ولا معاك محامي عِدِل فمش فاهم انت منفوخ على إيه".
للحظات هممت أن أقول له مشاكساً إن ما أنا فيه ليس نفخة غرور، بل هي نفخة دهون بسبب سوء التغذية، لكنني خفت من أن يزيد تعليقي الطين بلّة، وقبل أن أجد تعليقاً أفضل، سألني عن سمير عمر ولماذا لم يحضر معي إلى التحقيق، فقلت له إنني لا أعرف لأن الصحيفة التي نعمل فيها تم إغلاقها مؤخراً، ولم نعد نرى بعضنا كصحفيين، فعاد ثانية إلى تهكمه العدائي وقال لي "وكمان بتشتغل في جرنان من بتوع بير السلم.. ومش عايز تتكلبش.. أنا أصلاً ممكن أتهمك بانتحال صفة صحفي"، وحين استجمعت قواي وطلبت منه أن يسمح لي بالاتصال برئيس مجلس إدارة الصحيفة أو رئيس التحرير ليقوم بإرسال محامي آخر على وجه السرعة، قال لي ساخراً إنني متأثر على ما يبدو بالفرجة على المسلسلات، حيث يقوم المتهمون باستخدام تليفونات النيابة للحديث مع أقاربهم ومعارفهم، مؤكداً أنني لا أحتاج إلى طلب محامي، لأن المحامي الحاضر معي والذي أثبت حضوره في المحضر موجود في الخارج، مشيراً إلى الأستاذ عبد الله البطريق الذي اكتشفت أنه لم يفلِّق هارباً من المبنى، بل قرر الحفاظ على ما تبقى من كرامته ووقف في الممر مطلاً علينا من بعيد، فنظرت إليه بكل ما في الدنيا من كراهية، وأنا ألومه لأنه لم يهرب من المكان ليتيح لي التحجج بغيابه لكي أطلب محامياً فيه الرمق.
كان أمين الشرطة قد عاد إلى المكتب وفي يده كلابش حديدي، وعلى وجهه ابتسامة عريضة تليق بمن يوشك على تحقيق انتصار تاريخي، وحين طلب مني أن أقوم بمد يدي لكي يضع فيها الكلابش، قرر رئيس النيابة التصعيد طالباً منه ألا يقوم بتقييدي منفرداً، وأن يضعني في كلابش مع متهم آخر، لكي أعرف أنه لا يوجد أحد فوق القانون، وهو طلب أدهش أمين الشرطة وأربكه، لكنه عاد إلى تركيزه حين شخط فيه رئيس النيابة وأمره بأن يصحبني إلى الممر حتى يفرغ لي.
كنت وقتها قد خرجت يا دوبك من "تَولتي" وبدأت استجماع تركيزي، وأدركت أن ما أنا فيه ليس كابوساً عابراً، ولا علاقة له بغضب رئيس النيابة من الدكتور إبراهيم علي صالح لأنه لم يتنازل ويتكرم بالحضور معي، وأرسل بدلاً عنه أقصر وكلائه وأكثرهم شياكة، وهو خاطر تافه يمكن أن يصف لك إلى أي حد كنت مصدوماً مما حدث، ربما لم يكن رئيس النيابة سيشخط في الدكتور إبراهيم بنفس الطريقة المهينة، لكنه كان سيغلظ له ولي في القول، وربما أكرم خاطر النائب السابق لرئيس محكمة النقض فقرر أن يفرد لي كلابشاً مستقلاً، لأن التعليمات التي وردته تقضي ببهدلتي وإهانتي، وهو ما تأكدت منه بعد قليل.
وسوست نفسي المرتعدة لي بأن أنحني حتى تمر العاصفة، ورجتني أن أخضع بالقول لرئيس النيابة وأطلب منه التعامل معي برأفة وشفقة لأنني "ابن ناس ليس له في البهدلة"، لكنني تجاهلت وساوسها، لأنني أدركت أن رده علي سيكون بكلام ناشف من عينة "ولما انت ابن ناس ومالكش في البهدلة إيه اللي يخليك تشتغل صحفي؟"، لذلك قررت أن أغير طريقتي في التعامل معه، وأصوب نحوه نظرات متحدية لكنها منضبطة، ثم أسير خلف أمين الشرطة خارج المكتب، وأنا أحاول التظاهر بالتماسك، مع أنني كنت خرباناً من الداخل.
 

مدونة الكشكول لبلال فضل فى العربى الجديد

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» آخر مقالات العربى الجديد
» مقالات العربى الجديد
» آخر مقالات العربى الجديد
» مقالات بلال فضل فى العربى الجديد
» مقالات محمد أبو الغيط فى العربى الجديد

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
نوسا البحر :: منتديات عامة :: || فرشه جرايد ~-
انتقل الى:  

حفظ البيانات | نسيت كلمة السر؟

حسن بلم | دليل نوسا | برامج نوسا | هوانم نوسا | مكتبة نوسا البحر | سوق نوسا | قصائد ملتهبة | إيروتيكا | ألعاب نوسا