الأغنية. شبه قصة في مقطَّعات 1 كان الليل يعشقها وهي لم تزل في المهد، فأتاها الظلام متلصصا وهي نائمة، وطبع علي أجفانها قبلة كحلتها. وحبا القمر علي سفوح الروابي، ثم تسلل إليها من بين الغصون، ورسم علي ثغرها ابتسامة. وفي الصباح، هرع الضوء إلي عينيها فقامت للحظها قيامة، وأوراق الورد علي وجنتيها شرابا عصره من أوراقه فتضرجتا، ثم أفرغ علي جسدها كئوس نداه فتعطر. ولقد مال الغصن يرضعها من لبنه فشبت ممشوقة. وهبت عليها نسمة صبا فعلمت قدها كيف يميس، ثم سكب البلبل أناشيده في أذنيها فتكلمت. وفي عامها الثاني عشر، بزغ نهداها مع نضج الرمان، فعشقتها. 2 هذا الذي بدأ في صدرك يبزغ، هذه الفاكهة التي لم يكتمل نضجها، هاتان الرمانتان علي صغرهما أو الليمونتان - لله ما أحلاهما! أتري يقدر لي يا وردتي المغمضة، أن أنضو بأنفاسي الدافئة دفء الربيع، من جراء شوقي المستعر - كمك المغلق علي سر وجنتيك المضرجتين، وعلي عطرك الذي يحمل رسالة الحب من أصقاعه المجهولة، إلي الأفئدة اليتيمة علي هذه الأرض، بعد أن أقصتها الحياة عن الروح السرمد؟ وهل تكون دموعي؟ قطرات الندي التي تبلل تربتك؟ وتطرز أوراقك في الفجر؟ حتي إذا ما تفتحت عيناك المكحولتان بالنعاس، رنوت إلي الوجود من خلال دمعي الشفيف، حيث تتراقص في الضوء أطياف حي، رشيقة فاتنة، فتبعث الرجفة الحلوة في جسدك، وتحرك للرقص قدميك، فتضربين وإياها علي ذات الوتر، وتتحد من خطواتكما رقصة واحدة، لها خفة الفراش، ووقع الندي علي ورق الزهر؟ أتري؟ ويكون غرامي؟ ذلك الشعاع الذي تصحين عليه من وسن طفولتك؟ مفترة المباسم ما ضحك في وجهك الصبح، مياسة القد ما خاصرك النسيم، فواحة العطر ما اكتويت بأشواقي؟ وتلفين إلي جوارك بلبلك، واجفا يغني لك، ويداعب وجنتيك بالقبل، ويشهد الروض الذي ألف بيننا، قصة حب خالدة؟ 3 رأيتها أول مرة وهي تملأ سلتها من ورد البرية. كان قدها يتثني كغصن، وثغرها يفتر كزهرة. لم يكد يقع عليها نظري، حتي شعرت كأن طائرا خف إليَّ من مكان مجهول، واستقر يغرد في قلبي. روحي، المخمورة من ترجيعه المسكر، تكاد أن تفقد نفسها. ومع ذلك، فليس أحب إليَّ من أن أصغي إليه. لله در ذلك الطائر، وحسناته التي يغني لها! إن أنغامه لتتسلل خفية في الليل، وتطبع قبلة علي أجفانها وهي نائمة. وتتبعها في النهار وهي ترعي الغنم، لتلثم أذيال قميصها وهي سائرة، ثم تجلس بجوارها عند الصخرة، تداعب خصلات شعرها مع النسيم. وإنها لتقفو أثرها إلي الغدير حيث تغسل قدميها، لتقبلهما مع الموج، وتندس بين شقائق الورد الذي تهصره لتضمخهما بعطره. متعبة هي في تعقب حسنها، حتي لتبدو موردة القدمين في مغرب الشمس. قد دأب علي إرسالها طائر طالما غرد وحده. يا حبيبتي ألا من طائر في قلبك يشدو معه؟ فيلتقي شدوهما كلما غردا، ويتاح لروحي أن تصافح روحك؟ 4 إن الأغاني التي يبعثها في الغروب نابي المحترق، لتتحدر علي سفوح الربي، وتستقر عند قدميها وهي تجمع الورد لتصبغه لها بلونها الدامي. والأهازيج التي أرسلها في سكون الليل، لتسافر إلي مخدعها خلال العبير، وترفرف علي أجفانها وهي نائمة لتترع مقلتيها بالأحلام. والابتهالات التي يتجه بها فؤادي في الصباح المبكر، ليسكب طهرها علي زهر ياسمينها نصوعه، ويلقن يمامها تسبيحه القانت. ولكنها لا تدري شيئا من أمر ذلك المغدق المجهول، الذي يبعث إليها بهذه الهدايا من بقاع نائية، رغم أنها ما تكف عن أن تتأملها في غبطة ظاهرة. 5 حبيبتي بين الزهور تعيش. مع الورد شبت، وبأوصافه تتصف. لها من خجوله حمرة خده، ومن بكره نفحاته. إن بدت، كمثله فتنت، وإن روودت عن حسنها شوكت. وتميل إذا عانقها النسيم، وفي الفجر تبكي علي أحلام الليل. ذلك بالندي، وهذه بدموع. فرق واحد بينهما، ذلك أنها لا تذوي بين يوم وليلة. وتزيد علي الأيام صبا. 6 أنا جبار! جبار عندما أجلس إلي وحيي الساعات الطوال فما أتعب. جبار عندما أطلق عقلي في أثر الفكرة الطائرة، فما يلبث أن يقتنصها ويعود بها إليَّ. جبار عندما أسرق ألوان الطبيعة، وأسكبها علي الورق في كلمات. جبار عندما أهصر قلبي، وأحول أشواقه إلي نغم. جبار عندما أغوص في أعماق نفسي، وأستخرج من أغوارها الدر. ولكنني أرتد أضعف ما أكون أمام جمالك القاهر. إن سحره لأقوي من أن يقاومه بشر. فهلا رحمت هذا الجبار عندما يخر صريعا عند قدميك المعبودتين؟ وهلا ذكرت أنه سيد في مملكة أشعاره، مثلما أنت سيدة في مملكة فتنتك؟ 7 شد ما أفقد نفسي أمام قوة سحرك! إن به لخدرا عجبا. يخامر العقل فيصبح نسيا. ثم يملي أحكامه علي الفؤاد. لله در عصا ذلك السحر! تلمس الفؤاد المتمرد، فما تلبث أن تروض عناده، وتلفه في شباك فتنتها. شعوذة وأية شعوذة! لا يجدي الرقي فيها ولا تنفع التعاويذ. كان نافثها شيطان! ما لنا بمناهضته قبل. إني ليذهب بلبي الدهش! ويطير صوابي شعاعا مع الرياح. أهيم في خمائل حسنك، كفراشة مخمورة بالعبير. تضرب بأجنحتها علي غير هدي. حائر علي الرياض! أفتش عن رشادي عبثا. ولا ألفي لإرادتي من أثر. ومع ذلك لا آسي علي شيء. ذهب الجبروت أمامك غير مأسوف عليه. وخررت طروبا بهزيمتي. 8 أمري عجب في حبها! وأعجب منه تصرفها معي! إن الأحزان التي يفيض بها فؤادي، لتغمر الفجر بضباب رقيق، وتبلل بالندي الزهر الذي تقطفه في الصباح. والزفرات التي أصعدها، لتحمل إلي روضها النسيم الدافئ في الربيع فتنضج براعمه. والأشواق التي تبعثها جوانحي، لتستقر في الأفق مع النجوم، لتهديها السبيل في الليل. والأحلام التي تخالط كراي، لتتسلل إلي نافذتها مع أشعة القمر، لتباركها وهي نائمة. ومع ذلك فعندما أسألها أن تمنحني راحة يدها الناعمة، ونحن سائران جنبا إلي جنب في طريقنا إلي المرعي، تنظر إليَّ كأنني شحاذ! 9 نامي ما شئت واحلمي، يا من فرشت لي تحت النجوم! نامي وخليني لرفيقاتي في الأوراق، أرنو إليها وترنو إليَّ. نامي يا من مددت من الورد مخدعك، ومن الشوك مهادي! نامي وسط حفل من الأحلام، ودعيني وحدي أشيع وسني الطائر، وهو يتنقل من نجم إلي نجم، ومن سماء إلي سماء، كيراعة ضالة. قسما لأرسلن طيفي المسهد إلي مخدعك، يقتحم عليك منامك، ويثأر لي منك. 10 متي تمتزج روحي وروحك في الهوي، ونصبح قبلة تسبح؟ منورة الطيف علي متن الأثير، ولها علي الشفاه نغم؟ متي تمتزج روحي وروحك في الهوي، ونصبح حلم جفن؟ طافي النور علي حلكة الليل، وله بالعيون طواف؟ متي تمتزج روحي وروحك في الهوي، نصبح كأس خمر؟ مشعشعة الأضواء في أيدي السقاة، ولها علي الألباب سحر؟ متي تمتزج روحي وروحك في الهوي، وتصبح دمعة عين؟ مفضضة الذوب في زوايا المآقي، ولها علي الخدود مسيل؟ متي تمتزج روحي وروحك في الهوي، ونصبح فراشة روض؟ مذهبة الجناحين في أشعة الشمس، ولها علي الزهر رفيف؟ متي تمتزج روحي وروحك في الهوي، ونصبح طائر غاب، مجوب الآفاق من مطلع الفجر، وله علي الأفنان شدو؟ 11 لله سحر سني مصباح في قلبي يضيء! ماذا عليك لو أوقدت بدورك مصباحك، وعشنا معا شعلتين؟ علي هيكل الحب خافقتين، كلما سرت بهما هبة من نسيم، تذبذبتا فاعتنقتا علي النور واتحدتا في قبلتين. إلي أن ينضب منهما الزيت، زيت الحياة، فيختلجان لبرهة، ثم يحترقان في قبلة عميقة تودي بهما. انطفاء وما هو بانطفاء. بل توهج في عالم الخلد أبدي. أشعلي مصباحك، ولنحترق معا في الحياة، فيضمنا الجوار في الأبد. إني لأخشي إن أنا احترقت وحدي، أن أظل هائما الدهر وحدي. في هذه الدنيا، فرصتنا هيئت للاندماج. فتعالي نتعارف، قبل أن يذهب بنا الموت فرادي، فأظل أسبح وتسبحين وحدك في الكون روحين ضالتين. الحب وحده، هو الذي يؤلف الأرواح. هنا في الدنيا، ومن بعد في الخلد. 12 لكَ الله! ناولتِني المصباحَ مصباحَ الحب، ثم قلْتِ لقلبي كُنْ له وقوداً فكان. تبَّا لذلك الحُسْن، الذي ما يُرَي إلا علي لهب القلوب! أمَا كان يمكن أن أفتدي فؤادي، وأستبينك علي قَبَسٍ سواه؟ ولو كان ومضةَ برق؟ أو نجماً في النجوم؟ ولكنه الجمال! الجمال الذي ما يبغيِ له من دون القلوب وقودا. ومع ذلك تشْكين فما أعجَب! أعْرِف أني حَملت اللهبَ لهبَ الحب، فقُوليِ ماذا أنتِ تحملين؟ فمٌ ساحر، ولحْظٌ فتاك، وقوامٌ يَخلب اللُّب- تلكِ كل بضاعتك، وإنها لبَضاعةٌ هيِّنٌ حَمْلها، وجِدٌّ حبيب. 13 مِن زيت قلبي يضيء ذلك المصباحُ الذي يحترق في جوانبه. إني لأحمل بين جوانحي اللهب، الذي أجَتليِ حسنك علي هداه. إني أدفع ثمنَ لمَحاتٍ منكِ أراها. ومع ذلك فمَنٌّ وتيهٌ وحرمان: علام المن وأنا الشهيد علي المذبح! وَرْدُكِ لمْ أقطفْه، وأنا الذي أُزْهِقَتْ أزهاري. ماذا عليكِ لو استجبتِ للغزَل؟ قدُّك لن يهْصره العناق، وشفتاك لن تُذبلهما قُبَلي- أيتها البخيلة التي لم يَعرفِ القِرَي يوما فمُك! 14 اجلسي يا حبيبتي، وقُولي ليٍ مَن كحَّلك؟ أهُوَ الدُّجي حقَّاً كما تدَّعين، أم أنها أحزاني؟ ومَن ذا الذي ضرَّج خدَّك؟ أهو الورد مثلما زعموا، أم أُراهُ دمي؟ انظري وجهي العليل، وأمَاراتِ الجِراح في بحَّة شدودي، واحكمي. إنني أنا مَن بَعث الدجي في الليل، وخضَّب بالدماء ذاك الشفَق. إنني أنا مَن سكَب الندي في الفجر، ومِن أشجانه ينعقد الغمام. وإذا ما نجمُ قالوا أضاء، فَثَمَّ شوقٌ في قلبي ومَض. أو قمرٌ للعاشقِين تبسَّم، فشعاعٌ مِن خواطري شَرَد. هبّاتُ هذا النسيم، بعضُ زفَراتي، حَرُّ هذا الهجير، مِن نفَسي المحترق. وصباباتي الذي خالوه ترجيعَ بلابل. والذي حسِبوه نوْحَ حَمام، أغانيَّ الشاكية. عشْقُ هذا الوجود، في قلبي أنا، فَعَلامَ الصدود، ولمَ لم تَعْطفي؟ 15 إذا ما رأيتِني أحُومُ حولكِ كما يحُوم الفَرَاشُ حول المصباح ويحترق، فضاعفي برفيفِي ألِيقَك، واحرقي جثتي. وإذا ما ألفيتِني تحتكِ في الصباح رماداً هامداً، فخُذي من هبابي وكحِّلي جفنك. ثم استوِي علي عرش فتنْتك، واسْبي العقولَ بلحظك الفتاك وجفونك الكحيلة. وابعثي من رجفة العشاق حولك ومضاً يَزيد نورَ عيونك، ومِن جثثهم هَبْواً يزيد كحْلَ جفونك. 16 كانت تَحرس قطيعها في ظل دوحة، وظهْرها لِي. وكانت نظراتها تسير في اتجاهٍ واحدٍ مع الأغصان الشاردة، وشَعرها قَلِقٌ في مَهَبِّ نسيم الصِّبا. وكانت ثَمَّةَ ابتسامةٌ ترتسم علي ثغرها، شأنَ مَن وقَع تحت سحْر خاطرٍ سعيد. تُرَي فيمَ تحلم؟ قلتُها وخفَفْتُ إليها أسترقُ الخطا. دقَّ فؤادي. وخُيِّل إليَّ أن الأشجار تتهامس بي، وأن ورد البرِِّّية قد احمر خجلاً من جرأتي. »لن تنتبِّه لِي. إنها واقعةٌ تحت تأثير سحرٍ منوِّم» بهذا رحت أهمس وأنا أنقل خطواتي في حذر. وتابعتُ سيْري إلي أن صرتُ منها عن كثَب، وكاد شَعرها المتطاير أن يَلمس أجفاني. أُوهِمتُ أن أنفاسي ستَشي بِي. وأن خفقات فؤادي ستنُمُّ عليّْ. غير أني لم أعطهما الفرصة. طوقتُ خصرها بذراعي، وفي مثل لمح البرق طبعتُ علي خدها الأسيل قبلة. قبلةً طويلةً أودعتُها بعضَ رمقي. أمّا هي، فقد انتفضتْ كحمامةٍ مذعورة. ثم عادت تتبسَّم. 17 حبيبتي وأنا، نسكن بعيداً في البرِّيَّة. هي فوق الرابية، وأنا عند السفح. في كوخين مقامين من أعواد الخيزُران. يتسلق عليهما الزهر البرِّي. سماءٌ واحدةٌ تظللنا. وطيورٌ واحدةٌ تغني لنا. النسيمُ الذي يهب من روضها، يَحمل إليّ أنفاسها في غدُوِّه. والجدولُ الذي فيه تستحم، ينحدر إليّ معطَّراً من جسدها. في النهار، يجمعنا المرعَي معاً. غنمي تلعب مع غنمها. وبين كلبينا حبٌّ مفقود. وإذا ما انتطح من قطيعينا عنزان، اشتبكنا معاً في شِجار، نَخرج منه ضاحكيْن. نمزج إنْ أكلنا زادنا. وأشرب من جرَّتها وتشرب من جرَّتي. وإذا أمسكتُ نايي، تناولتْ أرغُنَها وطَفِقْنا نُنْشِد. ولقد نذهب نَستَبِق. ونتسلق الدوْحَ في طلب الفاكهة. حتي إذا أدركنَا الكلال، جلسْنا نرسم الخطوط علي الرمل، ونقرأ فيها حظنا. وعندما تؤذِّن الشمسُ بالمغيب، نعود سريعاً إلي الحِمَي. كلٌّ يقود قطيعه، ويهُشُّ بعصاهُ علي غنمه، وهو شادٍ بالأناشيد. وإنّا لَنَرْقَي في سيْرنا الهضاب. ونهبط السهولَ مِن كلِّ مُونِقٍ مخضَرّ، وقد ورَّدتْه الجِراحُ أسيَ علي فرقة الشمس. تُباركنا تراتيلُ الطيور الغاربة، تنبعثُ في قلب الفضاء، أشبْهَ شيءٍ بموسيقَي كَنَسِيَّة، مُوَلْوِلةَ الرنينِ مكتئبة الجَرْس، مِن وجدٍ بها علي انصرام النهار، فتُترِعُ بالنغم حزنا بنا، يتصاعدُ بين الجوانح كالضباب الرقيق، أسفاً منا علي وشْك الفراق، ثم ينعقد دموعاً في المآقي. وإذا ما الحيُّ لاح، وبدا الجدول كالمرآة، وعليه من الشفَق حريق، ومِن حوله الأكواخ منتثرة، افترقنا حتي لا يرانا الأهل. وطفقنا نتبادل النظر من بُعد، ويبعث كلٌّ لرفيقه بالقبل، تطير عَبْرَ الفضاء، وكأنها مما بها من بريق يَرَقَاتٌ تلتمع. 18 نحن الرعاةَ في البراري ضاربون، وعلي عشبْها المُخْضَلِّ نجلس. في مُلْكنا ذا تائهون، وأمامنا الأغنام تَرعي. يومُنا لعِبٌ علي الناي، واسْتِباقٌ فوق ظلال الرُّبيَ، وتخطيطُ البيوت علي الرمال، ونقْلُ الحصَي في حُجَرها. مِن مياه المطر نشرب، ومِن العيون الجارية، ونَتَاجَ الغنم نأكل، مِن شِوَاءِ وحليب. رفاقنا غنَمٌ وكلبٌ، وحبيبٌ نصطفيه. ومتاعنا نايٌ ومِغْزل، وعصاً نَهُشُّ بها القطيع. ولقد زهدْنا في الثراء، مذ مَلكنْا العافية، وعرفنا ما الهناء، مذ رضيِنا فقزنا. ويشغلنا عشْقُ الكعاب، علي خلوِّ بالنا. ولنا فيه أغانٍ وقصص. 19 أنا في الأحْرَاج راعٍ وهْيَ مثلي راعيةْ قد زهدْنا كلَّ تاجٍ مُذْ لبسْنا العافيةْ إنْ صَحَا الطيرُ ضَربْنا في البراري النائيهْ فهبطنا عند سهلٍ أو صعدنا رابيهْ حيث تَرعَي حولنا الأغْ نامُ فرْحَي لاهيةْ مِن خِرَافٍ تتبارَي أو نعاجٍ ثاغيهْ نشرب الماء قَرَاحاً من عيونٍ جاريهْ وإذا جعنا طَعِمْنا من نَتَاج الماشيهْ أو ثمارٍ طيّباتٍ وقطوف دانيهْ يومُنا عشْقٌ وزَمْرٌ بالأغاني الشاكيهْ واسْتِبَاقٌ في الضحي فَوْ ق الظلال الساجيهْ لاَ برمل الباديهْ ثم نمحو ما خَطَطْنا لِدواعٍ واهيهْ شَغَلَ الحبُّ قلوباً في سوانا خاليهْ ما تَرَي أن فؤادي مِلْكُها وهْيَ لِيَهْ؟ آهِ من شوقٍ تعاني وصَباباتٍ بِبَهْ حالُها منذ أحَبَّتْ ليس إلا حاليهْ نحن ندَّيْنا الأغاني بالدموع الغاليهْ وهْيَ لولا ما شَجَانا ما دريْنا ما هيهْ 20 ما أسعدَنا راعياً وراعية! كفَانا مِن زمْرٍ وقُبَل. خذي الجرَّة، واحلبي الشاة. ريثما أصيب بالقوس بطةٌ برِّيَّة. أغَنَمُنا تَشبع رعْياً ونعاني المسْغَبة؟ هاتي النِّبَال. هذا صيدُنا خَرَّ فأوقدي الحطب، وتَولَّي شيَّهُ علي الدُّخَان. إني ذاهبٌ أتسلق الأشجار، وأحْضر تيناً وعنباً. وما رأيك في جوْزةٍ أشُجُّها في رأسك؟ حسَناً، إني آتيكِ بها. إذ لا غنَي عن المرَح. في ظل هذه الدوحة، سنمدُّ، المائدة. وعلي هذا الحشيش ، سنجلس نأكل. ثم نقصد إلي النبع، نسقي ونغتسل. 21 العصافير في أعلي الكرم تزدرد العنب. ما رأيك في عُنقود؟ اعتليِ مَنْكبِي، وائتينا بقِطْف. أفضِّل منه الأبيض. شبيهَ الكهرمان. هذا ما اشتهيت. دونك والنبعَ فاغسليه، ثم عُودي به علي ورق الموْز. إذَن رجعتِ فهيّا اجلسي. ولنْأكلْ معاً. عنبٌ كالنجف! أو كشموع نُضِّدَت! وإنّ منه المنفرط! كنجوم نُثِرَت! والذي منه بكفِّك، أرأيتِ كيف يترجرج؟ ما أجمَله! كأنه الزئبق! سأخطف عنبة. عنبةً من فمك. شيطانتي! ألعْتِها؟ ما أخبثك! أنا إذَن غضبان. ما كان ضرَّك لو أجبتِ سؤالي؟ أو ضَرَّ ثغرك لو رشفتُ رحيقه؟ 22 حبيبتي بزينتها مُولَعة. حليُّها يتجدد مع كل صباح. فالعقد الذي يطوِّق جِيدَها، منضَّدٌ من حَبِّ الياسَمين. والإكليل الذي يتوِّج مَفْرِقها، من الفل مصفَّف. ذلك أنها زهرةٌ في الزهور. فهي بِلِداتها تتزين. حوْل معصمها سِوَارٌ من نرجسٍ أصفر. وبإصبعها خَاتَمٌ فصُّهُ حَبَّةُ رمّان. ومن عُنّابتيْن قرْطاها. ذلك أنها فاكهةٌ في الفواكه. فهي بأتْرابها تتحلي. أمّا خلخالها، فمن ذهب رنان. كيْما أسمع جلْجلتَه، كلما اقتربتْ من كوخي. 23 أنتِ منِّي الخَمْار، وأنا مُدْمِنُ خمرك. أيُها الخمْار! هاتِ قدَحاً من فمك. إنّ مِن الشفاه لَكأسَاً، وإن من الرُّضَاب لَخمراً، وإن من الخمر الحلال. فَبِنَفسْي هذا الرحيق. أحْتسِيهِ وما أفيق، ثم أطْلق قلبي، في الجمال يعربد. 24 ثغرك! كأسُ خمر. سُلافُهُ ريقُك. وأنا المُدْمِن. لحظك! ضياءُ شمس. ظِلُّه كحْلك. وأنا اللاجئ. شَعرك! سوادُ ليل. قمرهُ وجهك. وأنا الساهر. صوتك! شدوُ بلبل. في ذُرَي أيْك. وأنا المُصْغِي. نفَسك! عطْرُ زهرة. في رُبَي روض. وأنا الناشق. دمعك! طَلُّ فجْر. كَلَّلَ وردة. وأنا المعجب. 25 ما هو عطْرُ بنفسَج، ذلك الذي يَنْفح منك. ولا هو عطْرُ فلٍّ أو ياسَمين. ولكنه عطْرُ زهرةٍ مجهولة، تَنْبت في روض حسنك. عطْرُك أنت. يَنفح من فمك. ويَضُوع من شَعرك، ومن غَضِّ إهابك. رقيقاً كالحلم، خفيفاً كالنسيم. يوقظ بفؤادي حنانا مسْكراً، ويعود بروحي إلي مَواطنَ مسحورة. وردةٌ أنتِ تَنفح شذاها من زِرِّها وتأبي أن تستعيره. وردةُ أنتِ لولا أنك من الورد أجمل، وأطيبُ عَرْفاً منه. أو غزالٌ أنتِ عَبَقُه فيه. لولا أن مِسْكَكِ من مِسْكه أذكي. لكَم أخاف عليك من عَبَقك هذا، وأخشي أن يُرْديك مجنونة! كيف أنه لا يُجَنُّ حاملُ العبَق ليلَ نهار؟ كيف، ويَحتمل سُكْراً لا تفيق نُهَاهُ منه؟ صدِّقيني لمْ أعُد لنزَفك أعجَب، ولا لخفة حركاتك. مَن كان هذا الخمرُ فيه، ما لَه وللِوقارِ؟ ولمَ لا تكون له رعونةُ الغزال ورشاقةُ لَفَتاته؟ لمَ لا يكون كظبْي الأكَم، حاملِ المسك في دمه، والمستجيرِ من فرْط حلاوةٍ فيه؟ 26 كأني بساقيْك عمودا رخامٍ أقيما في هيكل حسنك، وكأني بقلبي ذلك الراهب الذي يتبتَّل فيه ويَحرق تحت قبَّته البخور. لولا أن صلواتي إطراءُُ خالصُُُ لحسنك، وبخوري من القلب سحقْتُه وليس من الصندل والزعفران. وهكذا أختار لنُسْكي معْبدك، ولِصلواتي تمثالك، يا إلهي الصغير! وكما يطوف الوثنيُّ بأصنامه ليلَ نهار، يطوف فؤادي بقدميك المعبودتين، ثم يَخِرُّ عندهما ساجداً وهو قرير. 27 ما أشْبَهَ بَنانك الورديَّ بِزِرِّ وردةٍ بَدَتْ تباشيرُ أوراقها في البُكور. وما أشْبه خدك بهذه الوردة وقد نضجتْ وزَها لونها. وما أشْبه أظافرِك بأشواكها المرهَفة، التي تجرحني في قسوةٍ محبَّبة، كلما بدا ليِ أن أقطفها بفمي. 28 كأني بقدك غصنُ ممشوق، ونهديك فاكهته. وكأني بوجنتيك وردتان أطلَّتا عليهما من ربوةٍ دانية. وعينيك بحيرتان عميقتان قد سَجَتْ فوقهما من أهدابك الكثيفة ظلال. ونظراتي طيورُ الماء المصفِّقة، التي ترفرف علي سطحهما. وكأني بقلبي ذلك البستانيُّ الذي يرْوِي هذه الحديقة بدمعه، ويَجمع بين حينٍ وآخَرَ جَنَاها ويشكرك. 29 ما نحن إلا شمعتان محترقتان علي هيكل حبٍّ عذْري. وما قلبانا إلا ذلك الزيتُ السحريُّ الذي يحترقان به، وقُبَلُنا غيرُ تلك الشرارةِ المقدسة التي تُضرِم فيهما النار. ولكنْ علي الرغم من أننا نعيش علي هيكلنا هذا إلي حين، ثم نموت بحبنا المضني قصيريْ الأجل، ما كان يمكن ألبتَّة أن نسْطع مثلما نسْطعُ الآن في عمرنا هذا القصير، وقد لمسَنا فيه ذلك اللهبُ المقدس. 30 إنيَ لأعزِف محاسنَ وجهك علي قيثارتي. فَتخرجُ منها أغنيةً حلوة، تمرح في هذا الفضاء مع النحل والطير والفَرَاش. وكلما مرت في طريقها بحقلٍ أو غابٍ أو جبل، قصَّت عليه أنباءَ حسنك، حتي غدتْ معروفةً في كل نجع. إن خدك لم يتورَّد، ولا زان عينيك ذلك التيه، إلا خجلاً لجمالك الذي فشَا سرُّه في كل مكان. ومع ذلك فما أراك إلا تنكرين عليّ أنِّي شَهَرتُ اسمك، وإن كنتِ في قرارة نفسك تطربين لهذا أيَّما طرب. 31 سجا الليلُ وآن ليِ أغازلك بأنغامي. لقد ذاق العاشقُ فيَّ كأسَ حلاوتك، وحَقَّ للشاعر فيّ أن يذوق نصيبه. عليّ بمزماري المُواتي، وبأكليل الزهر فطوِّقي به هامتي. ثم اهبطي الحديقة ودعيني في البرج وحدي. اهبطي حيث الزهور تحُفُّ بمقعدك، وشعاعُ القمر يتوِّج رأسك الذهبي، فَتبدين كأميرةٍ علي عرشها استوت، ومِن حولها جواريها واقفات. وهناك وأنتِ في بلاطك، لسوف تنحدر إليك أنغامي علي مَتْن النسيم، فتبدو وهي تلمس قدميك الجميلتين، كعبدٍ مَثَلَ بين يديْ مولاته، فانحني حتي مسَّ جبينه التراب. اهبطي الحديقة، وخلِّيني وحدي. إن فؤادي لَتجيش به أشواقُ جمَّة، لا أستطيع التعبير عنها إلا عندما أخلو إلي نايي، أبثها إليه فِيترجمها لك في نغم. لن أشكو بعادك، مادمتُ سأشدو لك في وحدتَي، بل إني ما أحسُّ دنوك مني، قَدْرَ ما أحسه في وحدتي هذه المقدسة. عندما أمزُج شوقي وجمالَك في كأسٍ واحدة، شرابها من نغمٍ حنون. 32 أدركي الشادي، فلقد كاد أن يَغرق في موجات النغم. عواصفُ فتْنتك، حولتْ أغانيه إلي بحرٍ خِضَمّْ. مسكينٌ هو وسْط هذه الزوبعة! يكاد زورقُه أن ينقلب وهو يكافح الموج. ولقد مَزَّقتْ شِراعَه الأعاصيرُ وعطَّلتْ دفَّته. أيُّ رُبّان! أفْلتَ منه زمامُ سفينته! انظريه عند صاريها واقفاً يجاهد، وقد لَطَّخ الزَّبَدُ ثيابه، وحلَّت شَعَره الرياحُ وعبثتْ به. ويا ليت أن الكفاح كان بذي جدوَي! إنه وسط اللُّجِّ العجاج. وسفَرٌ طويلٌ مايزال بينه وبين الشاطئ. وأيُّ شاطئ؟ إنه نفسه لا يَعرف متي تبدو طلائعه. ذلك أنه حين يتناول قيثارته ويبدأ في توقيع محاسنك، لا يدري متي يضع القوس. الساعات تمرٌ، ومايزال علي أوتاره عاكفاً يستوحيها النغم، وقد هزَلَ وجهه ورقَّتْ سِمَاتُه، واستحال إلي طيفٍ ما يُريَ منه غيرُ عينين تَحكيان ما يكابد من ضني. رفقاً بهذا الغريق! تعاليْ لوِّحي له بقبلة، علَّها أن تغريه بأن يُمسِك مَلِيَّا عن الشدو، ويرسو من سفره المضنِي علي فمك، ذلك المرفأ الذي يلقَي عنده السلام. 33 عنك يا روضَ الجمال، عنكِ يا مهْد النغم - آخُذُ معانَّي وأرجِّع شدوي. إنيَ لأقضي نهاري بطولهِ أجمعُ زهرك، وأجتذب الألحان من أوتارك، ثم أعود آخِر اليوم إلي أهل القرية وسِلاليِ محمَّلةُ بالزهر، ونايي يرقص حوله النغم. نَهَكْتِ قوايَ في جمْع نفائسك! زهركِ لا عَدَدَ له. ونغمك بحرٌ خِضَمّْ، وإني لَينفد عمري قبل أن آتي علي جَنَاك، وأعزف كلَّ أناشيدك. 34 الأسرار! التي كانت حبيسةٍ في فؤادي، استباحها جمالُك. كنوزي سطوتِ عليها، وأودعِتها أغلفةَ الكتب، مَشَاعاً لكل إنسان، وتركتِني أعيش بلا سرٍّ أحتفظ به. قديماً كنتُ زهرة، وعلي عبيري مغلَقة. فَنضَوْتِ أكمامي ونهبتِ عطري. العصفورُ الذي كان في قلبي يغرد، أخذِته وفي رياضك أطلقتِه. غمامي شتَِّته في دموع. ونايي طيَّرتِ منه النغم في إطراء حسنك. ولقد زيَّنتِ أعطافك بحريري، وحليتِ صدرك بجواهري. وتركتِني عارياً مجرداً من كل شيء، اللهمّ إلا من مجْدٍ كاذب. يا لَلشحَّاذ الذي يرَسُغ في أطماره، ومع ذلك تعْنو أمامه الجباه! أيها العاقدون علي مَفْرقي أكاليل الغار، خذوا أزهاركم ورُدوا إليّ أسراري. إني رثَّةٌ ثيابي. وزهركم يموت علي جبينيَ المنهوك فما أنتفعٌ به. ما هذه اللُّعَب، التي ضحكتم عليّ بها، ونهبتم في مقابلها كنوزي؟ 35 بُرجي عاجي. وسائده من حرير، ويتسلق عُمُدَه الزهر. وعندما تزورينني فيه علي غير موعد، أطفيء المصباح الأزرق، ونجلس في ضوء القمر. عندئذ أطْرح أُرْغني، وأوقِّع أناشيدي علي شفتيك. أحْلي مِن زَمْرِهِ قُبَلُنا. وصَخَبُ خلاخيلك ووسوسةُ أساورك. وصوتُك عندما تقولينَ: حبيبي! وأحلي من وردي عبيرُ أنفاسك. ومن حريري ملمسُ يدك. يا مَن بَزَّ حسْنُكِ كلَّ شيء، إني لَأنَسي بجوارك كلَّ شيء. حتي عرائسُ أحلامي، أطلِّقها حين تكونين معي. زهري يخجل منك. وحريري منك يغار. وأرغني يحسدك. أمَا ترين إلي النرجس كيف انكسف لونُه حين رأي خدك؟ وإلي الوسائد كيف تتلوَّي حقداً تحت ساعدك الملفوف؟ وإلي الأرغن كيف فَقَأتْ تمائمُك عيونَه فبدي مثقبَّا؟ قسَماً بحسنك لولا أنني أحوطك بحبي وأرقيك بقبلاتي، لخفتُ عليك من كل ما التفُ حولك. حتي ولو كان زهرةً مرموقة، أو فراشةً مجنَّحَة في الرياض. ولَمَا رضيتُ لخدك أن يتيه أمام وردة. ولا لقدِّك أن يميس بين غصون. 36 ذا مجذافي فهاكِ مجذافك. ولنْمضِ بالفُلْك إلي الشطِّ البعيد. هناك الظل وارف، وللحَمام بأعلي الأيك سجْع. حبذا غفوةُ علي هديله الناعس، تزورنا فيها الأحلامُ الذهبية! ثم نصحو علي هَرْج الكراكي في الغروب. هيّا، أعْمليِ المجذاف. وغنِّيني في سيرنا أغنيةَ ملاّح. يسافر صداها في السكون إلي أراضٍ بعيدة. هيّا وغالي الأمواج. تلك التي جَعلتْ مِن فلْكنا أرجوحة. عجَبٌ لهاَ! في النهر راقصةٌ بَطِرة، وعلي حَوَافيِ المجذاف دمْع! يا بُشْرانا! الفُلْكُ من الشَّطِّ دنا أمَا تَطرق سمعَك وقْوقةُ البجع؟ وصَخَبُ الأوزِّ، ذلك الثرثار؟ ما أجمل نَزَقَه! انظري كيف اندفعَ زُمَراً في طيش، وفي النهر غطَس! خلِّي المجذاف. ودَعي الزورق يرسو. أين ذراعك؟ ناولينيه. ولْنقفزْ معا. سنجلس فوق المنحدَر، في ظل هذا الخيزُران. حيث يتلاقي ماءُ وخضرة، ومحياك الحسَن 37 أحبكِ في الليل. حين يغمرك شعاع القمر، وظلالُ الغصون تتيه علي خدك. حين يبدو شَعرك كدُجُنَّة، وعيناك كنجمتين. أحبك في الليل. حين نَسْرِي في الروض كفراشتين، يَحفُّ بنا الزهر، وتزقُّنا الجنادب. وحين تصخب في السكون دقاتُ قلبينا فنَجِف. أحبك في الليل. حين نَلجُ الخميلة فنوقظ الطيرَ الراقد، ونقلق الهَوَامَّ المختبئة. ثم نمتزج معاً في قبلةٍ تدنينا من السماء. وإذا بنا نَري الليل في مهده، والدراري في في أفلاكها.