آخر المساهمات
2024-05-04, 8:54 am
2024-05-04, 8:53 am
2024-05-04, 8:49 am
2024-04-28, 10:02 pm
2024-04-20, 2:14 am
2024-04-20, 1:54 am
2024-04-02, 5:16 am
أحدث الصور
تصفح آخر الإعلانات
إعلانات مجانية على نوسا البحر مشدات تخسيس إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر مشدات تخسيس إعلانات مجانية على نوسا البحر

5 نتيجة بحث عن وديع_سعادة

كاتب الموضوعرسالة
الوسم وديع_سعادة على المنتدى نوسا البحر T11موضوع: ديوان نصّ الغياب كاملا وديع سعادة pdf وقراءة مباشرة
hassanbalam

المساهمات: 0
مشاهدة: 524

ابحث في: مرتفعات أو سوناتا الكلام   الوسم وديع_سعادة على المنتدى نوسا البحر Untitl13موضوع: ديوان نصّ الغياب كاملا وديع سعادة pdf وقراءة مباشرة    الوسم وديع_سعادة على المنتدى نوسا البحر Icon_minitime2020-12-14, 4:31 pm
[center][size=18]@hassanbalam
#وديع_سعادة
وديع سعادة الأعمال الكاملة قراءة مباشرة
تحميل الأعمال الشعرية الكاملة وديع سعادة
تركيب آخر لحياة وديع سعادة

ديوان غبار كامل وديع سعادة
قصيدة الطريق وديع سعادة
من أخذ النّظرة التى تركتها أمام الباب

#نص_الغياب
الوسم وديع_سعادة على المنتدى نوسا البحر P_1809w95ch1

ديوان نصُّ الغياب

إنها الكلمات الأخيرة... وها أنا أهْجرها

هل أقول الوداع للكتابة؟

أقول الوداع.

حوار الكتابة حوار الصمت. زمن الكتابة زمن الغياب. مكان الكتابة عدم المكان.

لا حياة بالكلمات. الحياة قد تكون هناك، خارجها. هناك قد يكون الآخرون، وأنا أيضًا. في المقلب الآخر من الكلام، خارج النَصِّ.

الكتابة غياب الحياة. الحياة قد نصادفها بالمشي، قد نصادفها بالجلوس، تحت شجرة أو على رصيف. ربما تأتي سهوًا، بقبلةٍ أو برصاصة، لكن ليس بالكتابة.

أَرشُّ على هذا الثوب الذي أرتديه سُمًّا للكلمات وأركض مجنونًا باحثًا عن الحياة. تسميم الكلمات هو الطريق القويم. موت الكلمات هو كلمة الحياة الأولى. لثغها الأول.

يا طالعةً من فمي إنكِ تقتلينني!

ليس بخنجر الخيانة وحده بل بسيف الشطْب هذا القتل. بالرمي من السطح النيّر إلى لجَّة المتوهَّم الغامض المستحيل. بوقد النار في القلب والأعضاء، وتوزيع المفاصل في الشتات.

مشيٌ على الغيم، والسقوطُ رذاذًا.

دخولٌ في غرفة الموت، فيما الحياة تلعب على الطرقات.



في رحلة الصيد الطويلة لم أكن غير كشَّاشٍ لأرواح الكلمات. النصوصُ حمائم جافلة تطير من أمام المؤلِّفين.

سرابٌ يمدُّ دربًا لا بيت على جوانبها، ولا شيء في خاتمة المطاف. يمدُّ حبال مشانق للسائرين.

وما دمتُ عرفت، لماذا عليَّ أنا النحيل أن أبقى معلَّقًا بهذه الحبال، لا ميّتًا ولا حيًّا؟ نحيلٌ لا يُميتني الحَبْلُ، ومعلَّقٌ أبْعدَ قليلاً من يد الحياة!

أنا الذي لا يُستساغ لقمةً، لماذا عليَّ أن أبقى فريسةَ ما لا يُستساغُ أن يكون صاحب الوليمة؟

معلَّقٌ على حبل، معلَّقٌ على ورقة، منتظرًا حياةً تطلع من شقوق الكلمات.

لا أعرف حياةً طلعتْ إلى كتَّابها من هناك. أعرفُ كتَّابًا ماتوا على الحروف، وكتَّابًا ماتوا على النقاط، وكتَّاباً ماتوا على هامش الورقة... ماذا أنتظر من الكلمات؟ أريد البياض.

بحثٌ متوهَّم عن حياةٍ متوهَّمة، الكتابة. ليس صحيحًا إمكانُ استحضارِ غيابٍ بِنَصٍّ. لا الميّت ولا الحيّ. ليس صحيحًا ما اعتقدتُه في رحلة هذا الوهم الطويلة. الغيابُ عدَمٌ والموتُ عدم، لا يمكن استحضارهما. نصير غيابًا، نصير موتًا، في رحلة هذا الوهم.

الكتابة، مرادفٌ للموت.



كنتُ أظنُّ أني سأبني وجودًا من خيال. أنَّ التخيُّل يُحيلُ الخيالَ جسدًا، والكلماتِ تبني بيتًا، أكون فيه لا قُبالتَهُ.

مشيتُ طويلاً في خيال اللغة، حتى انكسرتُ في وهمها. مشيتُ في اللغة بحثًا عن موطني، حتى اكتشفتُ أني أبحث عن وهم. ولأنّ اللغة كانت هي موطني، فإني ما سكنتُ إلا في الغياب.

لم أكن غير كشّاشٍ لأرواح الكلمات. تلك التي خرجتْ من فمي، وروحي، وغابت بعيدًا. أتذكّرُ منها الآن النقطة الأخيرة الواهية في الأفق القصيّ. أتذكر منها عيونًا خرجت فجأة، التفتتْ إليَّ بلومٍ وغابت سريعًا. أتذكّر ريشًا تناثر بطلقات، وريشًا مستعجلاً للهرب، وخطًا دقيقًا رَسَمَه هذا الهروب في الفضاء، وامّحى بلحظة.

لم أكن غير كشّاشٍ فاشل لأرواح الكلمات.

لا مكان للكلمات، إنها حالة غياب. حالة استحالة. تأتي كانما ظِلٌّ أتى وتذهب كأنّما ظِلٌّ ذهب، ولا وجه لها أو قامة أو مكان.

ظلالٌ، ظلال، و لا أثر.

كلماتٌ كثيرة، ولكن يُستحالُ قولُ أيّ شيء.

ظلٌّ يمرُّ أحيانًا، يمرُّ دائمًا، لكن لا صاحب له، ولا مقعد، ولا معبر، ولا كلام مع العابرين.

الكلام هو خيانة المكان.

والمكان هو خيانة الكلام أيضًا.

فلأمضِ إذن. لا كلام ولا مكان لي.

كنتُ ظلاًّ، كنتُ كلامًا خائنًا، فلأمضِ.



الرغبات ترتدُّ على أصحابها. فلأمشِ بلا رغبة فوق هذا الجسر النحيل لأنَّ أيَّ سهم سيُسقطني. أيُّ سهم وربما هبوبُ نسيم. صائدو الرغبات طرائدُها، يَسقطون الواحد تلو الآخر كأنَّما العبور فقط لغير الراغبين.

فلأمشِ، ولكن ببطءٍ، بلا رغبة. فلأمش فارغًا، ربما أصلُ سليمًا. الحمولة تزيد من ثقلي، فيهوي سريعًا هذا الجسر.

على الذين يريدون العبور أن يتجرَّدوا، لا من ثيابهم وحدها بل من نفوسهم أيضًا!

... لذلك، لا عبور.



كنتُ، فقط، أحاول العبورَ بالكلمات: إرسالَ صوتٍ ليعبر عنّي فوق هذا الجسر. لكنَّ الصوت لم يكن يعبر، وكان صداه يرتدّ، ليقتلني!

كنتُ تقريبًا ميّتًا دائمًا. كنت مجموعة موتى: ضحيةَ كل صوت وكل صدى. ميّتٌ حين أُرسل الكلام وميّت حين أتلقّى صداه. ولأني تكلمت كثيرًا، متُّ كثيرًا... والآن أريد الصمت، أريد أن أحيا.



أضعُ أمامي المرآة وأنظر، أنا الميّت!... ماذا لا أرى غير عينيَّ، وغير يديَّ ووجهي وروحي؟ النسماتُ هناك، وارتطامُ الفضاء بها. الشَعرُ قربَ الضباب. الجنون قرب الماء. الغناء تحت الغيمة. البحر فوق القلب. النبع ناحيةَ الغبار. الوقت مع الحجر. الدمُ مع الآية. الضوءُ النائسُ في خيمة الثعبان.



صوتي هناك يحاول وحدَه عبُورَ الجسر، حَذِرًا مرعوبًا، موازيًا طرفيه، متجرّدًا من كلّ ثقلٍ حتى من صداه... يحاول، علَّه يعبر.

صوتي هناك وأنا هنا.

حتى لو عبر، هو هناك وأنا هنا. مفصولان مقطوعان مقطَّعان لا كلام بيننا ولا قرابة ولا نظرة.

كان ذات يومٍ، ربما، صوتي. لكنه وحده هناك، على ذاك الجسر، ووحدي هنا، في خيمة الثعبان.

لا عبور، حتى بالكلمات! لكأنَّ الخطوة الأولى هي الأخيرة. لكأنَّ الوقوف هو كلُّ المسافة، كلُّ الطريق!

كانا، ذات يوم، رفيقين، الصوتُ والثعبان. لعبا على التلال، تراشقا بنقاط الندى التي تكاد لا تُرى.

كان الصوت والثعبان رفيقين يتراشقان بالندى... وأصابت الصوتَ نقطة، فاستردَّه الفضاء!

عاش وحيدًا هناك. وكانت دموعه تنزل، تقطع المسافات النائية، إلى فم الثعبان.

للصوت رفيق واحد: الثعبان. يلعبان معًا، ويَقتُلان معًا!.



يا طالعةً، رديئةً، من فمي.

يا طالعةً لكي تلعبي مع الثعبان وتقتليني.

لديَّ ندىً. على العشب في حديقتي الخلفية.

ليكنْ تراشقكما بالندى في الليل. فلا يراكِ الفضاء فيستدعيكِ. والعَبا همسًا. واقتلا همسًا. فربما الجيران يريدون أن يناموا.

كنا ننام تحت صوف الهندباء، ننام صامتين. عوض الأصوات نُطْلق حياءَ الوقت، فيمشي بين النعوش و الذاكرة. وعلّنا نطير، نشرب خمرًا من حناجر عصافير ميّتة.

الآن، خيمةُ الثعبان. الغصنُ اليابس أمامها، من بقايا غابة سحيقة، يَفتح و يُغلِق الباب.

الآن شمالُ الخرابِ جنوبُ الرماد، المشنقةُ التي احتفظت بالقميص!.

الغصن أعلى قليلاً من قامتي. لذلك لن أصطدم به، سأدخل، من دون أن أحني رأسي.

الآن وقتُ العظام. وقتُ البياض في الجسد. وقتُ المنسحب على مهلٍ من اللحم. الذي يُرمى و ينزوي، شاهدًا وحده أنه كان، أنه لم يكن. وقتُ غبار العدم. وقتُ العدم بلا غبار.

المنسحبُ بخفّةٍ من يد الوقت، من طيف المكان، من ظلّ الملاك.

الذي كان سنبلةً بحبوبِ عيونٍ غريبة. المنسحبُ من الحقل أبيضَ، ناصعًا، إلى الحدّ الذي لا تطاله الرؤية، إلى حدّ العدم.

لم يكن لدى العظام كلام. كان هناك شيءٌ هيوليٌّ لزج، حائرٌ معدَم، تريد الجهْرَ به. تبحث له عن لغةٍ علَّه يحيا فيها.

في ذاك المكان النائي. على سرير صغير، بدأت حيرةُ العظام. هناك بدأ خَرَسُها و بحثُها عن لغة. في ذاك المكان حيث اللغة لم تكن وُلدت بعد، و حيث كانت شجرة، تَسقط أوراقُها واحدةً بعد أخرى، بصمت.

لم يكن للكلمات مكان.. في البدء لم يكن كلام، كان الصمت. وحين انبثقت الكلمات بدأ طريقُ الموت.

أحملُ الآن هذه العظام الحائرة البيضاء، وأرميها في صمتها الأول.

أضعها في انعدام اللغة، في السرير الصغير.

كلُّ ما تعلَّمتُه من كلمات، ما رفعتُه من آبار الأجداد، ما برقَ و ما انحجب وما أُرسلَ في الجهات، أعيده إلى صمته.

أمدُّ إشارات يدي إلى الأصوات التي صارت بعيدة، وأُعيدها إلى الحنجرة. أفرشُ لها قميصًا تحت صوف الهندباء، وأنام قربها.

في هذا المكان الضيّق، حيث يلعب النيامُ والموتى الورق، ويتبادلون الأدوار.



بحثٌ متوهَّم عن المكان، الكتابة. بحثٌ متوهَّم عن الزمن، عن الحياة، عن الحريَّة... بحثٌ متوهَّم.



الكتابة لا تسكن في الحياة. مسكنُها في مكان آخر. على الحافة. في المتوهَّم.



الكتابة مسكنها وراء الباب. تطرق لكن لا يُفتح لها. ربما لأن لا أحد في الداخل. ربما لأنَّ الداخل فراغ. ربما لأنْ لا داخل.

أين الحياةُ و المكان والزمان؟ إذا كانت في الخارج لماذا، ونحن في الخارج، لا نراها؟ وإذا كانت في الداخل لماذا لا ينفتح الباب؟

أنا الكاتب أعترف: بحثتُ في الكتابة طويلاً عن الحياة ولم أجدها. لم أجد الحياة ولا الزمن ولا المكان ولا الحرية. الحرية؟

بديهيٌ أن لا حرية. الحرية؟ كيف تكون حرية ما دام لا حياة؟ نخترعهما، قالوا. صحيح، وها نحن نخترعهما. ولكن من موادّ وهمية غير قابلة، هي أيضًا، للحياة.

لماذا أكتب إذن؟ ما دمتُ عرفت، ما دمتُ اكتشفتُ هذا الوهم، هذه الكذبة، لماذا أكتب؟

عليَّ، على الأرجح، أن أعيد تركيب نفسي. أفكّكها قطعةً قطعة، أرمي اللعين منها وأُركّبها من جديد. لو أن النفس آلة، لو أني فقط أرى قِطَعَها.

تائهٌ في العاصفة وأبحثُ عن آلة! تائهٌ ومنهوب. نهبتني الريح وأريد استرداد ممتلكاتي.

أريد الحلية التي وَهبتْها لي أمي. أريد الطير الذي جلبه لي أبي. أريد ريشة الروح، حدقةَ الفضاء أمام الباب، حليبَ الحجر الذي كان يدفق من نظرتي.

وإذا كانت هذه كلُّها من المنهوبات، ألم تكن لي في الماضي على الأقل نفسي؟

الآن إذًا أريدها.

وإن لم تكن لي، أريد زهرة، لجثمانها.

أريد استرداد ممتلكاتي: الدربَ الأولى، غبارَها الذي علقَ على قدميَّ فصار لي، نجمةَ الوعود إذ يأتي الغروبُ وأنا نائمٌ تحت لوزة. ممتلكاتي: نظراتي التي أرسلتُها بحنانٍ ولا أزال أنتظر عودتها، يدي التي العابرون ظنّوها كمانًا، لهاثي الذي امتزج بنسيمٍ خفيف، ثم تحوَّل ريحًا ترتدُّ الآن إليَّ وتنهبني.

كم الساعة الآن؟

أعرفُ أن المرضى في الغروب يهلوسون هكذا. أنَّ الحُفَرَ التي تركتها ضواري النظرات ستبقى فارغة. وأنَّ رصاصة الجنون، ورصاصة الحكمة، كلاهما تصيبان المقتل نفسه.

لم أكن في الماضي أعرف كلَّ هذا. كانت الأرض مستديرة، لا أرى مقلبها. الآن الأرضُ مستطيلة، صحراءُ شاسعة، وقوافلُ طويلةٌ من البشر والشجر والبغال، موتى فوقها.

خطٌّ واهٍ في البعيد، خيطٌ مشنوق، أريد عبوره. وكلَّما خرج من الخيط نسلٌ، ظننتُه أولادي.

أحيانًا تحدّثني الذاكرة عن الأرض أنا العاري، فأمدُّ يدي إلى معطفها المرميّ على كرسيّ قديم، وأحاول أن أتدثّر به.

أُجرّب أن أقنع نفسي بأني، من هذه الخيوط البالية، سأصنع كنزةً لأولادي.

أين المقيمون في البرْد؟ فليجتمعوا الآن في طابور، والمقيمون في الحرارة في طابور آخر: يجب فرْزُ الناس وحراراتهم، يجب خلق التوازن بين صقيع البشرية وحرارتها.

التوازن بين المعطف والكنزة المكرورة. وإلاّ الأرض ستقع.

كلامٌ بكلام. فقط كلام قليل للاجدوى كثيرة. كلامٌ للريح، للنظرة، للظلّ، للثعبان. للخيط المسرِّح نسلَه، للمشنقة المحتفظة بالقميص.

كلامٌ للذين لا يسمعون.

اعطني النعشَ في الصباح اعطني الغيمةَ إلى الوسادة. طُلَّ من الشبَّاك واقطعْ رأسَ الزنبقة. صِدِ الثوبَ الخائن في الفضاء. صِدِ المجنونَ المنحني على النبع.

إقطعْ عنقَ اللعة. أَرْهبِ الكلمات، شَرْذِمْها وشرِّدْها. اخنقِ الأسلوب. فظِّعْ بالأصول والمنطق وبأعدائهما. خذ الصوتَ إلى الحديقة، خذه في نزهة، مع الجُمَل، وارمهما في النهر.



لا، لا. دَعْ بطنَ اللغة تحبل بكلماتٍ بَعد. كلمات يظنُّ آباؤها وأمهاتها أنهم سيداعبونها كالأطفال، يغسلون وجهها ويمشطون شعرها ويجلبون لها الألعاب... دع آباء اللغة وأمهاتها يحلمون بأولاد، هذه سعادتهم لا تخرّبْها. فبطن اللغة حابلٌ بكلمات تولد ميتة، دعْهم على مهلهم يعرفون. دع الوهمَ يُسعد قلوبهم، واتركْ للَّغة شأنها: التلاقح من الصمت والاستحالة، من الغياب والغيبوبة، من الموت والموت.

العتمةُ وحدها قد تكون الحياة، الخصوصيُّ الذي لا يُرى، لا يُقال، لا يُفعل.

هل كان عليَّ قَفْلُ الأبواب وإسدال الستائر وإطفاء الأضواء لكي تكون لي حياةٌ ولغة؟ آنَ عَبَرتا العتبة واختلطتا مع خارجين كثيرين، فقدتُهما... لكني، حقًا، لم أكن أجدهما في الداخل. ظننتُهما في الخارج، في حانةٍ أو تحت شجرة أو على رصيف. ولم تكونا لا في الخارج ولا في الداخل. أين الحياة و اللغة إذًا؟



الساعة تدقُّ دقّاتها وأنا واقفٌ تحتها، أسمع الرنّات تجري في الفضاء وتختفي.

واقفٌ تحت الساعة. لا أجري مع الرنين بل أسمعه وأُشيّعه وحسب. ثابتٌ في المكان وثابت في الوقت. رنّاتٌ متواصلة سريعة لا أميّز بينها. الأولى شبيهةُ الثانية شبيهةُ الألف شبيهةُ المليون. وأنا تحت الرنة الأولى شبيهي تحت كل الرنين. واقفٌ في ساحة الأصوات في موج الأصداء جامد.

يحطُّ على رأسي طير كما يحطُّ على تمثال ويطير. تلمسني سمكةٌ وتمضي.



لا مكان للمشاعر كي تذهب إليه. لا فسحة لتحريك العواطف. لا مسافة بين الجدران.

ولا مكان للكلمات ولا زمان كي تتحرك أو تحيا.

هل المكان والزمان وهمان أيضًا نحاول أن نبني بهما ملجأ؟ لكنْ لا قصب يكفي لنصْب هذه الخيمة. لذلك نقعد ونعزف موتًا للهواء.

تعبر الريح تاركةً موتى على أبوابنا. ننادي من الداخل يائسين: من سيطمر موتانا؟ أجدادنا الأوائل كانوا يدقّون الصخر ليلاً نهارًا لحفر حوض يزرعون فيه موتاهم. يزوّدونهم بالذهب والمال كي يدفعوا أجرة السفر إلى الخلود. نحن موتانا على الأبواب مَن يطمرهم؟ ومَن يطمر موتانا في هذه الغرفة، الممدَّدين منذ مئات السنين فوق الإسمنت، طبقاتٍ طبقات، حتى صار هذا البناء كلُّه من مادة الموت، وصرنا، نحن، نتاجَ جبلة الأموات.

أحاول أن أُطلَّ برأسي من فوق الردم. أن أُرسل صوتًا حادًا يخترق العظام واللحم البالي، عَلِّي ألمح ما وراءها. فقط بوصة، بوصةٌ واحدةٌ مضاءة، وراء هذا الموت، تكفي.

لكن، فَلأَنَمْ. كفنُ السماء ينزل على الغرفة ويغطِّيني. لأنمْ بالراحة نفسها التي للقطعان. التي للجماد، للرماد. لأنمْ من أجل الجرح الذي لا يستطيع الحراك. من أجل الحلم المُقعَد ومن أجل النسيان. لأنمْ وأتدثَّرْ بما تبقَّى على الطاولات والكراسي من موتى. لأنمْ بتواضع ولا أذهبْ بعيدًا، فأظنَّ أني حي.

هناك كلمات تطلع من تحت التراب، أَسمعُها تخرج من بين الفكوك العظمية المتناثرة لموتى، دُفنوا من ألف عام. فكوك تعوم فوق الثرى لتقول كلمة. وفكوك لتقدّم قبلةً لم يتسنَّ لها، في الحياة، أن تقدّمها.

عظامٌ تخرج لتضحك، وعظام تخرج لتلعب، وعظام لتتفقَّد أمكنتها الأولى، وعظام لتجيل نظرها علَّها ترى الأرض التي عاشت فوقها، ولم تكن تراها.

تخرج العظام من تحت التراب كي تفعل ما لم يكن أصحابُها يفعلون فوق التراب.

من هذه الكوَّة، من العظْمة، أحاول أن أُطلَّ على العالم. عَلِّي أفعل اليوم ما سأخرج من تحت التراب كي أفعله بعد ألف عام. عَلِّي أضحك الآن وألعب و أرى الأرض، وأقول الكلمة التي أرغب في قولها، وأطبع قبلتي على فم الحياة.

قُبَلٌ كثيرة مطبوعةٌ على موتي. لكنني أريد قبلة واحدة للحياة.



قيل، الحلمُ يشفي من مرض الكلام. يجد الزمنَ الضائع ويوجِد المكان. قبلةُ الشبق الجميل، رنَّةُ ساعةِ النبع الباهرة، وعينُ النهر.

وقيل، مهما خبا الحلم في العتمة مهما هُزم في الضوء سيصير ذات يوم، فَرَسَنا، أثاثَ بيتنا وكسوةَ جِلْدِنا. سيصير لَحْمَنا نفسه، وعظامَنا.

وهْمٌ آخر يضاف إلى تراث الشعوب. كلمةٌ أخرى خائنةٌ في اللغة. خيمةٌ منكسرة، يحتمي بها المهزومون، في تاريخِ حروبٍ طويلةٍ كلُّ مقاتليه منكسرون.

... لتكن الأحلامُ عمياءَ فلا تراني وأنا ألقي مصيري بين السنابك.

وليكن خنْقُ الأحلام رايتي وأنا أخوض هذه المعركة، فأَصِلَ إلى الهزيمة وليس برفقتي كائنٌ بريء.

يحارب الكتَّابُ بالأحلام والكلمات، ويسقطون تحتها. ينهزمون بالأسلحة التي يحاربون بها. يموتون في معركةٍ أعداؤهم فيها هم ذواتُهم نفسُها.

ينهزم الكتَّابُ بأطياف حَمَام الأحلام. بزجاج الكلام الشفَّاف، المشظَّى في أفواههم. حين يتلفّظون بكلمةٍ يُجرَحون، يختنقون... حين يتكلَّم الكتَّابُ يبتلعون الزجاج.

أحملُ ثنيةَ ورقة، كتبتُ بضع كلمات عليها، محاولاً بها أن أهزم التاريخ!

ثنية ورقة، أحاول بها أن أوجد المكان والزمان. أن أمحو عدمي، وعدمَ آبائي وأجدادي، وأجعلَ أحلامهم تولد وتلعب معهم، وعظامَهم تعود، وفكوكهم المبعثرة تلتحم.

ثنية ورقة!

وبين الطيّة والطيّة قصور ممالكنا، سبايا أمكنةٍ شَرَدَتْ ثم التقطناها ونحن نغنّي، سفنٌ تبحر على لعاب رغباتنا، ولهيبُ شَيِّ الأشرعةِ حتى لا يكون بعدنا بحر.

ثنيةُ ورقة، ثنية وهْم، غيمٌ بعيد، نحطّمه بأحجار عيوننا.

فليرأف الكتَّابُ بحياتهم، هذا الطائر الذي يحاول أن يلمسهم فيقتلونه.

ليرأفوا بحياتهم فلا يأخذوا البريء إلى المشنقة.

كان يمكن أن نأخذ حياتنا في نزهة. لكننا أخذناها فورًا إلى المعركة. حتى أننا لم ندعها تقطف عن الطريق زهورًا كي يكون لها رفاق تحت الكفن.

كان يمكن أن نتسلّح بالجنون. أن نقتل العقل لننجو.

رأينا في طريقنا مجانين سعداء وحيواناتٍ هانئة. ولم نسمع الشجر يصرخ تحت فؤوس الحطَّابين، بل سمعنا الحطَّابين يئنُّون وهم يقطعون الشجر.

كان يمكن قتلُ الذاكرة ومرافقة الطيور. تطوافُ الأرض معها من دون ذاكرة الوصول.

كان يمكن قتل ذاكرة الرغبة، ذاكرة المكان، ذاكرة الخلاص، ذاكرة السعادة، ذاكرة التاريخ... وذاكرة الحياة!.

كان يمكن قتل ذاكرة البحث عن الحياة وعيشُ الحياة نفسها. كما هي. من دون هواجس اختراع أوهام لتغييرها، ولا ألوان لتجميلها، ولا أطر لاحتوائها، ولا مكابح لانجرافها الفظيع.

كان يمكن عيش طوفان الحياة بلذَّة، فقط لو استسلمنا له صامتين، بلا مقاومة و لا كلام و لا أحلام.

لا يحيا سوى الذين نسوا لغة أجدادهم. الذين كسروا زجاج الذاكرة وارتموا في النهر. الذين نسفوا الملاجئ المقدسة وساروا في المتاهة.

لا يحيا سوى الذي رموا آباءهم في الآبار.

لم ارمِ أحدًا في البئر ولم أكسر شيئًا.

هل أنا ميّت إذًا؟



عميقًا في العتمة، عميقًا في الحفرة، تعيش البذرة بالصمت. الصمت ينميها، الصمت يحفظ لها الحياة. ما أن يُطلَّ برعمٌ منها على الأصوات حتى ييبس، ما أن يُطلَّ على الضوء حتى يحترق.

في هذه الحياة الداخلية كان يجب العيش بلا عين، بلا فم ولا أُذُنٍ ولا يد. الأشياء تكبر وتصغر بلا إيماءة من أحد. بإيماءة العتمة وحدها، العتمة التي لا تومئ.

هناك حاولتُ أن أبني بيتًا وتكون لي حديقة. لكن الحجارة كانت دائمًا تنهار. ليست الأيدي هناك ما يبني بيوتًا. هي سهوًا ترتفع، و إرادة البناء تهدمها.

كانت لي خيولٌ هناك، تأخذني في المجاهل الجميلة. تناديني بهمسٍ لا يُسمع، بإشارةٍ لا تُرى، فأمتطيها.... وآنَ أردتُ سياسة خيولي، سقطتُ ميّتًا بحوافرها.

عميقًا في العتمة، هناك المكان. حيث نحن الحديقة و البيت. والآخرون اختراعُنا.

هناك نحن، وآلاتُنا الخفيَّة الغريبة التي تفقّس الغرباء.

لا ممرَّ للآخرين من هناك. فقط نخلقهم و ندفنهم. نخترعهم بشرًا غير حقيقيين، لنلهو معهم، ليكونوا لُعَبًا فقط، ثم ندفنهم.

بالآلة ذاتها التي تخترع الغرباء أُحاولُ اختراعَ نفسي أيضًا. في هذا المكان المعتم العميق، حيث لا إشارة لولادة ولا لموت. حيث لا إشارة، حتى لمكان.

لكنْ، الآخرون وحدهم يمكن اختراعهم، أما ذاتُنا فلا. هي تولد في مكانٍ بعيدٍ منا، وتعيش في مكانٍ بعيدٍ وتموت في مكان بعيد.

يمكن، أحيانًا، إذا اقتربتْ، أن نلمحها. نعيش قبالتها مغمضين، ولا تنفتح أعينُنا على اتساعها إلا آنَ تقول الوداع.

هل الكلمة هذه، هل قولُ الوداع هو ما يجعلنا نرى؟

هل هذه الكلمة وحدها هي كلُّ الحوار وكلُّ الحضور؟ كلُ الزمان والمكان والحياة؟ هل هذه هي الكتابةُ كلُّها والنَصُّ كلُّه؟

إذنْ، لا يكتبُ الكتَّابُ غيرَ غيابهم؟

لا يعيشون إلاّ غياب مكانهم وغياب زمانهم؟

و الرؤية، هل هي مجرَّدُ انعكاس الغياب؟

كيف لنا أن نبنيَ إذنْ وجودًا من هذا العدم؟

كيف للكتَّاب أن يكتبوا حضورًا لا غيابًا؟

وما يرونه، كلُّ هذا الذي يرونه، مجرَّدُ لمعانٍ داخليٍّ متوهَّمٍ لعدمٍ يظنُّونه وجودًا؟

هل يعني هذا، بالأحرى، أنَّ الكتَّابَ لا يكتبون غيرَ موتهم؟ غيرَ وهْمِ وجودهم و حقيقةِ عدمهم؟

... وإذًا، هل الكتَّابُ حقًا موجودون؟

بالآلة الغريبة ذاتها يحاول الكتَّابُ اختراعَ أنفسهم. فلا يخترعون غيرَ صورٍ لغرباء، صورٍ لغائبين.

الكتابةُ لا شيء إذًا سوى كتابة الغياب. الكتَّابُ هم: غيابُهم.



لأنزلْ إلى أسفل النبع و أغسلْ وجهي، عَلِّي أصحو من هذا الغياب.

أطلقتُ أوهامي عاليًا جدًا، أعلى من هذا الفضاء الذي لي، فشردتْ و ضاعت مني.



لم أكن أملك غير هذه الأوهام. وحدها كانت ملكي. لكن حتى هي لم تعدْ لي. فلأنزلْ إلى أسفل النبع وأغسلْ وجهي.

على البشر أن يحتفظوا بأوهامهم، أن يداروها فلا تغادرهم. سيحتاجون إليها لكي تؤنسهم.

على البشر ألاّ يزجروا أوهامهم. فَلْيحضنوها بحنان، وإلا ماذا يبقى لهم؟

الأوهام حياتُنا. فلنحتفظْ بها لكي تكون لنا حياة.

سباني الوهمُ صغيرًا وطار بي، حتى خلتُ نفسي الطيرَ وكلَّ الأرض شجرتي.

أردتُ تقويمَ المناخاتِ و تقليمَ العواصفِ وجزَّ نتوءاتِ الجبالِ ومجاهل الأدغالِ وعملتُ ليلاً نهارًا على ترويض الأرضِ موهومًا وسعيدًا.

هُزمتُ لكنَّ وهمي كان يسعدني.

وآنَ اكتشفتُ أنَّ وهمي وهمٌ، آنَ لم أعدْ أقنع نفسي بوهمي، خررتُ صريعَ يأسي.

الوهمُ إذًا هو السعادة. والحقيقة هي اليأس.

فلنحتفظْ بأوهامنا ولْنزِدْها. لنبحثْ عن وهم آخر كلَّما ضاع وهم. لنخترعْ أوهامًا، وإلاَّ كيف يمضي كلُّ هذا الوقت!

الوهمُ نعمتُنا، إلهُنا الوحيد، فلنقدّسه.



الناسُ، هُمْ وهمُهم.



بعد كلّ هذا الدوران في فراغ، فلتخرجْ على الأقلّ كلمةٌ من فمي، وتدلّني إلى الطريق.

لتسبقْني وتَدُلَّني إلى النبع، حيث عليَّ أن أغسل وجهي.

لتنطلقْ كلمةٌ حادَّة من فمي وتثقب العظْمة. لتفتحْ كوَّةً إذا كان عليَّ أن أرى، منفذاً إذا كان يجب أن أخرج، دربًا إنْ هناك عبور.

كلماتٌ كثيرة خرجت من فمي. لكن، ما جدواها؟ كلماتٌ لا تُحصى درات في فراغ. لو رُصِفَتْ لكنتُ أملك جبلاً. ولكن من رماد.

ما جدوى جبال الكتَّاب المرمَّدةُ هذه؟ ما دام الرماد لا يدفئ، لا يضيء، لا يصلح لبناء غرفة، ولا للمشي عليه.

أليس على الكتَّاب و الناس أن يتدفأوا بصمتهم؟ أن يعرفوا أن الصمت هو غرفتهم الوحيدة، ووراءها لا حديقة ولا طريق؟ لماذا إذنْ يهدمون هذا الهيكل، هذا الصمتَ المقدَّس، وينامون عراةً في الكلام، مرتجفين من البرد وخائبين وخجولين؟

حين يتكلَّم الناس يبردون، يمرضون. تتفتَّق المعاطف التي سترت أرواحهم، وتتعرَّض أنفسهم لأوبئة الهواء وعوراتُهم للعوام.

حين يتكلَّم الناس يرصفون أمراضًا. يرصفون هلوساتٍ وسرطانات. يسكنون فيها وتسكن فيهم ويبنون مدنًا. وتصير مدنُهم وسكَّانُها تحت نير ظلم الكلمات. تصير مستعمراتٍ للأصوات. سبايا للنطق، وسبايا للرؤية، وسبايا للكتابة. تصير كلّ التعابير في محاكم التفتيش. ويُعدَمون جميعهم في ساحات الكلام. في الساحة التي قالوا فيها كلماتهم، والساحة التي ظلّوا فيها صامتين.

جحافل كثيرة مرَّتْ حوافرُها فوق كلماتنا. دهَسَتْها قبل أن ننطق بها، دهَسَتْها حتى قبل أن تولد.

لذلك حين نتكلَّم لا نقول غيرَ الممعوس من أصوات الأجداد. نقول اللغةَ المغزوَّة، اللغةَ المسبيَّة، اللغةَ القتيلةَ التي لا يطلع من حنجرتها غيرُ حشرجات، غيرُ أصواتٍ ناقصة، وغريبة.

حين نتكلم، نرصف جثثًا.

ليست لدينا لغة. لدينا حشرجات، من لغةٍ قتيلة، غابرة.

شبهُ أصوات زحفتْ إلينا من موتانا، عبر المتاهات، عبر آلاف السنين، غامضةً وغريبة.

ليست لدينا لغة. ولذلك لا اتصال مع الآخرين. لا اتصال مع ذواتنا.

وإذا كنا لا نتّصل، لا نتلاقح، كيف تكون لنا ولادة؟

هل نحن إذًا نتاج ميتاتٍ متكررة، لا نتاج ولادات؟ ولن تكون لنا لغة، لن تكون لنا حياة، إلاّ بانبعاث القتلى؟

ألن تكون لنا لغتنا و حياتنا إلاّ إذا أعدنا الحياة إلى الذين قتلناهم، وقتلتهم اللغة، وقتلهم التاريخ؟

لكن، أليس في هذا الانبعاث ذاته ما يجدّد الحلمَ بالنوم الأبدي؟



هناك أحلام، أحلام صغيرة، قبضتُ عليها وأنا أقفز فوق النهر.

كنتُ أقفز تقريبًا مشتعلاً، وقِطَعُ أحلامي كانت نثارَ هذه النار. حاولتُ التقاط البقايا الحارقة لذاتي، الجمرَ الذي لم يصرْ رمادًا بعد، مُشكِّلاُ به صورةَ طيرٍ فوق نهر.

لم أكن أنا القافز فوق النهر بل الصورة. الشبهُ المتخيَّل، المرجوُّ، الموهوم.

ولم يكن هذا النهر من ماء، بل من لمعانِ صفيحِ روحي على الصحراء.

لا ماء هنا ولا طير. فقط حلمُ ريشٍ ورجاء طلّ. ومَن كان واقفًا في هذا المكان ليس أنا. ولا شبهي ولا ظلّي. والرطوبةُ هذه، العفونةُ هذه، ليست نداي. والمتطاير، فوق، ليس جناحي.

هذا الشخص الذي ترونه الآن، الذي تقرأونه هنا، ليس أنا. هو شيءٌ آخر، مركَّبٌ من كلماتٍ قديمة رُصفتْ خطأً بعضها فوق بعض. وَصَلَ إلى هنا، هكذا بالصدفة، على حمَّالةِ لغةٍ مريضة. وَصَلَ إلى المرض، إلى المستشفى و المختبرات، وكان ذاهبًا إلى مكانٍ آخر، إلى الحقول، إلى الشواطئ، إلى المقاهي كي يشربَ نبيذًا ويغنّي.

كان في ظنّه أن الأصوات تولد للغناء لا للصراخ. للنشيد لا للحشرجة. وأنَّ الدروب تطلب رقصًا لا عبورًا.

ظنَّ الطريقَ لا للمشي بل للنوم. المشيُ يحدث وحده ونحن جالسون أو نيام. العبورُ يتمُّ بلا حركة، من دون انتقال، من دون يقظة.

ظنَّ أنه جاء من أجل أن يقعد لا من أجل أن يمشي. إذا كان عليه أن يمشي كلَّ الوقت ويُتعبَ قدميه هكذا بلا جدوى، لماذا إذن يجيء؟ المشيُ ليس مبرّرًا كافيًا للولادة. ثمة خطأ حدث بلا شك، وولَّدَ سلسلةً طويلة من الأحداث الخطأ. في البدء لم تكن الكلمة إذن، ولا الله، بل كان الخطأ. والخطأ ولَّد أخطاء، كان منها الكون.

كيف يمكن أحدٌ كلّيُّ الكمال أن يخلق كونًا بهذا النقص الرهيب؟ قيل الكونُ صورتُه. أين هو أريد أن اراه، أريد أن أعرف إنْ كان فعلاً بكل هذه البشاعة!

الخطأ انبثاقُنا ومكاننا. إنه لغتُنا ومُكلِّمنا، وفي حنجرته قنبلةٌ تكاد تنفجر، أرضٌ حائرةٌ لا تعرف كيف ستدفن سكّانها.



عليَّ أن أعبرَ هذا الجسر. الكلمات التي أرسلتُها كي تعبر عني سقطتْ في النهر، ولستُ نائمًا كي يعبر حلمي عني.

كيف يمكن عقْد صُلْحٍ بين الإقامة والعبور، بين الجسر والسقوط، بين الكلام والماء؟

عليَّ أن أعبر، أو أن تكون لي ريشة الممسوسين فأرسم كونًا جديدًا، كائناتٍ تأتي وتذهب مثل نسيم، لا آباء لها ولا أولاد، لا ترثُ ولا تورث.

ريشة ممسوسين ترسم اللهبة الرائعة لعدم استدعاء شيء، فيأتي على بريقها كلُّ شيء منتشيًا بالمجيء والنسيان.

كونٌ له بابٌ خفيف، تلمسه لمسًا خفيفًا فينفتح، تلمسه فينغلق، وأنت فيه غيرُ مرئيّ وجميل. أنت فيه خفيف فلا يُتعبك حَمْلُ ذاتك، وغيرُ مرئيّ فلا تزيد رؤيةُ نفسك من حمولتك.

بريشة الممسوسين وحدهم، لا بريشة الأسوياء والعقلاء. كونٌ لا عقل له وليس سويًا. لا أخضر ولا أصفر ولا أحمر. أبيضُ كي لا يرزح لونٌ تحت ثِقْلِ لونٍ آخر إذا عَبَرَ عليه. أبيض كي لا يكون تذكُّرُ ألوان. كي لا يكون تذكُّرُ عبور.

كونُ ممسوسين. لا هدف لهم إن أقاموا وإن عبروا. ممسوسين لا أصوات لهم، كي لا يرتطم صوتُ هذا بصوت ذاك. كي تبقى الساحةُ فارغةً، صامتة وجميلة. ممسوسين لا يرسلون أصواتًا، كي لا يكون لهم في الفضاء أولاد.

كي لا يبقى لهم أثرٌ ولا إرث.

بلا اصوات، لئلا يرث الآتون لغةَ الراحلين. فيتحرر الآتي من كلام الذاهب ويخلقُ لغتَه بنفسه، والراحلُ يذهب براحةٍ لأنه لم يترك أيَّ عبء.

لئلا يكون أحدٌ ابنَ أحد، ولا يكونَ آباء.

كونٌ يأتيك خلسةً دون أن تراه، وتذهب منه خلسةً دون أن يراك.

في الرؤية مرافقة، شخصٌ آخر، نظرات.

في الرؤية ضيوفٌ لا تتوقَّع مجيئهم وبيتك فارغ. في الرؤية واجبات، خجل، إدانة.

أرسمُ بريشة الممسوسين كونًا ممسوسًا، طيّبًا ونحيلاً يقعد تحت شجرة ويضحك. يمتزج بالنسيم، يبتسم، ويموت.

كونٌ لا يُرسم بحبرٍ مرئي، بل بالبياض... ولذلك لن يُرسم، ولن يكون.



ماذا نفعل بما ورثناه من كلمات؟ أين نضع كلَّ هؤلاء العجزة وبيتُنا لا يتَّسع حتى لنا؟

كيف نحفر المقبرة العظمى وأين؟

الأرض والفضاء مزدحمان بالأصوات. أين نحفر ولم يبقَ مكان؟ أم أنَّ علينا، بهذه الكلمات نفسها، أن نحفر المقابر للكلمات؟

كلماتٌ نحن خليطها، أطفالها، لقطاؤها. كيف نحفر لها القبر ولا ننام فيه؟ أم أن ذاك الكونَ الجميل، المرسومَ بريشة النسيم، شرطُ وجوده موتُنا؟

لتكن لنا إذن نعمةُ نسيان الجمال، نعمة موت الأحلام. الوقت يمرّ خفيفًا هكذا، بلا انتظار.

لتكن لنا نعمة اليأس، نعمة رضى الطيور المخذولة، العالية والبعيدة، النائية عن التطلّع إلى الوليمة. ليكن لنا جمال الفريسة، رضى العجز عن الإفتراس، مسحة الجمال الأخيرة للضحية، بسمةُ قبول الدم.

لنقلِب المقاييس، فَنُقِمْ للنصر نَدْبًا وللهزيمة زغاريد. لنستهجنِ العادةَ التاريخية السمجة، افترارَ الثغر عن بسمةٍ وقتَ الفرح، جاعلين النقاطَ الساقطة من العيون علامةً للغبطة، شعارًا لمهرجان الانقلاب العظيم على التكوين.

نغيّر كيمياءَ الروح، هذه التركيبة السيّئة التي أثبتت، على مدى التاريخ، أخطاءَ تكوينها.

نجعل الفشل هدفًا، الكسلَ إنجازًا، العملَ مضيعةً للوقت، العذاباتِ صديقات، ورفضَ الحياة قمةَ عيش الحياة.

نقلب كيمياء الروح، فيتقلَّص عددُ الأعداء.

نحفر المقبرة العظمى، ونحتفل بمهرجان الإنقلاب العظيم على التكوين.

نقلب كيمياءنا إلى نبات، فيصير في داخلنا شجرٌ صامتٌ وعشبٌ رقيقٌ عوض الدم الصارخ واستفحال العروق. نقلبها جمادًا هذه الكيمياء، فيصير ثمة حجرٌ يمكن الجلوس عليه.

إننا نحوّل أنفسنا جمادًا! أيُّ نصرٍ عظيمٍ هذا على شريعة التكوين!



برداءٍ عتيقٍ أَلفُّ الكلماتِ وآخذُها معي رفيقةَ الطريق. الرداءُ نفسه الذي حمله أبي، نفسه الذي حمله أجدادي.

أقول رفيقًا فيخرج من الرداء قاطعُ طريق، أقول فمًا فتخرج حبَّةُ جليد، أقول سمكةً فتخرج أفعى، أقول قلبًا فيخرج قبر، أقول حلمًا فيتدلَّى مشنوق...

هل الكلمات، إذًا، دلالةُ نقيضها؟ فقط رغبةُ قولٍ دفينة، ما أن تخرج حتى تصير فعلاً آخر، لا علاقة له بالقول ولا بالرغبة؟

هل كانت هذه الكلماتُ كائناتٍ حيَّةً ذات يوم، ثم ماتت، ونحن اليوم لا نرى غيرَ طيفها، وما ننطق به هو فقط شبحُ روحها الهائمة؟

كيف زحفتْ هذه الأطياف، عبر آلاف السنين، في الوحل و النار، كي تصلَ إليَّ و أعتقدَ أنها جاءت لكي تبني حياتي؟ والآن، هل أنا الآن أتكلَّم موتًا أم حياةً؟ هل أنا حيٌّ ويخرج من فمي موت؟ أم ميّتٌ وما يخرج من فمي هو لثغ الحياة؟

بالحجارة القليلة التي في فمي أحاول أن أبنيَ حياةً بعدما رصفتُ أيامًا كثيرةً من الموت. أحاول أن أخترع كلماتٍ لا تكون دليلَ نقيضها. حين تخرج من فمي لا تكون رغبةً في القول بل فِعْلَ الرغبة. أحاول حين أقول سمكةً أن تأتي سمكة، حين أقول رفيقًا أن تصير رغبتي جسدًا وأرى الرفيق، وحين أقول قلبًا أن يأتي إليَّ بائع الزهور.

ولكن، لكي يكون ذلك، ألا يجب تغييرُ كيمياء الكلمات، وتغييرُ كيمياء الناطقين بها أيضًا؟

أم أنَّ اللغة ليست هي الرغبة، ولا الفعل، بل النثارُ الباقي من ذواتنا المحطَّمة؟

أبحثُ عن مكانٍ آمنٍ لهذا النثار، مكانٍ يحفظُ لي كسورَ نفسي. لكنه لا الهمس ولا الصراخ. لا اللغة ولا طيفها. لاالتوق و لاالذكرى. ماذا يكون إذن، هذا المكان الآمن لنثار الذات وعظامها، غير القبر؟

هو ليس الهمسَ لأن الهمس لن يُسمع في ضجيج الارتطام الفظيع للنجوم والمذنَّبات البائسة في القلب. وليس الصرخاتِ لأنَّ هذه الانفجارات، كلَّها، لن تسفر عن كائنٍ حيّ. ولا اللغة ولا طيفها ولا التوق ولا الذكرى، لأن هذه ماتت أيضًا.

هل المكان الآمن إذًا هو فقط، المكان الصامت؟ الصامت والجميل لأنْ لا لغة كي تكشف عوراته؟ لأنَّ العورات لا تظهر إلاّ بالكلام؟ لأنْ لا عورات إنما الكلماتُ توجدها؟ هل الجمال إذًا لا شيء سوى الصمت؟ ولذلك هو ليس جمالَ المكان، إنما جمال العدم؟

إمنحوني عدمًا. أريد الجمال.

هناك قد أسمع كلماتٍ أخرى، تصلُ اللغةُ الناعمةُ مثل ريش عصفور، ترتطم بي ولا تؤذيني.

تصل نبرةُ الكلام بلا نبرة، تدخل الفراغَ، انعدامَ الجاذبية، مترنحةً سابحةً خاليةً من ثقلها.

هناك قد أسمع أصواتًا جارحة، آتيةً من وهم الأمكنة الأولى، لكنها تصل فاقدةً شفراتها، فاقدةً معناها، وتمرُّ عليَّ مرور النسيم الخفيف.

حين تدخل الكلمات إلى هناك تتوحّد معانيها، تصير اللغةَ الجميلة: لغة عدم الوجود.



ثمة مساءاتٌ ترتجف في الكلام. أشباحٌ في اللغة. قتلى قدامى.

في الحناجر انحدارات. انهياراتٌ في مخارج الأصوات.

ومَن يشفع بالساقطين في هذه الانزلاقات سوى آخر الأحجار في الوادي؟ الأحجار التي تسجّل وصولهم بالدم.

هناك موتٌ أكيد في الكلام. دمٌ واضح.

هناك وادٍ وأحجار، وأجسادٌ مستلقية عليها.

هناك قتلٌ، قتلٌ فظيعٌ، في اللغة.

إننا نُقيم في مجزرة!

وكلّما تكلمنا ازداد عدد الجزّارين.

فلنصمتْ إذن، علَّ الصمت يقلّل من الأعداء، علّه يقلّل من هذا الموت. فلنصمتْ، علَّ أحجار الوادي تبقى بيضاء.

في الصمت الأبيض نضع كرسيًّا أبيض ونجلس غير مرئيين. في انعدام الرؤية وجودٌ بهيّ، في انعدام الصوت لغتُنا.

حين لا نرى الآخرين يكونون جميلين حقًا. حين لا يتكلمون، نفهمهم.

في غياب الرؤية و الكلام، وجودٌ موحَّد ولغةٌ موحَّدة.

إنهم رائعون حقًا هؤلاء الغائبون. وواضحون جدًا البكماء. فهل من أجل البشاعة، والضباب، نحضر ونتكلم؟

في الساحة، في المساء، مَن ينفخ في زجاجة، من يريد أن يعبّئ شيئًا، في زجاجة الوقت الفارغة.

واحدٌ مجنونٌ في الساحة، يريد أن يملأ زجاجةَ الوقت بلهاثه!

بخارٌ في الوقت، بخارٌ في الزجاجة المكسورة، في الساحةِ في الرؤيةِ في الصوت.

وبهذا البخار على الزجاج نرسم عالمنا، أصدقاءنا، رفيفَ نظراتنا وهي تختفي في الفضاء.

بخار، وريحٌ عاتية.

الذين لهم لهاث، يَنزلون قطراتٍ نحيلة، ويتبددون.

الذين هم لهاث، لا يعيشون رطوبتهم، وما يتنفسونه: عدمُهم.

ليكنْ عمىً لكنْ ليس بخارًا. ليكن بُكْمٌ لا أزيز أصواتٍ وحشرجات. وإذا كان هناك موتى في الهواء، فليكن لهم دمٌ آخر. دمٌ أبيض، دمُ نومٍ عميق، بلا أبواب، ولا شرفاتٍ تطلُّ علينا.

كنا، دائمًا، نحاول مزج روحنا بالهواء، علَّنا نرتفع، ونغيب.

علَّ هناك فيزياءَ حركةٍ أخرى لأجسادنا، نلتقطها في الفضاء.

كنّا نحاول أن نقلّد الطيور، تلك التي عناصرها تفوَّقت على عناصرنا، ليس في الانتصار على ثقل الجسد وحده، بل في إلغاء المكان، والذاكرة، والوقت.

إذا كان هناك موتى في الهواء، فالطيور لا تراهم. تعبرهم، كمن يعبر سريعًا في غبارٍ خفيف.

الموتى يجلسون معنا. نتنفسُهم. نرى عبرهم. ولا نحادثهم فحسب، بل ننطق بلسانهم.

ليس للموتى كياناتٌ مستقلّةٌ انفصلتْ وغابت عنا. إنهم نحن، أجسادنا وأرواحنا. وإذا كان علينا أن نُميتهم حقًا، فلنمشِ بهدوء نحو الموت... لا يموت الموتى، إلاَّ بموتنا.



زَرَعْنا، على مدى آلاف السنين، القمحَ الكاسد الذي نراه الآن بين أيدينا. زَرَعْنا و حصدنا والآن وقت العودة، وقت الغروب. فلنعترفْ بكسادنا و نَعُدْ إلى البيت. لنَعُدْ، متواضعين، إلى عدمنا.

لا بذور أخرى كي نحرث هذه الأرض من جديد ونزرعها. فلنعترف بفساد الزرع و فساد الأرض، ولنمضِ أيامنا الأخيرة جلوسًا أمام هذه الحقول، كي نودّعها براحة.

فلنعترفْ بفشلنا. على البشرية أن تعترف أخيرًا بالفشل.

هل كان كلُّ هذا التاريخ فقط من أجل رصْف طبقاتٍ من الجدران؟ جدار المكان، جدار الذاكرة، جدار الكلام، جدار الحلم، جدار الحب، جدار الذات، جدار الآخر، جدار الحضور؟...

هل كنّا، كلَّ هذه السنين، بنّائيّ حيطانٍ فقط؟

وُلدتْ وحشةُ الأرض فبنينا حيطاننا في البراري. وُلدتْ مدنيَّةُ الأرض فبنينا حيطاننا في التحضُّر. وُلدَ الملوك فهدموا بيوتنا وبنوا منها حيطانًا كحَّلوها بالدم. وُلدَ الأنبياء فأقفلوا ساحاتنا مالئينها بردم الأرواح، وداهسين زهرة كُفْرنا، أجملَ زهرةَ في الأرض.

فلنستسلمْ إذن لهذا الجرف، ما دمنا صرنا ردْمًا. ولنتركْ على أحد الأحجار علامة، حتى إذا عدنا، نعرف أين نبيت.



قبيلة الروح راحلة، حملتْ حقائبها ومشت، في الرحلة الأخيرة.

رحلةٌ لم يبق فيها غير آخر المهزومين. بعض ناسها ماتوا، وبعض ناسها قُتلوا، والآخرون هجروها، ولم تبقَ ماشية لها ولا بغال ولا كلاب. قبيلة الروح انقرضت.

مَن كان هنا يشهد أنها كانت جميلة. ترقص تحت ضوء الشموع وتغنّي، وينزل من نظراتها سحرٌ على الضيوف. مَن كان هنا يشهد، لكنَّ القبيلة رحلتْ، ولم يعد عندنا حتى ضيوف.

قبيلة الروح ودَّعت آخر أصدقائها، القابعين في الزوايا، وغابت.

وكان عليَّ، أنا القابع في زاوية، أن أسجّل على الأقلّ آخر خطواتها، آخر نظراتها، لكنني فشلت، حتى في تسجيل هذا الغياب.

لا الحضور حاضرٌ ولا الغياب يمكن التقاطه. لا يمكن حتى وصفه أو كتابته. كيف إذن أكتب نصَّ الغياب؟

كيف يصف العاجزُ عن الحضور غيابَه؟ كيف يعجز حتى عن أن يكون غائبًا؟ والقابعون في الزوايا هل عليهم، كما الظانون أنهم في الساحات، أن يشهدوا فقط للعدم بالصمت؟

إننا نُقيم مأدبة عامرة للعدم، لا يأكل هو منها، ولا نحن نأكل!

لكن، أليس الوجود هو الوجبة الدسمة التي لا يأكل منها أحدٌ أيضًا؟

قبيلة الروح رحلتْ جائعة. ما اعتقدتْه طعامَها كان طُعمَها، صنَّارتَها. ما اعتقدتْه روحَها، وواجبَ إقامتها، كان سُمَّها. قبيلة الروح ماتت مسمومة، ماتت كالسمك، معلَّقةً فوق مائها. قبيلة الروح ماتت في الهواء.

ماتت القبيلةُ فلنتابع المشي. نجرُّ معنا بغالنا المفصودةَ الروح، الميّتةَ لكنْ علينا أن نجرَّها، لا لحمولةٍ ولا احتفاظًا بذكرى، بل لأنْ لا شيء نفعله على الطريق.

نمشي... ونتسلّى بجرّ البغال.



كيف نغيّر كيمياءنا، كيف نغيّر فيزياءنا، كيف نجد مكانًا، زمانًا، كيف نحْضر، كيف نحيا؟.... وإنْ تكن هذه كلّها مستحيلة، ماذا نفعل كي نغيب؟

أَقبضُ على الوهم الأول الذي وضعني هنا، وأضعه أمامي. أُجرّده من حجّة الكلام وحجّة الفعل وحجّة تركيبي بعناصره. أفكّكه من عناصر وهمه وأُركّبه من عناصر وهمي. أَجعلُ مبتدأه يصير خبري. أمحو رغبتَه في انتهائي، وأرسم رغبتي.

بالوهم الخفيف الجميل أُغيّر كيميائي وفيزيائي. وكالوهم الخفيف الجميل أصير خفيفًا وجميلاً. لا حمْل على كتفي، ولا في روحي. لذلك يمكنني أن أطير، يمكنني أن أعلو، ولا يكون لي ظلٌّ ينوء تحته شيء، ولا لون يثقل على لونٍ آخر.

أُغيّر بالوهم فيزيائي وكيميائي، وأطير.

فلتخفقِ الأجنحةُ وتَعْلُ، فوق أرضٍ لم تعد لي شراكةٌ فيها ولا مكان. أجنحةٌ عصيَّةٌ على الرؤية ولا تتوسَّل هواءً كي تطير. خارجَ فيزياء العين وكيمياء الفضاء. مقذوفةٌ بجنونٍ هائلٍ ورغبةٍ أكثر هولاً حُقنتْ ملايينَ السنين وتنفجر الآن. تاريخٌ ينفجر، تكوينٌ بكامله، رغباتٌ كنتُ أظنُّها مجرَّد أشياء صغيرة في القلب، وإذا بها مجرَّات.

أعلو عاليًا بلا كلام بلا نظرةٍ بلا رسالة. الكلام والنظر أيضًا أصابهما الانفجار وتغيَّرت عناصرهما. لم يعد الفم والأذن شرط الكلام، ولا العين شرط النظرة. لم تعد الأحرف شرط الكتابة، ولا أن يكون متلقٍّ ومُرسِلٌ شرط اللغة. امتزجت اللغةُ والعين والأُذن بالهواء. جَرَفَ كلَّ شيء جنونٌ هائل، حتى امتزج النقيضُ بنقيضه، واختلطت الألوانُ والمسافات، فلم يعدْ لونٌ ولا مسافة، واستدار المستطيل، فصار الكلُّ في مركز الدائرة، لا بدءَ ولا منتهى، لا أعداء ولا أصدقاء، تعانق القتلى مع قاتليهم، فلا موتى ولا أحياء، نزل الجميعُ إلى مركز الدائرة، رقصوا في حلقةٍ واحدة وطاروا.

تساوى كلُّ شيء هنا في رأسي. اتَّحَدَتِ العناصرُ كلُّها، الناس والنبات والحيوان والأحلام والأوهام. صار الجميع سواسية، الحيُّ والميّت والحاضر والغائب والبارد والحارُّ والناخز والمختفي. فكَّكتُهم ركَّبتُهم ساويتُهم. خالقُهم لم يساوِهِمْ لكنّي فعلت. وهمي غلبَ الخالقَ وهمي غلبَ الأرض.

أطير خفيفًا، منتصرًا على ثقل عناصري وثقل التاريخ وثقل المكان وثقل الأشياء. أطير بعناصر رغبتي: بغياب الرغبة وغياب العناصر. خفيفًا فوق أرضٍ لم تعدْ لي شراكة فيها. أرض غلبتُها بوهمي، بتغيير عناصرها، بتجريدها من جاذبيتها وجعْلها تدور في جاذبيتي. غلبتُ الأرضَ بجعلها كوكبًا في رأسي، لا في الأفلاك.

أطير خفيفًا منتصرًا على التكوين.

أسبحُ في الفضاء، فوق بلدانٍ اندثرتْ. فوق بشر لم أعدْ وريثهم ولا عادوا نسلي. أطير وأنظر إلى الصحراء تحتي. إلى غياب الأمكنة. إلى استحالة أن ينزل الطائرُ بَعد.

أطير أطير، وأبتعد.

أصير نقطةً ممحوَّة... وأختفي.



[/size][/center]
الوسم وديع_سعادة على المنتدى نوسا البحر T11موضوع: رسالة سركون بولص إلى وديع سعادة
hassanbalam

المساهمات: 0
مشاهدة: 254

ابحث في: مرتفعات أو سوناتا الكلام   الوسم وديع_سعادة على المنتدى نوسا البحر Untitl13موضوع: رسالة سركون بولص إلى وديع سعادة    الوسم وديع_سعادة على المنتدى نوسا البحر Icon_minitime2020-12-04, 4:29 pm
@hassanbalam
#سركون_بولص
#وديع_سعادة
رسالة سركون بولص إلى وديع سعادة
الوسم وديع_سعادة على المنتدى نوسا البحر P_1799pkr1x1

أخي وديع
لم أنتظر الليل بل تقدمت نحوه وأنا أعرف عدوي وبلا درع أو شهادة أو تردد. ولكنني حين دخلتُ كثافته العدوّة كانت يداي ترتجفان وكان عناقي حلماً كهربائياً يعبر على المحيط. من حين الى حين، وجهي المعلق في مرآة محاكمة. وأنا دائماً قاضي هذا العالم. أريد أن أتكلّم مع أصدقائي، لا بل اليهم ولكنني أجدهم في صحراء أخرى. أحاول أن أركّز نظري لأرى الملامح ولكنها لا تستطيع أن تقتل قوانين البعد. القانون الوحيد الذي قتلته هو قانون الزمان، ولكن الفضاء ما زال عدواً. إنني الآن في المركز والأيام تدور من حولي ككواكب نارية من الاحتمالات والعبر والمغامرة. وبعد ذلك هذه هي القاعدة: الأيام ليست سوى أيام.
مجرد أن أستلم رسالتك يا وديع، مغامرة، حفلة، عاصفة غجرية. لو عرفت ماذا تعني رسالة ما بالنسبة لي في هذه القارة المطفأة، ومن صديق من وطني! ولكنك هناك أيضاً كالمنفيّ، كما يبدو لي. لا تكن. أقول لك بكل صوتي: لا تكن. أخرج. من هذه الطبقة الكثيفة من الجلد التي بنيت حولك دون أن تعرف: أخرج. لا تكن مثقفاً يجمع أقنعة ويقرأ المشهورين، ويفكر بنماذج كأنسي الحاج أو لست أعرف من، أو كامو أو بودلير أو الله أو بوذا أو الشيطان: ولا تكن حتى أنت! وابصق على المثقف الغبي الذي يحاضرك عن “معرفة النفس” والبحث عن الله وباقي الخرق الثقافية الاخرى. هل فكرت لحظة بأن من المضحك أن “نكون” شيئاً؟ إننا لا نكون شيئاً أو أحداً. لأننا هذا الشيء وهذا الأحد. ولأننا كل شيء وكل أحد، من قبل. أعتقد انك ستفهمني يا وديع لأنني أعرف ان لك عقلية نظيفة وان دماغك لم “يُغسل” بعد بالرايات الثقافية الشائعة هناك الآن. إن ما يجعلني أقول كل هذا هو غضبي الذي لا أستطيع أن أقاومه حتى هنا حين أفكر بجميع الأفكار الخاطئة التي تتسرب في وطننا وبين مثقفينا عن الفكر الاوربي وعن الثقافة الاوربية، وذلك عن طريق مجموعة معدودة من الكتّاب المسيطرين على المجلات والذين ليس لهم حق في ذلك. أما اذا كنت مخطئاً، فقل ذلك في وجهي ومباشرة. ولكن من المضحك أن أبذّر هذه الصفحة كلها في الكلام على “الثقافة”، الحلم الذي يتغذى عليه تلاميذ الجامعة ذوو النظارات الطبية والشعراء الذين يعالجون »مسائل العصر« بجبين مقطب. الشيء الوحيد الذي يستحق المعالجة هو أن تفتح فمك فجأة وأنت في الشارع ومن حولك طنين الخلية الانسانية وتقذف من أحشائك ذلك البركان الذي هو أنت. وبعد ذلك تستطيع ان تقف لمدة نصف ساعة مراقباً بدهشة أناك المحترقة وهي تتسلق أكتاف البشر وتدخل أنوفهم الضائعة. ربما كنت قد خطوت كثيراً في الليل، ولكن ذلك هو بالضبط وبدون لف أو دوران، واجب الكاتب: فإنك لم تولد ولن تولد في نهار العالم بمجرد أن تنتظر واقفاً. بل إن الليل هو الذي يخفي نهارنا الحقيقي. وعلينا أن نخترق هذا الدرع المميت؛ ثقب أو ثقبان ينبثق منهما الضوء ونعرف بيقين أن النهار هناك، إنه هناك! هذا ما حدث لي، ويمكنني القول انني قد رأيت عدة ثقوب في ذلك الدرع وعلى النور المتسرب منها أحيا الآن.
ساعد الشعر على إنقاذي كثيراً. منذ ان وطأت هذه الأرض الأجنبية والشعر يلتهب في باطني ليوازن بين البرد المسموم في الخارج واليقظة العنيفة في الداخل. أحياناً يدخل البرد رغم كل شيء، كما يحدث في قرية ما في شبطين مثلاً حين يحاول فلاح ذو عائلة من الأطفال أن يغلق النوافذ جيداً في وجه عاصفة من الثلج، وقبل أن ينجح يدخل بعض البرَد ولكنه ينجح دائماً. على انني حافظت على تلك العائلة من الأطفال التي تعيش فيّ. وسأفعل دائماً. وطيلة هذه المدة أيضاً لم أتوقف عن الكتابة. أحياناً فعلت، ولكنني لم أتوقف عن “الكتابة” في داخلي لحظة واحدة. وكل ما هناك، انني فعلت ما يجب أن يفعله كل كاتب حقيقي: القدرة على الصمت. قريباً جداً سأبعث الى لبنان بكتاب ليُنشر. لديّ الآن عدة كتب حاضرة للنشر. وأعمل على رواية إسمها “صحراء العالم” وهي كل ما أعيش من أجله الآن لانها ستكون معادلاً كاملاً لحياتي الداخلية. ولا يمكنني أن أقول لك أي شيء عنها. كما انني أعددت كتاباً آخر باسلوب ليس شعراً أو قصة أو أي شيء، بل هو كل هذه العناصر التي تقف في مواجهتنا من الداخل والخارج، أو الوجود في أشعة نظرة واحدة. والكتاب الذي أعده منذ مدة طويلة وأقرأ من أجله كل يوم منذ سنتين، هو دراسة في الرواية الحديثة، وأعني الحديثة! سأعطيك فكرة: عناوين بعض الفصول:
هيرمان هيسه: العين الثالثة.
سيزار بافيس: الجدار الخامس للسجن.
لو كليزيو: هالة حول العالم/ الرواية الكوسمولوجية.
كورتازار: تركيب المتاهة.
بيكيت: جلود العزلة السبعة.
وقد قرأت كل ما يمكن من مواضيع الدراسة، بالاضافة الى التآليف الاصلية. واخيراً، مجموعة جديدة من القصص. والآن لنتحدث عن شيء آخر.
جان دمو هناك، وهو في دير! لا استغرب ذلك من جان. ولكن يا عزيزي حاول بشدّة أن تتصل به وقل له أن يكتب لي واعطه عنواني. أحياناً هنا، أكلّم جان وكأنه معي حين أرى شيئاً او شخصاً معيناً أعرف اننا كنا سنعلّق عليه ونسبره حتى المركز. في كثير من الاحيان وحين أكون يائساً، مجرد محاورة من هذا النوع تعيدني الى حالتي السعيدة واضحك عالياً في الشوارع دون ان أستطيع السيطرة على نفسي. إن ما بيني وبين جان نادر وخالد، ويقف ما وراء جلد العلاقات وجدار البشرية. أعرف بعمق اننا سنلتقي. لذلك، دعه يكتب لي وبعد ذلك ربما أمكن أن ندبر طريقة لسفره الى هنا، وسأفعل كل ما أستطيع.
والأب يوسف سافر. اعطني عنوانه في رسالتك. وسأكتب اليه. ولكنني لم أفهم، هل سافر وحده أم انه أخذ عائلته معه؟ قريباً جداً سأبعث الى يوسف الخال برسالة ومواد للنشر، بعد هذا الغياب الطويل. هل يمكن أن تبعث إلي بعنوان أدونيس، وكذلك عنوان مجلة الآداب؟ سلّم على أدونيس بحرارة. سأكتب اليه قريباً. وأرجو ان أهيء رسالة طويلة عن السياسة والفكر في أميركا لتنشر في “مواقفه”. وكذلك مواد جديدة من كتاباتي. وربما بعثت اليه بكتاب كامل والمال اللازم لنشره. ولكن أولاِ، بلّغه حبي واعطه عنواني وأرجو أن يبعث الي بنسخة من مواقف حتى يتيسّر لي أن أبعث اليه ببدل اشتراك. وأفكر أيضاً بإعداد مقابلات طويلة مع شعراء هذه المنطقة. وقد قابلت عدداً منهم وتشاجرت معهم، وترجمت بعض قصائدي الى الانكليزية. وبدأت اكتب بالانكليزية منذ مدة. وفي المستقبل أنوي أن أكتب رواية واحدة ووحيدة بالانكليزية اضع فيها كل شيء. ولدي الآن مجموعة من الشعر بهذه اللغة، وكذلك قصة اسمها “الصحراء” وهي عن مهرب على الحدود العراقية، وربما ترجمتها عن الانكليزية إلى العربية.
عزيزي وديع. لقد تكلمت كثيراً، اليوم هو السبت، عطلة. ولديّ موعد مع إمرأة أميركية، ولكنني أعتقد انني متأخر الآن لانني قضيت هذه الساعة الاخيرة أكتب اليك. على انني سأذهب فالمرأة قد انتظرت أكثر من اللازم. وهي ستصاب بهستيريا اذا لم أذهب، لانها ظلت ثلاثة أسابيع تبعث اليّ برسالة مضمونة كل يوم وهدايا حتى وعدتها، وذلك منذ ان تركتها منذ شهر دون سابق إنذار أو سبب، يائساً من العلاقات والجنس عائداً الى الشعر. على كل حال، سأكتب لك قريباً. تحياتي الى والدتك، والى اخيك وزوجته اللطيفة، وقل لها أن تقرأ فألي واخبرني بالنتيجة.
اخوك
سركون بولص
27 / 3 / 1971
الوسم وديع_سعادة على المنتدى نوسا البحر T11موضوع: تركيب آخر لحياة وديع سعادة
hassanbalam

المساهمات: 0
مشاهدة: 556

ابحث في: مرتفعات أو سوناتا الكلام   الوسم وديع_سعادة على المنتدى نوسا البحر Untitl13موضوع: تركيب آخر لحياة وديع سعادة    الوسم وديع_سعادة على المنتدى نوسا البحر Icon_minitime2018-07-13, 9:51 pm
ديوان تركيب آخر لحياة وديع سعادة كامل

#وديع_سعادة

مرَّ ظلُّه على كائنات جديدة
لا أسماء لها ولا أشكال
لكنَّها وُلدتْ
هكذا سهواً
في نقطةٍ غريبة
بين الحقيقة والوهم






تركيبٌ آخر لحياة وديع سعادة

يأتي إليَّ أريجها من دون أن أمدَّ يدي
بمجرَّد نظرة تكون
وبنقرةٍ صغيرة على طاولتي تولد فراشاتٌ غريبة وتحوم عليها.
لا قَدَم بيننا بل عطرٌ يمشي
ليس بيننا كون، فقط هواءٌ أُشكّله كوناً جديداً
آخذُ زرّاً من سهوي وأُبكّلُ أعضاء
أبكّلُ أرضاً وشموساً وكواكب
أبكّلُ سهوات.
لا أقول "تعالَ"، فقط يمرُّ في بالي مجيء.
أرضٌ بلا مسافات
والسماء إذ تمطر فليست مشيئةَ غيومها، إنّها مشيئة بالي
والذين خلقوني تواروا والذين في بالي يولدون
وليس في كوني تفّاحة، ولا أفعى، ولا إله
أركّبُ، قطعةً قطعة، على مهلٍ، كوني
فراشاتُ بالٍ وأرضُ بالٍ وناسُ بال
كائناتٌ جديدة أُطْلقها في الساحات، وكائناتٌ أُلغيها
وأُغيّر وظائفَ الأعضاء، ووظائف حامليها.
أرضٌ بلا مسافات، وليس عليَّ أن تكون لي قَدَمٌ لأمشيها
عينٌ تجلب لي الأرضَ بالنظرة
وليس واجباً أن تكون لي يدٌ لأقطف زهراً. لا شيء واجبٌ عليَّ كي يكون لي كلُّ شيء.
ها إنَّ يدي تفكّك أصابعها، وقلبي يفكّك شرايينه، وعيني تفكّك حَدَقتها
أضعُ في يدي أصابعَِ بال، وفي قلبي شرايينَ بال، وفي عيني حَدَقةَ بال
وفي نهاري زمنَ بالٍ وعلى الأرض كائنات بالٍ جديدة
وإذا الرغبات عصتْ على البال، ألتقطُ كلَّ الرغبات بعدم الرغبة.
ليس النبع بيننا ولا المجرى، ولا مسافة بيني وبين البحر
يولد النبعُ منّي والبحرُ منّي، وليس عليَّ أن أجري لكي أصل
هناك هو هنا
والأرض الأخرى تمشي قبالتي ولا ألتفتُ إليها.
لم أكن أجري في نهر. كنتُ بمحاذاة الأنهار أنتظر مائي
أجلس على لا مكان، ولا يجلس معي زمن
وإذا جاء يومٌ قديم وجلس في يدي، أُعيده إلى أرضه القديمة.
رسمتُ لا مكاني وجلستُ. قعدتُ على خريطة بالي.
لا منعطفات ولا طرقات
وإذْ أُطلقُ عصافيري في الفضاء تبقى في قلبي
ذلك لأنّ الفضاءَ بالٌ والصوتَ بالٌ والمكانَ بال
ولأني لا أُنزّه الأيامَ في الوقت، بل في حديقة بالي.
يا عيني التي وحدها تشرق عليَّ، الشروق والغروب هما هنا تحت رمشي.
أُقيم في ظلّ إغماضةِ عينٍ وفي ظلّ انفتاحها، وليس في ظلّ الشموس البعيدة
ويا عشباً مولوداً من خطواتي أعيش تحت أوراقك
وتعيش معي أراضٍ ومجرَّات
وترقص مخلوقاتٌ وتغنّي.
واقفٌ هنا، حيث يعبر الجسرُ وليس الماشون عليه
يكفي أن أقف، لكي أصل.
يعبر الجسرُ بي ويعرف وجهتي، يعرف أن لا وجهة لي إلاّ الوقوف
المدى في عيني والأرض في قدمي
وإن احتجتُ إلى رفاق، هم تحت جفني
يتقلَّص الكونُ حتى يصير حدقتي
ويدي تطْلق خرافها إلى كون، مراعيه رؤية
يكفي أن تنظر حتّى تشبع
ويكفي ألاّ تنظر، لئلاّ تجوع.
لكنّي مشيتُ كثيراً حتّى صرتُ هنا. مشيت كثيراً حتّى وصلتُ إلى كون الوقوف
إلى الحياة التي بقَدَمٍ حرنة، ويأتي الكون إليها.
الأرض في قدمي والمدى في عيني، ما حاجتي إلى المشي؟
وقوفٌ، سكونٌ، صمتٌ، بهاء.
هل مرَّ ظلّي على شجرة؟ هل مرَّ ظلّي على هواء؟ ذلك أريجُ بالٍ يسبح، ذلك بخارُ سهوٍ يضوع
غيومي التي تمطر مائي
وأُوزّعُ منه في الساحات، على كائناتي الجديدة
على النظرات التي تصطفُّ مقاعدَ لأطفالي.
ها هو الكون يجلس أخيراً على حَجَرِ نظرتي
كوني الصغير الخفيف الذي يسعه حجر، وتحمله نظرة.
آتٍ من هناك، فارّاً، كي أستريح على حجر
آتٍ من الذي كان فسيحاً كي أجلس على نقطة
على شيء نحيل، لا هناك فيه ولا هنا.
آتٍ من مساحات، لكثرة ما كانت شاسعة لم أكن أرى شيئاً منها
إلى حَدَقةٍ صغيرة أعرفُ كلَّ سكّانها.
آتٍ من عيونٍ كثيرة
لكي أجلس في عيني.





يدٌ أخرى

الذي كانت له يدٌ بقبضةٍ وأصابع
وتريد أن تلتقط كلَّ الأشياء
له يدٌ أخرى الآن
ترفع مزهوَّةً
قبضةَ فراغها.





عينٌ أخرى

بالثقوب التي انبثقت من تيههِ
يرى،
عينُه الآن ثقبُ تيهٍ
وأفلاكٌ تدور في إغماضتها.

لم يكن يريد من عينه سوى
إغماضة
رموشُها دروبٌ للعابرين
وإذا انزلق أحدٌ
يسقط في حَدَقته.
عينٌ تحفظ أحياءه وأمواته
وهي مغمضة،
وإنْ هي في الماضي أرادت رؤية الكون فعلى جفنها اليوم
غبارُ كلّ الأكوان
غبارُ أمكنةٍ وأزمنة وقد غدتْ
نقطة
على جفنه.

فقط غبار
ولم يكن يريد سوى هذه النقطة
في عينه المغمضة.




كائناتٌ أخرى

من نسيمه العابر تولد كائنات
نسيميَّةٌ لا مكان لها
ولها الأحجام والأشكال كلُّها كي
تكون لها كلُّ الأمكنة.

الفضاء الذي روَّضَ نفسه بالفراغ
خلَقَ طيورَه،
والأرضُ التي حدَّقت طويلاً في يبابها حتى خلقتْ أشجارَها
تؤوي طيورَ فضائه
ريشاً لا يُرى
وأجنحةً لا تحتاج إلى هواء.

أرضٌ جديدة تدور في قلبه
وفي نسيمه عابرون جدد
لا تعرفهم دروبُ الرياح القديمة،
عابرون بلا شكل ولا ظِلّ
وإنْ أرادوا إقامة
ففي نفسه ثقوب
تكفي
لسكناهم النحيلة.




لثغٌ على الحافَّة

الآن
يبدأ لثغُه،
تأتأةٌ خارج الكلمات
والغابةُ التي ينظر إليها ويريد أن يقول لها شيئاً
تلملم أشجارها وتنأى
عن ذكرى ناسها الأوَّلين
وحيواناتها الأولى.

يتأتىء مقاطعَ لغةٍ ومقاطعَ مسافات
ويستعين بالفراغ الذي حواليه كي يتكّئ عليه
وبالعَصا التي قصَّبها في نومه
كي يمشي.

لثغٌ على الحافَّة
نقطةٌ نحيلةٌ فقط
كي يعبر
أو يسقط.

ويريد
أنْ يضع لغةً على الحافَّة
أنْ يضع أُذُناً
في النقطة.




تقريباً

تقريباً
اتَّكأَ
على نسمة
وأسبلَ بالَهُ على زمنٍ هوائيّ
مديد.

تقريباً
اتَّكأَ على خيال
يحوك قمصاناً للفراغ حتّى إذا
امتلأَ لا يبرد.

تقريباً على وشكِ
أن يقول شيئاً
على وشك أن ينظر إلى شيء.

تقريباً
على وشك أن يهجر البال والخيال
ويتّكئ
على عماه.




ذكرى هواء

لا يعرف من أين
في غياب الهواء
يأتي لهاثه،
ربّما هي ذكرى هواء
تمرُّ الآن في رئته.

الذكرى تمرُّ في الرئة أيضاً
واللهاثُ أحياناً ليس هواء
بل ذكرى
والداخلون والخارجون مع لهاثه ليسوا أهله ولا
مقيمين بل زوَّارٌ عابرون
ولا يُقيم في لهاثه بل
في عبورهم.

لا يعرف من أين يأتي لهاثه ولا أين يقيم
الهواءُ عَبَرهُ
وهو
عَبَرَ المقيمين فيه.





الرحلة

إليه فوراً
بلا نقلةٍ ولا رفّةٍ
كأنَّه ألغى الترابَ والشجرة والفضاء

يظنُّ أنَّه فيه
إنْ تحرَّك سيضيع
إنْ خطا
لن يصل.




لُغَتُه

لغتُه ذكرى لهاث
محميٌّ
في صمته.




اللغة

لا المنادي ينادي ولا المنادَى يصغي إنَّها الريح
تتحدَّث مع عبورها
ويرمي كلاماً في الريح
لا كي يقول شيئاً بل
كي تتفكَّك مفاصلُ الكلمات
وتندثر.

اللغةُ هي نثارها
الكلامُ هو
تبدُّدُ الصوت.

في اندثار الأحرف
في الريح
اللغة.





ضوءٌ آخر

على الجبل العالي أغمض عينيه
لا يريد ضوءاً قديماً مشى آلاف السنين كي يصل إليه
أغمض عينيه وانحدر
إلى الوادي
حيث الغور لا يكتسب ضوءه من الشمس بل
من تحديقِ حجرٍ في حجر.






قال

قال سيعيد تركيب حياته كي تُشْبه النسيم
وتتناسبَ مع الأشكال والأحجام كلّها،
رمى أعضاءً وأفكاراً وأهلاً وأمكنة
رمى جسداً وقمصاناً
كرَّ خيطان نفسه وبكَّلَ حياتَه
بِزِرِّ ريح
ودخلَ ثقوباً
دخلَ ظلاماً
وما عاد رأى كيف يعيد
حياكةَ نفسه.




في المكان حيث وقفتُ

في المكان الذي لا يعرف فيه أحدٌ أحداً، وحيث الجميع واقفٌ في انتظار أحدٍ وسوطُ العبور يضربه لكي يمشي
وقفتُ أنا أيضاً وقلتُ سأمشي، لكنّي أنتظر رفيقي.

في المكان الذي رسمتْه أساطيرُ الأرض الأولى،
في عيون الآلهة الحمراء ومشكّات مشاويهم وفي قرون الشياطين وشيّ أجساد المخلوقات، وقفتُ
في مكان البدء حيث الكون ينزل من براكين والناسُ تنبت من جمر
وقفتُ منتظراً رفيقي
يتصبَّب منّي بخارُ الخلق الأوَّل
ومموَّهاً بضباب الخلق الثاني
وقلتُ سأكمل الرحلة، سأمشي
لكني واقفٌ أنتظر وصولَ رفيق
واقفٌ أنتظرُ
وصولي.




كوكبٌ جديد

كوكب جديد يدور
في رأسه
وفيه مخلوقات غريبة
أجسادٌ كأنْ ليس فيها سوى نسيم
عيونٌ كسُحُبٍ ليست آتيةً من ماء
ولا ذاهبة إلى نهر
قلوبٌ كشطآن
تتمدَّد عليها أرواح ناعسة
كأنّما فلتتْ من عذابات تاريخ طويل
وجاءت
لتستريح.

كوكبٌ جديد في رأسه
ولا يعرف كيف يصاحبُ مخلوقاته الغريبة
ولا كيف يهجرها،
ينظر إليه مشغوفاً
ينظر إليه حائراً
ويسند رأسه على وسادة
وينام.





ارتدادات هواء

عوضَ أن يسمع الصوتَ يراه
آتياً، على عُكّاز، من أماكن بعيدة
تَعِباً
على كتفه حمولات كلام يريد أن يوزّعها على آذان
وعلى دروبه آذانٌ ترى
ولا تسمع.

عوضَ أن يرى الطريق يسمعها
مثلَ صدىً بعيد،
كأنَّه يمشي على ارتدادات هواء
وكأنَّ الأرض ليست تراباً
بل صوت.

ترابٌ يسمعه ولا يراه
وصوتٌ يراه ولا يسمعه
كأنَّما لا يسمع غير خرسه
ولا يرى غير عماه.




الوصول

يرمي قطعةً ويمشي خطوة
الحمولةُ الثقيلة تعيق سيره
تعيق وصولَه،
يرمي قِطَعاً عن كتفه
قِطَعاً من جسده
من قلبه من عينه من رأسه من ذاكرته
ويمشي،
كلَّما رمى قطعة مشى خطوة
وحين صار فارغاً تماماً
وَصَل.





لم يرَ

الذي أخذه إلى الطريق وَصَل قبله
والذي أخذه إلى الحافَّة تأخَّر عنه
يمشي وحده ولا يعرف
مَنْ أَخَذَه ومَن رماه
اجتازَ الطريقَ واجتازَ الحافَّة
ونَظَرَ من الطريق ونظر من الهاوية
ولم يرَ أحداً.




يطأ على ذكرى ظِلّ

يطأ على ذكرى ظِلّ
محاولاً جذْبَه خيالاً بعد خيال
كي يعيد حياةً ماتت إلى سريرها الأوَّل
وأرضاً أَفَلَتْ إلى بدء دورانها.

يجذب ظِلَّ حياته خيطاً خيطاً
محاولاً حياكة القميص الذي
ذات يوم
أراد أن يغطّي الحياةَ به
تحت الجسر، هناك، حين هجرها سكَّانُها
ونامت عاريةً في الجليد.

ظِلٌّ
يعيد حياكتَه قميصاً
يعيد حياكته حياةً
ويضع في القميص زرَّ وَرْد
حتّى إذا عاد رأى الحياة
يهديها وردة.

ظلٌّ
ينام هناك
على ترابٍ بعيد.





المسجَّى أمامي

الميت المسجَّى أمامي قطعةٌ منّي
رأيتُه ذات يوم صدفةً وقال: أنتَ قريبي
وأراه الآن بعد غياب طويل
مسجّىً على سريري.

قال: قريبي
وما كنتُ رأيتُه قبل القول ولا رأيتُه بَعده
لكنَّ قوله جعلني منه
وصرتُ مذ ذاك
قطعةً من غائب.

قال ومشى
واستمعتُ ومشيت
وكانت خطواتنا مشياً في غياب
أطأُ على غيابه ويطأ على غيابي
حتى التقينا:
قطعتين
من غياب
مسجَّاتين على سرير.




مِثْلَ ظنون

ظَنَّ الترابَ غيماً
سقطَ ويبسَ
محتفظاً من الفضاء بلهاثِ ناسٍ كانوا يعبرون
في صحارى حارقة.
ظنَّ الشجرَ أياديَ دُفنت تحت التراب
في حروب قديمة
والعشبَ كلماتٍ كان القتلى يريدون قولها وهم يحتضرون.
ظنَّ العصافير نظراتِ موتى
تبحث عن عيونها
والأحجارَ رؤوساً
تبحث عن أجسادها

وظنَّ
ما يظنُّه
ظنوناً.





مَزارعُ أخرى

قال ستمطر، ستمطر كثيراً
ومذ قال وهو جالسٌ ينتظر المطر
عينٌ على الفضاء
وعينٌ على التراب
حتَّى انفصلتْ عيناه
واحدةٌ في الأرض وأخرى في السماء ولم يعد يرى
لا غيماً ولا فضاءً
ولا تراباً.

قال سأزرع نباتاً جديداً
لا يحتاج إلى تراب ولا إلى ماء
دَخَلَ في خياله وزرعَ ظِلاًّ
ومذ ذاك وهو ينام
في ظِلّ خيال.





قال. . . أيضاً

مرَّةً أخرى قال
سأعيد تركيب حياتي
خَلَعَ يداً ووضع مكانها زهرة
خلع عيناً ووضع مكانها ثمرة
خلع قدماً ووضع مكانها شجرة
خلع فماً، أُذُناً، قلباً، رئة...
ومشى في حديقته الجديدة
يبحث عن نفسه
ولا يجدها.





في التراب

في الحديقة شيء مثل خيال
يمشي
يبحث عن شيء مثل خيال
سقطَ منه في التراب وهو يزرع بذوراً
وضاع.
في التراب خيال
ضاعَ من مُزارعٍ خيال
في ترابٍ
خيال.





يريد النمل أن يعبر

ضَعْهُ هنا على الحجر الذي كان رأساً
هذا الرأس كي يصير حجراً أيضاً،
وَضَعِ العينَ في ثقب الإبرة الذي كان أصلاً محجرَها
وخرجتْ منه لتحيك خيوطاً وتضعَ الكونَ في بيت عنكبوت،
ولا تأبهْ لليد بل ارمِها
في القمامة هناك
مع اليد الأولى التي جبلتْ تراباً،
وأخرجْ أذنيك من سَمَعِِهما
إلى الفضاء الأصمّ
وقدميك من الطريق،
يريد النملُ أن يعبر
ويغنّي
ولا يريد أن يسمعه
أو يراه
أو يلمسه
أحد.





أَقفلِ الباب أيضاً

أَقفلِ الباب أيضاً
قد تخرج أعضاءٌ منكَ وتضيع
تغافلك وتخرج إلى الشارع
وتصير أعضاءً لعابر مجهول،
فالأعضاء تلزمها أَقفالٌ
كي تبقى لصاحبها.

أَقفلِ الباب
وإلاّ تصير المجهولَ الذي
عَبَرَ على غفلةٍ أمام بيتك
واختفى.




... واغلقِِ الرموش

ولا تأخذِ العينَ في نزهة
فهي تضيع أيضاً ولا تعود تراك
تتبع عابرين مسرعين أو
تدخل في حدقة أعمى
تنبش ذكريات رؤاه التي
أنتَ لستَ فيها
فلا تكون في الحضور ولا في الغياب.

دعْ عينك في مكانها
واغلقِ الرموش
قد ترى عابرين كثيرين على جفنك
وكوناً بأكمله
في عماك.





الطريق

امحُ كذلك الظلَّ الذي رسمه عبورُك،
ظننتَ الطريقَ رسماً لدروب
والمشيَ خطواً على رسوم،
لكنَّ الطريق لم تكن خطوات
كانت الظلَّ
الممحوّ.




نوم المجرّات

مالَ على بالٍ، ونام
غَمَرَ أراضي بعيدة
في كواكب بعيدة
بزغتْ على وسادته وغنًّى لها
كي تغفو
غطَّى بلحافه مجرَّات باردة
مجرَّات جائعة تبكي على سريره
بحثَ لها عن نار
بحثَ لها عن طعام
في بهو مطبخ عتيق كان ذاكرتَه،
وما زال إلى الآن يهزُّ لمجرّاتٍ على زنده
علَّها تصمت
وتنام.




جَمْعُ نثار كلمة

أطلقَ كلماتٍ في الهواء وراح يلعب بها، مثل بالونات
يشدُّها ويرخيها... حتى انفجرتْ
واختلطتْ أحرفٌ بأحرف وضاعت أحرفٌ وما عاد يعرف
كيف يجمع الأحرفَ ولا كيف
ينطق بكلمة.

الكلامُ جَمْعُ نثارٍ، قال في قلبه
لَحْمُ أعضاءٍ لمجهولين ضائعين،
ومذ ذاك وهو يحاول
رتْقَ بالونات
ممزَّقة
في الهواء.





أين الحديقة؟ أين البيت؟

زرعَ ما كان يحلم به من أشجار وخضار
في حديقة شاسعة
وحين حان قطافها
خرجتْ من كتفه عوض اليد نسمةٌ وقالت:
أريد أن ألعب في الحديقة،
غادرَ الأشجارَ والخضار
وتركَ النسمةَ تلعب.

قال أَبني بيتاً
غُرَفاً تكون حدائق لأحلامي
بنى غرفاً كثيرة
وحين دخل ضاع
وما عاد يعرف أين البيت
ولا أين الحديقة.




ذاكرةُ طير

نَظَرَ إلى الفضاء واستلَّ ذاكرةَ طيرٍ ووضعَها في رأسه
جابَ بلداناً وقارَّات
حقولاً وتلالاً وودياناً وغابات
ووضَعَ بيضَهُ في أمكنة كثيرة
حطَّ فيها لحظةً
وما عاد.

نظر إلى الفضاء واستلَّ ذاكرةَ طيرٍ مهاجر
وكان كلَّ مساء
يأوي الطيرُ إلى بيته وينام في سريره
ويبقى هو
يطير في الفضاء.




خطوطٌ أخرى

ارسمْ نفسك نهراً، وَسِلْ
شيءٌ منك لعشب الحافَّة، شيء للحصى، شيء للبحر وشيء للبخار
سِلْ مع خطوط رسمكَ للماء
مائك الذي حاد عن الطوفان ولا سفينة له ولا نوح
الماءِ الذي شرد
وانتظرَ رسمَكَ
كي يعرف مجراه،
ارسمْه
وامنحِ العشبَ خطوطاً منه
ربَّما على الحافَّة عشب كان يرغب أن يكون كائناً آخر
وامنحْ خطوطاً للحصى
قد تكون للحصى رغبةٌ أن يمشي
وخطوطاً للبحر
قد تكون له رغبةٌ في أمواج جديدة
وخطوطاً للبخار
ربَّما بخاركَ يريد أن يعود إليك
ولا يعرف الطريق.





ولا تنسَ الشجرة الصغيرة

ولا تنسَ شجرة صغيرة
زرعتَها قبل أن تصير ماءً،
لقِّحْها بمائك الآخر
علَّها هي أيضاً تريد أن تصير كائناً آخر
علَّها تريد نسلاً غير نسل الثمرة الأولى، غير النسل المعلَّق على الغصون
لقِّحها بمائك الراكض
علَّها تريد عوض الثمار أطفالاً يركضون
ويلعبون حولها.

للأشجار أيضاً رغبة في المشي والسفر
ولها رغبةُ الأمَّهات في أطفال
لا يموتون في مكانهم،
قَبِّلْ جذورَ الشجر بمائك الآخر
ودعْها تخرج من التراب
وتمشي.





سَعَلَ ومضى

سَعَلَ ومضى
وجرى سعالُه وراءه
حاملاً تاريخاً من الدخان
تاريخاً من هواءٍ كان يختاره
هو
لحياته.

جرى سعالُه وراءه كي يذكّره
بصمتِ أنفاسٍ أخرى كانت تخرج مع سعاله
وكي يقول له
إنَّ لثغاً ما خرج من ذاك الصمت
لا يعرف ما هو
لثغٌ خرج هكذا فجأةً من أنفاسٍ رحلتْ
فما عاد نَفَساً
ولا صار كلمة.

جرى سعاله يبحث عنه
لكنه سَعَلَ
وغاب.




لا في التراب ولا في مناقيد الطيور

عرفتْه الطيورُ من عينيه
اللتين لا يزال يعيش فيهما نمل،
قال سأعيد تركيب حياتي ولكن
ظَلَّ نملٌ يدبُّ فيها
تعرفه العصافير جيّداً حين كانت تبحث عن طعام في حديقته.

أراد أن يخرج من تراب ويشكّلَ نفسَه هواءً
طار قسمٌ منه
وقسمٌ ظَلَّ في التراب
قسمٌ علا ولم يعد يراه
وقسمٌ غاص ولم يعد يجده،
وحين أراد استعادة أعضائه القديمة كانت تناثرت
وما عاد رأى نملاً في التراب
ولا نملاً في عينيه
ولا في مناقيد الطيور.




كان هناك

صَعَدَ عالياً على نسيان
وحين مرَّ طيفٌ قديم
انزلقَ على ذكرى وعادَ
إلى الهاوية.

كانت السلالم كلُّها من صُنْع غير راغبين في عُلُوّ
ومن صُنع ناسين كيف يحرّكون أقدامهم
وكان هو قاعداً معهم
صامتاً مثلهم
بلا حكاية ولا ذكرى
والزمن يمرُّ مثل ذبابة عابرة
لا يلتفت إليها أحد.




حيرة اليد

يفتح يده ويرى قوافل مشاة
تعبر في عروقها،
إلى أين يذهبون؟
إلى قلبه؟
أم إلى الجدران والأبواب حين يلمسها؟

هل
إذا لمس الأشياء
غادره إليها الساكنون في عروقه؟
لا يعرف
ويحار
هل يلمس شيئاً
أم يبقي يده
في الفراغ؟




حالات الآخر

أحاول أن أُسبل جناحاً مكانَ يدٍ غادرتْ، فأُسبل ذكرى يد
أُسبلُ ما تبقَّى في مكان اليد، ثغرةً في كتف، هوَّةً في العظام
أُسبلُ هوَّة في العظام وأطير
كوطواط
غائصاً أكثر فأكثر
في عتمة عظامي.

أُسبل ذكرى نظرة
مكانَ عينٍ غادرتْ
ذكرى مكان
مكانَ مكانٍ غادرَ
وأرى كائناتي شاردةً في براري شاسعة
لا تصل النظرةُ إلى حوافرها البعيدة وأناديها: تعالي
تعالي يا كائناتي
كوَّنتُ براريك الشاسعة من نقطة صغيرة
عودي إلى النقطة الصغيرة التي كانت
في قلبي.

أُسبلُ ذكرى يد وذكرى عين وذكرى مكان
أُسبل شطآناً للغرقى الآتين من بحارٍ تركت أسماكُها بعضَ عظامهم
أُسبل للحياة الأخرى للغرقى مكاناً على الحصى
الحصى الأبيض حيث كان مكانهم
حيث كانت حياتهم وضحكتهم وملمس أقدامهم الناعمة قبل أن تأخذهم البحار
أُسبلُ للمشدوهين بالفضاء حجراً على الأرض
للساعين وراء نار الجبل خيمةً لمبيتهم
وللمأخوذين بالنجمة الغريبة أُسبل ضوءاً خفيفاً من أجسادهم
وظلاًّ
كي يستريحوا.

يخرج الموتى منّي
وكذا الأحياء
ويرتطم بعضهم ببعض ولا يعود يعرف الحيُّ أنَّه حيّ
ولا الميت أنَّه ميت.
يدخلُ الموتى بي
وكذا الأحياء
ويختلط بعضهم ببعض ولا أعود أعرف أحيائي من أمواتي
ولا إذا أنا حيٌّ أو ميت.
يختلط الموتى والأحياء بي وأرتبكُ
باحثاً عن مقاعد لهم
وعن صحون
ولا أعرف كم عددهم وماذا يأكلون.
فيَّ ضيوفٌ كثيرون
من التاريخ كلّه
ولا أعرف كيف أكرّمهم على مائدتي،
بيدٍ غائبةٍ كيف أقدّم طعاماً؟
وكيف أرى ضيوفاً بعينٍ غائبة
وكيف أُجلسُ أحداً
على مكانٍ غائب؟

إنّي في وليمة
دعا الضيوفَ إليها شخصٌ آخر على الأرجح
وعلى الأرجح صرتُ ذاك الآخر الذي يسبل فراغاً
ويلقّمُ فراغاً لفراغ
يسبل شطآناً وأحجاراً وجبالاً ونجوماً وناراً وظلالاً
لم يرها
ولم يقعد عليها
سوى الفراغ.




أغنية الحافَّة

وَضَعَ قدمه على النقطة الأخيرة للحافَّة وراح يغنّي
لنسمة العدم الأولى التي ستمرُّ على جسده
وللفضاء الذي كان فارغاً
وسيمتلئ به الآن.

وَطَأَ على النقطة الأخيرة وراح يغنّي:
في الفجر تطلع الشمس وفي المغيب تغيب
والسنةُ فصولٌ أربعة
فيا للحياة الجميلة،
النهارُ ضوءٌ إنْ لم تكن غيوم
والليل عتمة
فيا للحياة الجميلة،
وللناس بيوت
والساكنون فيها مهما مشوا
لا يصلون إلى الباب
فيا للبيوت الجميلة.

وَضَعَ قدمه على الحافَّة وغنّى لمِزق ثوبه
التي لمح فيها ذات يوم ابتسامةً للفجر
وثغراً كاملاً للغروب
ولحياته التي رآها مثل حريق
شبَّ فجأةً في نزهة.

وَضَعَ قدمه على النقطة الأخيرة للحافَّة وراح يغنّي
للخطوة التالية.



***




لم يكن هو الذي مَرَّ
ولا ظلُّه
على كائنات جديدة
فقط كانا واقفين
في نقطة غريبة
بلا كائنات
الوسم وديع_سعادة على المنتدى نوسا البحر T11موضوع: ديوان رتق الهواء لوديع سعادة
hassanbalam

المساهمات: 0
مشاهدة: 987

ابحث في: مرتفعات أو سوناتا الكلام   الوسم وديع_سعادة على المنتدى نوسا البحر Untitl13موضوع: ديوان رتق الهواء لوديع سعادة    الوسم وديع_سعادة على المنتدى نوسا البحر Icon_minitime2018-07-09, 5:16 am
#وديع_سعادة

رَتْقُ الهواء






محاولةُ لَحْمِ أحرف، محاولةُ إكمالِ كلمة



إنّي ألعب الآن. ألعب مع الكلمات وأغشُّها لعلّي أربح شوطاً معها هذه التي خسرتُ معها في الماضي كلَّ الأشواط. ألعب معها وأضحك عليها وتضحك عليّ. ما بيني وبينها اليوم هو غير ما كان بالأمس. سقط وقارها وفقدت جدّيتها وصارت مجرّد لعبة.

يقال إنَّ البشر سيصيرون جميعهم ألعاباً تسير بكبس أزرار. لا أظنُّ أنّي سأعيش إلى ذاك الوقت الذي أصير فيه لعبة كاملة. إنّي الآن لعبة ناقصة، نصف لعبة، ولهذا اخترتُ ما قد يجعلني لعبة كاملة: الكلمات.

سيصير الناس ألعاباً. شيء جميل. يا لمتعة الأزرار التي ستحرّكهم! ورحمةً على. . . لا ليس رحمة على المشاعر، فهي جعلتهم دائماً بؤساء.

بلا مشاعر، هكذا محصَّنون، هكذا مغلَقون على الآخر الذي كان يسطو على أحاسيسهم، على الأيدي التي كانت تمتدُّ إلى عروقهم وتفسد دمهم، على الكلمات التي ما كانت تقال إلاَّ لتُسقط قتلى في روحهم. . . سيصيرون ألعاباً، فيا لروعة الجماد الذي سيصيرونه!.

لن أعيش إلى ذاك الوقت، لن أعيش تلك الروعة. لا تزال هناك أيدٍ وكلمات تمتدُّ إلى عروقي وتُسقط قتلى في روحي. مع ذلك عليَّ أن أخرج من هذه المعركة بأقلّ دم ممكن. عليَّ أن أصافح الأيدي بأيَّة حيلة، وأن أستدرج الكلمات للَّعب وهي ترفع خنجرها عليَّ. هكذا ربّما أجعلها صديقة. هكذا ربّما أكسب استراحة. هكذا ربّما أخرج من هذه المعركة غير قاتل، ولو خرجتُ قتيلاً.

تعالي يا "ألِف" أريد أن ألعب معكِ.أيّتها العمود الجميل، السلَّم الرائع إلى مجهول رائع. تسلّقي عليّ وأتسلَّق عليك، علَّنا، أيّتها المبتدأ، نطلُّ على نهاية جميلة.

فلنلعبْ. البدء كان لعبة والبادئ كان لاعباً. فلنكملْ لعبته برقَّةٍ لم يكن يملكها، علَّنا نضفي على وجهها جمالاً.

وتعالي يا "باء". يا بهاءً ملتفّاً على ذاته أنا شريككِ. ارمي لي الطابة، إنّها تحت وسادتك، فنتقاذفها مسرورين. الطابة كنزك، ولا سرور لمالك الكنز إنْ لم يقذفه بقدميه.

أريد أن ألعب مع الأحرف. هي مثلي وحيدة وتحتاج إلى من يسلّيها.

أريد أن أكون صديق التي أسيء إليها منذ أن تعلَّم الناس النطق، صديق التي وُلدتْ لتلعب، فجرُّوها إلى الجدّية والصرامة والمآتم والقتل.

فلنلعب يا كلمات يا قاتلة ناطقيها وسامعيها. يا من ولدتْ بريئة عودي إلى براءتك، مرَّةً واحدة كرمى للمقتولين بك. عودي بريئة يا كلمات والعبي. أنا قتيلك وأريد أن ألعب معك. أنا القتيل وأريد أن ألعب. أريد أن ألعب.

من زمانٍ من زمان، حين مررتُ مرَّةً أمام لعبة توقّفتُ وقلتُ لها كوني لي. لم تكن. حاولتُ أن يكون قولي لها لعبةً. لم يكن. حاولتُ أن أجعل نسيانها ونسيان كلماتي لعبةً، وفشلتُ أيضاً. أليس في الأرض ألعاب؟ اعطوني واحدة. ماذا أقول للذي يقال إنّه هناك ويسأل الأموات ماذا فعلتم في الحياة؟ أأقول له عشتُ بلا لعبة؟ وإنْ قال خلقتُكم ألعاباً لماذا لم تلعب؟! بماذا أجيب؟ اعطوني لعبة لدقيقة واحدة، فأنا لديَّ حججٌ كثيرة أفحمه بها إلاّ واحدة، فاعطوني لعبة.

هوذا الغيم أتى فأهلاً يا صديقي. لم يكن مطرك مرَّةً دمعَ غائبين، كان ذلك كذباً منّي. كنتُ كذوباً جداً. قلتُ إنّك لهاثُ بعيدين، وإنّك نظرات ضيَّعها أصحابها وهم يحدّقون في الشفق. تعالَ الآن يا صديقي إنّك غيم، غيم فقط، وهذا جميل جداً.

أعترف الآن بأنّي اخترعت أكاذيب كثيرة من الكلمات. ما قلتُه وما كتبته لم يكن سوى كذب. ابنٌ لقيطٌ لمخيَّلةٍ مجنونة. ما قلته وكتبته كان خيانة لبراءة الكلمات، هذه التي أطالبها بالبراءة وأمارس العهر معها.

لقد ظلمتُ الغيم. وظلمتُ ريش الطيور ونشارة الخشب. ظلمتُ الشجر حين قلتُ يثمر من النظرات، والجبالَ إذ ألبستُها أقداماً. وظلمتُ الموتى حين أعدتُ عظامهم إلى الحياة، والحياةَ حين أعدتُها إلى الموتى.

ظلمتُ الناس والأشياء والحياة. هؤلاء كانوا شيئاً آخر غير ما ظننتُ وما أمِلتُ، وكان عليَّ أن أعرف ذلك. كان عليَّ أن أعرفهم كما هم، لا كما أرغب، وأن أحبَّهم.

تعال أيّها الغيم أريد أن ألعب معك. أنت بعيدٌ وأنا أعرف الآن أنَّ اللعب لا يكون جميلاً إلاَّ بين بعيدين. الجمال هو البعيد، البعيد فقط. فلنلعب أيُّها الغيم يا حيلتي الوحيدة الباقية في البعيد، بعدما اقتربت الأرض منّي كثيراً.

اقتربت منّي الأرض فرأيت أحشاءها. رأيت دمها وبولها وبرازها. التصقت الأرض بي فأغماني العفن.

أيُّها البعيد يا صديقي. يا صديقي أيُّها البعيد.

مثل عصفور ينقد نقدةً واحدة ويطير، هكذا كنت أريد حياتي.

وكنتُ موقوف وهْم: وهْم أرض حسبتُها ملكي، ووهم مكان اعتقدتُ أنّي مقيم فيه، ووهم كلمات ظننتُ أنّي أنا قائلها، ووهم أفعال تخيلتُ أنّي أنا فاعلها، ووهم وجودٍ ظننته نفسي.

استطالت الأرض فلتعدْ مستديرة لعلّي أتوهَّم بعد شيئاً جميلاً في مقلبها لا أراه.

جالسٌ الآن وكلُّ شيء مكشوف أمامي. أريد شيئاً مختبئاً، أريد استعادة جمال الغائب.

يا مقلب الأرض عُدْ. أريد أن أمضي فيك ما بقي من وقتي.

سلامٌ سلام على الغيم هناك. على شجر قد يكون موجوداً فيه ولا أراه. على أوراق ربّما سقطت منه في أرض بعيدة. على نقاطه التي نزلت على نهر وغابت. سلامٌ سلام على البعيد. على دفتري المدرسيّ. على اللعبة التي لم أملكها. على قلب اللوز الذي سقط من يدي فهرستْه الدواليب واختفى. . . سلامٌ على الحياة.

أمسكُ يدي وألعب بأصابعها. ألا تزالين يا أصابع صديقة؟

خنصرٌ بنصرٌ سبابة. . . يا لهول ما تعلَّمناه! يا لهراء التسميات التي أفسدت طفولتنا.

أرى الآن جمعاً من الموتى. هاي، أنتَ هناك، ما اسمك؟ كان على الأرض شبيه بكَ ألتقيه كلّ يوم. لم تكلّمني مرَّةً مع أنّنا مشينا كتفاً إلى كتف وكنتُ أحبُّ أن أسمع صوتك. كان صوتك سيؤنسني وصوتي سيؤنسك في ذاك الشارع الذي كان كلُّ من فيه وحيداً.

وأنتِ، أنتِ الوحيدة في الزاوية هناك، ألستِ أمّي؟! أقسم أنَّكِ أنتِ، ولو انَّ نظراتك باردة وجوفاء كأنّك لا تعرفينني. أنَسيتني يا أمّي؟!

بخارٌ فوق بخار. كأنَّ الكون عاد إلى بدئه. كأنَّ الحياة اكتملت أخيراً.

أُنقّب في البخار أُنقّب في الموتى أريد أن أرى ضلعي. كان لي ضلع، أتذكَّر، فأين صار؟ كان لي ضلع وأحبُّه، أريد أن أراه.

يا هذياني الجميل يا إلهي، ابقَ معي. اسهرْ معي بعد هذه الليلة.

إنّي أرى الموتى. أرى الموتى والأحياء في الضمَّادات، ويشعلون القماش لكي نراهم.

هو هراء، هراء يا كلمات. فهؤلاء حين لا يرون مرآتي أكون لا أراهم، لأنَّ الأشياء صارت ورائي لا أمامي.

فلنلعبْ يا "حاء" يا حرباء يا حياتي. يا "حاء" يا "فاء" يا حفيف الضلوع إذ تنحلُّ تراباً يا فحيح الأفاعي. يا "سين" يا "ميم" يا سمّي وموتي، هذه هي سروتي، سدرتي، يائي.

لقد اقتربت الأرض منّي. الأرض اقتربت كثيراً.

قلتُ أختزنك في نظراتي أيّها الغيم. قلتُ أختزن للموت شيئاً خفيفاً طائراً علَّه يرفع معه عيني، تلك التي رأت فقتلتْها رؤاها.

كانت الرؤية قاتلة أيضاً، هل كان ينبغي عليَّ ألاَّ أرى؟

ليس العمى هو المتاهة بل الرؤية. الرؤية يا بورخيس، الرؤية. النظرات تقودنا من متاهة إلى متاهة. وكلُّ نظرة تقتل ما تراه، وتقود إلى شيء آخر تقتله نظرةٌ أخرى. الأشياء ضحايا النظرات يا بورخيس.

رأيتُ كثيراً فَقَتلتُ كثيراً وقُتلتُ كثيراً. ما بقي حيّاً كان فقط في المقلب الآخر الذي لا أراه. غير أنَّ الأرض انبسطتْ، وصار كلُّ ما فيها قتيلاً.

أيّها البعيد يا صديقي، يا صديقي أيّها البعيد، وأنتَ أيضاً لم يعد فيك شيء غير مرئيّ لكي يُحْييني؟ أوأنتَ أيضاً يا صديقي؟

طيرٌ جاء. جاء طيرٌ الآن وحطَّ على شجرة أمامي. إلى هنا، إلى حديقة صغيرة معزولة صامتة جاء طير، فيا للحياة الجميلة!

جاء طيرٌ حطَّ لحظةً وطار. لم ينظر إليَّ، إنّي حيٌّ إذن، إنّي خارج النظر، فيا للحياة الجميلة!

لكنَّ حياتي كانت كلّها نظرات، فهل كنتُ ميتاً دائماً؟

هوذا الغيم أتى فأهلاً يا صديقي. لم يكن مطركَ دمعَ عيون، كنتُ كذوباً. ظننتُ العينَ شيئاً رائعاً وأحبّك، فاخترعتُ لك عيوناً. إنّك أعمى وأحبُّ الآن عماك. أنتَ أعمى ولذلك تُحْيي. أستعيد الآن نقاطك التي نزلتْ عليَّ في الشوارع. نقاطٌ كثيرة وكانت بمنديل تُمحى. وذاك المحو، ذاك المحو على الأرجح، كان حياتي.

الأشياء ضحايا النظرات. أحببتُ هذه الجملة ولذلك أكرّر كتابتها. على الكلمات التي نحبّها أن تبقى دائماً في أفواهنا وأن نعيد كتابتها مراراً على الورق. علينا أن نردّدها دائماً لأنّها تمنحنا شعوراً بأنَّ الحياة لا تزال فيها كلماتٌ حبيبة وبأنّنا لا نزال نستطيع قول شيء نحبُّه. الكلمات التي نحبُّها تجعلنا نشعر بالكرامة وبعزّة القول. الكلمات التي نحبُّها تجعلنا نشعر بأنّنا حقّاً موجودون. . . الأشياء ضحايا النظرات، الأشياء ضحايا النظرات.

أكتب فقط لكي أتسلّى. أقول الكلمات لكي أتسلّى. ولأنَّ هذه الكتابة لعبة زائفة وللرمي في القمامة، يمكنني أن أنتصر عليها. يمكنني أن أبدّد معانيها وأنا أبدّد الوقت بها. يمكنني أن أكتب كلّ شيء من دون أن أقول أيَّ شيء. أن أكتب سخافاتي بحرّية، وأن أسلخ جلد الكلمات عن عظمها، وأن أحرّف القول وأربك المعنى... يمكنني أخيراً أن أخرج من هذا السجن المعذّب الرهيب الذي يفرض وجود معنى لكلّ شيء، ويحدّد هويّة الجميع، والذي قضيتُ فيه وقضى الجميع كلَّ أعمارهم.

الخروج من المعنى، هذا بالضبط ما أريده.

اليوم مات صديقي. كان شاسعاً، لم تسعْه الأرض فخرج.

اليوم مات صديقي يا كلاماً. متَّ اليوم يا كلاماً يا صديقي.

ما أقوله الآن رَجْعُ خطاك. أقول ظِلَّك أيُّها الكلام يا صديقي. أقول غيابك. الغياب لغتي.

صديقي؟ مَن صديقي؟ هل كان لي حقّاً أصدقاء؟

كانوا على الأرجح نتاج نظرات، هؤلاء الذين مرُّوا في حياتنا وغادرونا.

كانت دروبنا أيضاً، ومقاعدنا، نتاج نظرات.

الرؤية ترمي. العمى يحمينا.

لكنَّ كثيرين ماتوا والكلُّ ميت أو سيموت، لِمَ التوقّف هنا؟ لي صديقٌ كاتبٌ في أستراليا يكتب عن الحمير؛ عن الأموات منها وعن الأحياء. أحببتُه. فكلُّ الكتَّاب يكتبون عن البشر وهو يكتب عن الحمير. الذين يكتبون عن  البشر يرفسهم البشر، لكنّي لم أسمع أنَّ حماراً رفس واحداً لأنّه كتب عنه. ذلك، ببساطة، لأنَّ الحمير لا تقرأ، وهذا برهان آخر على أنَّ العمى، العمى المعرفيّ، مسالم وغباؤه جميل: لا يرمي ولا يرفس. . . لكنَّ الذين لا يقرأون من البشر يرفسون أيضاً، والقارئون يفعلون الفعل نفسه. فهل يعني هذا أنَّ الرفس، بسبب وبغير سبب، هو صفة ملازمة للبشر كيفما كانوا، وأنَّ الدنيا تبقى بألف خير طالما فيها حمير؟

احتَرْتُ. أنا قاعدٌ الآن في منزلٍ مستأجَر في سيدني ومحتار: هل أحبُّ البشر أم أحبُّ الحمير؟ هل أبقى أحبُّ البشر وأتغاضى عن رفساتهم كما كنت دائماً أم أحوّل محبّتي نحو حيوان على وشك أن ينقرض، عرفتُه حين كنت فتيّاً ولم أعد أراه منذ ذاك الحين؟ لكنْ لِمَ الحيرة؟ فلطالما اتجهتْ محبّتي نحو الغائبين والمنقرضين، ولطالما كان المنسيُّون والمنبوذون وحدهم أصدقائي. لِمَ الحيرة والأشياء كلُّها الآن لي سواء: رافسُها وعاضُّها وقاضمها والواقف منتظراً حتى يَعضَّ فيُعضُّ. لِمَ الحيرة، كلّ الأشياء تساوت لديَّ، وها أنا لا أريد سوى فقط أن أنساها كلَّها، وأمضي.

ولكنْ أمضي إلى أين؟ إلى العالم الآخر؟ وإنْ هناك عالمٌ آخر، هل فيه حمير؟

يقال فيه ملائكة وشياطين فقط، وناسٌ يتوزّعون بين هؤلاء وأولئك. لم أسمع أحداً يقول إنَّ في العالم الآخر حميراً. إلى أين تذهب الحمير إذن؟ ألا يجب أن يبقى الرفاق رفاقاً في الحياة والموت معاً، أم أنَّ في العالم الآخر عنصرية أشرس ممّا في عالمنا فلا يستقبل الحميرَ حتى ذليلة؟

هذه عنصرية والله لا تُحتمل. فأيُّ حمار يرغب أن يكون في عالم كذاك؟

أحبُّ أن أمضي ولكن ليس إلى هناك. أحبُّ أن أمضي إلى حيث تمضي الحمير.

لا أحبُّ الملائكة ولا الشياطين. فالملائكة ستستقبلني باعتقادٍ أنّها أكثر طهارة منّي، والشياطين ستستقبلني باعتقادٍ أنّها أكثر نجاسة منّي، وكلاهما مخطئان ومع ذلك سيستأسدان عليَّ. لن أذهب إلى العالم الآخر. خذوني إلى حيث تذهب الحمير.

كان آدم ضجراً، قيل، فجيء بحوّاء كي يتسلَّى. وقيل سقطا في اختبار "التفّاحة" فجيء بهما إلى الأرض... يا للعقل البشريِّ الخرف!

أريد أن ألتهم التفّاحة التهاماً فاءْتني بها يا عقلاً خرفاً. عقلٌ بورٌ كهذا أيّةَ أرضٍ يمكن أن يزرع؟ وأيُّ زرع هذا المحرَّم، وما نفعه؟

اسمعوني يا زوَّار هذه الأرض القاحلة، ازرعوا تفّاحاً كثيراً وَكُلوه كلَّه. بذلك، ربما، قد تغيّرون مبدأ الأرض المؤسَّس على اليباب، ومبدأ الخلاص المؤسَّس على الجوع، ومبدأ الفضيلة المؤسَّس على النسك، ومبدأ العالم الآخر الحلميّ المؤسَّس على إلغاء عالم اليقظة. . . بذلك، ربما، تخلقون الحياة حقّاً.

اسمعوني وكُلوا، ولا تسمعوا زارع التفّاح للزينة والعقاب. هذه أرضكم لا أرضه، ازرعوها وكلوا. ومَن يُبقي في أرضه بوصةً بلا زرع وأكل، يُبقي في رأسه فجوة من الدماغ الخرف.

أيّتها الأرض الجميلة أين كنتِ؟

حين كنتُ أستطيع أن أزرعكِ جمالاً لماذا استسلمتُ لدعاة اليباب؟

لماذا تبعتُ الخرافة وضللتُ عنكِ؟

كذباً بكذب كان ذاك كلُّه. وكذبٌ أنّي الآن أتسلَّى. إنّي أتألّم.

مَنْ ذا الذي يمكنه أن يتسلَّى؟ هذا هراء. إنْ لَعِبَ مع الأرض فهي طابة كبيرة عليه، وإنْ لعب مع ذاته فهي صغيرة وتنزلق من بين يديه، ولن يمسكها أبداً.

لا العالم يُمسَك ولا الذات، ولا النظرات التي نرسلها للإمساك بشيء في العالم ستعود إلينا. ضالُّون ومضلِّلون. العالم أوسع ممّا ينبغي والذاتُ أضيق ممّا ينبغي. الأوَّل ضلالنا، والثانية ضالَّتنا.

ضلالٌ بضلال. قبل الرؤية كان الإنسان على الأرجح مُلكَ ذاته والأرضُ مُلكَه. كانا يتبادلان المُلك أو يظنّان ذلك. وكانا أعميين في التبادل والظنّ. وذاك العمى، ما كان أجمله!

ابتعدتُ ابتعدتُ وها الأرض تلتصق بي أخيراً. تلتصق حتى أنّي لم أعد أميّز بينها وبين جلدي. أخذتْ جلدي ولم تعطني جلدها. التصقت الأرض بي وصرتُ بلا جلد.

يجب أن أتكلّم. ما قلتُه وما كتبته في الماضي لم يكن كلاماً. ما قلته وما كتبته كان صمتاً.

قلتُ كثيراً وكتبت كثيراً لكنّه لم يكن سوى صمت. أشعر الآن يجب أن أقول شيئاً. يجب أن أتكلّم، لا يجوز أن أذهب من دون كلام.

عليَّ، ربما، أن أتحدّث مع الغابة. أن أقول للشجر شكراً على الأقلّ، لأنّه أطعمني وأدفأني. يجب أن أقول شيئاً للتراب، وللغيم الذي أمطر عليه وعليَّ، وللسماء، والنظرة. شيئاً للإسفلت، للرحلة، للكلب الغريب. يجب أن أقول شيئاً لنقطة الماء الأخيرة التي نزلت من دلو أمّي على الحبقة، وللدرجة السفلى التي قعد عليها أبي، وللدمى التي ابتهج بها أطفالي. يجب أن أقول شيئاً للرمل، لجزيرة الجرحى، للعظْمة التي كانت تنقص العالم كي يمشي. شيئاً للجبال العالية، وللشبكة التي رسمتُها لانهيار أيّامي لكي تصل إلى الوادي سليمة.

يجب أن أقول شيئاً لأحد. ولكنْ أين هو؟ وماذا أقول؟

صمتٌ إذنْ. كان ذاك صمتاً، وهذا صمتٌ أيضاً.

هناك بقعة بعيدة، بعيدة، أحبُّ أن أراها.

عصفورٌ رأيته لأوَّل مرّة ودُهشتُ، أريد أن أراه مرّة ثانية. قمر ونجوم، والتفاتاتُ ظلالٍ مزهوَّة، وصوتٌ  بعيدٌ يأتي من قصبةٍ مجنونة.

موتى في قطار، بقايا نظرات، وذبابة تحوم حول ذراعي.

ورقة منسيَّة، زرُّ قميص ضائع، وواحدٌ يقول "آه"!

هؤلاء هم، هؤلاء من أريد أن أقول لهم شيئاً.

والعشبُ إذ يرتبك.

أريد أن أتحدّث مع الارتباك. . .

واقفٌ في الشارع في منتصف الليل، ونقطة ماء نزلت عليَّ من غيمة.

السماء ترسل إشارةً رطبة إلى مرضاها.

أم أنّها نظرة أخرى ضائعة في الفضاء، ولجأت إليَّ ظانَّةً أنّي عينها؟

إنّني أعمى، أعمى، يا نقطة. فقدتُ عينيَّ من زمان، ولا تزال نظراتي الأولى تبحث عنهما ولا تجدهما. ما أظنُّ أنّي أراه ليس سوى ترسُّب لمعانٍ قديم في ذاكرتي. فنحن الذين تحت، يا آتية من فوق، لا نرى غير ذكرى، ولا نسمع غير ذكرى، ولا نقول غير ذكرى. نحن يا صديقتي لسنا نحن. نحن ذكرى أنفسنا. إنّنا فقط ذكرى.

أم أنّها نقطة الماء التي نزلت على حبقة أمّي تبخَّرتْ وعادت إليَّ ؟

ولماذا تعود؟ فلا حبقة لديَّ ولا أُمّ. لا عين ولا نظرة. لديَّ فقط وهمي. وهذا يصنع الخرافات، ويصنع المعجزات. يجعل الفراغ يمطر، واليباب يثمر، وخنجرَ الأحلام زهرةً جميلة في الجرح. وهو على الأرجح صنعَ الأرض، وصنع السماء. إنّه أفق الإنسان وعمقه، امتداده وعلُوُّه ورجاؤه وإيمانه. فهل يعجز صانع المعجزات هذا عن إسقاط نقطة ماء من غيمة على رجل واقف في الشارع؟ هل يعجز وهمٌ عن إسقاط ماءٍ وهميّ على رجلٍ وهميّ في ليلٍ وهميّ؟ لم يعجز، وقد فعل، وسقطتْ تلك النقطة عليَّ ولا غيمة في السماء ولستُ في الشارع!

هذا، تماماً، مثلما كنت أنسى معطفي في المقاهي، ومع ذلك أكون أرتديه وأنا عائد إلى بيتي.

فما أبهاك أيّها الوهم! أنت الجمال الوحيد. المنتصر الأوحد على البشاعة. كاسرُ المقاييس ومحطّم المبادئ. قالبُ الأرضِ رأساً على عقب، والسماءِ رأساً على عقب. خالقُ ما لا يُخلَق ومكوّنُ ما لا يكون. . . ما أبهاك أيّها الوهم، يا إلهي.

كان وهماً جميلاً، لكنّه مات هو أيضاً.

أمشي الآن بلا إله. أمشي بلا وهم. محاطٌ بالحقيقة من كلّ جانب، فمن يقوى على تحمُّل هذا؟!

ربما لذلك شختُ. ربما لذلك عجزتُ، وصرتُ أتعب من المشي حتّى في بيتي. الحقيقة التي تُتعب أرواحنا تجعلنا عاجزين، أيضاً، عن الانتقال من غرفة إلى غرفة.

يا "ميم" يا "شين" يا "ياء" عودي والتحمي، فلَعلّيَ أمشي.

بالتحام الأحرف تلتحم الضلوع أيضاً. فضلوع الناس ليست سوى أحرف، تنتظر من يلحمها لكي تصير شخصاً يمشي.

زرعتُ اليوم نبتة في سيدني. ضلوعٌ مفكّكة ومع ذلك زرعتُ نبتة. وستصير النبتة شجرة أنظرُ  إليها وأرحل، لكنَّ الهواء سيبقى، إذ يلمسها، يشمُّ رائحة أصابعي.

فافرحْ بهذا الخلود يا وديع. الخلود الذي هو ذكرى رائحة، خيالُ يدٍ في التراب. الخلود الذي هو عبورُ هواء، صمتُ ورق.

افرحْ بهذا الوهم الذي هو أيضاً ضلوعٌ مفكّكة. ولكنْ بالتحام الأحرف تلتحم الضلوع، فجيئوا بالأحرف كي نلحمها. الحموا "الواو" و "الهاء" و "الميم". الحموا "الخاء" و"اللام" و"الواو" و "الدال". الحموا ضلوع الوهم وضلوع الخلود، فتصير شخصين مثلنا، يزوراننا في الليالي، ونشرب معهما العرق ونلعب الورق.

والحموا "الشين" و "الجيم" و "الراء" و "التاء". السعادة هي أن ننظر إلى شجرةٍ زرعناها، ثمّ نذهب إلى النوم.

ألحمُ الأحرفَ وأُعدُّ المائدة: الوهم والخلود ضيفاي.

في الليالي المقمرة يسعد الموتى. يخرجون ليتقمَّروا. يستلقون تحت ضوء القمر ويخبرون بعضهم حكايات. يعيدون على مسامع أنفسهم حكاياتهم الأولى هناك، حين كانوا يستلقون تحت ضوء الشمس ليتشمَّسوا.

لا يخرج الموتى في النهارات من مقابرهم. الضوء الساطع هو ضوء الجنّ والعفاريت والأشباح المخيفة. عالم الشمس مرعب وقاتل وهم يريدون سلاماً وطمأنينة.

يخرج الموتى في الليالي ليستعيدوا حكايات لم يعد ينزف قتلاها دماً ولا عاد الموت يرعبهم. يستعيدون وجوههم التي سقطت برعب هناك، وتسقط الآن في بالهم مطمئنّة.

تعرَّفتُ إلى موتى كثيرين. جالستُهم طويلاً حين كانوا أحياء، وجالستهم طويلاً بعدما صاروا موتى. قعدنا وشربنا وأكلنا معاً وتحدّثنا كثيراً. . . لكنّي سمعتُ لغةً غريبة من الموتى، ولا أعرف لماذا فهمتُها أكثر مما فهمت لغة الأحياء.

لن تفهموا لو قلتُ لكم ما قاله لي الموتى. يجب أن تدخلوا في الموت مثلي، وتجالسوا الموتى، لكي تفهموا.

هل جلستم مرّةً مع العدم؟ هل تعلَّمتم لغة العدم وسمعتم ماذا يقول؟

كيف لعدميٍّ إذن أن يوصل إلى الممتلئين بالحياة كلاماً مفهوماً؟ كيف يقنعهم بأنَّ الكلمات مخلوقات أخرى غير ما يعتقدون، لها طبائعها وأمزجتها ومفاهيمها التي لن تخطر لهم على بال؟ مخلوقات شبحيّة متقلّبة خبيثة ومفترسة. تكون تمضغهم في الوقت الذي يعتقدون أنّهم ينطقونها. وتكون تُضلّلهم في الوقت الذي يعتقدون أنّها الطريق. وتقتلهم حين يظنّون أنّهم يحيون بها، ويحيون إذ يمحونها.

كيف لميت أن يُفهم الأحياء لغة الموتى؟ كيف يقنعهم مثلاً بأنَّ "الواو" أداة قطْعٍ ونقصٍ لا أداة وصْل وإضافة؟ فهل ينقطع شيء إنْ لم يكن موصولاً؟ وإذ يكون بلا وصْلٍ ألا يكون مكتملاً بذاته فيأتي تطلُّب الوصل لكي يجعله ناقصاً؟

وهل يقتنع الأحياء بأنَّ "الكاف" التي قيل لهم إنّها للتشبُّه إنّما هي لمحو الشبيه؟ إذ كيف لا يُمحى وجهٌ إنْ شُبّه بآخر؟ كيف تكون له خصوصية ملامح إنْ كانت شبيهة سواها؟ كيف يكون هو، إنْ كان آخر؟ "الكاف" حرفٌ مفترسٌ أيضاً، فالتشبيه افتراسٌ للشبيه لا إحياء في شَبَه.

لن يفهم الأحياء معاني الكلمات التي اعتادوا نطقها. لن يفهموها إلاّ إذا اكتسبوا طبائع الموتى. فالذين صاروا هناك فهموا اللغة كلّها، ولن يفهمها الذين هنا إلاّ إذا نسفوها كلَّها وأدركوا أنّها لغة موتى لا لغة أحياء.

إنّني أدرك تماماً عجز الناطقين وعجز السامعين. فأنا كنت مثلهم، إلى أن أدركتُ أنَّ لغة حياتي هي لغة موتي.

أفهم عجز الجميع، لأنَّ الجميع يريد أن يكون حرْفَ وصْلٍ وأداة تشبيه. أفهم عجز الجميع لأنَّ الجميع يريد أن يكون الجميع. فالوصل عجزٌ والقطْع قدرة، والتشبُّه اضمحلال والفرادة وجود. ولذلك لا وجود، ولا قدرة، إلاّ لناسفي هذه اللغة. لا وجود ولا قدرة إلاّ لجحافل المتمردين.

. . . وهؤلاء هم، هؤلاء هم القتلى، الذين لغة حياتهم هي لغة موتهم.

اقتربْ أيّها الغيم يا لهاثنا. يريد الموتى أن يضعوا فيك كائنات جديدة.

يريد الموتى أن يصنعوا سماء أخرى، فاقتربْ أيّها الغيم.

بانخطاف الدخول في الهواء والاندماج في الندى، يولدون. تتكوَّن النطفة من شفَّافَين. من خفيفَين لا مرئيَّين. لا يقسوان لئلاّ يُلمسا فيضيعان في يدٍ أخرى. ولا يُريان لئلاّ يذوبا في نظر.

اقتربْ يا غيم، هناك ملاكٌ مهاجر.

ملاكٌ مهاجر يا غيم يبحث عن مكان، فاقتربْ. ألا مكان في الفضاء لملاكٍ مهاجر؟!

قال لي أبي: تعلَّمْ من الشجر، فأنت سنديانة مقيمة. . . أريد الهواء يا أبي أريد هبوب الريح. ألمسُ الشجر وأبتعد، ألمس الوجوه وأختفي.

إقامتي الفضاء الشاسع، إقامتي اللامكان. شاردٌ لا رفاق لي. الشجر مُسَلِّيَّ وليس رفيقي. بين قفزٍ وقفزٍ ألاعب أوراقه، ليس رفيقي ولا سلفي ولا نسلي.

والوجوه ليست محفظتي. ليس لي محفظة يا أبي. لا أحتفظ بشيء، لا الوجوه ولا غيرها. فأنا هابٌّ وليس ورائي سوى غبار.

لا، لا، ليست الحياة الجميلة شجرة زرعناها، ننظر إليها ثمّ نذهب إلى النوم.

الحياة الجميلة هي الهواء الذي يلمس الشجر، ويمضي.

وأنا في سيدني تلقَّيتُ نبأً من بيروت أنّي ميت. لم أكن أعرف أنّي ميت حتى تلقَّيتُ نبأ موتي فعرفت. اتصلوا بي وسألوني: هل أنت ميت حقّاً كما قيل لنا؟ فوجئتُ واحترت. . . ثمّ أجبتُ: نعم.

لا يعرف الواحد أنّه ميت حتى يخبره سواه. الموت خبر، ويصير حالةً بالمعرفة. كنتُ حيّاً أو أظنُّ، وحين عرفتُ مُتُّ.

وصل إليَّ نبأ موتي في الرابعة فجراً. لم يكن ليلاً ولا نهاراً. كان وقتاً خارج العتمة وخارج الضوء. لم يكن وقتاً كان هيوليَّ وقت. وكان هيوليَّ مكان وهيوليَّ حالة.

نظرتُ من النافذة ورأيتُ روعة ما لا يُرى. رأيتُ جمال اللامرئيّ.

وفي تحسُّس غيابي، أيقنتُ جمال لمس الفراغ.

كم هو رائع هذا اللامرئيّ كم هو رائع! لا يخدّش نظراً ولا يطلب رؤية. لا يسعى إلى عين ولا العين تحتاج إلى سعيٍ لكي تراه. لا تحتاج الرؤية إلى عين لكي تمتلئ بروعته.

نظرتُ من النافذة. لا غيم ولا شجر. أين أنت أيّها الغيم أريد أن أُوْدِع فيك آخر أنفاسي. نَفَسٌ ربّما يصير ماءً ذات يوم وينزل على شجرة. ربّما يصير عيناً تلتقي بنظرتها. ربّما يصير عصفوراً، ينقد نقدةً ويطير، كما كنتُ أريد حياتي.

تعالَ يا غيم أريد أن أُوْدِع فيك آخر أسراري: أنا الغراب الذي أرسله نوح ولم يَعُدْ. الغراب الذي صار الجهة الخامسة، ويبحثون عنها ولا يجدونها.

تعلَّمْ من الشجر، قال أبي. أين الشجر يا أبي أين الإقامة؟ السماء إذ تنجلي تأخذ ملامحها معها. نقاؤها فراغها. النقاء هو الفراغ يا أبي. الإقامة امتلاء.

أريد غيماً محيِّراً متقلّباً، غيماً عَصيَّ الملامح، أريد إرباك الفراغ.

أريد اختراق الفراغ وإرباكه. جعله حائراً قلقاً كالامتلاء. أريد مساواة الامتلاء بالفراغ والوجود بالعدم.

هكذا، على الأقلّ، يجلس الحاضرون والغائبون معاً، ويتسامرون طوال الوقت، إلى الأبد.

هكذا لا يرغب الحاضرون في امتلاء، فيخفُّون كريش. ولا يرغب الغائبون في حضور، فيبقون هواء.

هكذا تلتقي الخفقة بنفسها، ويولد كونٌ جميل.

راكضٌ لاهثٌ ضائع، ليس لي ريش ولستُ هواء. كيف أجمع حضوري بغيابي وألدُ منهما كوني؟

الحياة التي نزفت دماً كثيراً أثقَلَها دمُها وغرقتْ فيه. الفم الذي قال كلاماً كثيراً سحقه حطامُ كلامه. الرئة التي لهثت كثيراً اختنقت تحت ركام لهاثها.

كيف أجعل من الغرق والحطام والاختناق كوناً؟

في البعيد خشبة، هذا أمل الغرقى. في البعيد غيم، هذا أملي.

عُدْتُمْ؟ أهلاً بكم أيّها الموتى. هل اصطدتم شيئاً في هذه الرحلة؟ أوقدوا النار إذن، أريد أن أشارك في الوليمة. هل كان نائماً، مختبئاً أم جافلاً هذا الإله الذي اصطدتموه؟ وقولوا، صِفوا لي ملامح وجهه وهو ينتظر الرصاصة. هل خاف؟ هل بان الرعب عليه؟ وهل كان رعبه شبيهاً برعبكم أمام رصاصه؟

أوقدوا النار أريد أن آكل وأشرب وأسكر معكم. أريد أن أشرب نخبكم يا صيَّادي الآلهة في مجاهل العدم، في رحلة الانقلاب العظيم، حيث يحيا القتيل ويموت القاتل، وينحني السيّد ويشمخ العبد، وتصير الرعيَّةُ اللهَ واللهُ الرعية.

خذوا كلوا. . . هذا هو الجسد الذي جعلكم جائعين.

سينفجر البركان قريباً. وصلت النار إلى الحدّ وسينفجر. ستكون للأرض مائدة عامرة من أجساد مشويَّة. ستُطهى الملائكة والقدّيسون والآلهة، وتُطبخ العفاريت والشياطين والجنّ، ويجد المشرَّدون في الأرض والجائعون أطباقاً وُضعتْ فجأةً أمامهم.

سيكون احتفال كبير للمنسيّين على الأرض. فالبركان اقترب انفجاره، وسيشبع الجوعى من فحم الأرض أخيراً.

راكضٌ لاهثٌ لا درب لي ولا وجهة. هاربٌ من فم الأرض. الأرض اقتربت منّي كثيراً وأريد أن أبتعد. ظلمتُ ريش الطيور فكيف أطير؟ ظلمتُ الموتى كيف يستقبلونني؟ والغيم إنْ أتى بماذا ألعب معه؟ والوهْم إنْ تخيَّلتُه كيف أقيم فيه؟

راكضٌ لاهثٌ كيف تؤويني الكلمات؟ والأشياء إذا نظرتُ إليها كيف تعرفني؟

وماذا أقول للارتباك إنْ تحدّثتُ إليه؟ وكيف أُربكُ الارتباك وهو مُربكي؟ وإنْ، بالوهم، اخترقتُ الفراغَ وأربكتُه، فهل يمكن حقّاً أن أساويه بالامتلاء؟

لقد اقتربت الأرض.

اقتربت الأرض منّي كثيراً.

الأرض اقتربت من الفراغ.







الصوت



بودّي أن أكتب رواية عن صوت، خرج ذات يوم من فم وضاع في الفضاء، وصاحبُه يجري وراءه علَّه يعثر عليه.

يقال إنَّ الصوت لا يموت، يخفت في الهواء رويداً رويداً، لكنْ لا يموت.

عن ذاك الذي لا يزال فيه بعضُ حياة هناك، بودّي لو أكتب رواية

وعن هيام صاحبه

للقائه مرّةً أخرى.



ذات يوم قال شيئاً غريباً

وتموَّج قولُه في الفضاء وضاع

وضاعَ هو وراءه

طبقةً بعد طبقةٍ مرتطماً بهواء وبقايا أصوات

ممحوّاً وراء قوله

غير عارف أين صوته

ولا عارفاً ماذا قال.







الصرخة



بودّي أن أكتب رواية عن صرخة ٍ خرجت من فمِ شخصٍ وهو يموت، وهامتْ في الفضاء ثمّ عادت تبحث عنه

صرخةٍ تريد الرجوع إلى الفم الذي خرجتْ منه

إلى رحمها، نبعها الجافّ.

بودّي أن أكتب عن صرخة تعود إلى صاحبها الميت وتعرف ماذا كان يريد أن يقول

بودّي أن أعرف ماذا يقول ميتٌ لصرخته

وماذا تقول الصرخة للفضاء.







حيرة الذاهب



ترك أعضاءه ومضى. بلا قدَم ولا يد ولا قلب ولا أحشاء. قال سأكون خفيفاً هكذا، وراح.

الريح التي لعبت بشَعره ذات يوم تلعب الآن بفراغه.

خفيفٌ حتّى الإنهاك من مشقَّة الخفَّة. تائهٌ حتّى الطفْح بكثرة تشعُّبات الفراغ.

لا، ما هكذا، قال. ما هكذا يكون الضجر الشريف

ومَدَّ فراغاً منه إلى الوراء، كما كان يمدُّ يداً، لالتقاط شيء

مَدَّ تجويفَ نظرة

مَدَّ تخيُّلَ صوت.

الوراء بعيدٌ جداً، الأمام بعيد جداً. لا عودة، لا وصول.

لكنّه ليس ذاهباً إلى مكان

ولا يذكر أنّه ترك أعضاءً ولا يشعر أنّه خفيف

لم يكن ضجراً من مكان ولا مكان له كي يتركه ولا مقصد كي يذهب إليه

ولم ينتبه إلى نظرة خرجت منه إلى ناحية أخرى

ولا خيالَ صوتٍ له

ولا يقوى على مدّ فراغ.







العشبة



يريد أن يعود. في حائط بيته عشبة صغيرة يريد أن يعود ويراها.

حارسةُ الحجرين وروحُ الوصل بينهما في شقّ ذاك الجدار. الجدار الذي رصف أحجاره حجراً لصقَ حجر، حريصاً على عدم ترك فراغ. لكنّها وجدتْ روحاً، ونبتتْ في غفلة فراغٍ صغير.

إلى ابنة ذاك الفراغ، إلى ابنة تلك الغفلة، يريد أن يعود.

لا يشتاق إلى بيت. لا يشتاق إلى أحد.

يريد فقط أن يعود

ليرى العشبة.







الورقة



كتب شيئاً على ورقة، كي لا ينسى

شيءٌ ما كان يريد أن يفعله

ولا يتذكّره الآن.

كتب شيئاً بأحرف كبيرة، ووضع الورقة حيث كان يجلس.

يريد أن يعود ويقرأها

يريد أن يفعل ذاك الشيء

أو يعرف على الأقلّ

ما هو.







شيء



إلى لويزا وجبران رومانوس، اللذين جلبا لي من لبنان قنينة عَرَق فاخر، وأكتب الآن وأنا أحتسيها.

أريد أن أقول لكما شيئاً

عن العشبة التي امتزجت بالروح

عن الملاك الذي وقف اليوم أمام بابي، وشيئاً عن الأرض

التي كانت، حين خرجتُ، لا تزال نائمة في بيتي.

أريد أن أخبركما كيف تولد كواكب جديدة في الروح. وكيف، في كلّ ارتداد نظرة، يأتي عصفور وينقد الكواكب

كيف الكواكب هي طعام العصافير حين نرشُّها من نظراتنا، وكيف

مَرَّ ظِلٌّ على زهرتي في الحوض.

يا لويزا وجبران

أريد أن أقول لكما شيئاً.







نسمة



حين كانت النسائم لا تزال تمرُّ عليه، كان بودّه أن يتبع نسمة.

فيها شيء من الجبال والسهول والوديان، وعبورٌ سريعٌ لكلّ الأمكنة

وشيء من رائحة جسده كان بودّه

لو يعرف إلى أين تذهب.

نسائم كثيرة مرَّت عليه

تركتْ بقايا صغيرة لأرواح مسافات بعيدة

يدٌ لوَّحت على ميناء

وَصَلَ إليه ملمحُ ظِلٍّ من عروقها

ونَفَسٌ ميتٌ لغبار

حَطَّ ذات يومٍ على يدٍ تزرع زهرة.

نسماتٌ مرَّت عليه

فيها على الأرجح نثارٌ من لهاث أجداده

وعلى الأرجح هما معاً الآن، لهاثهم ولهاثه، يتسامران في التيه

مازجَين معاً أقصى الغابر وأدنى الحاضر، ماحيَين الزمن.



شبطين 18 أيلول 1837، الساعة 12 و 14 دقيقة ظهراً: ماذا حدث في تلك اللحظة؟

ربّما رنَّ صوتُ كأسين، ربّما ارتفعت صرخة، لا يعرف

لكنّ ما حدث في تلك اللحظة ممزوج الآن برائحة جسده

ويعرفه بالتأكيد نسيمُه.

ممزوجٌ في الكلّ الكلُّ ممزوج فيه. متماهٍ، هواء

يهبُّ من تيه إلى تيه، من فراغ إلى فراغ

وفيه أيضاً ذات يوم ستمتزج أرواح أولاده وأحفاده

الذين رآهم والذين لم يرهم، الذين عرفوه والذين لم يعرفوه

خليقةٌ بأسرها في نسمة

كلُّ ما خُلق قبل وكلُّ ما يُخلق بعد

عميانٌ خرسان طرشان في هواء

من تيهٍ إلى تيه

من فراغ إلى فراغ.







نظرته



نظرته الأخيرة ظلَّت هناك، عالقةً على شيء لا يتذكّره

ربّما امتصَّها روحُ مكانها

أو حطَّ طيرٌ ونَقَدَها،

بودّه أن يتفقّدها ولكنْ

الفضاءُ الشاسع الرهيب، البؤبؤ البعيد أيضاً وفي مكانٍ آخر، والكائن المجهول الذي قد تكون صارت مُلكه.

قديماً كان يرى أمواتاً يعودون، ويتمشّون أمام بيوتهم

يتلمّسون أحجار الجدران، جذوع الشجر

ومثل كأنّهم يسقون الزهور، ويقتلعون العشب الذي نما في غيابهم.

لو انَّ أحداً يراه عائداً

ويتلمّس مكانَ نظرته

أو

لو يبقى الطقس معتدلاً هناك

فلا ترتجف نظرته من البرْد

ولا تيبس من الحرّ

وإنْ أمطرتْ فخفيفاً

لئلاّ تغرق.







الجهة



يا حارس الفضاء الشاسع الجهات، كم جهةً يمكنك أن تحرس؟

ستفلت منك بالتأكيد ريشةٌ على الأقلّ

وتذهب على هواها

ستنتصر نثرةٌ عليك.

يا ريشتي الصغيرة دلّيني إلى الممرّ الضيّق السرّيّ

أريد أن أتبعك

يا مُربكةَ الفضاءِ وحارسِه، يا ريشتي التي نفذَتْ

من جهة إرباك الوهم.







نقطة



انظرْ، هناك نقطة!

انظرْ مليّاً، في البعيد هناك، نعم بالتأكيد إنّها نقطة

وأظنُّ أنَّ هذه هي التي نبحث عنها

ارتدِ الريشَ الذي كنتَ سترميه في النار

ولنذهبْ إليها.

نقطةٌ بين غمامتين، تتموَّه فيهما وتتموَّهان فيها

لكنّي أظنّ أنّها هي الصرخة التي خرجت منّا في ذاك اليوم

أو القلبُ الذي نجتْ منه نثرة،

بالتأكيد هي البصيص الذي علا مع دخان رمادنا

حاملاً شيئاً لا يزال حيّاً منّا.

فلنذهب إليها، إنّي أراها

إنّها بالتأكيد

هناك.







الذي



الذي قتلوه ودفنوه

لأنّه أكل ثمرة

نَبَتَ هيكلُه العظميّ

وصار شجرة.







حين أراد القاعد أن يمشي



واثبٌ من مكان إلى مكان

حاملاً بندقيّةً ومحاولاً

أن يحوّل حلمه إلى طير

إلى فراشة، ذبابة، صرصار

حاملاً شبكةً، صفّاقةً، حذاءً

لكي يقتله.

يركض من مكان إلى مكان صافقاًُ هنا وهناك

يقتل ذبابةً فتنبتُ فراشة

يقتل فراشةً فينبت طير.

قذفه حلمُه في الريح

كان جالساً، فأراد مشياً

وضاع

حَلِمَ المسافات

ففقد الأمكنة.

واثبٌ حاملاً أيَّ شيء في طريقه

كي يقتل الحلم

ويستعيد المكان.





ذبابة الطريق



بقي منسيّاً هناك

ومشى، وهو منسيٌّ، الطريقَ كلَّه

عَبَرَ المسافة كلَّها من دون أن يبرح مكانه

وتسلَّى طوال الطريق

مع ذبابة.







يمدُّ يداً



مع وصول الفجر يستلُّ شعاعاً ويضعه في جيبه،

ماذا إذا بكى الليل وطلب ضوءاً؟

ألم يمرَّ الفجرُ لكي يسرقه ويوزّعه على الفقراء؟

مع وصول الليل يسرق شعرةً سوداء منه

ليربطها بالفجر التالي ويجرَّه، إذا حَرَن.

وفي النهار مقعدٌ

لانتظار الليل وانتظار الفجر،

وحين تصل ريحٌ يمدُّ يده

ويرى كوناً بأكمله في المسافة الضئيلة

بين إصبعه والهواء.







طيرٌ سرّيّ



ليس هذا اختلال نظر

إنّما تحوُّلُ الغبش في عينيه إلى طير.

كانت الأرض ناساً وتراباً

فحوَّلها إلى طيور،

أخذ من العين غبشاً

ومن الوهم فضاءً

واخترع طيراً

لا يقوى أحدٌ على مطاردته ولا

على رؤيته.







المرافق الغريب



المرافق الغريب الذي لا نعرفه

اقتلع خطواتنا من أقدامنا ورماها في النهر

صارت أقدامنا في مكان

وخطواتنا في مكان آخر يتقاذفها ماء

لا نعرفه أيضاً.

مَن جاء بالمرافق إلينا مَن قال نريد رفيقاً؟

نَبَتَ هكذا فجأةً من تيه

تيهِ الرحلة أو تيهِ سؤالٍ قد يكون

خرج من فمِ واحدٍ يمشي بيننا

فقال "رفيقاً"

ويقصد عطش المسافة، أو الاستراحة.

لكنَّ ما حدث أنَّ الرفيق جاء

رمى خطواتنا في النهر

واختفى.







النبع



حين سألوه عن الماء تحت قدميه

قال إنّه عَرَقُ التعب

فهو من زمان يبحث عن نبع

ولم يجدْه إلاّ

في جسده.







المفتاح



أخذ مفتاحه ورماه

على الحافّة

وصار كلُّ الذين يريدون أن يخرجوا يضيعون

أو ينزلقون

في الهاوية.







في الحديقة في الليل



في الليل في الحديقة يلفُّ سيجارة

من ناحية الضوء تبدو له قصاصات التبغ في الورقة رجالاً

منحنين في الحقول

نحيلين يزرعون تبغاً.

يشعل عود ثقاب ويرى

فلاّحين سيشتعلون

يطفئه، يعيد تبغ سيجارته إلى العلبة

وينظر حواليه فلا يرى أحداً

لا ناساً لا حقولاً لا تبغاً

في الحديقة

في الليل

وحده.







شخصٌ في الرماد



قال رأى في الرماد يداً، فماً، عيناً

يداً تريد أن تصافحه

فماً يطلب قبلة

وعيناً تنظر إليه.



حين كانوا يحرقون الجثّة

رآه كلَّه في الدخان:

يولد من رحم أمه، يحبو على البلاط، يزرع زهوراً ويتمشّى في الحديقة، ويضيع خياله بين العمَّال الراكضين في الشوارع.



رأى يده وفمه وعينه في الرماد

ورآه كلَّه في دخانه،

وحين كان الرماد جسداً

لم يكن يرى شيئاً.







نسمةُ طير غريب



النسمة التي على جناحيه ليست من هواء الفضاء

إنّها من طيرٍ غريب

عَبَرَ ذات يوم في ذاكرته.

طيرٌ يعبر الآن أيضاً

يراه

سريعاً

ويختفي.

إنّه يمرّ

باندفاعةِ غائب.







مكان الحائط



بودّي أن أكتب عن صورةٍ لميت، مزَّقوها قطعاً قطعاً ورموا كلَّ قطعةٍ في مكان، فعادت وجمعت نفسها صورةً كاملة.

بودّي أن أكتب عن صورةٍ تمزَّقتْ نتفاً، وعاد صاحبها من الموت كي يلحمها،

توزَّع في أمكنة كثيرة

كلُّ نتفةٍ منه في مكان، تبحث عن نتفة منه، لكي يجمع نُتَفَهُ ويعودَ صورةَ جسدٍ كاملة.

يمدُّ يدَ وَهْمٍ هنا، وَهْمَ عينٍ هناك

يمدُّ نُتفَ أوهام، ليجمع جسدَ وهمٍ كامل.



جَرِّدوا الحائط من كلّ الصور، قال، ومزِّقوها، فهي ستلتحم، وتعود كلّها إلى الحائط

نتِّفوا أسلافكم وارموهم قطعةً قطعة، سيبقون مقيمين فيكم.

قال هذا، ومضى يجمع نتفةً من هنا ونتفة من هناك

معيداً لحْمَ الصورة

وعارفاً تماماً

مكانَ الحائط.







على حجر



أعود أخيراً من مكان إلى مكانٍ لم أبارحْه. جلْتُ وضِعتُ ومتُّ وعدتُ وأنا في مكاني. تحدَّثتُ مع الغيم وأنا أخرس. سمعتُ صهيلَ مجرَّاتٍ وأنا أطرش. رأيت موتى وأنا أعمى. وفي طريقي عرَّجتُ على منعطفات، وحاولتُ ترتيبها.

كان الأعمى أعمى والرائي لم يكن موجوداً. استعار الأعمى وَهْمَ الرؤية من غير الموجود، واستعار غيرُ الموجود وهْمَ رؤية الأعمى، وحاولا معاً ترتيب كونٍ من عمى الرؤية. كون ترتِّبه أيادٍ متخيَّلة. توضع فيه عيونٌ وآذان من كواكب لا عيون لها ولا آذان. كون يرتِّبه ويسمعه ويراه عدمُ وجوده.

أعود أخيراً من ذاك الكون الذي لم أكن فيه ولا بارحتُه. أعود من منعطفات لم أمرَّ عليها، ومن كواكب لم تكن هناك، إلى أرض ليست هنا.

لا كنتُ هناك، ولا عدتُ. خيالُ ذاهبٍ وخيالُ عائدٍ وخيالُ مقيم. ومن هذه الخيالات لحمتُ ضلوعاً ولحمتُ حروفاً وجعلتُها جسدي وكلماتي. . . وها أنا أجلس الآن كائناً كاملاً تقريباً، آكل وأشرب وأتمشّى في الحديقة، وتحرس كينونتي كائناتٌ صغيرة تقفز فوق أسيجة التخيُّلات.

يغمرني فرحٌ كبير أنّي جالسٌ الآن في الحديقة وأرى أشجاراً وعشباً ونملة تتسلَّق جذع شجرة أمامي. ويغمرني فرحٌ أنّي أسمع الآن صوتاً في بيت جارٍ لي. هذا يعني أنّي في حياة حقيقية: الحياة التي فيها شجر ونمل وأصوات.

المسافات التي أعارتني تصوُّرات خطواتها أعيد التصوُّرات إليها. الأمكنة التي وهبتني تخيُّلَ السكن فيها أعيد إليها كراسيها وبيوتها. أعود من الكواكب الوهميّة وأسكن مع النمل والشجر. أسكن مع الصوت الذي يخرج من نافذة الجيران، ومع رؤية الخطوات في الشارع، والعصفور الذي يأتي ليسرق طعام كلبتي وأهتف: إنّني في الحياة الحقيقيّة!

أعيد الكراسي إلى الكواكب، وأجلس على حجر في الحديقة.

إنّها نهاية رحلة الوهم، التي لم تبارحْ هذا الحجر.

ومن النهاية هذه، أبدأ تعلُّم معنى أن تكون على الأرض نملة تعيش معي، أو أكون أعيش مع نملة. وأن تكون أصوات الجيران خارجة أيضاً من فمي ولو لم أتفوَّه بكلمة. وأن تكون قدمي هي التي تخطو خطى الماشين في الشوارع، ولو إلى هاويتي.

نهايةُ رحلة، لم تبتدئ أصلاً. وأحاول بدأها، لكنها انتهتْ، وبقيتْ على جوانبها نملة وشجرة وعصفور، ورجلٌ يجلس في الحديقة، وينظر إلى نملة.

رحلةٌ يحاول صاحبُها أن يبدأ، من نملة!

نملةٌ حقيقيّة، وتسلُّقٌ حقيقيّ، وجذع شجرة حقيقيّة. يا لهذه الحياة الحقيقيّة البسيطة التي غفلتُ عنها طويلاً! وإذا كان في مقدوري أن أكون، بعد، حيّاً حقيقيّاً، فعليَّ أن أبدأ من هنا، من النملة.

اخترعتُ أشجاراً في مجرَّات، نسوراً لا تأبه بنمل، ووضعتُ كرسيّاً في هواء، وحاولتُ رصفَ أحجار على غيم.

لا، ليس هذا بيتاً للعقلاء. فليس عاقلاً من لا يعيش مع نملة.

الغيم أتى فأهلاً يا صديقي؟ أيُّ غيم أتى؟ فلا غيم هناك ولا حتّى سماء. والنظرة التي قلتُ إنّها تبحث عن عين، لم تكن سوى حَوَلِ فراغٍ في محجريَّ. والنافذة التي اعتقدتُها تطلُّ على كون جديد، كانت شقَّ جدارٍ في ذاكرتي.

لا كونٌ جديد. كلُّ الأكوان الجديدة رَصْفُ أحجارٍ من الذاكرة. فقط هذه الأرض العتيقة، وأريد أن أعود إليها، إلى الحجر الذي وضعه أوَّلُ إنسان، وأجلسَ عليه.

بودّي أن أكتب رواية عن موت التخيُّلات. عن الصرخة التي لا تعود إلى صاحبها، والصوت الذي لا يبحث صاحبُه عنه.

بودّي أن أكتب فقط عن شخص حقيقيّ، يجلس على كرسيّ حقيقيّ، في حديقة حقيقيّة، ويعيش مع شجرة ونملة حقيقيّتين.

الأحلام تقتل الحدائق، وتقتل الأحجار والجالسين عليها.

بودّي أن أكتب عن حجر، لا يتحرَّك أبداً من مكانه

وعن شخص

يجلس مطمئنّاً

على ذاك الحجر.
الوسم وديع_سعادة على المنتدى نوسا البحر T11موضوع: ديوان غبار كامل لوديع سعادة
hassanbalam

المساهمات: 0
مشاهدة: 1434

ابحث في: مرتفعات أو سوناتا الكلام   الوسم وديع_سعادة على المنتدى نوسا البحر Untitl13موضوع: ديوان غبار كامل لوديع سعادة    الوسم وديع_سعادة على المنتدى نوسا البحر Icon_minitime2016-08-20, 11:51 am
#غبار
#انتحار
#وديع_سعادة
@hassanbalam

غُبار

2000



الغباريّون

مقفرةٌ الطرقاتُ وهابّون وحدنا. الأرض صارت غبارًا وها نحن نكمل حياةَ الغبار.
إننا نكمل حياة غبار الأرض. هذا الذي يجب أن يكمل حياتَه أحد، وها نحن نفعل.
لا نكمل حياة الأرض بل حياة غبارنا. لا نكمل حياة بل موتًا. جئنا لنرافق الغبار في هبوبه الأخير، نحمله إلى مثواه، وننام معه.
ما كان الأرضَ لا يشبهنا. إنه نقيضنا ونحن أنقاضه. وما جئنا لنكمل تلك الأرض بل لننقضها. ما جئنا لنكمل بل لننقض.
لا دين قبلنا لا دين بعدنا لا دين لنا. غباريّون بلا دين ولا متديّنين فليس للغبار غير الهباء. سابحون في فراغ. في الفضاء الذي لا الأرض أُمُّه ولا وَلَدُه. في فراغ الأبوَّة وفراغ البنوَّة. إننا ذاهبون إلى إلهنا، إلى العدم.
نحن الغباريّون، و هذا ما رأيناه في هبوبنا، هذا ما كان شيئًا قبل أن يصير غبارًا، ما كان شيئًا قبل أن نصير نحن الغبار:



جمال العابر

العابرون سريعًا جميلون. لا يتركون ثقلَ ظلّ. ربما غبارًا قليلاً، سرعان ما يختفي.
الأكثر جمالاً بيننا، المتخلّي عن حضوره. التارك فسحةً نظيفة بشغور مقعده. جمالاً في الهواء بغياب صوته. صفاءً في التراب بمساحته غير المزروعة. الأكثر جمالاً بيننا: الغائب.
قاطعُ المكان وقاطع الوقت بخفَّةٍ لا تترك للمكان أن يسبيه ولا للوقت ان يذرّيه. مُذَرٍّ نفسه في الهبوب السريع غير تارك تبنًا لبيدره ولا قمحًا لحقل سواه. المنسحب من شرط المشي للوصول. المنسحب من الوصول.
العابر سريعًا كملاكٍ مهاجر. غير تارك إقامة قد تكون مكانًا لخطيئة. غير مقترف خطيئة، غير مقترف إقامة.
سريعًا تحت شمس لا تمسُّه، تحت مطر لا يبلّله، فوق تراب لا يبقى منه أثر عليه. سريعًا بلا أثر ولا إرث ولا ميراث.
لم يُقم كفايةً كي يتعلَّم لغة. لم يُقم كي يتشرَّب عادات. لا لغة له ولا عادات ولا معلمين ولا تلاميذ. عابرٌ فوق اللغة، فوق العادات، فوق المراتب والأسماء والاقتداء.
بلا اسم، فوق النداء والمناداة.
وفوق الإيماءات، إلا إيماءة العبور.
وبلا صوت، لأن الصوت ثقلٌ في الهواء.
لأن الصوت قد يرتطم بآخر. قد يسحق صوتًا آخر في الفضاء. قد يزعج النسمات.
وبلا رغبة. لأن الرغبة إقامة، ثبات.
العابرون سريعًا جميلون. لا يقيمون في مكان كي يتركوا فيه بشاعة. لا يبقون وقتًا يكفي لترك بقعة في ذاكرة المقيمين.
الذين أقاموا طويلاً معنا تركوا بقعًا على قماش ذاكرتنا لا نعرف كيف نمحوها.
بقعٌ مؤلمة، أينما كان على المقاعد، بحيث لم يعد يمكننا الجلوس.
المقيمون طويلاً يسلبون مقاعدنا. يحوّلون أثاث بيوتنا إلى قِطعٍ منهم. بحيث نجلس، إذا جلسنا، على ضلوعهم، على عظامهم.
يسحق المقيمون المقيمين. أما العابرون فلا يسحقون أحدًا ولا أحد يسحقهم. لا يطأون على كائنات ولا يُثقلون خطوًا على أرض. حتى الهواء لا يلمحهم غير لحظة.
بلا قلق ولا ندم ولا آلهة ولا أتباع. إيمانٌ واحد لهم: العبور.
المتخلّون عن الأمكنة والأوطان والآباء والبنين. كاسرو القيد. مخرّبو المشنقة المصنوعة من حديد المكان والزمان والانتماء.
إنهم يتساقطون، الواحد تلو الآخر، المتشبثون بالإقامة. يتساقطون بأوطانهم التي صارت وهمًا. بانتماءاتهم التي صارت كذبًا. بأبوَّتهم التي صارت عبئًا. بايماناتهم التي تقتلنا، وتقتلهم، وتقتل الحياة.
العابرون لا ضحايا لهم. هل لذلك بات علينا، كي نمجّد الحياة، أن نمجّد عبورها بسرعة، أن نمجّد الانتحار؟
بخفَّةِ خفقة الطير وانفتاح النسمة للجناح. بخفة انفتاح هواء العبور واندمال هواء الانطلاق.
عابرون سريعًا، كلحظة انقصاف.
لهم من العصفور صوت، من الغصن نظرة، من الزهرة شميمٌ خاطف.
عصافيرهم للغناء والرحيل، لا للسجن في أقفاص أو تأبيدها محنَّطةً في واجهات. طيورهم الروح المسافرة، لا الريش المقيم.
وزهورهم العبق الشارد خارج الإناء.
سوى المرتحلين، واللامبالين، والعابثين بالإقامة، والممسوسين، والموتى، مَن كان سيكتشف جمال العبور؟
وأيّةُ لحظة تكتشف الحياةَ أكثر من لحظة الغياب عنها؟
هل لذلك تجب مصادقةُ الرحيل أكثر من مصادقة الإقامة؟
وهل، لذلك، على حياتنا أن تكون، فقط، تمرينًا على جمال الرحيل؟
أجملنا الراحلون. أجملنا المنتحرون. الذين لم يريدوا شيئًا ولم يستأثر بهم شيء. الذين خطوا خطوةً واحدة في النهر كانت كافية لاكتشاف المياه.
أجملنا الذين ليسوا بيننا. الذين غادرونا خفيفين، تاركين، بتواضع، مقاعدهم لناس قد يأتون الآن، إلى هذه الحفلة.
حفلةٌ سخيفة، ورغم ذلك لا يترك المتشبثون بالإقامة مقعدًا!
لكن لِمَ المقاعد، ما دام المحتفلون يبدأون ضيوفًا وينتهون أعداء؟
لنمضِ إذن، بخفَّة، قبل أن تلتهمنا الخناجر، قبل أن نصير طبَقَ الوليمة.
لحظةُ الوصول إلى الاحتفال هي كلُّ جمال الاحتفال. وبعدها، سريعًا، يصير الجمالُ هو المغادَرة.
الخطوة المغادِرة، هي الأجمل دائمًا.
الراحلون يمتزجون بالنسيم. وإذ نقف نحن، لتشييعهم، فلنشيّعْ معهم ذكراهم أيضًا. لأن الذكرى تعيق رحيلهم، تعيدهم إلى مكانهم، تجعلهم جمادًا.
الذاكرة تعيق الراغبين في الموت. وتجعل الراغبين في الحياة موتى.
فلندفنها إذن.
لندفن الذاكرة ونحن نغنّي.
إنها حفلة سخيفة في إية حال، ولكن بما أننا وصلنا، فلنغنِّ ونرقص.
ثوانٍ، قد نكون فيها جميلين.
لكن أجملنا سيبقى: الغائب.



منفى اللغة

إذا كانت اللغة وطننا حقًّا، فإننا نعيش في منفى.
أليست هي ما نتحدث به مع أنفسنا لا مع الآخرين؟ ولا يكون لنا تواصل لا مع ذاتنا ولا مع الآخر؟
اللغة شأنٌ خاص لا شأن عام. نتكلم كي نقتنع فلا نقتنع. كي يقتنع الآخرون بنا فلا يقتنعون. اللغة نأيٌ لا اقتراب.
المتكلمون ينفون أنفسهم.
والخروج من المنفى هو الخروج من اللغة.

اللغة هي أصوات موتى. وهكذا نرصف جثثًا.
الكلام الحي كان كلام الإنسان الأول. الأول، قبل أن يتكلم.



ظلُّ أن نكون

هي ظلال، هي ظلال. لا تيأسْ. اضربِ الشجرةَ فتسقط الظلال. إقطعِ الأغصانَ فترَ الشمس.
لكن، هل يجب قطع الشجرة من جذورها؟ أم الاكتفاء بذكرى ضوء؟
الذكرى تكاد تكون كلَّ وجودنا. غير أننا نقطع الأغصان ونبقى الظلال.
وفي هذا السباق من يصل إلى الغروب أولاً، الشخص أم ظلُّه؟
نتسابق، نحن وذكرانا، ثم نرتطم بعضنا ببعض ونختفي.
نصير غبارًا ميتًا. ونحلُّ بعد ذلك في وحل الأحياء.
وحْلٌ لم نشأ أن نصنعه. ولا أن نكون فيه. ولا أن نتركه لغيرنا. ولا أن نراه.
هي ظلال، ظلال.
إقطعِ الشجرة.



الرغبة

مُسقطُ الرغبات بلغ الهدف. فلا رغبة في مشي بعد، ولا في وصول.
أليس الوصول هو التخلّي عن رغبة الوصول؟ أن تصير بلا رغبة في شيء، فقط المقعد الصغير الذي تجلس عليه ربما، أو الشجرة أمامك، أو الفراغ الذي بلا مقعد و لا شجر؟
أليس الوصول أن تبقى حيث أنت؟ أن يكون هدفك مكانك بالضبط، حيث أنت هنا و الآن؟
أن تتجاوز الرغبة، أليس هذا هو العبور العظيم؟
الرغبات تفسد النزهات. لا يعود أصحابها يرون جمالات الطريق. تصير عيونهم في مكان آخر. في مكان الرغبة، التي لا تستقر في مكان. الرغبة اللامكان لها. يصيرون في الغائب، المستلَب، غير الموجود. يصيرون في اللامكان.
الراغبون يقيمون في الملغيّ.
هل يمكن بناء بيت في غياب، وضع كرسي في عدم؟
الرغبات تصنع حفرًا في الروح، تصنع جروحًا. هل يجوز وضع مقعد في جرح؟
إذا كانت الجروح التي حفرَتْها الرغبات على مدى التاريخ، وتسيل منا دمًا الآن، لم تبلغ مستواها بعد ولا هدفها، أيكون مطلوبًا إذن صنع طوفان جديد من جروحنا أم دَمْل الجروح؟
هل يجب تهشيم الروح والجسد في الممرات نحو الرغبات المستحيلة، أم الجلوس والتمتّع بمشاهد الطريق؟
أيجب طلب غائب أم الفرح بعدم حضوره؟
وإن كان لن يأتي، ولن نصل إليه، هل نعيش غياب انتظاره أو نعيش حضورنا في غيابه؟
ثمّة رقص على الدرب لا يراه الراكضون. رقص يعرفه الجالسون. ثمة رقص خفيّ في الجلوس.
الساكنون يسمعون وحدهم الأغنية. الضاجّون طرشى ضجيجهم.
في السكون غناء جميل. في الصمت دهشة أصوات. حين تجلس وتصمت تكون تخترع أوتارًا جديدة.
وولادات، لا تصرخ حين تولد.
وميتات، لا تأسف إذ تموت.
ورقصات، تنتشي من سكونها.
ومسافات، تقطع الدروبَ وهي على مقاعدها.
ومزهريّات، تعبق من فراغها.
في السكون أرض جديدة. والسماء تبزغ من العيون المغمضة.
أحيانًا ينشر الجرح صيفه على البيوت، فتُخرِج نقاطُ دمٍ كراسيها لتستظلَّ الشجر.
أحيانًا تَخرج نقاطٌ إلى النزهات ولا تعود إلى العروق. أحيانًا، ييبس الدم على الباب، أحيانًا يضيع، ودائمًا ينزل في غير مكانه: على تراب، على حجر، على جلد، على قماش، وليس أبدًا على هدفه. فهدف الدم، على الأرجح، ليس الخروج، بل البقاء في مكانه.
الخروج من مكان ليس نزهة، ليس بلوغًا، إنه ضياع.
والرغبات التي تُخرجنا من بيوتنا لا تمنحنا ظلاًّ ولا نزهة. النزهات تشرّدنا على الدروب، وتترك منا عظامًا في المجاهل.
هل أقول لا ترغب؟ وكيف يكون ذاك؟ أليس كمن يقول لا تكنْ؟
لكن، أبالرغبة كون أو يولد الكون خلسةً في غيابها؟
هل يقيم الكون في الرغبة، أم يبدأ من النقطة التي بعدها، من الفسحة، ويمتدّ في فراغٍ عظيم؟
أن تكون حقًا، هو أن تسعى إلى ملء نفسك بالكون أم أن تفرغه منك؟
والهدف، هل تبلغه إن سعيت إليه أم إذا ألغيته؟
ألا تكون وصلت إذ تلغي الأهداف؟
إن بلغتَ رغبةً تلد لك رغبات. فالرغبة إن بُلغت تكاثرت. ولدتْ أطفالاً مشاكسين. وتركض أنت، تركض ولا تبلغهم، إلى أن تلفظ الأنفاس.
اقعدْ. لا تلهثْ على الدروب.
إلغِ الدرب، تصلْ.



المعرفة

هل نطمئن إذ نعرف أم نزداد قلقًا؟
أفي المعرفة أمل أم يأس؟
هل هي طريق خلاص أم طريق هلاك؟
ولكن أولاً، هل نمتلك يقينًا أم شكًّا؟ حقيقة أم افتراضًا؟ وسواء كان هذا أو ذاك، هل يقود إلى الخلاص؟
إنما.... أي خلاص؟
كلما ازددنا معرفة ازددنا شكًّا، فكل معرفة شك.
ومن يعرف أكثر يقلق أكثر، وييأس أكثر، ويهلك أكثر.
كل معرفة جديدة شك جديد ويأس جديد. حتى لكأنّ التفاؤل ليس سوى الجهل. حتى لكأنّ الجهل هو الخلاص!
المعرفة ليست ضوء النفق. شعاعٌ ما أن يكشف عتمةً حتى تتبدّى عتمات، مجاهل. والذين يدخلون نفق معرفتهم ليس أمامهم غيرُ العتمات، والموتُ في عتمة.
الجاهل لا يدخل الأنفاق ولا يحتاج إلى ضوء. يبرئه جهله، فيموت على مدخل النفق، في الضوء.
هل الجهل هو الضوء، والمعرفة العتمة؟ وهل بسبب المعرفة ينتحر المنتحرون ويَقتل القتلة ويموت الذين لا يجرؤون على الإنتحار أو القتل في الزاوية الصامتة من وحدتهم؟
وحدتهم التي جعلوا فيها زاوية للكلام، وزاوية لوداع الكلام؟

كل معرفة جهل، كل جهل يقين.
كل معرفة قلق، كل جهل اطمئنان.
ما يلغي فروقهما، ما يوحّدهما، هو الهلاك.
غير أن العارف يهلك في قلق معرفته، أما الجاهل فيهلك في اطمئنان الجهل.



الانشقاق

تدوس في طريقها كلَّ شيء، القافلة. تمعسه بصمت، بعمى.
سَيل الجماعة جارف. قافلة الجماعة ماعسة. تسحق الفرد ومأواه الضيّق للسهو أو النوم.
كيف يمكن إنقاذ الزهرة الداخلية في هذا الجرف؟
هذا البهاء اليتيم كيف يمكن إنقاذه؟
الطافي يحيا. الغارق يموت.
لكن هل لموجةٍ أن تنفصل عن بحرها وتسكن وحدها على الشاطئ؟ هل لنقطة ماء منعزلة أن تحتقظ بلؤلؤة الأعماق؟
الآخرون ليسوا جحيمنا فحسب. الآخرون هم عَدَمنا.
الموت هو الآخر. الضحايا صنيع الجماعات. أما الحياة النحيلة فتكمن في العتمة العميقة لأرواح المنعزلين.
كان ثمّة جمال، ينبثق من الشرود.



الإنحراف

المنحرفون أبدعوا قِيَمنا، أودعونا حضارةً سريّة جميلة، في مقابل حضارة يُستحال إحصاء جثثها.
المنحرفون، الذين ماتوا في المصحات أو في السجون، هم آباؤنا الحقيقيون.
الأسوياء جرفهم النهر. غير الأسوياء ظلّوا على الشاطئ.
هناك بالضبط، على الرمل و الحصى، مقاعدنا، لا في النهر.
إذا خرج من الماء مقعد، سرعان ما يسيل.
مقاعدنا على الشاطئ، نجلس عليها.... أما الماء، فنمدُّ له أقدامنا.

صُنّفوا هامشيين، حطبًا لفظه السيل إلى الضفاف، ورقًا، خِرقًا، مزقًا ساقطة من الثوب.
صُنّفوا للنبذ، للرمي، للخلع من قماش المدعوين، للمنع من الوليمة.
صُنّفوا للحرق.
لكن، ها هو العالم يختنق. إذ كيف يتنفّس العالم بلا هامشه؟
المنبوذون هم رئة الحياة.
قلب الحياة، هو الهامش.
هل نخرج من قلب العالم؟
نخرج، ما دام مليئًا بالدماء.
نسكن في اليد الملوّحة للبعيد، في الشَعر المتطاير، في العين اللانهائية الامتداد.
حينذاك نكون في القلب. القلب الأبيض، النسيميّ، السابح في الهواء.
في نقاء الفراغ.

في قلب الحياة عِرق للحق والخير والجمال، عرق منشقّ معزول، اسمه الاختلال.
يمشي المختلّون في العِرق خفيفين، صامتين، لئلا يتفتّق العِرق ويفسد. لئلا ينفتح على العروق الأخرى، الدموية. لكي تبقى الدرب الضيّقة جميلة وسريّة.
أرواحنا الصامتة الحزينة هي الجميلون في السر. الماشون في عرق الاختلال.
أرواحنا الجميلة، هي المختلّون.

بات علينا تخريب هذه الطريق وشقّ طريق جديدة. نسفُ الكتلة الهائلة التي تكدَّست مع الزمن والعادة واستقرت في عقولنا مفهومًا واحدًا ونهجًا واحدًا للحياة.
صار واجبًا ابتداع عصر مغاير.
أليس على العصور أن تتغير، على الأقل كما تتغير جلود الحيَّات؟
تاريخ بأكمله، قاد إلى إلغاء التاريخ!
تاريخ جماعي ألغي تاريخ الفرد. وتاريخ فردي ألغى تاريخ الحياة مع الجماعة.
رؤية واحدة، طريق مشتركة، قطعت أرجل المنحرفين عنها، معست المتباطئين، اقتلعت أعين الناظرين في مكان آخر.
كان النبع خادعًا، والمصبّ ضحيّة خداعه.
نبعٌ واحد و مصبّ واحد لتاريخ بأكمله. بحيث امتلأ النبع والمصبّ بالنفايات والجثث.
بات واجبًا ابتداع نبع ومصبّ جديدين.

سلامٌ للمناطق النائمة في الدماغ، الوادعة كالفراغ، المسحورة كالعدم.
سلامٌ للخلايا التي لم تستيقظ بعد. إنها خلايا السلام.
التاريخ يشهد على أن كل خلية جديدة تستيقظ، تبتكر طريقة موت جديدة.
هذا العقل يكاد يفني الأرض.
سلامٌ لخلاياه المنحرفة، سلام للجنون.
تجب إعادة ابتكار الأدغال
وبناء عصر آخر يضع مداميكه المنبوذون، وتحرسه أرواح المجانين.



المنفى

الإنسان كائنٌ عاقل؟ صفة ناقصة. ما عادت دقيقة. الإنسان كائن منفيّ.
بات صعبًا تحديد موطن للناس. المنفى اتسع. الأرض كلها صارت منفى.
ما عاد هناك وطن. هذه تسمية أضحت من التراث. من الذاكرة الآفلة. البشر يقيمون في منفى لا في وطن.
كان في الماضي منفى جماعيّ ومنفى فرديّ. صار الكلُّ كلِّيي النفي: منفيين في الخارج ومنفيين في الداخل ومنفيين في الجماعة ومنفيين في الذات.
لم تبق في الخارج أية إشارة إلى أن هذا المكان، أو ذاك، هو مكاننا.
ولا في الداخل إشارة إلى أن الذات لا تزال تخصُّنا.
صار صعبًا، بل مستحيلاً على المرء تحديد ذاته، فكيف تحديد مكانه؟
إذا الذات نفسها منفيَّة، هل يمكن التحدُّث عن مكان؟
سيلٌ من الخطى على بلاط بارد. دفقٌ راكض يطوي الأمكنة. مشيٌ لا يحتفظ بأي مكان.
لا درب. فقط تشعّبات. وخطوات تتشعّب على التشعّبات كلها ولذلك لا تسير.
لم يبق للأقدام طريق تألفه وزاوية تتمدّد عليها. درب العودة إلى مكان أليف، بشوق و بطء وفرح، ما عادت ممكنة. صارت ممحوَّة. محتها الخطوات الراكضة وموت الألفة واستحالة العودة. محاها غياب المكان.
المكان الذي غاب كمساحة، وغاب كحضور.
ليس ممكنًا، بعد، أن تكون حاضرًا مع آخرين، لا بينهم ولا فيهم. لم يعد لديك كلام لهم ولم يعد لديهم كلام لك. إذا تكلّمتَ لا تتكلم إلا مع ذاتك ولو ظننتهم يصغون. وإن تكلّموا لا تسمع إلا صوتك ولو اعتقدوا أنك تصغي. لا تكون إلا فيك ولو كنت في جمهرة. ولا يكونون معك ولو كنت بينهم... لستَ إلا منفيًا وليسوا إلا منفيين.
منفيٌّ في المكان ومنفيٌّ في الناس. منفيٌّ في الخارج ومنفيّ في الداخل.
مثلّث المنفى: منفى المكان ومنفى الآخر ومنفى الذات.
هل تجد ذاتك وطنًا لك؟ قُلْ. هل ذاتك مسكن؟
هل بينكما لغة؟ أأنتما متفاهمان؟ أليفان؟ تنامان على سرير واحد؟ تترافقان على الطريق؟
إني لا أرى غير عداء وخيانة.
الذات لا تخلص لصاحبها، الذات تخون. لا ترافقه، تهجره، لا تنقذه، ترديه.
لا أرى غير بُعد وغياب.
لا أرى رفاقًا سوى الآفلين. لا رفاق إلا الموتى.

غابت الأمكنة وغاب سكانها. لم يعد ثمة مكان ولا قاطنوه. صار خطأ ما تعلمناه عن مفهومي المكان والزمان، وعن الإقامة والاغتراب. تغيَّر كل شيء. انقلبت الحياة والإنسان والأشياء على مفاهيمها وعلى نفسها. دخلتْ في خلطٍ فوضوي حتى الإلغاء. إلغاء المكان وإلغاء الزمان وإلغاء الآخر وإلغاء الذات.
دخل الكل في منفى كليّ. دخل الكل في الغياب.
وكان هذا الغياب سيكون جميلاً لو لم يكن جرفًا جماعيًا، لو لم يكن التزامًا بالركام.
كان جميلاً لو للغائب خصوصية غيابه، وللملغي فردانيّة اختيار الإلغاء.
فللغياب الاختياري نصرٌ على الحضور. للمنفى الخاص نصر على الانتماء. للغياب والمنفى نصر على الجماعة والاستيعاب والامتصاص.
هكذا، يكون المنفى نصرًا نادرًا. يفوز المنفيّ بذاته ولو ليس له رفاقٌ إلا الآفلين، لو ليس له رفاق إلا الموتى.
هكذا يكون للفرد حضور.
هكذا لا يكون للفرد حضور إلا بغيابه!



الألم

إن أمكن تعريف التاريخ يمكن القول: إنه تاريخ الألم.
ألم الفرد وألم الجماعة. ألم الارتباط وألم الانشطار. ألم الذات من الآخر وألمها من ذاتها. ألم الناس وألم الأرض. فالأرض، مثلما تتألم المخلوقات منها، تتألم هي من المخلوقات... وعلى هذه الجروح المتبادلة تُرصف عمارة التاريخ.
منذ الفجر الأول كان الألم. قامت الأرض على صرخته. تكوّنتْ ونمتْ على هذا الصوت. كأنها من دونه لم تكن. كأن الأرض تكونت من فاجعة، من خطأ. كأن ما يلد، وما ينمي، وما يفرض الاستمرار، هو الخطأ.
وكأن الأرض، لو كانت فرحة، لتبددت!
لا عمر لغير الألم، وقد يكون هذا ما يعنيه الخلود أيضًا.
خلود الخطأ. ويصحُّ كذلك: خطأ الخلود.
هل يحتاج تاريخ الألم إلى براهين؟ التاريخ قدَّم البراهين بنفسه، والفلسفات والآداب والفنون والمسيرة كلها فعلت ذلك بجدارة. ربما يحتاج تاريخ الألم إلى شيء آخر: نقضه. ربما لمحو الألم ينبغي محو التاريخ! أو فعل ما يمكن: وقف هذا الركض في مسيرة سمجة، والجلوس للتفرج على الطريق، والضحك.
هل كان يمكن، بجنون ما، الانقلاب على هذه المسيرة وبدء تاريخ معاكس؟ هل كان يمكن، في لحظة انحراف، تغيير الدرب؟ ألم يمرّ في الأزمان وقتٌ مبارك، ساعةُ غفلةٍ عظيمة؟
ألم يكن ممكنًا، في لحظة ما من التاريخ المديد، انتصار المجانين على العقلاء؟ الفوضويين على المنضبطين؟ الجالسين على الأرصفة على محتلّي الدروب؟
ألم يكن ممكنًا أن تكون الأرض ساحة احتفال؟ أن تكون الأمكنة حلبات رقص؟ أكان مستحيلاً، حقًا، القضاء على الألم؟
ولو حدث ذلك، كيف ستكون الأرض؟ ألن تفرح حينذاك بوجودها وترقص؟
لكن خطأ ما يحكم الأرض ومخلوقاتها. خطأ كبير، هائل، بحيث لا تمكن مقاومته.
خطأ يحكم الأرض و يجرُّ البشرية إلى أخطاء. يجرّها إلى التدافع والصراع، إلى اقتراف خطيئة الطموح، إلى الإثم والألم.
فالطموح ليس سوى إضافة ألم وإثم: ألم للذات وإثم للآخر. إذ على سكينة الذات تطأ خطاه وعلى الآخر يشقُّ دربه. الطموح يخضُّ صفاء النفس ويعكّر ماءها. يوحل الذات، فتصير لا ماء ولا ترابًا. تصير ألمَ الوحل الطامح إلى أن يكون إما ترابًا وإما ماء. ألم الوحل الفاقد كينونتَيْه.
الطموح صفة الناقص. أما الممتلئ فيهدأ ويجلس.
كلُّ آتٍ يؤلم، وكلُّ ذاهب.
ما يلتصق ألم، وما ينسلخ ألم.
النقطة التي تسقط عليك تنزل من ألمها الأول، والنقطة التي تتبخر تذهب إلى ألمها الثاني.
على جلدة الروح بقع آلام من الناس الذين التصقوا، ومن الناس الذين انسلخوا، ومن الأشياء والأفكار والرغبات والانهزامات والانتصارات.
ولكن، من يحلم بأن يهزم الآخر في النهاية، الناس أم آلامهم؟
من يحلم بأنه ذاهب إلى مثواه خاليًا من البقع؟
ما سيصل أخيرًا ليس الجسد النظيف ولا الروح الصافية. ما سيصل هو الوشم.
بقعة كبيرة من الآلام والآثام، تُحمل وتوضع في حفرة.
وكان جميلاً حقًا لو سمح الخطأ بصواب واحد: أن تلقي نظرة أخيرة على بقعتك السوداء، وتضحك.



النسيان

ذاكرة أم حياة؟ شقاء أم نسيان؟
سؤال يقرن الموت بالذاكرة والسعادة بالنسيان... لكن، أليس هذا هو جواب الوجود، الحالّ محل "الفكر" الواهم وهْبَ "الوجود"؟
أنا أنسى، إذن أنا موجود!
جواب جديد، بعد تاريخ طويل من إلغاء الوجود بالفكر والذاكرة.


سعادة النسيان:
للنسيان خفة طيران في قلب السعادة لن تكون مطلقًا للذاكرة الرازحة تحت أثقال. خفة رمي الثقل ومحو اللطخات لاستقبال الصفاء.
سعادة اللحظة، إذ ترمي عنها ما قبلها وما بعدها. ما علق بها وأعادها إلى غيرها. فصلها عن ذاتها. جعلها لحظةَ آخر لا لحظة ذات. شطبها.
سعادة اللحظة التي لا تستقبل من السابق ما يخدّشها، ولا ترسل ما يخدّش اللاحق.
الماقبل ثقلٌ على الآن، والمابعد ثقل. الماقبل والمابعد، إذ يحلاّن في الآن، يميتانه.
ما كان هو الآن موت، وما سيأتي.
الحياة هي: الآن.


مأساة الذاكرة:
قد لا يُفرح التذكُّرُ والتذكير أن الحقد، الثأر، القتل... بنات ذاكرة.
غير أن الذاكرة تفظِّع أكثر: تقتل صاحبها أيضًا.
المتذكّر هو ظلُّ ماضيه، ظلُّ غيره، قتيلُ ذاته، ميّتُ حاضره.
حين نتذكر نصير الموتى.
المتذكرون هم موتى موتاهم.


شقاء ذاكرة السعادة:
لا تتذكّرْ غزالةً اختفت في الأدغال، ذلك لن يجعلك غير فاقد غزالات أخرى تعبر الآن أمامك.
ولا تطارد الذي غاب، ذلك يجعلك ذا شقاءين: شقاء الغياب وشقاء المطاردة.
اقعدْ في الغابة، بلا سلاح، ولا تفكير في غنيمة. حينذاك ستأتي الغزلان وتأكل من يدك.
وإن لم تأت، تكون على الأقل ربحتَ هناءك.


ذاكرة الرغبة:
من يرغب يصير ضحية رغبته. ومن يطلب استحضار رغبة غربت يصير ضحيتين: ضحية الرغبة وضحية ذكراها.
الذين بلا رغبات هم الأحياء حقًا.
لا شيء يقتلهم ولا يتركون ضحايا.
العالم سصير لهم إذ يأنفونه. فالعالم، الذي لا يُملك، له سرٌّ لامتلاكه، هو: رفضه.
يطيرون عاليًا، فوق، الذين بلا رغبات. ومن أجنحتهم ينزل نثار العالم.


ذاكرة المكان:
وهل تكون هنا وأنت تتذكر هناك؟
المكان الذي جئتَ منه مضى، الذي تذهب إليه لم يأت. المكان هو، فقط، هنا.
لكنك ماشٍ. وما هو هنا يصير هناك.
إذن طريق بلا مكان. إذن المكان: نسيان الأمكنة.
إنْ صدف أن نسيتَ المكان، هل تبقى في منفى؟


ذاكرة التاريخ:
نحن لسنا ذاتنا. نحن التاريخ محشوًا فينا.
نتاج أفكار السلف، تعاليمه، قواعده، قيوده، زنزانته.
التاريخ سجَّاننا وجلاَّدنا.
وإن كان لهذا الجلاد حفلٌ فرح، فنحن فيه الدمى المتحركة. إن كان هذا الملك يلعب الشطرنج، فنحن بيادقه.
نحن لسنا نحن. نحن هم متلبّسيننا.
من مات لم يمت. إنه حيٌّ فينا ونحن موتى فيه.
فإن أردت أن ترى التاريخ انظرْ في وجهك. ترَ ذاكرته و كينونته، وترَ عدمك.
اخلعه عنك، إن أردت أن تكون.


ذاكرة الآباء والبنين:
منذ ولادتهم نبدأ بنفيهم عن ذاتهم. ندقُّ فيهم مسامير ذاكرتنا وندرزهم بصور الموتى.
منذ ولادتهم نبدأ بقتلهم.
نقتل أبناءنا مثلما آباؤنا قتلونا. نمنحهم إرث الذاكرة التي ألغتنا وستلغيهم. نفتح لهم بوابة المملكة، باب السجن، ونمنحهم القيد والبيدق.
نمنحهم البيت الذي يتمشى فيه الأموات.
من يحب أولاده لا يورثهم صورته، لا يهديهم ذاته، لا يترك لهم ذاكرة.
من يحب أولاده يمنحهم النسيان.


ذاكرة الوصول:
أمُّ الشقاءات، فكرة الوصول. إذ لا وصول، لا نقطة، لا مقعد، على الطريق.
ليس المشي ما يُتعب، بل فكرة الهدف.
آن تؤخذ بها، يفوتك الزهر على الدرب وشدو الطير وجمال رنّات خطواتك.
الهدف يسرق منك النزهة ولا يمنحك ذاته. كلما اقتربت منه ابتعد، كلما أطللت عليه غاب.
امحُ ذاكرة الوصول وتمتَّعْ بالمشي.
بل انسَ. انسَ الهدف وانسَ الدرب.
للنسيان خفة محو الطريق، وتأبيد لحظة عدم السير.
أنا أفكّر إذن أنا موجود؟
لا. أنا أنسى إذن أنا موجود.
النسيان، هذا هو الوجود.



الصمت

لماذا أمضى نيتشه سنواته الأخيرة صامتًا منعزلاً؟ هل أراد أن يقول إن الصمت هو أعلى درجات الكلام؟ التعبير الأفصح عن لا جدوى التخاطب؟ أن ينفي إمكان التواصل بين الذات والآخر؟ بين الفرد والجماعة؟ هل كان صمته يأسًا من اللغة ذاتها، من محمولاتها ومدلولاتها وتناقضاتها وخياناتها، من نبعها ومصبّها معًا؟ أم أن الصمت هو الاحتفاء الوحيد المتاح بالحياة، والتشييعُ اللائق لمن يريد أن يودّعها بإخلاص؟
لماذا صمت نيتشه كل تلك السنوات؟ ولماذا غادر رامبو الكلمات؟ والكثيرون غيرهما لماذا وضعوا هذا الحدَّ المرعب بين اللغة وخرسها، بين الذات والآخر، بين الحياة وعدمها، بين الإقامة وشطب الوجود، هذا الكائن الصغير الوحيد بين عدمين؟
ولكن، هل من حدٍّ، أو نقيض، بين الصمت والكلام؟ ألا يكون الكلام في الغالب أخرس والصمتُ في الغالب مطلوق اللسان؟ أليس السكوت لغة داخلية ضاجَّة والقولُ أصواتًا ضاجَّة أيضًا؟ أين الحدود إذن؟
وإنْ لا حدود، إنْ هباءٌ واحد يجمع الصامتين والمتكلمين، ما معنى أن نختار الصمت وأن نختار الكلام؟ ما الفارق إن تكلَّمنا أو صمتنا؟
غير أنَّ الصمت يخفّف الثقل؟
كلَّما نقص صوت، أعتقد أن الأرض تشعر براحة.
الذين يصمتون يرتفعون عن الأرض قليلاً، لا تعود أقدامهم وأجسادهم ملتصقة بها. الذين يصمتون ينسحبون من جمهرة الأرض كي يحتفوا بذاتهم. كأنَّ الاحتفاء بالذات لا يتمُّ إلا بالعزلة. كأنَّ الاحتفاء بالحياة لا يكون إلا بالصمت.
ألا يمكن الواحد أن يحتفي بذاته مع الآخرين؟ إنه احتفاء فرديّ، بلا شريك، هذا الذي تقف فيه الذات أمام نفسها وتغنّي. تختلي بروعتها، بخوائها، وتنتشي. يخرج من صمتها النشيد الجميل النادر، البدئيّ، السريّ، النقيّ. النشيد الذي لا يقول شيئًا، لا تراوغه الكلمات، لا يحكي ولا يُسمع.
الذات تحتفي بغيابها عن الآخر. الذات تحتفي بالغياب.
هل هو الاختفاء إذن ما يُطرب له؟ هل هو الخواء ما تقام له الاحتفالات؟
هل الاحتفاء هو الاختفاء؟
بصمت الشجر والحجر تطرب الأرض وبصخب البشر تمرض. بالسكون تورق وتزهر وبالضجيج تموت. ليس صحيحًا ما تعلَّمناه. جوهر الحياة ليس الحركة بل ربما السكون. المياه المتخبّطة الهادرة لا تقيم ولا تحيي إنما تجرف وتقتل. لا يُطلع الماءُ حياةً إلا إذا رقد.
على الحافَّة، على الحدّ، يمكن أن نكون. على الحدّ بين الذات والآخر، بين الخارج والداخل، على العتبة. هناك قد تكون حياتنا على الحدّ الضئيل النحيل المسنون كشفرة.
الحياة، على الأرجح، تبدأ من النقطة الصغيرة الممحوَّة. النقطة التي تكاد لا تُرى، بين احتضار الصوت وولادة الصمت. بين انتهاء الكلام وبدء السكون.
هناك ينتهي التناسل الخارجي ويبدأ التناسل الداخلي. تبدأ ولادة الحياة التي تخصُّنا، العالمُ المعاد تركيبه، المستحيل أن يكون في مكانٍ آخر.
في النقطة الممحوَّة يولد كوننا.
على الشفير، حيث لحظة الانبثاق ولحظة السقوط توأم. حيث الولادة والاحتضار واحد. حيث الوجود والعدم في نقطة نحيلة جدًا، على رأس شفرة.
ولكن، من يقوى على الحياة هناك؟
من يستطيع أن يحيا على شفرة؟ أن يُنجي لحظة ولادته من لحظة موته؟
والأرض، هل لذلك مكدَّسة بالجثث؟
فلنصمت قليلاً. أصواتنا أودت بنا إلى هنا، إلى هذا الجحيم. إلى القتلى الساقطين بالكلمات، بالخطابات، بالشعارات. إلى المعذَّبين في زنزانات الكلام المقفلة. المشنوقين باستحالة وصول الصوت. المرميين في فراغات حائرة، حيث لا سقفَ صمتٍ ولا فضاء كلام.
الصامتون منتحرون أيضًا. صحيح. لكنهم يتوحدون مع ذواتهم على خشبة الانتحار.
لو يصمت العالم الضاجُّ، قليلاً. ماذا يحدث لو صمت العالم؟ لو اختفى ضجيج البشر لحظة؟ أما كانت الأرض تستعيد بعض فتوَّتها، بعض صحتها؟
هذه الأصوات تنشر الأمراض.
إذا كان هناك من يريد فعلاً أن ينقذ البشرية فليأمرها بالصمت.
الأرض لا تفتقد غيرَ مخلِّصٍ واحد، يخلّصها من الضجيج.



المنتحرون

مقتحمو الحواجز والمخاوف والمحرمات، فاتحو عتمة النفق ببرق عبورهم، المنتحرون، قديسونا.
الذين لم تسعهم الحياة، ففتحوا فسحة في الموت.
لم يملكوا حياة، فملكوا موتًا.
تعالَوا عن هبة، عن ضيافة حدثت بالصدفة، عن مائدة كانوا هم طبقها، وصفقوا الباب وراءهم و غادروا.
تركوا المقاعد و ثرثرات الوعود، وذهبوا إلى صمتهم.
أذابوا ملح الروح ودفعوه إلى الشلال، رموا خبز الخلاص للأسماك، أسكتوا الحفيف الشرس للدماغ، وسكنوا.
هناك خبل ما، قالوا، جاء بنا إلى هنا، وخبل سيأخذنا، فلنذهب بأنفسنا، لنكن نحن الخبل.
وعلى أطراف عبورهم كانت تُرى فراشات سوداء، كان يُرى خبل البقاء.
تركوا للفَعَلَة أن يرثوا ويورثوا، وذهبوا إلى الخواء. الخواء الواقف في الأعلى، فوق كل إرث و كل مُلك.
الخواء المظلم المخيف، الذي أضاءه عبورهم وجعله صديقًا.
للمنتحرين زاوية، مقعد يستريحون عليه، في الفراغ.
ولهم بيت هناك، وشجر، وأرض لا يعرفها أحد.
لهم سُطيحة في العدم، لا يستطيع الجلوس عليها غير الموتى. وياسمينة عالية أمام بيتهم، لا يمكنهم شمَّ زهرها إلا إذا صاروا هواء.
للمنتحرين غنمٌ ضلَّ، ويذهبون ليرعوه.
وهناك يحتفلون بعرسهم، بلا عروس ولا عريس ولا أبناء. يحتفلون باستحالة التزاوج، بغروب النسل، بالأرض المنقرضة.
وكلما سقط واحد منهم في الماء ولدت موجة، وكلما هوى واحد في فضاء هبَّت نسمة. المنتحرون يبتكرون بحارًا ورياحًا جديدة.
ومن الحبل إذ يتدلون، يملأون المسافة الفارغة بين السقف والبلاط. يضعون شيئًا في العدم.
والجثة حين يحملها الحاملون، يجدون ما اعتقدوه وراءهم يمشي أمامهم. يجدون الجثة الميتة تسبق الجسد الحي، والماضي يمشي بعد المستقبل، والموت يتقدم على الحياة. يجدون الحياة في الجثة لا في الجسد.
لا ينتحر غير من طفح بالحياة. من طفحت فيه الحياة فاندلقت.
ولا ينتحر غير من يعلو على الموت. من يسوده.
المنتحر يهب الموت معنى. ويدحره.
من ينتحر يترك لطختين، واحدة على وجه الحياة وأخرى على وجه الموت. يترك آثار سيادة.
وهل هناك سيادة غير هذه؟
لكن السيادة ليست مطلب المنتحرين. المحو مطلبهم. محو سيادة الحياة وسيادة الموت. سيادة من جاء بهم وسيادة من يذهب بهم. سيادة الآخر وسيادة الذات.
المحو الذي هو سيادة وجود، فعل حريّة.
المنتحرون قدّيسونا، سادة المحو، سادة الخواء.
وإذ يسلّمون روحهم للخواء لا يكونون يسلّمون حياة بل إدانة. ولا جثة بل اسم قاتل. ولا خلاصًا بل هباء.
إذ يسلّمون أنفاسهم يسلمون الفراغ.
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
انتقل الى:  

حفظ البيانات | نسيت كلمة السر؟

حسن بلم | دليل نوسا | برامج نوسا | هوانم نوسا | مكتبة نوسا البحر | سوق نوسا | قصائد ملتهبة | إيروتيكا | ألعاب نوسا