آخر المساهمات
2024-04-20, 2:14 am
2024-04-20, 1:54 am
2024-04-12, 10:41 pm
2024-04-02, 5:16 am
2024-04-01, 10:56 pm
2024-04-01, 10:49 pm
2024-04-01, 10:46 pm
أحدث الصور
تصفح آخر الإعلانات
إعلانات مجانية على نوسا البحر مشدات تخسيس إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر مشدات تخسيس إعلانات مجانية على نوسا البحر

1 نتيجة بحث عن يقين_المساكين

كاتب الموضوعرسالة
الوسم يقين_المساكين على المنتدى نوسا البحر T11موضوع: سلاسة السلاسل مجموعة قصص قصيرة جديدة ليوسف زيدان
hassanbalam

المساهمات: 2
مشاهدة: 1139

ابحث في: مرتفعات أو سوناتا الكلام   الوسم يقين_المساكين على المنتدى نوسا البحر Untitl13موضوع: سلاسة السلاسل مجموعة قصص قصيرة جديدة ليوسف زيدان    الوسم يقين_المساكين على المنتدى نوسا البحر Icon_minitime2016-12-14, 4:43 pm
#يقين_المساكين

الهوس المحموم احتدّ حتى استباح أحلام الجيران، جميعهم، فانهمكوا فيما شاع فيهم وفشا بينهم من أخبار أثارت عواصف الطمع العاتية وأنواء الأمانى المائعات الخادعات، فجعلتهم يخرِّبون بيوتهم بأيديهم. مساكين. لم تثبت قواعد عقولهم أمام متناثر التهامس المؤكد أن الولد «فادى» المحظوظ عثر على كنز كان مخبوءاً بسرداب عتيق، يقع تحت أرضية شقته الأرضية، الكامنة بالطابق الأول من المنزل الرابع على يسار الداخل إلى الزقاق، وهو المسمى بين الجيران «بيت الننُّوس» لأن آخر مُلاكه علّق على بابه، يوم اشتراه، دمية تتدلى من سلسلة مُعلقة بكفٍّ خشبى خماسى الأصابع، فاقع الاحمرار لدفع الحسد عنه.. هذا هو المشهور بين الناس لتفسير تسمية البيت بهذا الاسم الطريف، مع أن بابه المتهالك فاقد اللون لم يعد معلقاً فيه أى شىء إلا غلالات العناكب.

ولا شك فى أن هذا البيت عتيق ومعمور منذ زمن بعيد، لكن الخلاف واقع بين الجيران فى أقدميته بالمقارنة مع المنزلين المجاورين له، إذ يلاصق من جهة بيت فرعون المعروف عند معظم الجيران بأنه أول بيت بناه هنا الناس الغابرون، وهو من الجهة الأخرى يلاصق «بيت الهوانم» الذى يعتقد بعض جيراننا أنه الأقدم، بدليل اتساعه وارتفاع أسقف طوابقه الثلاثة، مما يشير بوضوح إلى أنه بُنِىَ فى زمن العماليق المعروفين باسم: الطيطان.. لكن الشيخ «شحاتة البردقوشى» الواثق دوماً مما يقول، يقول إن المنازل الثلاثة بُنيت معاً فى زمن الجاهلية الأولى، وتم ترميمها مرتين: الأولى فى زمن الجاهلية الثانية، والثانية فى زمن الجاهلية الثالثة، وهو متيقن تماماً مما يقوله، وبعيداً عن ذلك كله يزعم جارنا المهندس «سامى خليل» أن منازل الزقاق كلها لا يعود تاريخ بنائها إلى أكثر من مائة عام! مؤكداً أن «بيت الننوس» أقدم من «بيت الهوانم» والأقدم من كليهما هو «بيت الفرعون». وأن البيوت الثلاثة مبنية بطريقة الحوائط الحاملة، التى كانت هى الطريقة الشائعة فى ذاك الوقت، وهو يسخر مما يسميه تخاريف البردقوشى ويقينه الوهمى، ويصفه بأنه مجرد رجل «مَرْزنجوشى»، وهى كلمة خطيرة لا يفهمها كثيرون.

«فادى» ولد مؤدب، محبوب من معظم الجيران أو هو بالأحرى كان محبوباً قبل وقوع الوقائع الأخيرة، المحيرة، التى جعلته فى الفترة الأخيرة حديث جميع الجيران. وهو «حيلة» أى وحيد أمه وأبيه، فقد تأخر أبوه فى الزواج حتى بلغ من العمر التاسعة والأربعين، فلما «كوّن نفسه» بحسب التعبير العامى الغامض، أو «استطاع الباءة» بحسب التعبير الفصيح الأكثر غموضاً، اقترن بفتاة عانس فى الخامسة والعشرين من عمرها فأنجبت له من فورها «فادى» فاكتفيا به، حسبا يقولان. ويقال إن عِنّة لحقت بالأب، فلم يستطع أن يؤاخى وحيده، ويقال بل هو قرار الأم بعدما نصحها الأطباء بألا تنجب ثانية، لأن قلبها ضعيف ولن يحتمل جريان دورتين دمويتين بجسمها، مجدداً.. وبصرف النظر عن هذه الأقوال وهذا التقوُّل، فإن أسرة «فادى» معروفة بأنها هادئة وديعة، ولا يعرف أحد أنهم اشتبكوا مع أحد يوماً فى عراك، ومن لطائف أمورهم أنهم مولودون فى شهر واحد، ولهذا فهم يحتفلون بعيد ميلادهم كل عام، فى ليلة النصف من هذا الشهر.

بدأت الأحداث هادئة فى الليلة التى كان فيها أبوفادى يحتفل بعيد ميلاده الماسى، وأمه بعيد ميلادها الذهبى، وهو بعيد ميلاده الفضى، إذ اقترح «فادى» فكرة، فوافق عليها أبوه وتحمست أمه، مفادها أنه سوف يستغل جانباً من غرفة شقتهم المطلة على الزقاق لإصلاح التليفونات المحمولة، ويجعل من الشباك المنخفض منفذاً للتعامل مع زبائنه.. كان فادى قد يئس تماماً من حصوله على وظيفة مناسبة أو غير مناسبة بشهادته الجامعية، فاستغل هوايته ومعرفته بأمور التليفونات وعمل مناوباً فى دكان لإصلاحها وبيع قطع غيارها غير الأصلية، وقد مهر فى عمله فجرى بين أصابعه بعض المال، فصار يصبو إلى الاستقلال وممارسة نشاطه من منزله، عبر الشباك المنخفض.

فى اليوم التالى، عزل «فادى» جانب الغرفة الذى فيه الشباك، بفاصل خشبى فيه أرفف وضع عليها قطع الغيار ولوازم الموبايلات المسماة «إكسسوارات» واخترع طاولة بوضع قرص خشبى ذى قوائم على قاعدة الشباك يضعه وقت اللزوم ويطويه عند انتهاء يوم العمل، وبالغ فى الأمر فكتب على لافتة علقها بأعلى الشباك (جنة الموبايل. بيع وشراء وتصليح).

وإن هى إلا أيام معدودات، وبعدها عرف الجيران وجيرة الجيران طريقهم إلى «دكانة فادى»، خصوصاً أنه كان يعامل زبائنه بلطف، ولا يُغالى فى أجرته أو مكسبه من قطع الغيار.. ومع مرور الوقت وازدهار هذه «الشغلانة» صار شباب الجيران يتحلقون حول شباك «فادى»، فرادى وجماعات، وهو جالس على الجانب الآخر يمارس عمله مثل أمير فقير يتربع على عرش الهوامش، وبطبيعة الحال، كان كثير ممن يتجمعون حول الشباك، من شباب «الدليفرى» الذين يتجافون عما تطبخه الأمهات فى البيوت، ويفضلون الوجبات الجاهزة المترعة بالتوابل والإضافات الحارة ولاذعات المذاق، وقد أهاج اجتماعهم هناك وتضاحكهم الدائم حفيظة «البردقوشى» فكان أول الأمر يرميهم بنظراته الحادة حين يعبر بهم، ثم صار يغمغم غاضباً بتلك الغمغمات المسماة «برطمة» فيبتسم الواقفون ولا يُعلِّقون، ثم بلغ به الغيظ مداه فكان يقف قبالتهم متوكئاً على عصاه وزاعقاً فيهم بما معناه أنهم شباب فاشل، لا شغل له ولا مذاكرة ولا همّ إلا ملاحقة أدبار العابرات بعيونهم الشبقة وهدد بأنه لن يسكت على شيوع هذه المعاصى العلنية، وهنا حاول «فادى» استرضاءه بالكلم الطيب ولكن هيهات، فانتهى الأمر بعد تدخل المهندس «سامى» الذى كان يمر بالصدفة بهم، إلى أن الوقوف أمام المحل ممنوع طيلة النهار وأول الليل، ومسموح به على هون فى أواخر الليلات.

وقد بدأت الأحداث تتسارع ويتفاقم الأمر، بعد الليلة التى أتى فيها صبى توصيل «الدليفرى» مع الطلبات بتليفون محمول مقفول برقم سرى، قال إنه عثر عليه عند حافة الضفة الراقية من الميدان، حيث حدود الحى الآخر الفاخر، الذى يسكنه المرتاحون.. طلب الصبى من «فادى» فتح التليفون وفك شفرته، أو شراءه وتفكيكه لاستعمال أجزائه كقطع غيار. تردد «فادى» قليلاً ثم استجاب لإلحاح الصبى واشترى منه «الموبايل» بثمن بخس، أسعد الصبى، وفى تلك الليلة الصيفية أطال المتحلقون حول «فادى» السهر وتسامروا بأحاديث متفرقة، كان منها بالإضافة إلى المعتاد من حكايات المحبين وسِيَرِ البنات، أحلام كل واحد منهم. وقد كانت كلها أحلامًا فقيرة الخيال، وقال «فادى» للحاضرين إنه يحلم بإقامة جدار عازل فى وسط هذه الغرفة، فتصير شقتهم ذات الغرفتين ذات ثلاث فيمكنه الزواج فى الغرفة الثالثة وممارسة عمله الموبايلى فى الجزء المقتطع من الغرفة وفتح شباكه ليكون باباً.

الولد «ميدو» ابن الست فتحية الشراشيبى، الأرملة معظم عمرها، معروف بحماسته وغلو انفعاله وميله للفُتيا فى كل الأمور، راقت له فكرة «فادى» فأكد أنها عبقرية ولابد من الشروع الفورى فى تنفيذها، وعرض تطوعه للعمل فى بناء الجدار العازل وفى الحصول على الطوب المطلوب والأسمنت بسعر منخفض، من أقاربه الذين يعملون فى توريد لوازم البناء. وأردف بفتوى مهمة، هى ضرورة أن يحفر «فادى» للجدار عمقاً لا يقل عن متر، حتى يقوم الجدار قوياً ويسند الحائطين الواصل إليهما.. وافترق الجمع سعداء، كعادة الشباب.

فى اليوم التالى، ظل شباك «فادى» مغلقاً، نهاراً وليلاً، فلم يهتم أحد. فلما تكرر الأمر أياماً، وجد اهتماماً غير جاد وبدأ نفر من الجيران فى الاستفسار عن سبب الإغلاق وعن اختفاء «فادى» الذى ما عاد يظهر نهاراً، ويعود يومياً متأخراً فيمرق إلى بيته دون تسكّع كبقية الشباب الطبيعيين. «البردقوشى» قال لبعض الجيران إن الله استجاب لدعائه بغلق هذه «البَنْيكة». هو يسمى دكان «فادى» بهذه التسمية. «ميدو» قال إنه صاحب الفكرة، لكن «فادى» نفذها وحده حتى لا يترك لأحد غيره حق التفاخر بالفكرة العبقرية. «نوسة»، بنت حمدى الفلاح، قالت إنها واثقة من أن «فادى» يعيش بالشقة وحده منذ فترة، وأباه وأمه ما عادا موجودين. وهذا غريب.

كثرت أقاويل الجيران وتشعبت، حتى إنه لم يعد معروفاً مَن الشخص الذى كشف السر وفضح أصل الحكاية التى باتت معروفة للجميع. وموجزها، تلافياً لاختلاف الروايات فى بعض التفاصيل، أن «فادى» حين بدأ الحفر فى الغرفة للوصول إلى العمق المطلوب، وجد فجأة «جرة قديمة» من تلك التى يسميها الناس: زلعة. وبعدما خفق قلبه خوفاً وأملاً، انتفض فرحاً حين كسر «الزلعة» فانتثرت عملات ذهبية تعود إلى عدة عهود سحيقة. قال «البردقوشى» إنها من زمن احتلال الهكسوس للبلاد بقيادة الملك الهكسوسى «عليوة»، ثم عاد بعد أيام وأضاف أن فيها عملات تعود إلى زمن الاحتلال الفارسى للبلاد بقيادة الشاه «لذيذ بن قمبيز» وعملات أخرى من أزمنة أقدم. وقال حمدى السباك إنه كان يسمع صوت الحفر فى جوف الليل، مع أن «فادى» كان حريصاً على عدم إحداث ضجة، وفى ليلة سمع صوت تحطيم جرار كثيرة لا جرة واحدة، وهذا منطقى، لأن الفراعين كانوا يضعون الجرار الكثيرة معاً، متجاورة فى سرداب. وقالت سعاد بنت الحاج مدبولى، إنها منذ فترة تلمح «فادى» يخرج فى البواكير، يومياً، ومعه حقيبة جلدية منتفخة بالعملات التى يبيعها لتجار الآثار، وفى وقت متأخر يعود بالحقيبة منتفخة بالأوراق المالية، فلابد أن الكنز كبير وفيه عملات وفيرة العدد، وإلا لما استغرق تفريغه وبيعه هذه المدة التى تزيد على شهر. البردقوشى قال إن السرداب الذى فيه جرار العملات الذهبية، ممتد تحت بيوت الزقاق وملىء بالآثار والتماثيل والعملات، والجشع أعمى «فادى» فجعله يزيح التراب ويتسلل فى السرداب فيحصل على ما تحت بيوتنا من كنوز، ونحن عنه غافلون. المهندس سامى، كالمعتاد منه، سخر من هذا الكلام وقال باستهانة، إن تربة المنطقة طينية رخوة، وكان الفيضان يغمرها ويغمر الميدان المجاور والحى الراقى، وبالتالى فلا مجال هنا لوجود أنفاق أو سراديب.. وطبعاً، لم يهتم أحد بهذا الكلام المبهم عن التربة.

■ ■ ■

الماكرون من الجيران، يعنى الأذكياء والعباقرة، اخترعوا طريقة يتأكدون بها من أن سرداب الآثار يمر من تحت بيوتهم، وأقنعوا سكان الشقق الأرضية بحفر مجسات دائرية بعُمق متر وعرض نصف متر، حتى إذا صارت كالآبار نخسوا جوانبها الطينية بأسياخ، عساها تصطدم بصلابة أحجار السرداب أو فخار الجرار المليئة بالعملات. ولما انهمكوا فى ذلك، يحركهم الأمل والشعور بقرب العثور على مدخل للكنز، تصدعت بعض الأساسات، فحذرهم المهندس «سامى» مما يفعلون، لكنهم لم يسمعوا له بعدما عرفوا من «ميدو» أنه ينهاهم عما يفعلون لأنه متواطئ مع «فادى» ويحصل منه على نسبة من الكنز، نظير صمته عن الحقيقة وتضليله للجيران إلى حين استنفاد الكنز، وأضافت «جارتنا» بسيمة أم حسنى الرفافيسى، أن المهندس «سامى» هو الذى دلّ «فادى» على تُجار الآثار الذين يشترون العملات والتماثيل الذهبية بالعملات الأجنبية، وأكدت أن قريبتها «زكية» عرفت من قريبتها «حسنية» أن أم فادى وأباه استقرا فى قريتهما البعيدة بعد شراء فدادين كثيرة هناك بأموال «فادى» وقد زعما لأهل القرية بأنها تحويشة العمر، فلم يشك فى الأمر أحد. وصارا اليوم يملكان أكثر من مائة فدان مزروعة بأشجار الموالح والمحاصيل الموسمية. وكل عقود الملكية يحررانها باسم «فادى» الذى يزورهما مرة كل أسبوع، يوم الجمعة، للإشراف على المهمة التى يقومان بها، وبناء «الفيلا» التى تتوسط الفدادين المشتراة. وبعض أقاربهم هناك يؤكدون أن «فادى» ينوى بناء هناجر كبيرة لتكون نواة لمزرعة تسمين العجول التى يزمع عملها هناك، بعيداً عن الأعين.. وختمت كلامها بعبارة الاستسلام: ربنا يسهل له! فزعق فيها البردقوشى وفى الحاضرين: يسهل له بفلوس الناس، يسرقنا كلنا عينى عينك، ونقول ربنا يسهل له. أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم، أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم.

- طيب نعمل إيه يا شيخ بردقوشى.

- ندافع عن حقنا وناخده، كفاية نهب. ده رزق عيالنا يا ناس.

- يعنى نحفر تانى..

- لا، السرداب ده شكله كده حلزونى، يعنى بيلف تحت الأرض وصعب نلاقيه، إحنا ندخل شقة الولد الحرامى ونتأكد بنفسنا وناخد منه حقنا، وكلنا إيد واحدة.

- أنا موافق.

- وأنا..

- كلنا موافقين، إحنا وراك يا بردقوشى، كلنا وراك.

- أيوه كده، وربنا قال: من مات دون ماله فهو شهيد.

- وكلنا لا مؤاخذة شهداء، يلّا على بيت الحرامى.

المهندس «سامى» بسبب حظه العاثر، سمع الداعين إلى الجهاد فأسرع بالنزول من بيته لتهدئة الجموع الثائرة، لكنه ما كاد يقول عبارة: «يا جماعة بلاش عنف وجنان..» حتى وثب إليه ثلاثة ثائرين وأوسعوه ضرباً، فانضم إليهم كثيرون وهم يتصايحون بعبارات زاعقة من مثل: شريك الحرامى، ضحكت علينا يا كلب، فاضل من الكنز كتير؟ اعترف، كفاية كدب، كل حاجة اتكشفت.

وانطلقت الجموع إلى شقة «فادى» الذى كان يغطّ فى نوم عميق، فلما كسروا عليه الباب وهم يتدافعون خاف وأمسك بقضيب معدنى للدفاع عن نفسه، لكنهم سلبوه منه وضربوه به ليعترف. ولم يعترف. احتشد ما لا حصر لهم من الجيران ومعارفهم ومن حضر، وراح بعضهم يفتش فى أنحاء الشقة عن أثر الكنز، وبعضهم الآخر أخذ يدق على بلاطات الأرضية عساه يسمع صدى، وبعضهم خلع بعضها ودق بالمطرقة ونخس الأرض الرخوة بالأسياخ ليجد فتحة السرداب. ساد الهرج. انتبه المهووسون بالكنز حين سمعوا طقطقة شديدة، فصرخت امرأة وتدافع الجميع، فسقط بعضهم ودهسته الأقدام المندفعة، فاجتمع عند مدخل الزقاق العابرون بالميدان والساكنون بالأزقة الموازية، وبدا الحال كأنه يوم الحشر.. ومتأخراً، كالمعتاد، وصلت الشرطة والإسعاف.

بحسب تقرير المستشفى الحكومى، أصيب عشرة بكسور فى العظام والضلوع، وتلقوا العلاج، وأكثر من عشرة باختناق مؤقت وأربعة بسحجات من الدرجة الثانية. المهندس سامى خليل تادرس، أصيب بارتجاج جعله يفقد القدرة على الحركة والكلام، وليس هناك أمل فى شفائه خلال المدى المنظور. وأصيب «فادى» بكسر فى الترقوة، وجروح قطعية متفرقة ويحتاج علاجاً لمدة تزيد على واحد وعشرين يوماً.

وبحسب تقرير النيابة، بعد الفحص والمعاينة، لا توجد آثار من أى نوع تحت البيت. وتم التأكد من صحة أقوال «فادى» الذى قال فى التحقيقات إن أباه، البالغ من العمر خمسة وسبعين عاماً، عاد إلى قريته لينتظر الموت ويُدفن هناك، وصحبته زوجته لتكون قريبة من أهلها، وهما يعيشان حالياً فى بيت متواضع هناك. كما أفاد المجنى عليه، المدعو «فادى»، بأنه كان قد عثر على تليفون محمول، مفقود من صاحب شركة «النور المستور» متعددة الأنشطة، وعندما أعاد التليفون لصاحبه كوفئ على ذلك بوظيفة مشرف عمال، وكان فى الأشهر الأخيرة منتظماً فى موقع عمله بضاحية «أضواء الأضاحى» الواقعة على مسافة بعيدة من بيته.

وأُغلق المحضر فى ساعته وتاريخه، دون توجيه اتهام لأى طرف، وقُيدت وقائع الدهس والاعتداء بالضرب ضد مجهول.


#بطش_البرطوشى
أهل المنطقة التى نسكنها، كعادتهم، مختلفون جداً فيما يحدث مؤخراً بالبيت الكبير الذى يتوسط الزقِّاق، وآراؤهم جداً متنافرة فى رئيس اتحاد الملاك مسكين البرطوشى، فالبعض منهم يراه نعمة من إنعامات السماء هبطت علينا، وعلى النقيض يراه بعضهم الآخر نقمة لحقت بسكان البيت وقد تمتد لاحقا إلى بقية البيوت.. وكما هو معروف، فقد سُمى البيت الكبير بهذا الاسم، بسبب اتساع مساحة أرضه، وكثرة الشقق فى طوابقه التسعة، لا سيما الطوابق الخمسة العليا التى ارتفعت فى غفلة مقصودة، بالمخالفة للقانون، وبالرشوة بدأت الأحداث هادئة، بعد الزلزال المريع الذى لم يعرف له مركز، مع أن القارات كلها شعرت به وارتعشت معه، فما كادت الزلزلة وتوابعها تنتهى، حتى شهدت الأسابيع التالية توافد عدة عائلات مشردة، أو شبه مشردة لجأت للسكنى هنا بعد فقدانهم المأوى، لأن بيوت الزقاق والحارتين صمدت ولم يسقط منها منزل واحد، مثلما حدث فى أنحاء عديدة تهاوت البيوت فيها بعد ثوان من ابتداء الرجفة، أو بعد خمود توابعها، وقد تنازع أهل المنطقة كعادتهم فى تفسير السبب، فقال فريق: إن بيوتنا مبنية بالأحجار الكبيرة على أسس متينة، تحت إشراف مهندسين كبار وضعوا لها التصميمات المناسبة، وقال فريق آخر، إن أقوال الفريق الآخر خرافات وافتراء على الحقيقة التى يعرفها أهل الإيمان القويم والنفوس المستقيمة، فقد صمدت البيوت استجابةًَ لدعاء الرجل المبارك صاحب الكرامات «زمار المحروسى» الذى فوجئ ليلتها بالزلزلة فاندفع عارياً فور وقوعها، وخرج يجرى من حمام بيته المستكين بآخر الحارة البحرية المتفرعة من زقاقنا، قاصداً الميدان القريب، وهو يصيح صارخاً بكل ما فى قلبه من قوة وتقوى: ياستار، ياستار، ياستار.. ولما وصل إلى قلب الميدان متهدج الأنفاس وسالماً، سقط ميتا من فرحته بالنجاة، ودفن فى المكان الذى أسلم فيه روحه إلى بارئها، رحمه الله، فلما انتشرت كرامته، لم يسقط أى منزل بالزقاق والحارتين، حار الناس حيناً ثم ثابوا وأنابوا وبنوا فوق قبر الشيخ، القبة الكبيرة القائمة اليوم بوسط المقاهى التى بقلب الميدان، ومن أنحاء البلاد تأتى إليها الزائرات لاغتراف البركة، وفك الأعمال السحرية، وعمل الطلسمات للتعجيل بزواج الآنسات المائلات بطبعهن إلى التماس الأنس الآملات فى الاستلقاء المسمى دخول الدنيا، بعد حرمان منها إلى حين قد يطول، أما الرجال الفُرّاغ والرُقعاء من الشباب، فيرتادون المقاهى المحيطة بالمقام الطاهر، لإبهاج مهجتهم بتعليق عيونهم بمفاتن الزائرات الآتيات للهمس بالأمنيات وهن متعلقات بالقضبان النحاسية المحيطة بمدفن صاحب المقام، رحمه الله.

وبصرف النظر عن هذه التفسيرات، فقد أدى صمود المنازل فى وجه الزلزال، إلى تأكيد ثقة الناس فى رسوخ المبانى فقاموا بتعليتها بشكل عشوائى محموم، اعتماداً على متانة قواعدها وعلى بركة الشيخ زمّار المحروسى، رحمه الله. وفى خلال أشهر معدودات تضاعف عدد سكان الزقاق والحارتين، ثلاثة أضعاف، مع مجىء الجيران الجدد الذين كان من بينهم «مسكين البرطوشى» الذى استأجر شقة بالطابق الأخير، المخالف، فى هذا المنزل المزدحم المسمى «البيت الكبير».

■ ■ ■

كانت أحواله عند الابتداء هادئة، فلم يشعر معظم الجيران بالساكن الجديد «مسكين» لاسيما أنه كان ميالاً للتوارى عن العيون، ونادراً ما يخرج إلى شرفته العالية أو يجالس الناس فى المقاهى.

ويوماً من بعد يوم، وعاماً تلو عام، عرفه الجيران لكنهم لم يعرفوا عنه الكثير، إذ كان يوجز فى الإجابة كلما سأله الفضوليون ولا يصرّح إلى بالنذر اليسير، فإذا سألوه عن عمله قال: على باب الله! وعن معنى اسمه الغريب، قال: هو اسم جدى لأمى، وكان من الصالحين! وعن معنى لقبه العجيب، قال إن جده الخامس كان يجمع الأحذية القديمة ويشترى البراطيش، كى يفك جلودها المهترئة ويحزّ حوافها، ثم يبيعها قطعاً صغاراً لمن يُصلحون الأحذية ويخصفون النعال.. وهى مهنة كانت مهمة، لكنها اختفت بعد انقضاء زمن النعال الجميل.

وبعد سنوات من سُكناه هنا، تبدّلت أحوال «مسكين» وأفعاله، وكان بعضها لافتاً للنظر، أو لعله تعمّد بها لفت الأنظار إليه. إذ أخذ يُكثر من غُدوه ورواحه فى الزقاق ويجاذب الناس أطراف الحديث ابتداءً، ويرتدى ملابس شبه رسمية ليجلس على المقهى القريب، وأيام الجمعة يذهب فى جلباب أبيض للصلاة وعلى رأسه قماشٌ أبيضٌ شبه شفاف يسميه «الغُترة» فوقه عقال أسود أو أحمر، ويقول إنها سنة الرسول. وكلما تشاحن اثنان أو اندلع العراك بين جماعة، أسرع إليهم لتهدئة النفوس وفك الاشتباك، حتى لو كان الخلاف بين زوج من الجيران وزوجته أو أخ وأخيه.

بعد فترة، صار يتردد عليه ثلاثة من لاعبى كمال الأجسام الضخام، عابسى الوجوه الذين يمكن اتخاذهم دليلاً على صحة النظرية القائلة إن الإنسان أصله غوريللا تزاوجت فى الأزمنة السحيقة مع الخرتيت وفرس النهر.. بدأ ظهورهم فى الزقاق مع ابتداء العام المعروف الذى اندلعت مع مطلعه الأحداث ثم تلاحقت، وما كان أحد من الجيران يتخيل ما سوف تؤول إليه، وقد اعتقد الجميعُ أن هؤلاء الثلاثة مجرد ضيوف عابرين جاءوا لزيارة «مسكين» مرة قد لا تتكرر، فلما تكررت زيارتهم تفاوتت أصداؤها. الفتيات اللواتى راهقن البلوغ صرن حين يرين منفوخ عضلاتهم نهباً للخيالات المبهمة ولأحلام المحرومات، والفتيان الذين لا يأكلون ماتطبخه الأمهات ويحبون «الدليفرى» صاروا عند مرورهم يسخرون سرا منهم ويتهامسون باسمين، والكثيرات من النساء اندهشن من منظر الأكتاف المنتفخة وتحسرن على حظوظهن، أما الرجال فكان بعضهم يقول عند عبور الثلاثة الزقاق: ويخلق ما لا تعلمون.. وبعضهم الآخر يحملق ويحوقل ولا يقول أى شىء.

الجيران الفضوليون سألوا «مسكين» عن العمالقة الثلاثة، فقال إنهم من أقاربه، وسألوه عن سبب ترددهم عليه، فقال إنهم كانوا يسكنون بعيداً والآن يسكنون بالقرب منه ويصلون الرحم من بعد طول انقطاع، وسألوه عن عملهم، فقال عبارته المعتادة: على باب الله! بعد فترة، ترددت فى الزقاق أقاويل لا ضابط لها ولا دليل عليها، منها أن هؤلاء الثلاثة أشقاء أشقياء كانوا مسجونين بسبب جرائمهم ثم أفرج عنهم مؤخراً، وهم الآن تحت المراقبة، ومنها أنهم فى الأصل أيتام ظلمتهم الحياة حتى استوى عودهم فاعتادوا التردد على المكان المسمى على لسان الفقراء «نادى الحديد» وعلى لسان المتفرنجين «الجيم» وهم الآن يعملون عند انتصاف النهار بتجارة المخدرات والعقاقير النافخة للعضلات، وعند انتصاف الليل يحرسون أحد البارات المشهورة ويقمعون اندفاع السكارى.

■ ■ ■

فى منتصف العام المعلوم، صار مسكين البرطوشى «يخرج يومياً» من بيته ساعة العصر يحوطه الثلاثة الضخام كأنهم الحراس، فأوحى ذلك لبعض الجيران بقصة شيقة ملخصها أن «مسكين» مطلوب فى ثأر وقد استأجر هؤلاء لحمايته من المتربصين به. وزعم جيران آخرون أن العكس هو الصحيح، فهؤلاء الثلاثة مطلوبون للثأر فى بلدة نائية بأقاصى الصعيد، وقد لجأوا إلى «مسكين» لتسهيل سفرهم إلى خارج البلاد لأن لديه خبرة فى هذا المجال، وكان يمارس هذا النشاط لسنوات ثم انقطع عنه بعد وقوع الزلزال وانهيار المبنى الذى كان يتخذه مقراً لشركته المتخصصة فى تلبية رغبات الطامعين فى عقد عبودية مؤقتة.. لكن تلك جميعها حكايات لا تأكيد لها ولا اهتمام بإثباتها، لأن الحكى والتحاكى والحكايات هى الأهم المطلوب لذاته فى الزقاق.

.. ثم بدأ تصاعد الأحداث فى منتصف الصيف الماضى، وقت الظهيرة، ساعة وقف «مسكين» أمام بوابة البيت الكبير يحوطه عماليقه الثلاثة، وصاح ليسمعه العابرون والساكنون: الوضع ده ما يصحش!، فجاوبته من شرفتها المنخفضة الحاجة «محاسن» الساكنة بشقة بالطابق الأرضى للبيت الكبير، وجرى بينهما هذا الحوار:

- مالك يا سى «مسكين» زعلان ليه؟

- حالة العمارة بقت زفت، ولازم نتحرك.

- والله عندك حق يا خويا، ربنا يعدلها من عنده.

- ربنا قال: اسعى يا عبد وانا اسعى معاك.

- يعنى نعمل إيه؟

- نعمل اتحاد ملاك يا ست محاسن ويبقى له رئيس.

- بس يا سى «مسكين» العمارة كلها إيجار، وفيها شقق مفروشة كتير، وصاحبها الأساسى الله يرحمه.

- وماله، برضه لازم نختار رئيس اتحاد ملاك علشان يراعى العمارة بدل البهدلة دى. المدخل زبالة ونور السلم مطفى على طول، والمناور مليانة فران ويمكن كمان فيها تعابين.

- خلاص يا سى «مسكين» إحنا اخترناك انت رئيس للاتحاد، وأكيد الشباب قرايبك دول هيساعدوك.

- على خيرة الله، والله المهمة صعبة يا ست «محاسن» إنما ربنا يقدرنى.

أطلقت الحاجة «محاسن» زغرودة رنانة، معلنةًَ عن ابتداء رئاسة «مسكين» للاتحاد، فردت عليها من زوايا الزقاق الزغاريد التى لم تعرف المزغردات بها سبب الزغردة.. وفى المساء، سرى همس بين شباب الدليفرى، مفاده أن الحوار الذى جرى بين محاسن ومسكين، كان متفقاً عليه من قبل، لكن عقلاء الزقاق رفضوا هذا التفسير التآمرى، وقبلوا ولاية رئيس اتحاد الملاك عسى الله يحدث من بعد ذلك أمرا لا يكون إمراً، وتغاضوا عن أن البيت الكبير لم يعد له مالك معروف منذ سنين ولا يسكنه إلا المستأجرون بالنظامين القديم والجديد.

■ ■ ■

بدأ عهد «مسكين» فى اليوم التالى مباشرة، باحتفال ذبح فيه خروفاً للفقراء من أهل البيت الكبير والبيوت المجاورة، ودعا السكان للتبرع بالمال لمساعدته على العناية بالمكان. فى ختام الاحتفال تبرم بعض المفجوعين واشتكوا من أن العماليق الثلاثة التهموا نصف الخروف، فبتسم «مسكين» ووعد بذبح خروفين فى الاحتفال القادم.. الاحتفال الذى لم يقدم قط.

بعد أسابيع، أعلن رئيس الاتحاد أن حصيلة التبرعات لن تكفى لتحقيق ما يحلم به من إصلاحات، واقترح أن تدفع كل شقة من الشقق الخمسين بالبيت الكبير خمسين جنيها إذا كانت مستأجرة بالنظام القديم ومستأجرها يسكنها، وخمسمائة لكل شقة مفروشة أو مستأجرة بالنظام القديم وأجرها المستأجر لمستأجر بالنظام الجديد. بعضهم ابتهج بالقرار وسارع بتسديد المستحق عليه، وبعضهم امتعض وقدم ما عليه بيد تتردد وملامح مشمئزة، وبعضهم رفض فأرسل إليهم «مسكين» عماليقه فدفعوا عن يد وهم صاغرون، وقد ظنوا جميعهم أن المبلغ المدفوع مطلوب لمرة وحيدة، فلما انقضى الشهر وطولبوا بالمبلغ مجدداً أدركوا أنه فريضة شهرية، فأصابهم الهلع. لكنهم دفعوا جميعاً عندما أعطى العماليق «علقة» موجعة لأول معترض رفض الدفع وتجاوز حدّ الأدب فسأل نبرة معدنية الإيقاع: وهى فلوسنا الأولانية راحت فين؟.

الولد حمادة أبودومة الساكن بالطابق الرابع من بيت العفريت الملاصق للبيت الكبير، انفعل بما جرى لجيرانه وأخذ يهذى بكلام عجيب عن ضرورة احترام الحاكم للمحكومين والسلطان للمسطولين، هذا الولد الجامعى معروف بأنه من جماعة «الدليفرى» وبأنه مندفع ولا يعرف مصلحته، بدليل أنه يقرأ الكتب غير المقررة عليه. تصرف «مسكين» بحكمة وأرسل أحد عماليقه لتهديد «حمادة» والنظر إليه بالعين الحمراء، حتى يعيده إلى عقله ويجعله يكف عن الاعتراض، لكن العمليق فشل فى مهمته، لأنه حين نظر بعين حمراء بادله «حمادة» ونظر إليه بعين زرقاء، ثم عين سوداء، ثم عين بألوان قوس قزح، صاحبها ترقيص الحواجب. وطبعاً، فكر العمليق فى ضرب «حمادة» العلقة المعتادة، لكنه تراجع عندما أدرك أن خمسة شباب من أصحاب «حمادة» موجودون عنده بالشقة ينتظرون بفارغ الصبر وصول الدليفرى.

«على العموم، حمادة ده ابننا وروح قلبنا».. هذا ما قاله الريس مسكين البرطوشى وهو جالس عند بوابة البيت الكبير وحوله عدد من خيرة الجيران، عندما أخبره العمليق التعيس بما جرى من تبادل للنظرات بالعيون المتلاونة، تهديداً واستخفافاً، وما جرى من تلعيب «حمادة» لحواجبه وإخراجه لطرف لسانه فى ختام المقابلة وانتهاء المهمة، قال «مسكين» عبارته الحنون والحنق يحز فى قلبه والغل يغلى بداخله، ثم استأذن من مجالسيه لأداء صلاة العصر، ولحق به العمليق الوحيد.

صباح اليوم التالى، فوجئ الجميع بمجىء العماليق الثلاثة صباحاً على غير عادتهم، جلسوا ببؤس الكومبارس حيناً على الدكة التى نصبها «مسكين» بجوار باب البيت عقب ولايته الأمر، ثم قاموا ينادون عليه من وسط الزقاق إلى سماء الطابق التاسع، بصوت جهير أجش تداخلت فيه العبارات: إحنا وصلنا يا حاج.. يا حاج مسكين هات لنا معاك الجنزير والسكاكين.. طلبنالك القهوة يا حاج، ما تتأخرش فى النزول!. وكان من الواضح أنهم لا يعلمونه بوصولهم أو يستدعونه للنزول، وإنما أرادوا إرهاب السامعين بالجعجعة المفجعة.

لم يكن «حمادة» موجوداً لحظتها، وحين عاد عصراً من الكلية أخبره الجيران بما جرى فى الصباح، فضحك وقال: بدأوا الهوهوة.. وأسعفه خياله بفكرة غريبة، هى إطلاق أسماء أنواع الكلاب على العماليق الثلاثة، فصاروا من يومها يُعرفون بين السكان بأسماء: بيتبول، روت فايلر، دوبرمان.

ربما لو كان «حمادة» قد اكتفى بالمشاكسات السابقة، لما لاقى مصيره المجهول. لكنه للأسف الشديد تمادى فى غيّه مستهيناً بالخطر المحدق بالمعارضين، بل تجرأ على الريس مسكين عندما عاتبه على تلك الأفاعيل أمام مجموعة من الجيران، وأنهى كلامه ختاماً أبوياً بأن قال له: يا حمادة، يا سُكر زيادة، كده مُش كويس! فكان رد «حمادة» غير المتوقع من السامعين: كلمة «كويس» دى شكلها مشتقة من الكوسة، وإحنا خلاص شبعنا منها.. جرى هذا الحوار قبيل الغروب، وفى صباح اليوم التالى ذهب «حمادة» إلى الكلية ولم يعد.

مضت شهورا، وأسرة «حمادة» تبحث عنه إلى اليوم بلا طائل، وقد حزن عليه الجيران حيناً ثم فتر حزنهم كالمعتاد، ونسوه.. وبالطبع كان الريس مسكين حزيناً على مصير «حمادة» ومتألماً من اختفائه، لكنه كان يمزح أحياناً فى غمرة إظهاره للحزن والألم، فيقول فجأة: طيب ما نسأل عنه الدبان الأزرق، هههه.

■ ■ ■

صحوت صباح اليوم متأخرا عن موعد العمل، فأسرعت بالخروج مهرولاً عسانى أتفادى خصم شهرين من مرتبى عقاباً على التأخير، حسبما تنص اللوائح الجديدة، وعند نزولى السلم مسرعاً، تذكرت فجأةً أن اليوم إجازة عيد العمال والفلاحين، فلم أشأ الرجوع إلى السرير.خطر ببالى أن أذهب إلى إحدى الحدائق عسانى أجد هناك هواءً نظيفاً يساعدنى فى صراعى من أجل البقاء، لكننى عند مدخل الزقاق وقفت مشدوهاً ولم أذهب لأى مكان. فقد كان الريس «مسكين» واقفاً فى قلب الزقاق، وحوله العماليق، وأخذ يزعق قائلاً ليُسمع العابرين والساكنين: الوضع ده ما يصحش!، فجاوبته من شرفتها المنخفضة الحاجة «محاسن»، وجرى بينهما الحوار:

ــ مالك يا سى «مسكين» زعلان ليه؟

ــ حالة الزقاق بقت زفت، ولازم نتحرك.

ــ والله عندك حق يا خويا..


#بيت_العفريت

الناس يسبحون فى بحر من الأوهام، ثم يظنون أنهم يختارون طريقهم فى الحياة.. مع أنهم لم يختاروا أسماءهم، ولا الأسرة التى ينتسبون إليها، ولا البيت الذى يولدون فيه وينشأون ويسكنون! السكن والسكون والسكينة والمسكنة، كلها كلمات مشتقة من «الكين» الذى هو باطن فرج المرأة، لكن معظم العوام والخواص لا يعلمون، ولا يتعلمون. كان مولدى، ونشأتى وسكناى، فى المنزل الرابع على يسار الداخل إلى الزقاق، وهو المعروف عند الجميع باسم: بيت العفريت.

أذكر أننى أول مرة نزلت إلى الحارة المتفرعة من الزقاق، لألعب مع بقية أقرانى من صبيان الجيران، سألنى ولد نحيل ببراءة أطفال يلعبون فى الحارات عن المنزل الذى أسكنه، فأشرت إليه ببراءة الأطفال الذين لم يلعبوا فى الحارات، فقال بلا اكتراث، آه، بيت العفريت.. فبقيت من بعدها عدة أيام، حائراً فى صحة هذه التسمية وسببها ومعنى العفريت.

وأذكر أننى سألت أبى عما يحيرنى، فأجاب كالمعتاد بأننى سأعرف كل شىء عندما أكبر، وأفهم. ثم مرت الأيام ومات أبى وكبرت، لكننى لم أفهم شيئاً.. قبل وفاته بعام أو أقل، أجلسنى أبى بجواره فى ظهيرة صيفية واستفسر منى عن سبب شرودى وعما أفكر فيه، فقلت: العفريت. كنت آنذاك فى حدود العاشرة من سنوات عمرى، وكان أبى يجلس فى الصالة مستريحاً بملابسه الداخلية المتهدلة، مائلة اللون، وسط كومة جرائد يتصفح فيها بعين الملل، وكأنه كان يشعر بدنو أجله وضرورة أن أحمل الأمانة من بعده، فقد أفاض فجأة فى الكلام معى على غير عادته، وعرفنى بكثير من الأسرار. قال إنه، رحمه الله، ولد فى يوم مشهود هو الثانى من التاسع من سنة خمس وأربعين وتسعمائة وألف، ساعة أعلنوا انتهاء الحرب العالمية، فاستبشر بمولده الجميع، واختاروا له اسما مميزا هو «شلبى» وصاروا يدللونه فى طفولته باسم ساحر هو «شَـلَبَوب». خشيت يومها أن يطيل أبى كلامه الذى لا طائل تحته، فسألته بمكر الأطفال الذين يظنهم آباؤهم أبرياء، عن ابتداء معرفته بعفريت هذا البيت وعن حقيقة العفاريت عموماً، فأخبرنى بأن فى كل بيت عفريتا لكن العفريت الذى فى بيتنا نفريت، ومريض بحب الظهور والسيطرة وممارسة الألاعيب، ولا يعرف معنى العيب. وقد كان يعيش تحت الأرض مع بقية العفاريت الذين لم يحققوا ذاتهم، وذات ظهيرةٍ غامر المغامرة الكبرى وغافل الجميع وظهر. وكان ظهوره فى يوم قائظ شديد الوطأة جاء بمنتصف صيف السنة الثانية بعد الخمسين، وهو اليوم المعروف الذى صار عيداً للمخدوعين يحتفلون فيه كل عام بالأوهام، نظراً لأن سكان البيت مشهورون بالتدين، والمتدينون يحبون الاحتفال.. استغلالاً لهذه الفرصة النادرة السانحة، سألت أبى إذا كان قد رأى العفريت وتعامل معه، فضحك مستخفاً بسؤالى وقال إن الجميع يعرف العفريت ويتعامل معه، ولكن بشكل غير مباشر. لأن من طبع العفاريت النفور من المباشرة والوضوح، والميل إلى التخفى واللعب من خلف الأستار، والمرح فى الليل، وفى النهار الاستتار للحفاظ على الوقار. قلت لأبى: ولماذا يتعب العفريت نفسه مع الناس؟ قال: لأنهم مصدر قوته الوحيد، وبدونهم لن يجد الاعتراف به كعفريت، نفريت أو غير نفريت. سألت: يعنى، ماذا يريد منهم؟ قال: كل شىء.

وأذكر أن أمى كانت فى طفولتى تتحفنى كل مساء بأشهى مشروب يمكن للإنسان أن يحتسيه، بأن كانت تغلى على نيران «السبرتاية» اللبن وفى غمرة غليانه تلقى فيه بقطعة من شيكولاتة كان اسمها «كورونا» وتقلب برفق حتى تذوب، ثم تصبه لى فى كوب معدنى كنا نسميه الكوز، فأستمتع بالمذاق القوى البديع، وتستمتع هى باستمتاعى. سألتها مرة عمن علمها طريقة إعداد هذا الشراب اللذيذ، فقالت ببساطة إنها فكرة أوحى بها العفريت إليها، فقامت بتنفيذها.. صحت لحظتها ببراءة صغار أوشكوا أن يكونوا كباراً، عاش العفريت، بالروح بالدم نفديك يا نفريت.

ففرحت أمى بى.

■ ■ ■

امتزج العفريت بنشأتى وغاص فى خلالها، فصار كأنه الحقيقة التى لا تقبل الشك. ففى صباح الأحد والجمعة من كل أسبوع، كانت أمى كبقية الجيران تطلق فى البيت البخور البلدى، الذى هو مجموعة من قطع الخشب الصغار مبللة بزيت عطرى، ومبثوث فيه كرات حمراء اسمها: عين العفريت. وفى كل مرة ينفعل أحد أفراد الأسرة، أو أى واحد من الجيران، فإن وصف انفعاله هو العبارة المعتادة: راكبه عفريت، وفى كل مرة أنهى عن الانهماك فى اللعب الطفولى العنفوانى، أنا أو أى ولد آخر، يقال: بطل عفرتة، وإذا أراد أبى، قمع أمى، قال لها مهدداً إن العفاريت تنط أمامه الآن فتسكت من فورها.

قالوا قديماً إن بواطن الأطفال كالشمع الدافئ، تقبل أى نقش. وقد انتقش العفريت فى وعيى فصرت أراه من بديهيات الحياة، ومع ذلك فقد وجدت بعدما كبرت أن بعض زملائى من موظفى الهيئة، كفّار ينكرون كل ما يتعلق بالعفريت، ويسخرون من حديثى عنه بعبارات عامية تدل على جهلهم، مثل: يا عم إيه التخاريف دى.. ربنا يكملك بعقلك، هههه. يا أخى اطلع من نافوخى! وحدها «أم يؤنس» هى التى كانت تهتم بكلامى عن العفريت، بل وتسألنى دوماً عن آخر أفعاله، وكانت تؤكد القاعدة المعلومة من المجتمع بالضرورة: كل خرابة فيها عفريت. والقاعدة الأخرى المعلومة أيضاً بالضرورة، ولا يجوز التهوين منها أو الازدراء لها: لازم نرضى الأسياد.

رضا العفريت صعب، وإرضاؤه عسير، لأنه يفعل أشياء عجيبة ولابد لنا من قبولها مثل حرصه على اختلاس مال الناس المخبوء، وكلما اكتشف المسروق نقص ماله وتدهور رصيده اتهم الذين حوله، وصاح فيهم بما معناه، يعنى فلوسى خدها العفريت! ويثور الجدال ويحتدم، فيضحك العفريت ويمرح كلما تعالت الأصوات بالاتهامات وبدفعها. بعض الجيران من الأثرياء الماكرين تصرفوا فى مواجهة ألاعيب العفريت ورغبته المفرطة فى تجريد الناس مما يملكون، بأن لجأوا إلى حيلة لا تخطر على البال وهى إيداع أموالهم بالخارج. خارج البيت. بيد أن العفريت انتقم منهم بإرسال الكوابيس إليهم أثناء نومهم، وإفزاعهم فى الظلام، ومسهم، فاستسلم بعضهم لمراد العفريت وأعطوه الكثير مما يملكونه فانصرف عنهم، وبعضهم الآخر هاجر وترك البيت بلا نية فى العودة.

ولحداثة سنى نسبياً، وقلة خبرتى فى الحياة، كنت أظن أن العفريت يسعى لسلب الناس أموالهم ويضيع أشياءهم، فقط. لكننى اكتشفت أن الأمر أعمق من ذلك عنده، وأنه فى خاتمة المطاف لابد أن يشعر بسلطانه التام على الناس، باستلاب نسائهم.. «مايسة» زوجتى هى التى نبهتنى لذلك هذه الليلة، ووضعتنى فى مواجهة مع العفريت، فقد أخبرتنى بعد عودتى من عملى الحر متأخراً، بما يجرى من خلف ظهرى منذ فترة. العفريت، أثناء غيابى ونومها يراودها عن نفسها ويجعلها معه مسلوبة المقاومة، تماماً، فثار جنونى وتأكدت شكوكى.

اندفعت غاضباً إلى خارج البيت لأفكر بهدوء، غافلاً عن أننى بابتعادى عن البيت تركت الفرصة كاملة للعفريت، فعربد، فور خروجى من باب البيت، لمحت فى الظلام الإمام «حسنى بلح الزغلول» الذى يؤذن للصلاة ويؤم «زاوية الحلتيتى» المواجهة لمنزلنا، فرحت برؤيته وهمست إليه قبل أن يغلق عليه باب الزاوية لينام. ولما رآنى مقبلاً هش لى وبش، ودعانى للدخول إلى حجرته الداخلية حتى يعود إلىَّ لونى المخطوف، فدخلت معه الحجرة المعتمة وأفضيت إليه بما يضطرم فى صدرى من النيران. أدهشنى أنه لم يندهش مما حكيته، وراح هادئاً يمرر على لحيته أطراف أصابعه، ثم قال بوقار:

- شوف يا «مرقص» يا ابنى..

- مرقص مين يا شيخ حسنى، أنا اسمى مخلص!

- آه، لا مؤاخذة. المهم. موضوع العفريت ده معروف من زمان، ومعروف إن ديله نجس. وطبعاً إحنا مؤمنين بوجود العفاريت، علشان مذكورين فى القرآن، إنما العفريت ده بالذات الحل سهل معاه.

- فرحتنى يا شيخ حسنى، إيه هو الحل؟

- انت من الليلة دى، ولمدة أسبوع، تجيبلى مراتك وتروح بالسلامة، وأنا هاقعد معاها طول الليل، اقرأ عليها..

- تقرأ عليها!

قمت وتركت الكذاب الملتحى، واتجهت إلى الميدان الفسيح مسرع الخطوات، مخنوق الأنفاس. نسمات المساء بوسط الميدان أعادت لى بعض الهدوء، وراقنى السكون فعقدت أصابعى خلف رأسى وعدت بظهرى إلى الوراء حتى تمددت فوق بساط النجيل. شعرت براحة. لا أحد حولى ليعتب علىَّ استلقائى، أو يستغربه، أو يعتقد بسببه أننى ممسوس. السماء الغارقة فى الأسوداد مزدانة بنجوم أشد سطوعاً من المعتاد، والهواء العابر واثق ولا رائحة له، فتوهمت برهة أننى فى الجنة حتى رأيت فأراً سميناً يمر بقربى، ففزعت وقمت من استلقائى مذعوراً ورميت نحوه بحصوة كبيرة، لكنه لم يهتم واستكمل طريقه غير عابئ بى وبما فعلت. فأدركت أنه ممسوس من عفريت يحب التجوال ليلاً.. ما هذا السكون! نظرت يميناً فرأيت بيوت زقاقنا والأزقة الموازية هادئة تماماً، ولا ضوء يأتى من أى طابق بأى بيت. ترى، ما الذى تفعله عفاريت البيوت فى غمرة هذا السكون المعتم؟ ونظرت يساراً فوجدت البيوت البعيدة فى الحى الراقى، القريب، الذى يفصلنا عنه الميدان ومستوى الدخل والأنوار الكثيرة. ليتنى كنت ساكناً فيه، ولكن هيهات، فالواقع واقع والأمنيات صارت كالمستحيلات.. لماذا تركت «مايسة» فى البيت تحت سطوة سلطان العفريت، وماذا أفعل وحدى فى قلب هذا الاسوداد الساكن، ولماذا كانت زوجتى غير فزعة وهى تخبرنى بخطط العفريت، وكيف لها أن ترفض الخروج من البيت معى للبحث عن حل؟.. أسئلة كثيرة ولا جواب على واحد منها، لا بأس، سأبقى هنا حتى تشرق السماء بنور الفجر ويأتى شيخ الجامع الكبير فأستفتيه فى أمر العفريت الذى استبد بنا وكشف عن نواياه الحقيرة بعد طول استتار.. وسوف أتسلى حتى ذلك الحين باستدعاء بعض الذكريات السعيدة من آبار الماضى البعيدة، عميقة الغور.

■ ■ ■

«مايسة» هى أجمل ذكرياتى، مع أن لقائى الأول بها كان مفاجأة غير متوقعة، أو صدفة سعيدة. فبعد وفاة أبى المبكرة، قاومت أمى عوامل الفناء بالبكاء، وساندتنى حتى توجت مسيرتى الدراسية بالنصر وحصلت على دبلوم الصنايع، وبعد فترة قصيرة نسبياً لم تتجاوز أربعة أعوام، استطعت الحصول على وظيفة ثابتة فى أرشيف الهيئة العامة لرعاية العاطلين عن العمل وعن الحياة الكريمة وهى أهم مؤسسة فى قطاع السبهللة بوزارة الاستجداء. لكن الراتب الشهرى لم يكن يكفينى، فبحثت عن وظيفة ثانية حتى وجدت الفرصة فى السوبر ماركت الكبير، فتحسنت ظروفى المالية ولم أعد قادراً على مدافعة إلحاح أمى الدائم وتشجيعها لى على الزواج.

ماتت أمى يوم عيد ميلادى الذى بلغت فيه الثلاثين من عمرى، فأردت إحياء ذكراها بتحقيق حلمها وبحثت عن عروس بين بنات الجيران فلم أجد من تناسبنى لأنهن جميلات، ومن المتوقع أن تثير أية واحدة منهن اهتمام العفريت، وهو الأمر الذى يجب أن أتحاشاه. سألت زملائى فى العمل. فلم يهتم معظمهم بالأمر، غير أن طيبة القلب «أم يونس» رشحت لى ابنة ابن عم زوجها «مايسة» ودفعتنى لرؤيتها، فكانت المفاجأة والصدفة السعيدة وإذ وجدت العروس لا تثير الاهتمام كأنثى وتؤمن بوجود عفريت فى كل بيت وتتقن كثيراً من التعاويذ ولا تتكلم فى الأمور العمومية المهلكة وتهوى متابعة المسلسلات التليفزيونية.. هى إذن الزوجة المناسبة، وقد وضعتها الأقدار فى طريقى استجابة لأدعية أمى، رحمها الله.

بعد رؤيتى لمايسة التى يدللونها باسم «ميس» مع أنها لا تعرف الميس، وليس لها من اسمها الأصلى أى نصيب، أمضيت ستة أشهر فى تفكير عميق، حتى احتك بى العفريت عدة ليلات متتاليات، فحزمت أمرى والتمست من «أم يؤنس» أن ترتب لى لقاء منفردا مع «مايسة» فى كافيتريا السوبر ماركت الكبير. وقد كان، وتم اللقاء الأسطورى الذى لا ينسى مدى الحياة، حيث جرى بيننا الحوار المحفور فى ذاكرتى كالأخدود:

- صباح الخير يا أخت مايسة.

- صباح النور، وبعدين.

- أبدا، أنا بصراحة من يوم ماشفتك وأنا معجب..

- نعم: انت بتقول إيه.

- قصدى يعنى، عاوز أتقدم لك ونتجوز.

- الموضوع ده فى إيد بابا، تقدر تتكلم معاه وشوف هيقولك إيه. فيه أى حاجة تانية؟

- كنت أحب أعرف رأيك انت الأول.

نظرت نحوى بعين أرعبتنى، وشعرت بأن عفريتاً سوف يركبها فقلت لها متلعثماً إننى سأزورهم فى البيت يوم الجمعة. أبوها اشترط إتمام الخطبة بعد أسبوع والزواج بعد شهر، مادامت شقتى موجودة ومفروشة منذ ثلاثين سنة، وختم كلامه بعبارة حاسمة: أما حكاية العفريت بتاع بيتكم، بنتى تقدر تعفرت اللى خلفوه!.. رجوته ألا يستهين بالعفريت، وأخبرته بأنه أصيل وسليل أربعة آباء من عتاة العفاريت، ولهذا نسميه «أبوربيعة» فاستهان بما أقول وقال: ولا يهمك منه.

يوم الخطوبة وليلة الدخول، كدت أطير من فيض الفرح الغامر.. وأدركت فى هذين اليومين، سبب تسمية الخطوبة والزواج: الفرح.

■ ■ ■

أشرقت أنوار النهار وعلى وجهى ابتسامة السعادة بالذكريات، مع أن اقترانى بزوجتى «مائسة» غير المائسة، لم يمر عليه إلا ثلاثة أشهر.. شعاع الشمس أيقظنى من السباحة فى الماضى، وردنى إلى الحاضر الحالى فقمت مسرعاً من قلب الميدان إلى شقتى، لأطمئن على امرأتى التى تركتها فى إهاب أبى ربيعة. وجدتها نائمة، هانئة، ولما أيقظتها تمطت وارتعشت نشوانة وسألتنى عن سبب إيقاظى لها، فأجبتها بأننى أريد أن أطمئن عليها وعما جرى مع العفريت. ابتسمت لأول مرة منذ زواجنا، وعاودت الاستلقاء بعدما قالت، بنبرة رخيمة:

- خلاص بقى، متشغلش بالك بالموضوع ده..

- إزاى بس يا مايسة؟

- عادى يعنى، زى كل الناس.
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
انتقل الى:  

حفظ البيانات | نسيت كلمة السر؟

حسن بلم | دليل نوسا | برامج نوسا | هوانم نوسا | مكتبة نوسا البحر | سوق نوسا | قصائد ملتهبة | إيروتيكا | ألعاب نوسا