آخر المساهمات
2024-05-04, 8:54 am
2024-05-04, 8:53 am
2024-05-04, 8:49 am
2024-04-28, 10:02 pm
2024-04-20, 2:14 am
2024-04-20, 1:54 am
2024-04-02, 5:16 am
أحدث الصور
تصفح آخر الإعلانات
إعلانات مجانية على نوسا البحر مشدات تخسيس إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر مشدات تخسيس إعلانات مجانية على نوسا البحر

8 نتيجة بحث عن أمجد_ناصر

كاتب الموضوعرسالة
الوسم أمجد_ناصر على المنتدى نوسا البحر T11موضوع: فضة متربة وقصائد أخرى شعر أمجد ناصر
hassanbalam

المساهمات: 2
مشاهدة: 120

ابحث في: مرتفعات أو سوناتا الكلام   الوسم أمجد_ناصر على المنتدى نوسا البحر Untitl13موضوع: فضة متربة وقصائد أخرى شعر أمجد ناصر    الوسم أمجد_ناصر على المنتدى نوسا البحر Icon_minitime2022-12-23, 3:19 am
أمجد ناصر
#أمجد_ناصر
منديل السهروردي
(إلى بشار زرقان وعيسى مخلوف كلٍّ لسبب)
لو أن هذه الحكايةَ عبرت المجالَ القنصيَّ لأذني بورخيس الصقريتين لاصطادَها على الفور، وشكَّـها في حبل طرائدِهِ الثمينةِ من الملكين ومتاهتهما إلى حريق مكتبةِ الاسكندريةِ الذي ينسُبه، من غيرِ بيّنةٍ، إلى عمر بن الخطاب بحجةِ أن للكتاب أصلاً لا يضيع. لا أعرفُ، كيف ومتى وصل إليَّ هذا الكـُتيّبُ الموسومُ بـ ‘ديوان الإمام شهاب الدين السهروردي’ الذي بدا، عندما رأيتهُ في مكتبتي أولَ مرةٍ، كخطأ مطبعيٍ كبيرٍ ولكن ما إن فَتحتهُ حتى شممتُ رائحةَ دمٍ جافٍّ ثم ما لبثتُ أن رأيتُ يداً مقطوعةً راحتْ تنزفُ،ppp ثم كأنني رأيتُها تتحول منديلاً طارت به هبّةُ ريحٍ مفاجئة. لم أكن لأهتم بالسهرورديِّ الذي كلما نطقتُ اسمَه أضافَ صديقٌ لي، لن أفاجأ ذاتَ يومٍ بانتحاره، لقبَ: المقتول، لولا أنني سمعتُ في غرفتي في فندق ‘كونتننتال’ بالقيروان أبياتاً من قصيدةٍ له مغناةٍ بصوت مغنٍ سوريٍّ يضربُ، في سرنمةِ أعماقِ تامةٍ، أوتاراً غيرَ مرئية بأصبعٍ مجروحة. تسللَ إليَّ السهرورديُّ، وكنت أخفَّ من ريشةِ طائر نَفَقَ وهو يعودُ إلى موطنه على آخر نفسٍ، فلا بدَّ أنه وقع َ على شيءٍ في نفسي وإلا كيف ظللتُ أردّدُ لأيامٍ ‘أبداً تحنُّ إليكمُ الأرواحُ’؟ يبدو أن عاقبةَ البوحِ هي التي جذبتني إلى القصيدةِ التي لم أسمع بها من قبلُ وعجبتُ كيف يعرفُها قبلي، أنا الشاعرُ المهتمُ بتاريخ الكتمانِ، مغنٍ تتدلى قذلتا شَعر ٍ على صدغيه. ومن دون استطرادٍ على جاري الحكايات التي تراوغُ الليلَ سأروي لكم بصوتِ مَنْ كان العماءُ قناعه المخاتلَ حكايةَ السهروديِّ والراعي التركمانيِّ، قانصاً إياها من الكتيِّب سالفِ الذكِر، فلن أنسبَ شيئاً إلى نفسي، كما فعلتُ في ‘ذهب الاسكندر’ التي لم تكنِ، في الأصل، سوى حكايةٍ روتها لي جدتي ‘ثنيَّة الدخيل’ في طفولةٍ لمَّتْ شَتَاتَ الأحاديثِ بين الإزدجارات والركلاتِ المطوّبةِ، كحقٍ مطلقٍ، لمن هم أكبرُ مني سناً:كنا رهطاً بمعية شهاب الدين السهرورديِّ نشيلُ الخطى ونحطُها بالقرب من ‘القابون’ في ظاهرِ دمشق الشامِ نترنّحُ جوعاً عندما رأينا قطيعاً من الغنم يرعاه رجلٌ تركمانيٌّ (… عرفنا ذلك، على الأغلبِ، من ثيابه وربما من كلماته المسّنونةِ التي كان ينهرُ بها قطيعَه وإلاّ ما الذي يجعلُ التركمانيُّ تركمانياً؟!) فطلبتُ من الشيخ نقوداً نشتري بها رأساً من الغنم نذبَحهُ ونأكُلُه (لا أعرفُ كيف تسنى لنمورنا الداخليةِ أن تَتَحَفزَ لشقِّ العظامِ ونحن برفقةِ رجلٍ يتبلغُ بتمرةٍ وكسرةِ خبز؟) فأخرجَ الشيخُ عشرةَ دراهمَ وقال لي ليس معي سواها فانظر ما أنتَ صانعٌ بها. ابتعتُ رأساً من التركمانيِّ الذي كان معه صاحبٌ اسْتَبْخَسَ الثَمَنَ فلحق بي وقال ردَّ هذا الرأسَ يا صاحِ وخذْ واحداً أصغرَ منه. فلم أحفل به ومضيتُ ألحقُ بالشيخ الذي لم يكن يطأُ الأرضَ بقدميه. غير أنَّ الراعي الذي حمَّسَتْهُ جسارةُ صاحبهِ لحقَ بي وطلبَ أن أستبدلَ الرأسَ بواحدٍ غيره. فرفضت. لكنَّ التركمانَي ظلَّ يحوطُني بدائرةٍ من تمتماته التي لا بدَّ أنها لعناتٌ مكظومةٌ من دون أن أردَّ عليه فقال لي السهرورديُّ امشِ واترُكُه لي. فصار الراعي يسدُّ الطريقَ على الشيخ أنّي اتجه ولما لم يجد استجابة ً اقترب منه وشدَّه من ذراعه فإذا بها تنخلعُ من أصلها. بُهِِتَ التركمانيُّ وهو يرى في يده ذراعَ الشيخِ المقطوعة َ تنتفضُ وتقطرُ دماً فرماها وولى هارباً، فانحنى السهرورديُّ على الأرض ولمَّ ذراعَه المقطوعةَ واتجه نحونَا، نحنُ الذين تجَّمدَ الهواءُ في قصباتنا، فلما وصلَ إلينا لم يكن في يَدِهِ سوى مندِيلِه الأحمر
.لندن – صيف 1998

الخاتمُ القيروانيّ


مذ رأيتُ هذا الخاتمَ بيد الشاعر سعدي يوسف شدَّني إليه. حاولتُ في تلك الأمسية في ‘حانة سالوتيشن’ أن أتفادى النظر إليه فلم أستطع. لا بدَّ أنَّ سعدي لاحظَ ارتباكي وميلان َجذعي صوب يده اليمني حيثُ كان الخاتمُ، ربما شرخُ طغرائِه، ينفثُ ذرورَه. أبديتُ إعجابي به فخلَعَه وأعطانيه مُدمدماً ما يشبهُ القولُ من السلف إلى الخلف ، فمن الصعبِ أن تقطعَ بما يقولُ سعدي عندما يتخذُ، لسببٍ ما، هيئةَ قنفذِ قصيدته الشهيرة. لكن هذه ليست بدايةَ ولا نهايةَ مطافِ الخاتم الذي كان في الأصل لمتصوّفٍ قيروانيٍّ لم يملك عندما وافاه الأجلُ شيئاً ذا قيمةٍ غيره (أم عساه خاتمُ الولايةِ ونحن لا ندري؟) فورثَه ابنُه الذي سار على خطى أبيه حتى سَمِعَ الشاعرَ العراقيَّ يقرأُ في أمسيةٍ له بالقيروان قصيدةَ ‘الأسلافِ’ فأعجبته إلى درجةٍ لم يجدْ ما يعبّرُ عن إعجابه سوى أن يقدمَ له خاتمَه، فقَبِلَه الشاعرُ ذو الدمدماتِ السبعِ حائراً ما يفعلُ بخاتمٍ فضيٍّ مفلطحٍ في طغرائه شرخ.بعد سنةٍ، تقريباً، كنت في ‘ساوث هول’ قلعةِ الهنودِ المنيعةِ في غرب لندن أُعرِّضُ حواسي لروائحِ الشرق كيما تظل يقظةً فلا أدفنُ، على حين غرّةٍ، في مقبرة ‘غرين فورد’ عندما دخلتُ محلَ صاغةٍ وطلبتُ إصلاحَ الخاتمِ. سألني الصائغُ الهنديُّ إن كنتُ متأكداً، فعلاً، أنني أريدُ لحمَ الشرخِ، فأجبتُه منعماً. فلحمَه ما أمكنَ. لكنَّ الخاتمَ ضاقَ على بنصري الأيمنِ فنقلتُه إلى الأيسرِ فكان أنحفَ من أن يصمدَ فيه.تغيّرَ شكلُ الخاتمِ فلم يعدْ مفلطحاً.إمَّحتْ الطغراءُ التي اعتبرتُها مجردَ شكلٍ كاليغرافيٍّ.ليتَ شِعري ما الذي كان مكتوباً فيها؟أهو لغزٌ كان عليَّ أن أحلَّهولم أفعلْ؟أم رسالةٌ لم أكلّف نفسي عناءَ قراءتها؟ لاحظتُ بعد ذلك أن الصحوَ الصباحيَّ لم يعدْ مهموزاً بالبروقِ، التوقعاتِ، الترانيمِ، الوعود الطائشة، وأنني جعلتُ أشيبُ بسرعةٍ من دون أن تظهرَ عليَّ عوارضُ الحكمةِ، الصمتُ الدالُّ، التولي عن السبقِ الضاري على الموقع والمكانة…………….تأكدتُ بعد فوات الأوانأنني فعلتُ شيئاً إمْرا.ولكن هيهات أن أعرفَ ما هو.لندن – صيف 2001 في ضريح ابن عربيجالساً جنبَ ضريحِكَ المحميِّ بزجاجٍ لا يصدُّ البركات أفكِّرُ بخطاك تطيرُ من اشبيلية إلى دمشق مروراً بمكةَ التي تَفَتَّحتْ على بعد شهقةٍ منكَ تحتَ شّمسِها العموديةِ وردةٌ فارسيةٌ زعْزعتْ (أم أقولُ عَّززتْ؟) إيمانكَ لمَّا دخلت امرأةٌ وفتاةٌ وتدفقَ ضوءٌ باردٌ من الدرج. المرأةُ والفتاةُ بالطول نفسه وبمنديلين مختلفين على الرأسِ، منديلُ المرأةِ الأسودُ محكمُ الشدِّ بينما تلقي الفتاةُ منديلَها الموّردَ باهمالٍ على رأسها. ليس الشبهُ بين الاثنتين كتشابه إختين أو أمٍّ وبنتِها ولكن كصِبا وكِبَرِ شخصٍ واحدٍ جنباً إلى جنب. الفتوّةُ بكهربائها التي تسيلُ من الأطراف وتلسعُ من يصادفُها، ووردةُ الكِبَرِِ بعطرها المنكفئ إلى الداخل. بعينين مصوبتين إلى هدفهما توجّهت المرأةُ إلى الضريح أما الفتاةُ فمسحتْ بعينيها اللاعبتين الأرجاءَ فوقعتْ عليَّ جالساً في الركن الشرقي أسدِّدُ إليها، أنا أيضاً، عينين تتدرجان من الفضول إلى الأخذ. المرأةُ المحبوكةُ القوامِ شدَّت الفتاةَ من يدِها وتمتمتْ شيئاً في أذنها، لكنَّ الفتاةَ التي لم تتوقفْ عن مدِّ حبل النظراتِ إليَّ تحسّستْ منديلَها المُلقى كغوايةٍ محققةٍ على رأسها ولم تغيّر من وضعه. كنتُ على وشك المغادرةِ بعد أن سجلتُ ملاحظاتٍ عن المدفونين بجوار ‘الشيخ الأكبر’، الأشعارَ، البياناتِ المكتوبةَ على الجدران، السجادَ الذي حمله على أكتافهم مريدون من كلِّ فجٍّ عميق، غير أنني تسمَّرتُ بالخدرِ الذي رمتني به عينا الفتاةِ المفتوحتان على ما لا أدري من مجاهلَ. لم يكن في الضريح الذي تنزلُ إلى سكينته من المَنْحَلةِ البشرية لـ ‘شارع المدارس’ سوانا الأربعة: المرأةُ، الفتاةُ، أنا وخادمُ الضريحِ الذي تلبَّثَ عند المدخل يتفحّصُ سجادةً مهترئةً بعينٍ ويطبقُ علينا بالعين الأخرى. مرَّتْ غيمةٌ ثقيلةٌ فحجبتْ قرصَ شمسِ الظهيرةِ الشتويةِ لكنَّ الضريحَ ظلَّ يسبحُ في هيولى خضراء. لا أدري كم مرَّ من الوقت وأنا أحاولُ تعديل جلستي لأرى وجهَ الفتاةِ التي لم تتوقف المرأةُ عن جذبه إليها لكنني عندما تمكنتُ من زحزحةِ ركبتَّي المُنمّلتين لم أر أياً منهما، تلَّفتُّ فلم أجد أثراً لخادم الضريح الذي أخبرني كيف ظلَّ تابوتُ الخادمِ السابقِ يتوجهُ إلى الضريح كلما حاول مشيعوه أن يدفنوه خارجاً فانتهى بهم الأمرُ إلى دفنه بجوار سيده. كما لو أنني أصبتُ بعدوى الكشوفات التي يزعُمها الصوفيون لاحَ لي أن المرأةَ والفتاةَ ليستا سوى ‘النظام’ * في تجليين مختلفين. المرأةُ التي صارتها وأدركت لِمَ أثقلَ ابن عربي ديوانهَ بشروحٍ لها علاقةٌ بالسرِّ لا بالشِعر (سيقولُ البعضُ: ما الفرقُ؟) فرفعتِ الصبابةَ فوقَ الطاقةِ، والصبيّةُ التي فَتَنَتْها يدُ الأندلسيّ لا شِعرُهُ.في مطرح الفتاة كان منديلٌ حريريٌّ صغيرٌ يخفقُ كقلبٍ ضالٍ أو كعلامةٍ طالَ انتظارُها، التقطتُهُ وشممّتُهُ فشعرتُ أني أعودُ من بعيدٍ ولما هممتُ بدسّه في جيبي سمعتُ خرخشةً فاكتشفتُ أنني أحشرُ صفحةً من كتابٍ في جيببيجامتيوأنا مُمدّدٌ على سريري في 54 سبرنغ غروف كرسنت في حي هانسلو غرب لندن أقرأُ ‘ذخائر الأعلاقِ في شرح ترجمان الأشواق’
.لندن – شتاء 1998
اشارة: النظامُ بنت مكين الدين هي الفتاةُ التي صحبَها أبن عربي في مكة وكرَّس لها عملَه الشعريّ ذائعَ الصيت ‘ترجمان الاشواق’وتقولُ الروايات انها لم تكن تتجاوز السادسةَ عشرةَ آنذاك. معلومٌ أن ابن عربي اضطر، لاحقاً، إلى أن يشرح ديوانَه بنفسه عندما ثارْت تقولاتٌ عن وقوع ‘الشيخ الأكبر’ في ‘الحب الأرضي’.

مساءلة ابن عربي

من إشبيلية إلى صالحيةِ دمشقَ التي خضتُ في روائحِ مطابخِها وأصواتِ باعتِها الملحاحةِ حتى اهتديتُ إليك قد تكون السماءُ يا سيدي واحدةً بغيومٍ تمطرُ هنا تُمْسِكُ هناك، بملائكةٍ منهمكةٍ بتدبير رحمةٍ لا تصلُ، أو بطيورٍ تهاجرُ مثقلةَ الحواصلِ بخُردقِ البنادقِ المطاردةِ، وأخرى بقشِ مواطنها الأولى في مناقيرها تصِلُ الشتاءَ بالصيف.النجومُ التي مشيتَ على شمالها تسهرُ على فضّتها المتربة. ثمة من يعدُ بيديه نقودَ اليقظةِ ومن ينامُ جنبَ عين الليل المترعة.وقد تكونُ الأرضُ واحدةً بأناس ٍ يتأرجحونَ جهةَ الليل وجهةَ النَّهارِ ولا وقتَ لديهم ليشعروا بل ليحفلوا بهذا الرقاص الذي لا يترجلُ عنه إلاّ من تتساوى عندَه الأشباحُ المتطاولةُ للفقدِ والمُلْكِ الرضا والغضب وأنّى للمتحدرينَ من جبلِ الطينِ وماءِ الشهوات الثقيل مِثْلَنا هذي المكاييل. الأرضُ، كما يقالُ، تدورُ والناسُ تراوغُ بمكرٍ مكشوفٍ سعاة ً يحملون لهم مكاتيبَ لا يريدون تَسـَـلُّمَها لكنَّ المصائرَ قصاصةُ أثرٍ لا تُضِلُها المراوغات.طالما أن الذي لا يُشْعَرُ به لا يَصِحُ طَلبُه والعكسُ صحيحٌ لماذا إذن حاولتَ أن تطمسَ موضعَ اليدِ التي حفرت شكلَ أصابِعها الهشةِ على الضمائرِ المستتِرة لقصائدك وأن تمزجَ الصوتَ الولاديَّ الذي ظللتْ تسْمعُهُ وأنت تَهمُ بتسليم الوديعة بأصوات رَبّت بُحتَها في المدائح فعالجتَ الشوقَ المتصببَ من أطرافك بالتأويل فصارَ ثغرُ الحبيبةِ ثغرَ اللهِ ونحن نعلم أنه ثغرُ الفتاةِِ الفارسيةِِ التي هزّكَ جمالُها الصبيُّ فرحتَ تبوحُ بما لا يَحْسُنُ بسيد السِّر مِثْلِكَ أن يفعل.أنت سيّدُ السرِّالكتمانُ أصغرُ مريديكَلكنَّ سيّدَ السرِّ يحبُ مِثلَ الذي كلما فاهَفضحتُه الفراشاتُ التي تطيرُ من فمه.أحبُ يا سيدي أن أصدق أنَّ الرحمةَ التي تعدُنا بها تسعُ كُلَّ شيءٍ بما في ذلك رافضُها وأن الوجودَ كلَّه ينبضُ في الأرضةِ التي تقرضُ الرمحَ والناي وأننا عندما نضعُ يداً مرتعشةً على أخرى متلهفةٍ فإنما نضعُها على يد الله وأن وحدةَ الوجودِ شيءٌ آخرُ غيرُ هذا الطنين المعدنيِّ الذي يلفُّ الكون.نحبُّ لأننا نحبُّ فعندما ننام لا نأبه بالشفع والوتر بالشقِّ والفتحةِ بأوجاع الهواء بالماء يربط بين ضفتين أو يهطلُ على صحراءَ يسمونهاالأشواق. ولكن أتعرفُ ما الجيدُ في الأمر؟ أنك هنا تحت ناعورةِ الأصواتِ والروائحينقطعُ عنكَ الماءُ والكهرباءُ مثلُكَ مثْلُ أهلِ دمشقَ، لستَ في خلوةٍ صحراويةولا على قمة جبل؛ الناسُ يدخلون إليك ويخرجون بحطاتٍ على رؤوسهم،إيشارباتٍ، بسراويلَ سوداءَ فضفاضةٍ، جلاليبَ، دشداشاتٍ، تفوحُ منهم روائحُ بيوتِهم، أنعامِهم، التبغِ السوريِّ الحرّيف.رأيتُ في ضريحكَ إسباناً وإيطاليين وبعضَ الإنكليز بأيديهم خرائطُ وكتيباتٌ مثقلةٌ بالحواشي لكنَّ سكانَ ‘شارع المدارس’ الرازحِ تحت غيومِ المازوتِ وشعارات الحزبِ القائد ِلا يحتاجونَ كشافاً ليعرفوك.زوارُكَ اليوميونَمؤدو الركعاتِ السريعةِفي هيولتك الخضراءِ،لم يرتدوا خرقتَكلم يقرأوا فتوحاتِك المكّيةَلا يعرفونَ وجهَ الصلةِ بين هندستِك الإلهيةِ و’دانتي أليغيري’يسمونكَ ببساطة: الشيخ محدّين.
لندن – شتاء 1998

المرايا المتقابلة

إذا كانت الموجوداتُ مثل مرايا متقابلةٍ توجدُ جميعُها في كلِّ واحدةٍ منها، فأنا أنتَ وأنتَ أنا وكلُّ ما أردتُ وما لم أرد. الأمسُ واليومُ يمشطان شعرَهما الطويلَ ويتمليان صورةً لا تملُ من التكرار.لندن – صيف 1998رُقمٌ طينيةرأيتُها أولَ مرةٍ في ساحةٍ شعبيةٍ بعمانَ حيثُ تختلطُ أصواتُ صِبْيَةِ سائقي الحافلاتِ بباعةِ اليانصيب بدمدمةِ الأرواحِ الغابرةِ في المدرّجِ الروماني. كانت العاصفةُ الأطلسيةُ التي ارتدتْ براقعَ الصّحراءِ قد انشبتْ زعانفَها في أرضِ السوادين فتدفّقَ عراقيونَ وعراقياتٌ لم يغادروا مدنَهم ودساكرَهم البابليةَ من قبلُ. لم يأبه أحدٌ بهذه الرُقمِ الطينيةِ التي تحملُ إشاراتٍ لا تعني شيئاً لمن يراهنُ على ثروةٍ سريعةٍ من ورقةِ اليانصيبِ ولا لفاتحةِ البختِ التي ترمي خرزاً وقواقعَ على خطوطِ الطوالعِ الجانحةِ في الرّمل. يمكن أن تشتريها بدينارٍ أو تبادلَها بساندويتش شاورما وزجاجةِ كازوزٍ باردة. غير أن لهذه الكِسَرِ الطينيةِ التي تُقلّبُها، بأيدٍ مفلطحةٍ، نسوةٌ متشحاتٌ بالسواد وموشوماتٌ من أعلى الجبين إلى أسفلِ الذقنِ قوةَ تهديدٍ كامنة. تمليّتُ أحدَها مليّاً، قلّبتُه، قرّبتُه من أنفي، مثلما تفعلُ، لسببٍ أجهلُه، النسوةُ المتشحاتُ بالسواد، فصار يزدادُ ثقلاً في يدي وتنبعثُ منه رائحةُ طميٍّ وجعلتُ أرى صوراً وأسمعُ أصواتاً لم آلفها قبلاً. رأيتُ آلهةً وملوكاً بذقونٍ مدببةٍ، نموراً وأسوداً تزأرُ في أقفاصٍ من الذهبِ الخالصِ، أسرى يَرسفونَ بالحديد، عازفينَ يُدمونَ أصابعَهم على أوتارٍ رفيعةٍ. رأيتُ بوابةً من الآجرّ المُزجْجِ بقامةِ جملينِ يطبعُها اللونُ الأزرقُ (لم أعرف إن كان لونَ سماءٍ أم تَنَهُدةَ بنتٍ) سأراها ثانيةً وألمسَها بيدي بعد أكثرَ من عشرِِ سنينَ في متحف ‘بيرغامون’ في برلين.هاتفٌ قال لي: إرمِ هذا الرقيمَ.إرمِهِ.ليس باليدِ التي سيأكلُها الدودُ تحملُ عبءَ الأبد. لندن – نيسان 2003(من ‘حياة كسرد متقطع’)
الوسم أمجد_ناصر على المنتدى نوسا البحر T11موضوع: أثر العابرين بين الخشخاش مختارات من قصائد أمجد ناصر
hassanbalam

المساهمات: 2
مشاهدة: 266

ابحث في: تحت طائلة النصوص   الوسم أمجد_ناصر على المنتدى نوسا البحر Untitl13موضوع: أثر العابرين بين الخشخاش مختارات من قصائد أمجد ناصر    الوسم أمجد_ناصر على المنتدى نوسا البحر Icon_minitime2021-11-01, 8:53 pm
@hassanbalam
#أمجد_ناصر

. لص الصيف

لن أظهر في غدهم غاسلي أصابع
قدميك بماء النذور
لكنهم
سيمرون عن أنفاس ، يقظانة ، في المعابر
أنا الذي أعطى الغرباء كلمة ليفتحوا قلب الليل .
لص أعالي الصيف
حيث تبذخ حدائقك وترمي ثمارها في طريق الأعمى ،
الطالع
خفيفا
الى السهو ،
التارك خيطا من القمح على أديم النوم ،
أنى لهم أن يدركوا طرقى الى المعرى في الريش ،
مزيجا بدم الشفتين .
ليتداولهم النهار
ويصرف أعمارهم بين محابر العهد و خزائن الأوسمة
وليظهروا بأثمن مالديهم في البلاط
ولكن
لليل إذا انكشفت أطرافه وبنت
لص يحمي حدوده بالنواجذ .
لا أخ لي بين الحرس ليرمي علي وشاحه فأمر
ولا أب في مجلس المتنفذين
شفاعتي في الخفة
ومعرفة أيان يطلق الذي يبز الموت
فهوده بين الأشجار .
الضعيف في مكمنه
معتصم بأقوى مافيه .
فرحون بالسهر
أولئك الذين ربيتهم أعداء تحت ناظري
وترصدتهم في الغفلات
فازوا بظاهر يدك
وتركوا أثرا طفيفا على الثياب .
سدى يطلقون كلاب المخيلة لتحوش الطريدة
وهم
مكتفون
بالهواء
يقلبهم
في أسرة
الليلة
الواحدة.
ليست العبرة في القطعة الأجمل بين ثيابك
مرفوعة على رؤوس الأشهاد
بل
في
الحربة
عميقا
تغرس
نواة
الألم.
تتركين النادر
لمعة الساق وذكرى مرور
القدم عارية على الدرج .
دونما قصد سوى المجاز الصرف
يكشف نور الكاحل صعدا
نعمة النظر الى الهيكل
فأرى
ذهبا
محروسا
بوحش .
إنه ليلي لأبلونه بالسهر وحيدا
بين جلبة المسافرين
وحيرتي لأفحصن معدنها في مهاوي القنب .
بياضك ندمي
يتلكأ عند متاع اللبؤة ،
له أرخيت حبل جهالتي على الغارب
وغنيت ، أنا المولود تحت منجل الحصاد ،
غناء الغريب بين رطانة المبشرين بالسؤدد .
ولجت الغيابة من ردائك قد من دبر
وكان دليلي الألم الذي يبوح
بأسراره لمدوني الأمثال .
جنتي
ملء
عين
الناظر
الى الزوال .
خذي يدي لتصلي إلي
وتبلغي مابلغت
فقد ملت على النبع
وبما أرتشفت
رميت مفتاحي .
قبلت شيئا بليلا في الظل
وشممت فوح طفولتي بين الأكباش .
خذي يدي زاجلسي لنغيب
فالسدى عيدنا
لا لنا
ولا علينا
بعد رجعتهم الى تمامهم ناقصين ،
سوى
أثر
العابرين
بين الخشخاش .

أمجد ناصر - هجونا طغاةً في صحفٍ لم تُقرأ.. شعر


أمضينا زمناً طويلاً بلا بريد/
بعيداً عن رائحة القرفة ويد الأم المفلطحة/
في زمن الفكرة الكبيرة /
وهبوب الغرباء من المفازات والهجير/
لم نودع صكاً في مصرف/
وما عرفنا طريقاً إلى دائرة عمومية/
لم ندفع ضريبة من أي نوع/
ولم نر سُعاةً بثيابٍ موحّدة/
يلقون من كوى الأبواب/
مظاريف ممهورة باسم صاحبة الجلالة./
ولا سمعنا قبضات جباة/
تدقّ بإلحافٍ أبواباً على النائمين.
هجونا طغاةً في صحفٍ لم تُقرأ/
وجعلنا مرهوبي الجانب أضحوكةً في مرابع/
احتملت صعاليك تفانوا في مديح الخريف/
ضربنا أصولاً مرعية عرض الحائط/
وانتشينا في أسرّتنا المجعدة بانتصارات رعاةٍ على الليزر.
أمضينا زمناً منزّهاً من كل قصد ونمنا/
طويلاً/
نمنا/
في الكتب.


أمجد ناصر - لا يولد فجر من دون جرح..


على جسد الليل دم وتراب ومشيمة
راية بيضاء
في آخر زيارة إلى طبيبي في مستشفى تشرينغ كروس في لندن. كانت صور الرنين المغناطيسي عنده. من علامات وجهه شعرت بنذير سوء. قال من دون تأخير: الصور الأخيرة لدماغك أظهرت للأسف تقدماً للورم وليس حداً له أو احتواء، كما كنا نأمل من العلاج المزدوج الكيمو والإشعاعي.
كان مساعده دكتور سليم ينظر إلى وجهي وفي عيني مباشرة، ربما ليعرف رد فعلي.

قلت: ماذا يعني ذلك؟
قال: يعني أن العلاج فشل في وجه الورم.
قلت: والآن ماذا سنفعل؟
رد: بالنسبة للعلاج، لا شيء. لقد جربنا ما هو متوافر لدينا.
وفي ما يخصني ماذا عليّ أن أفعل؟
قال: أن ترتب أوضاعك. وتكتب وصيتك!
قلت: هذا يعني نهاية المطاف بالنسبة لي.
ردّ: للأسف.. سنحاول أن تكون أيامك الأخيرة أقلّ ألماً. ولكننا لا نستطيع أن نفعل اكثر.

قبل أن أغادره قال: هذه آخر مرة تأتي فيها إلى عيادتي. سنحولك إلى الهوسبيس. وكانت آخر مرة سمعت فيها هذه الكلمة، عندما دخلت صديقة عراقية أصيبت بالسرطان في المرحلة النهائية. يبدو أن الهوسبيس مرفق للمحتضرين أو من هم على وشك ذلك.
قلت له: لدي أكثر من كتاب أعمل عليه، وأريد أن أعرف الوقت.
حدد وقتاً قصيراً، لكنه أضاف هذا ليس حساباً رياضياً أو رياضيات. فلا تتوقّف عنده.

الطريق إلى الكتلة

عدو شخصي

ليس لي أعداء شخصيون
هناك نجم لا يزفُّ لي خبراً جيداً،
وليلٌ مسكون بنوايا لا أعرفها.
أمرُّ بشارعٍ مريبٍ وأرى عيوناً تلمع
وأيدياً تتحسس معدناً بارداً،
لكن هؤلاء ليسوا أعداء شخصيين،
فكيف لجبلٍ
أو دربٍ مهجورٍ أن يناصباني العداء،
أو يتسللا إلى بيت العائلة؟

أيها الشيء القاتم الذي أخذ أمي وحبيبتي الأولى
والأنفاس التي رفعت عليها مداميك حياتي إلى الجانب الآخر من التراب
ما أنت؟
ما مشكلتك معي
إن كنت رجلاً اخرج إليَّ من مكمنك
تعال نلتقي في أي جبَّانة تريد
وجهاً لوجهٍ
لسوف ألقنك مواثيق الرجال
كما لقنتني إياها الصحراء والغدران الجافَّة
أرني وجهك قبل أن تنتضي قناعك الذي تسمّيه عقاباً إلهياً
فأنا لي آلهتي أيضاً لكني لن أدعوها لنزال الوجوه السافرة
إن كان لك دين عندي
أو مشكلة شخصية كأن أكون خطفت هيلين الشقراء من حضنك
ومرغت شرفك في الوحل
مع أني لا أذكر شيئاً كهذا
لا تسترد دينك من الذين يمرون في هذه الدنيا
كما تمر أنفاس الرعاة في قصب الناي..

روح حرَّة
(إلى هند)

أيَتها الروح الحُرَّة.
لم تنطفئ شعلتك رغم الريح التي تهب في غير موعدها،
رغم الأيام الجافة
الأيام الماطرة
النجوم التي صارت صخوراً بعدما هجرتها الأغاني
وهذه الليالي المرسومة بالفحم
كيف كانت ستدلني على الطريق.
زرعنا زيتونةً فأثمرت.
شتلة عنب فغطّت سياج الجارة التي لم تعرف
كيف نصنع من أوراقها الخضر طعاماً وخارطة
يدُكِ تقلب التراب فتعثر على دودة
تعيدها إلى مكانها،
شذرة ذهب فتطمرها
لعلها علامة الغريب الباحث عن كنز أجداده الذين مروا من هنا.
كنزك لا يلمع. بل يطلع من غصن يابس، وجذرٍ ذاوٍ.
ها نحن نرفع يداً فيرتد أربعون ظلاً على حائط الحمائم المطوَّقة
لم يعد، هنا، للكلام معنى إلا في رواسبه الغائرة
فقد أودع الأيدي سعفٌ كثير لأيام الأسبوع.
أيتها الروح الحرة
لا الأحمال هدَّتك
ولا طول الطريق.
الرحلة التي بدأت برقصة تحت نجم
لم تبلغ تلال الوعد السبعة بعد.

لم تكن لهذه الكلمات مناسبة. هكذا خطر في بالي حينها. إنها ليست أكثر من تحية لرفيقة رحلة شاقة. ولكن كلا، ففي ثناياها، في ما لم أره من وجوهها المحجوبة عني، حتئذ، تمدد شريط من الورم بين جسدين. عندما، لا تجد أي خيار، وربما بمحض اختيار حر، "تتبرع" ببضعة من لحمك (كلية) لتمشي خطوات أكثر مع رفيقة/ رفيق حياتك، قد يكون هذا أقصى ما بوسعك عمله، ثم تظن أنك قدمت، أخيراً، "هديتك"/ أو ربما "أضحيتك". تُقبل "الأضحية" وتقوم بعملها على أفضل وجه.. إلى حين، لكنه حينٌ طويل بعض الشيء (ست سنين)، إلى أن "تتسرطن"، وتفشل.. ثم يصار إلى استئصالها ورميها في مختبر ما لمزيد من "الدراسة" والتحليل.

***

كان صيف لندن هذا العام "هندياً" كما يقولون، هنا، عن الطقس الحار. يبدو أنني غفوت على أريكة في صالون منزلي. فكَّرت أنني أحلم: كان حولي ابني وابنتي وأخي، وكل منهم يقيم في بلد، تأكدت أنهم موجودون فعلاً، فهم يتحدثون، وهذه أصواتهم التي أعرفها. وهذه يد ابنتي تمسح العرق الذي بلل رأسي وعنقي بمنشفة. مع ذلك أظنني سألت باستفهام، أو استنكار، (لست متأكداً): لِمَ أنتم هنا؟ لأنك لست على ما يرام. كان رأسي خالياً من أي صورة. ذهني مشوَّش، ولكن بلا تفاصيل. أخبروني بما جرى:

كنت أنزل من سيارة أجرة أمام بيتي، ثم سقطت على الأرض. لكن لِمَ كنت أستقل سيارة أجرة وأنا لدي سيارة؟ يبدو أنني كنت عائداً من المركز الصحي المحلي بسبب صداع "زائد" عن الحد أصابني في الأيام الماضية. صداع غير ذلك الذي تعايشت معه طويلاً. حتى مع هذا التسلسل للأحداث، المسرود علي، ظلت هناك ثغرة لم تردم.

في يدي سوار بلاستيكي عليه اسمي ورقمي الطبي، وتاريخ يشير إلى يومين سابقين. ما هذا؟ سوار كهذا لا يوضع في اليد إلا إذا نمت في مستشفى. هناك خور في جسدي. داخلي فارغ. إحساس بتخدير قوي. تذكرت ليلة طويلة في جناح الطوارئ. كنت هناك. كان لدي ألم لا يطاق في خاصرتي اليمنى. صداع شديد. سمعت كلمة مورفين. كأني قلت لهم: كلا. ولكنهم لم يسمعوني. أو لم يتوقفوا عند اعتراضي. ألم كهذا لا يعالج إلا بالمورفين. هناك تقرير صغير يقول: احتمال حصى في الكلية! لم تكن هناك صور شعاعية للجسم، الرأس خصوصاً.

جاءت سيارة الإسعاف التي أقلتني إلى مستشفى تشيرنغ كروس، ذائعة الصيت، وليس مستشفى منطقتنا، في غرب لندن. في الأثناء قام الطاقم الطبي بفحصي. ركزوا على يديّ وقدميّ. عيني. طلبوا مني رفع يدي إلى الأعلى. خصوصاً الجانب الأيسر. هؤلاء يحملون أجهزة متكاملة. يصلون إلى نتائج سريعة ويقررون طبيعة المستشفى التي يتوجهون إليها. كنت وحدي. هذا ما أظنه. لا أحد من عائلتي معي. أين هم؟ زوجتي في المستشفى. مستشفى آخر. سرير آخر. بجانبه كرسي لزائر. الفشل الكلوي يعود بعد سنين من العمل "الجيد" لكلية "سليمة". لكن هذه الكلية السليمة يتسلل إليها الورم السرطاني. جاء هذا من جسد لم يكن يعاني أوراماً، ولا حتى في الخيال!!

فهمت من الطاقم الطبي أن الأمر قد يتعلق بجلطة دماغية. السرير يدفع في الباب الرئيسي لمستشفى تشيرنغ كروس. إلى الطابق الحادي عشر (أم لعله العاشر؟). تظهر لافتات تشير إلى الجراحات الدماغية. بلا إبطاء إلى تصوير المقطعي. لا تتأخر الصور في الظهور. أنا في السرير. يسألني الطبيب الذي يقدم لي نفسه: دكتور خان. أسئلة ستكرر لاحقاً، بلا توقف تقريباً. يعود الجسد إلى اسم وتاريخ ميلاد ينبغي أن ينضبطا في ملف طبي. جاء طبيب شاب يدعى علي: مصري. يتحدثان. الصور تظهر شيئاً آخر. كلا، لم تكن جلطة دماغية. شعرت أن دكتور خان يتهيأ لرمي قنبلة. سألني إن كنت أفضل وجود فرد من العائلة. قلت له مازحاً، كأنك تمهد الأرض لرمي قنبلة؟ ضحك. قلت له: أرمها:
الصور تظهر، للأسف، ورماً في الدماغ.

ماذا؟

ورم في المنطقة اليمنى من الدماغ، ها هي الصورة. أرى الصورة. وردة متوحشة. شكل هندسي نابض. يسميه دكتور خان: كتلة MASS.
صمتُّ. لم أكن أتوقع خبراً كهذا. ربما أي شيء آخر.
ينتقل، فوراً، إلى ما هو عملي: سنبدأ علاجاً بالسترويد لتخفيف ضغط الكتلة على الجوانب الأخرى من الدماغ، ووقف الصداع.

من بين كل كتل الدنيا، خطرت في بالي لحظتها القصيدة التي سميتها: قصيدة الكتلة. بلوك. أردت أن أفهم من الطبيب المصري (المساعد) المزيد بعد انصراف خان. لم أجده. كنت رأيته يدخل مكتباً قريباً للأطباء. نزلت من السرير. مشيت في ممر كان يعج بالممرضات والممرضين وعاملي النظافة وصار الآن شبه فارغ .
رحت أغني أغنية مصرية: أنت فين يا علي أمك بتدور عليك!

الليل، لا نوم

بقيت وحدي. عدت من رحلة الممر العبثية إلى السرير. الليل لا يزال "شاباً" على حد التعبير الإنكليزي.
شظايا القنبلة تتحرك.
كتلة..
ورم..
لو لم أقع على الأرض ما عرفت بالتشكّل السريّ لهذه الكتلة، هذا الورم..
لقد كنت قبل ساعات فقط من "الأصحاء"، وها أنا في قسم خاص بالأورام الدماغية في مستشفى كنت أرافق إليه زوجتي، المريضة بالفشل الكلوي، من أجل "غسل" الكلى ثلاث مرات في الأسبوع، ولم أتخيل نفسي مريضاً في أحد أقسامه، بل لعله أكثرها إثارة للخواطر السيئة.
لم يطلع النهار بسهولة. يبدو أن الليل كان في أوله. منتصفه. لا أدري. أنا الآن في وضع غير الذي كنت فيه (ولم أكن أعرفه) قبل ساعات. قبل يوم. قبل أيام. شعرت برغبة شديدة بالتدخين. معي علبة سجائر. رغم أني توقفت عن التدخين ست سنين. طلبت من الممرضة المسؤولة عن الجناح أن تسمح لي بالنزول إلى الطابق الأرضي لتدخين سيجارة. رفضت. ألححت. فوافقت. أرسلت معي ممرضة وكرسياً متحركاً. كان هناك مرضى غيري يدخنون. لا تزال هناك حركة في شارع فولهم بلاس الذي تقع على جانبه المستشفى، أقف بالقرب من كتلة هنري مور. من تمثالي المتكئين إلى بعضهما بعضاً في مدخل المستشفى.

كتلة هنري مور

هذا ليس النصب الأصلي، بل هو نموذج مصغر من العمل الضخم الذي نفذه هنري مور بطلب من مركز لنكولن للفنون في منهاتن/ نيويورك. هناك يبسط عمل مور سيطرته على الفضاء/ طالعاً من بركة ماء. لا يختلف النصب الصغير في مدخل مستشفى تشارينغ كروس من حيث علاقته بالماء، عن الموجود في مدخل مركز لنكولن للفنون في منهاتن، الفارق يكمن طبعاً بالحجم. هنا في مدخل المستشفى يطلع النصب من بركة ماء صغيرة مخضوضرة تنعكس عليها صورة الكتلتين المتكئتين على الماء.

ذكَّرني ذلك بآية قرآنية تقول: وكان عرشه على الماء. المقصود هنا عرش الله. قطعاً لم يكن ذلك في ذهن هنري مور وهو يصنع نصبه البرونزي. بيد أن هذا يمكن أن يدور في خلد واحد له مرجعيات ثقافية مثل مرجعياتي. ثم إن صلة النصب والتماثيل، عموماً، بالمقدس تبرر الخاطر الذي راودني. مؤكد أن النصب الحديثة انقطعت عن منشأها الأول، عن وظيفتها الأولى، كرموز، أو تجسيد للتصورات البشرية في خصوص الآلهة، لكن من يستطيع منع المقدس من الحضور في النصب والتماثيل؟ لقد رأى المثالون الحديثون النصب والتماثيل الطالعة من فكرة المقدس ودرسوها في الأكاديميات التي تخرجوا فيها. وفي هذا الطور من عمله الفني تخلى هنري مور عن النماذج والموديلات التي كانت تمهد للعمل الفني وصار يعمل مباشرة ، بلا موديل مسبق، على المادة نفسها، سواء كانت برونزاً أم حجراً، التي يجب، حسب قوله، احترامها فهي لها "حياتها المكثفة الخاصة بها"، والتي يتعين عليه، كفنان، إفساح المجال لها بالظهور.

وجدت في "كتلة" هنري مور حليفاً لي في ليل الأرق الذي كنت أتسلل فيه من جناح المصابين بالأورام مثلي، إلى البركة التي يتكئ إليها نصفا تمثال هنري مور.. هناك من "تسللوا"، مثلي أيضاً، من أقسام المستشفى المختلفة. بعضهم للتدخين، كما صرت أفعل، بلا هوادة، آخرون لتناول طعام غير ما يقرره علينا مطبخ المستشفى..

***

دخنت أربع سجائر متعاقبة. ظمأ؟ انتقام؟.. هذا الرجل الذي يشعل سيجارة من عقب أخرى ليس أنا. هذا هو الرجل المريض. إني أرى انعكاس هيكله البشري في بركة الماء المخضرة التي تنتصب فيها كتلة هنري مور. يرتدي مريولاً تقطعه مربعات زرقاء وخضراء صغيرة. هذا زي المستشفى. في رسغه الأيمن سوار بلاستيكي عليه اسمه (أحد أسمائه!) ورقمه الصحي وتاريخ دخوله إلى المستشفى، يدخّن. ولكنه لا يفكّر. لا فكرة تخطر في باله سوى أن هذا الرجل الذي يتراقص ظله في البركة مريض، وأنه ليس هو بالضبط، وأنه لا يعرف ما الذي جرى له، بالضبط، وأنه ليس مسؤولًا عن ذلك. ولكن، مع هذا كله، عليه أن يعتاد وجوده. الأفضل، طبعاً، أن يفهمه ويتسامح معه. قد لا يكون الذنب ذنبه.

طلبتُ من الممرضة أن تعيدني إلى السرير. أريد أن أنام. أعود إلى الجناح. صوت غطيط النوم يُسمع عالياً. ثمة من ينام هنا. ثمة من حطّ عليه ملاك النوم. لكن ليس أنا. الوقت لا يمر. الليل صامد. تخطر في بالي أفكار غريبة بل أخلاط أفكار وصور وكلام قديم. أفكر في نصي "حديث عادي عن السرطان". أتذكر مسرحه. وسببه. شخص (صديق) أصيب بالسرطان. اثنان آخران يعرفانه. يتحدثان عن مرضه. الحوار حول سرطان الصديق يبلور نبوءة عشوائية:

ـ الشخص الأول يقول إن أخاه توفي بالسرطان في الأربعين من عمره، فيقول الثاني إنه قرأ لا يدري أين المرء يموت كما يموت أهله، ثم يقول إن أمه صارعت السرطان مرتين آخرها كانت في أوائل الستينات من عمرها.

النتيجة التي يخلص إليها الشخص الثاني: أنت تجاوزت عمر أخيك، فيما لما تزل أمامي سنون أمي المكتنفة بالاحتمالات!
أفكر: لماذا أعدت نبشه؟ لماذا نشرته قبل فترة قصيرة جداً من إصابة زوجتي بسرطان في الكلية، وقبل أن تتكون فكرة، أو أضغاث فكرة، عن ورمي الدماغي في ذهن عابر، لا أعرفه ولا يعرفني، في القطب الشمالي؟

أغافل الممرضة المسؤولة. أنزل من السرير. هناك باب أوتوماتيكي يفتح على المصاعد. دقيقة وأكون أمام المصعد. أهبط إلى الطابق الأرضي. لا أحد. ولا حتى عمال النظافة. الفجر بعيد. وهذا الليل لا ينتهي. ليلة الكتلة المتمددة في الدماغ. أمشي في الطابق الأرضي الفارغ من الناس. هذا عادة خلية نحل بشرية في الصباح وصولاً إلى الظهر. الكراسي مرفوعة على الطاولات. أخرج إلى ليل هنري مور. كتلته البرونزية. لا أحد. الماء ساكن. سيارات وشاحنات تمر بتقطع في الشارع. لطالما أثار شغفي أولئك الذين ينقلون، آخر الليل، مع الفجر، البضائع والمواد الاستهلاكية في شاحنات أو فانات صغيرة لتكون جاهزة للعرض والبيع ما إن تفتح الحوانيت أبوابها. راقبت أكثر من فجر في الطابق السفلي في المستشفى عندما كان مزوّدو المقاهي والدكاكين بالحليب والعصائر والخبز والمعجنات والصحف والمجلات يضعون هذه الطلبيات أمام أبواب المحال المغلقة حتى الآن. لن يطول الوقت حتى يجيء أوائل العاملين في هذه المحال ليضعوا طلبياتهم في البرادات وعلى الأرفف.

كوميديا الاسم
في هذا المستشفى البابلي ينطقون اسمي حسب ألسنتهم، وربما حسب أسنانهم. مرة ينادونني يايا، مرة يهياي، وثالثة يهي. في الخارج لي أسماء أخرى تنتظرني لتواصل عملها الآلي على ما يبدو. من أنا؟ لا أعرف. سوى هذا الجسد المتعثر بأسمائه.

يدبُّ الإسم وحده على الطريق ويكرج.
الذين سموني ماتوا. تركوا لي هذا الاسم يتضخم في الدوائر والمعاملات، ويتكفل بمصيره.
ماذا في الاسم؟ سؤال قديم.

ما الاسم؟
لثغ مرح،
إيقاع يتجدد على كل شفة؟
أم رمل، ملح ثقيل يطهرون به كل ما يفسده اللسان؟
لا اسم فارغاً. ارمه سيرنُّ كحبة جوز صلبة.
لا اسم ملآن.
اكسر حبة الجوز هذه: فارغة.
ارم الاسم في أي أرض يصبح شجرة.
في أي رحم يصبح سلالة. لكنه يظل وحيداً مع ذلك.

من يحمل عبء الآخر: الاسم أم الجسد؟ هذه المرة عرفت أن الاسم سيد التخلي. ماذا يبقى من الاسم؟ جرح الولادة، ندبة الموت، لا شيء. تحت الاسم اسم. اكشطه سترى الترسبات الألفية للجفاف الذي استمر طويلاً هنا. أسئلتي كانت أسهل عندما كان اسمي يمشي جانبي كرفيق غير مرغوب فيه. من منا المصاب بالورم، ويرزح تحت الكتلة؟ جسدي أم اسمي؟

يد/ قدم
أرقب أطرافي. يدي تتضخم. قدمي تصبح جذع شجرة. لم تكن هذه يدي ولا هذه قدمي. آخرون جاؤوا بسلالم قصيرة وسكنوني. يجتاحني الخارق. جسدي يدعوه في غفلة مني. أفكر أني إن نفضت رأسي ستتفتت الكتلة وتتطاير شظايا. ألا يعتقد أولادي أني سوبر هيرو؟ تبقى مع ذلك هذه يدي. هذه الأخاديد العميقة في راحتي، خارطة ترحالي، خط العمر، ورقة عنب؟ أعجبني التعبير. فعلاً، كأنّ يدي ورقة عنب تخترقها خطوط وعلى وجهها شبكة من الشرايين والشعيرات والأنهار الصغيرة الجافة. كان لأمي يد مثل يدي. كانت تموت تحت جناح السرطان. وكنت أحاول فهم الكلمة التي بادلَتَها بنفس أخير: نور. ربما المسمى نفسه. فقد هجرتها الأسماء. كنت أقول لها بوقفتي الطائعة أمام نظرة العين اليمنى، إنها لن تترك قمح يديها يتحلل.

***

رأيت أخواتي، في المنام، كن على برندة بيتنا في المفرق. كان الوقت مساء. كان هناك إبريق شاي وعدد كبير من الكاسات، لم يكن هناك ضيوف، أو أحد من إخواني. بجانب إبريق الشاي صحن صغير فيه أعواد نعنع. كن يعرفن "وضعي الصحي" بتفاصيله رغم أني لم أخبرهن. قلن لي: رأيناك تقع هنا بطولك كله في مدخل بيتنا في المفرق وليس في لندن. هل تذكر عندما دخلت عتبة البيت ووقعت على يديك ووجهك؟ قلت: أذكر، لكن ذلك حدث قبل أشهر، وكانت هناك درجة لم أنتبه إليها.

تحت رحمة الكتلة
ليس لجسدي إسم في هذه الممرات المقفرة. له حيز يشار إليه باليد.

رأيت علي في اليوم التالي. فكرت في أغنية الليلة التي تركت كلها لي بعدما انقض الجميع. ضحك عندما أخبرته أنني غنيتها. قال ضاحكاً: لكنك لست أمي!
ـ المهم؟
المهم هو إزالة الورم. سيحدد مستر بيترسن وقت العملية. المزيد من الصور. ربما هذه المرة للجسد كله. الصباح يدب بعجلاته وخفق مراييل ممرضيه ومرضاه. المرضى المحيطون أخذوا أدويتهم بحجوزات كرتونية بيضاء. هناك أداء أوتوماتيكي. هناك لغة مشتركة وخلفيات نسجت بينهم وطاقم القسم.

واضح أنهم سبقوني إلى هنا. وضعوا روتيناً. أنا الآن أحدهم. شقيقهم في المرض، وربما في المحن التي لا أعرف عنها شيئاً "لم أكن مريضاً"، ولم تكن لدي محنة سوى ورطة الوجود الإنساني نفسه. سوى أنك لغز، سوى أنك لا تعرف هذا اللغز الذي سيفسر لك عن وجه مقنع أيضاً.

أنا الآن تحت رحمة الكتلة. هل استدعتها كلماتي؟ يا للسخف كيف أفكر بذلك؟ هل جاء وقت قصيدة حديث عادي عن السرطان. لتثبت لي مرة واحدة في حياتي أني كنت مصيباً، أن الشعراء قادرون على التنبؤ بمصائرهم؟ من يصدق ذلك؟ أنا أول المكذبين.

لاحظوا معي: هناك شخص صامد في هذا السرد الطالع من مناسبة رحيل صديق مشترك. الراحل. السارد. المسرود عليه. المسرود عليه كان قد نجا، بحسب السرد من آفة السرطان التي أصابت أخاه. لقد تجاوزه في العمر. السرد يقول إن الناس يموتون كما يموت أهلهم. كانت أمامي بضع سنين (...) لأبلغ العمر الذي رحلت فيه. أنا الآن في هذه السنين بالضبط.

***

أفكر أن مرضي يشبه حياتي. تطرف. لا توسط. مراودة الأقصى.
أنتظر العملية الجراحية. الورم في دماغي أنا وليس في أدمغة الأطباء. ليسوا مستعجلين. أنا المتعجل. لا على ذهاب ولا على بقاء. ولكن على إزالته فقط، لست مرتاحاً لوجود هذه الكتلة القاتمة في دماغي.
كل شيء حيٌ هنا في حديقة بيتي الصغيرة. هذا الطير الثقيل الذي يمر بجانبي وفي منقاره عود يابس. واضح طبعاً أنه يبني عشاً في الأكمة الخضراء التي التفت على شجرة السرو.
رأسي مسنود إلى نبتة مليسة تفوح منها رائحة ليمونية تنفذ إلى القلب.

منعني الطبيب من التدخين بتاتاً. قلت له بعد كل هذا الورم في دماغي؟ قال: ليس هذا قصدي، بل للتنفس بعد العملية ولتسريع شفاء الجرح بعدها.
أجرت العملية جراحة شابة تدعى صوفي
لا أعرف أين دخلت وكيف خرجت
ولكني أتذكر قبل دخولي إلى غرفة العلمليات أن بني أنس قرأ علي قصيدة يحبها ويعرف أني أحبها ايضا

أي إيثاكا هذه؟
كم مرة كتبت عن هذه القصيدة من قبل؟ كم مرة قرأتها؟ العديد من المرات.
ولكنها لم تظهر على هذا النحو مرة من قبل.
أي إيثاكا من قبل كانت هدفاً لرحلة، أو عودة من نوع ما.
أي رحلة هذه التي أسمع فيها صوت ابني أنس يقرؤها عليّ بترجمتها الإنكليزية البلورية وأنا أهم بالدخول إلى غرفة العمليات؟

***

وأنت تنطلق إلى إيثاكا
فلتأمل أن تكون رحلتك طويلة
حافلة بالمغامرة، حافلة بالاكتشاف
لا تخف من الليستريغونيات والسيكلوبات
وبوسيدون الغاضب
لن تجد شيئاً من ذلك في طريقك
طالما احتفظت بأفكارك سامقة
طالما مست روحك وجسدك الإثارة الرائعة
لن تقابل الليستريغونيات والسيكلوبات
ولا بوسيدون الغاضب
ما لم تحملهم داخل روحك
ما لم تضعهم روحك أمامك
فلتأمل أن تكون رحلتك طويلة
ولعل صباحات الصيف تكون كثيرة
ويا لها من متعة? يا لها من بهجة
لتدخل موانئ تراها للمرة الأولي
ولعلك تتوقف عند محطات التجارة الفينيقية
لتشتري أشياء جميلة

عرق اللؤلؤ والمرجان، العنبر والأبنوس
فوصولك إليها، هو غايتك الأخيرة
لكن لا تتعجل الرحلة أبداً
فالأفضل أن تستمر لأعوام طويلة
حتى لو أدركتك الشيخوخة، وأنت تصل إلي الجزيرة
غنياً بكل ما جنيته في الطريق
دون انتظار أن تمنحك إيثاكا الغنى
لقد منحتك إيثاكا الرحلة الرائعة
فبدونها ما كان لك أن تبدأ الطريق
لكن ليس لديها ما تمنحه لك سوى ذلك
فإذا ما وجدتها فقيرة، فإن إيثاكا لم تخدعك
فبالحكمة العظيمة التي جنيتها، بهذه الخبرة الكبيرة
لا بد أنك ــ بالتأكيد ــ قد أدركت، بذلك ما الذي تعنيه إيثاكا.
(ترجمة: رفعت سلام)

***

قرأت هذا من قبل. أعرفه، وكنت أظن أنني أعرف إيثاكا التي يعنيها كفافي وأعرف أن الطريق إليها لم يكن سهلاً ولا أقل أهمية.

أو على الأقل لم تكن هدفاً أقل من الوصول إلى "البلاد"، أو "الوطن"، أو أيُ ما تعنيه إيثاكا لكل واحد منا.

ولكن عن أي إيثاكا يمكن الحديث؟ بل أي إيثاكا تبدو لي وأنا أسمع صوت إبني أنس يقرأ قصيدة الشاعر اليوناني العجوز؟

الرحلة؟
إلى ماذا؟
العودة؟ إلى أين؟

أفكر في هذا وأنا جالس بالقرب من نبتة المليسة. ها هي حية، نضرة، ذات رائحة لا تنضب وها هو صباح جديد يغمر حديقة بيتي الصغيرة. لا صورة للحياة أقوى من ذلك: جوقة من أصوات طيور وعصافير تتداخل ... وأسمعها تنتقل من شجرة إلى أخرى؟

***

"تجهيز: نفسي"
أول صورتين؛
قبل العلاج الاشعاعي:
رأيت وجهي
لقد صبوا قناعا" بلاستيكيا"على رأسي
صبوه بكل معنى الكلمة. أدخلوا رأسي في الة
وراحت تنسج خيوطها البلاستيكية
باحكام حول رأسي...
وما أن انتهوا رأيت نفسي في مرآة الحمام
ففزعت. من هو هذا الرجل
الفضائي؟ أو هذا الحرثون الكبير. أو الحرباء المرقطة
بالأخضر؟

بهذا القناع المحكم الى درجة انه يترك أثره على وجهي له شكل فتحات وشبابيك صغيرة وظيفته تثبيت رأسي عندما تصلط الأشعة .. لا حركة لا نأمة. هناك شخصان على يميني ويساري يضبطان الإحداثيات وينقلانها مباشرة الى غرفة التحكم التي اعرف اين هي
أعبر ممرا في الخارج فيه مراية وأرى هذا الرجل الأخضر يمشي الى جانبي
أهذا رجل أم تجهيز فني؟

العصفور المغرد
أهلاً أيها العصفور المغرد. ها أنت تتفقد موقعي اليوم، بجانب نبتة المليسة، أو التي يسميها الإنكليز فيزبانا.
أسمع صوتك في أغصان شجرة السرو، أعرف هذا الصوت جيداً، ولطالما سمعته في هذا الركن من حديقة بيتي الصغيرة.

ولطالما رأيتك ... بالقرب مني. لا تخف. ثم تطير إلى غصنك. لكن اعذرني نسيت اسمك، لا أظن أن هذا الأمر يؤثر على علاقتنا الطويلة، فأنت أيضاً لا تعرف اسمي. ترى جسدي المكوم على كرسي ... شعر رأسي الشائب. تعرف أنني أنا، تسمعني موسيقاك من دون أن أطلبها. وبلا قيد أو شرط.
المهم الآن هو وجودنا. أنا أؤكدك وأنت تؤكدني. هذه علامة حياة لكلينا.

***

جسدي
جسدي يتداعى كمركب للاجئين في بحر هائج.
الألواح تسقط..
المياه تصعد إلى السطح.
المحرك يتلقى ضربة من قرش أو حوت.
الحصار محكم.
وأنا لا أستطيع الفرار.
ليتني أستطيع أن أترك جسدي هنا.
وأنجو ببضع حبات جوز وضعتها في آخر لحظة في جيبي.

***
جسدي يخذلني.
وهذا ليس جديداً.
كان يفعل ذلك مراوغة.
الآن صريح ومباشر في مسعاه.
كلما نهضت وقعت على الأرض.
لا أستطيع أن أبقى واقفاً على قدمي ما تبقى لي من أيام.
حتى الشجرة لا تفعل.
ألم نر أشجاراً ممددة إلى جانبها لكي ترتاح من عبء الوقوف؟


أمجد ناصر

ها هنا آخر قصائده التي نشرها يرثي فيها نفسه:

أمجد ناصر - الشاعر.. شعر


١
بين أترابي فزت بالمنفي
فكافأتني سيدة بكنزة كبر أولادها الخمسة
ولم يرادوها .
وبين أولئك الذين مابرحوا يتساقطون من المنعة
منحت جزيرة غادرتها بين رحلتين لقراصنة عميان
كانو آية في الغضب . وأعطيت مدنا تدين إلى
المنتحرين
بفصول من موسيقى الخشخاش .
الأبراج
والضفاف .
والأرواح المندفعة تحت المطر
أوصلتني إلى مافعلته يداى .

٢
أما العبرة التي أستخلصها التابعون
فتكمن في التأويل الذي أصبح مذهبا .
وصل عام ١٩٥٥ فعالجوه بالفاقة
وبين أترابه قاده ضوء بارد الى مارأته عيناه

٣
كبرت طفلتي
ولم تر في الأمر مايستحق الذكر .


أمجد ناصر - ١٩٥٥

أمجد ناصر - فتاة في مقهى " كوستا"


في مقى " كوستا " بهمرست جاءت وجلست على الطاولة أمامي
مع أن المقهى خال من الرواد في ضحى يجاهد عبثا لانتزاع شعاع من
سماء لندن الطلساء . كنت أفكر في قصيدة فيها فتاة تأتي وتجلس أمام
شاعر يحاول أن يكتب قصيدة عن فتاة تأتي وتجلس أمامه في مقهى
خال من الرواد .
وضعت الفتاة كتبها على الطاولة وحقيبتها على الأرض ونضت
عنها سترة عنابية من الجلد الصناعي فتساقطت قطرات من المطر
واندفع نهداهلاالقاسيان إلى الأمام وارتجا خاف بلوزتها .
مالت على حقيبتها فتهدل شعرها فلمته بحركة سريعة إلى الخلف ،
أشعلت سيجارة و أخذت ترشف قهوتها وهي تنظر بزاوية منحرفة
من عينيها .
أكثر من مرة همت أن تقول شيئا ولم تفعل وأكثر من مرة هممت
أن أتحدث إليها وأتراجع .
ببلوزتها الزرقاء نصف الكم التي تكشف زنديها المبرومين و بكتفيها
اللتين تنط منهما فهود صغيرة وبقدمها التي تتحرك تحت الطاولة
على شكل مروحة
كانت تشبه فتاة القصيدة .
كل الأشارات تدل عليها .
كان وزن الهواء وحركته يتغيران تحت الطاولة .
أوقعت قلمي ، كما لو سقط عرضا ، على الأرض ، لأرى ما الذي يجري
وما إن التقطته ورفعت رأسي حتى اختفت الفتاة .
كان على الحائط أمامي ملصق إعلاني كبير لفتاة تجلس وحيدة
تدخن وتحتسي قهوة وتنظر بزاوية منحرفة من عينيها في مقهى
يشبه هذا المقهى .
*********
دوامة الهواء ماتزال تحت الطاولة
فنجان القهوة الساخن
السيجارة المدخنة على حافة المنفضة
المنديل الورقي المبقع بأحمر الشفاه
قلبي الذي تسمع دقاته من بعيد .
القصيدة التي فكرت بقصيدة أخرى وكتبتها .


...... ........ .............. ......

أمجد ناصر - في أحوال القُبلة المتقلبة


داهمه هذا الخاطرُ وهو يمشي في شارعٍ يتدافعُ فيه الناسُ بالمناكبِ إلى أقرب محطة باصٍ أو "مترو" فراراً من يوم عملٍ طويل: ماذا لو ماتَ الآنَ لأيِّ سببٍ تافهٍ، مثلما يموتُ الناسُ عادةً، وقاموا بإفراغ محتوياتِ أدراج مكتبه ووجدوه في المغلف المطبوعة عليه قلوبُ القديس فالانتاين الحمراء؟
أيُّ سقطةٍ سينهي بها حياتَه المتأرجحةَ على حبالٍ رفيعةٍ، بل قل، أيُّ نكتةٍ سيتندرُ بها زملاؤه إلى أمد طويل؟ لم يكن الأمرُ يتعلقُ بمتحف الصورِ والرسائل والزهور المحنّطةِ التي أرسلتها إليه النساءُ اللواتي ظنتْ كلُّ واحدةٍ منهن أنها حبّ حياته. ولا أقلقته كثيراً العلبُ والأكياسُ التي تحتوي أعشاباً ومقوياتٍ جنسيةً شرقيةً هو الذي لم يعتزَ يومًا بشيءٍ قدرَ اعتزازه بفحولته ذائعةِ الصيت. أما دفترُ المذكرات الذي دوّنَ فيه رأيَه الصريحَ بربِّ عملِه كدجالٍ من الدرجة الأولى وزملائه كأنذالٍ لايستحقون أن يجمعَه بهم حلبةٌ أو "كريدور" فيهونُ أمرهُ أمام ذلكَ "الشيءِ" الموجودِ في مغلفٍ مطبوعة عليه قلوبُ القديس فالانتاين الحمراء.
...........
ابتسمَ، ثم راحَ يضحكُ يضحكُ يضحكُ من دونِ أن يلاحظَ أنَّ الشارع خلا، تماماً، من المتدافعين بالمناكب فراراً من يوم عملٍ طويل.

لندن - \3\2001

***

حلُّ متأخرٌ لأحجيةٍ قديمة

الآنَ، فقط، حزرتُ تلك الأحجيةَ بعد أن اجتزتُ الأربعينَ خبباً ووجدتُ، ذاتَ مرةٍ، ذلك "الشيءَ" تحتَ مخدتي يتفوحُ برائحةِ جَديٍ صغير. فلم يخطر على بالي أن هذا ما يمكنُ أن تتركَهُ امرأةٌ، عن سابق إصرارٍ وتعمدٍ، بعد ليلة حبٍّ رضية. السؤالُ (أو لنقل الأحجيةَ) الذي طرحه عليَّ صديقٌ متزوجٌ يكبرني بعشرِ سنينَ يرقى لأيامِ الوقوفِ ساعاتٍ من دونِ كللٍ أو مللٍ تحتَ شُباكِ الحبيبةِ التي لم يصلْ حبُنا، في ذروةِ هيجانهِ، إلاّ إلى قُبَلٍ خاطفةٍ تَرْتجُّ لها أعمقُ طبقاتِ مياهِنا الجوفيّة.:
ما الذي تتوقعُ أن تتركَه لكَ امرأةٌ بعد ليلةٍ حبٍّ رضيّةٍ؟
ذكرتُ أشياءَ مثلَ وردةٍ، منديلٍ مُعطّرٍ، خُصلةِ شَعرٍ، بل تطرفتُ وقلتُ بقعةَ أحمرِ شفاهٍ على قميصٍ تحاولُ أن تواريها وأنتَ عائدٌ إلى البيت.
ضَحِكَ صديقي الذي لم يكن يكتبُ الشِعرَ ولا النثرَ ولكنه كان يرى فيَّ شاعراً واعداً إن تخلصتُ، سريعاً، من معجمي الأثيرِ: القمر،الصفصاف، الياسمين، الأصيل، وقال بخبثٍ:
أحسنتَ
أحسنت!

***

ماذا في القُبلة؟

لشدَّ ما حيَّره الموقعُ الإنطولوجيُّ للقُبلةِ في الحبِّ، أو ما يتصورُه حبَّاً. مرةً قالتْ له بائعةُ هوى وهي تعدّدُ "ثَمَنَ" كلِّ فعلٍ يقومُ به معها (منفصلةً تماماً عن جسدِها أثناء شرحِ شُروطِ التعاقدِ.. والممارسةِ أيضاً) إنَّ لكلِّ شيءٍ ثمنه.. وكلُّ شيءٍ ممكنٍ.. إلاَّ القُبلة!

امرأةٌ مطلّقةٌ يعرفُها قبلَ الزواجِ وبعدِه تركتْ، في لحظةِ انسجامٍ كاملٍ، يدَه تصولُ وتجولُ في أنحائها البهيّةِ وشفتيه تطْبعانِ قُبلاً مُذَنَّبةً على نحرِ الصدرِ، العُنقِ، الخدينِ، ولما اقتربتا من الفمِ أدارتْ له خدَها. استغربَ، طبعاً، هذا التمنّعَ المفاجىءَ بعدَ أنْ قامَ بكلِّ ما يلزمُ للوصولِ إلى الشفتين فقالتْ له: لستُ جاهزةً لتسليم مفتاحي!

لكنَّ الأغربَ، من هذه وتلك، الفتاةُ التي بالكاد يعرفُها ولم يكنْ في ذهنه لما دعاها إلى كأسٍ سوى تزجيةِ وقتٍ مرحٍ معها. الكؤوسُ المتلاحقةُ التي تجرعاها تحتَ قصفٍ مُتصلٍ من الضحكِ والهذرِ أدتْ إلى تلامس الأيدي، السيقانِ، تقاطعِ الأنفاسِ، فعزّزَ الاحتكاكَ بلمساتٍ اختباريةٍ للكتفِ، لوحِ الظَهرِ، تجويفِ الخصرِ، أرادها عارضةً، كهذا اللقاءِ نفسِه، فتحولتْ، لدهشتهِ، ضمّاً وتقبيلاً على الفم، وراحَ اللسانانِ يفتحانِ محاراً في الفمِ ويُقطّرانِ عنّاباً على الشفاه.. وإذ حاولَ الإنتقالَ، سُفلاً، إلى الخطوةِ الأخرى أمسكتْ يدَه.

لدهشته أيضاً، بل لإحباطه، قالتْ له، بامتلاءٍ داخليٍّ لم يبلغْه: هذا يكفي.
لا بدَّ أنه احتارَ، لاحقاً، تحتَ أيِّ نجمٍ ماكرٍ يُصّنفُ أحوالَ القُبلةِ المُتَقلِّبة.
القُبلةُ..
القُبلةُ..
ماذا في القُبْلةِ؟

***

تحليلُ القُبلة

كيف يمكنُ أن يتوقف الأمرُ عند هذا الحدِّ عندما تُطبِقُ الشفتان على الشفتين ويندفع اللسانان لإيصال بريد الدم الحامي إلى أقصى الثغور ولا يتكللُ المسعى بتلك الشهقات، الانتفاضاتِ، تقطُّعِ الأنفاسِ التي تُشبهُ مفارقة الحياة؟ أهو تواطؤُ نصفِ الرغبةِ، نصفِ السُكرِ سرعان ما يتبددُ إذ تنزلقُ اليدُ لتفتحَ سحّابَ البنطلون بعدما فكّتْ عُرى القميص ونَفَرَ نهدانِ فتيّانِ لا يعترفان بأنصاف الحلول؟ أتكونُ القُبلةُ، هذا المفتاحُ السريُّ الذي نَحْسبُ أنه يفتحُ أيَّ بابٍ مهما تعقّدَ قفله، وضعاً قائماً بذاته لا يؤدي إلى أيّ شيءٍ عداه، أم نزوةً يَحْسُنُ أن تُنسى، ما دامتْ أُدْرِجتْ في دفترِ أعمالِ الليلِ الناقصةِ، في اليوم التالي؟
القُبلةُ..
القُبلةُ..

ابريل 2001

***

القلعة

جسدُكِ قاطعٌ كالكلمةِ التي رميتِها فصار تفاحُ القبلةِ نرداً، كسكينٍ تقطعُ وتقطعُ ولا تتركُ أثراً. جسدُكِ قاطعٌ وكتيمٌ إلى درجٍة أشكُّ فيها بمصدر هذا الشميم الذي يمهد الطريق إلى طيرانٍ بلا أجنحة، فكيف في هذه الأرض الضيّقة يمكنُ للخشخاش أن يذرّ بقرنه. جسدُكِ قاطعٌ وكتيمٌ وضيّقٌ كعين الحسود ولكنني بأطوال نايات أسلافي أدخلُ وأجدُ ريشاً ملوناً وعظاماً ليّنةً ولا أصلُ إلى ما أخفاه اسمُكِ عندما تقدم إليَّ بجرسه الآمرِ. جسدُكِ قاطعٌ وكتيمٌ وضيّقٌ يقرّبُ خدماً وأوباشاً من جاهلي إعجازه ويغلقُ قلعتَه على نفسه.

***

Déjà vu

I

هل كانت تغني لكاميليا جبران تحت سماءٍ أرختْ سدولاً ثقيلةً على ساحة "الطرف الأغرّ" أو هو امتدادٌ لحديثهما عن المغنية الفلسطينية التي تحزُّ، عندما تبلغُ حالةَ السلطنةِ ، حبالَها الصوتيةَ بريشةِ نسر؟ لكنه مع ذلك سمعَ، في ليلٍ مترعٍ بالنبيذِ والصبواتِ، تلك الأغنيةَ ونبشت يده كنوزاً دفينة. هكذا يتذكرُ، خفتَه غيرَ المحتملةِ (على حدِ وصفِها لحالته) في ذلك الركنِ القصيِّ من البار: ظلَ يشربُ ويشربُ ويتحدثُ عن الأرواح التي لا ترتاح في الأبدان، مهما طال الزمان، إلا بعد أن تعثر على صنوها، فيما يدُه تعبثُ بطرفِ قميصِها الأبيضِ وتتسللُ (كأن شيئاً لم يحدث) إلى الخصرِِ فالظهرِِ فسلسلةِ العمودِ الفقريّ وإذ وصلتْ إلى الفقرةِ الأخيرةِ عثرتْ على خيطٍ من النايلون راحَ يشدُّهُ كطفلٍ فأنّبته، على هذه الزعرنةِ ، بنبرةٍ حيّرَه مغزاها، فهل يواصلُ شدَّ الخيطِ، يهبطُ قليلاً، يَكشفُ القميصَ ليراه، أم يتوقف؟
يتذكرُ كذلك (وهو يزدادُ خفّةً مع توالي الكؤوس واللفائف) أنه قبّلَها على شفتيها الجافتيِن (لم يعرف إن كانت تلك علامةً على عدم رغبتِها فيه أو لا؟) ثم همسَ في أذنها، من دونِ أن يدري لماذا، أن لها صوتاً ذكورياً مغوياً فنظرتْ إليه كمن يستطلعُ ميولَه الجنسيةَ فأكدَ لها، بتضرعٍ، أنه ليس شاذاً جنسياً وأنها امرأةٌ مشتهاةٌ من أخمص قدمِها حتى شحمةِ أذنِها (تذكّرَ أيضا أنه لعَقَ الأخيرةَ مراراً عندما كانت تُديرُ له خدَها ولم تندَّ عنها آهةٌ واحدةٌ، لا بدَّ أنها ليست مفتاحَها!).
................................
عندما التقاها ثانيةً كانت ترتدي القميصَ الأبيضَ ذاتَه ولشعرِها نفسُ رائحة الأعشابِ البرّيةِ الجافّةِ التي شمَّها من قبلُ، فدعاها إلى كأسٍ أو عشاءٍ، فلاحظَ، وهما يرتشفانِ كأسيهما، أن قميصَها مُحكمُ التزريرِ (هل كان كذلك في المرة الأولى؟) ولا يكشفُ، عندما تميلُ أو تنحني، جانباً من خصرِِِها الأسمرِ، أو خيطاً من النايلون فوقَ حافةِ البنطلون ذي الكمر الساحل .

تحدثتْ، وهي تشربُ كأسَها بوتيرةٍ أسرعَ من المرةِ السابقة، عن النشوةِ الجسديةِ التي لا تعادلُها نشوةٌ أخرى عندما تُرضعُ طفلَها (أحسَّ بطعمِ الحليبِ ساخناً على شفتيه)، ثم سألته، عرضاً، هل جرَّبَ حبوبِ "إكستاسي" فقال لها إنه جرَّبَ حشيشةَ الوجدِ على "جبل قاف" ، وتسللتْ يدُهُ إلى خصرها وأمسكَ الخيطَ إياه وأخذَ يشدُهُ ولكنها سرعانَ ما نزعتْ يدَه وقالتْ بنبرةٍ مُستنكرةٍ:
ـ أين تظنُ نفسكَ؟
فأجاب: في لندن.
فقالت: بل في رام الله!
ثم شاهدَ على شاشة التلفزيون، في أحدِ أركانِ المطعمِ الذي يتفوّحُ برائحةِ الشواءِ والأراجيلِ، مغنيةً بشعرٍ قصيرٍ غزاه الشيبُ تغني: ودي أغني لنسمة الحرية...

II

لم تعد المشكلةُ أنها نِصْفُ رَفضَتْهُ نِصْفُ قَبِلَتْهُ (تلك الأنصافُ التي وسمتْ حياتَه بعدلها السقيم) بل التأكدُ أن ذلك اللقاءَ حدثَ في لندن وليس في رام الله التي لم يزرها قط.
براهينُه أقوى من كونها مصادفاتٍ: قميصُها الأبيضُ، شَعرُها المتضوّعُ برائحةِ أعشابٍ بريّةٍ جافةٍ، صوتُها المتهدجُ العميقُ (لا يدري لِمَ أحسَّه ذكورياً)، يدُه التي تجولتْ بأنحائها (دليلُها الرعشةُ وحدها)..وأخيراً حَنَقُها من وصفهِ الخيطِ الذي عثرَ عليه فوقَ حافّةِ البنطلون بأنه نايلون فصححتْ جهلَه الفادحَ بالمراتب الحسيّةِ للثياب، قائلةً:حرير!فَهمْتَ؟ حرير! أهو الإفراطُ في الشربِ واللفائف الملغومةِ ما جعله يشكُّ في لقائِها جنبَ تمثالِ "نلسون" ؟ ولكن ماذا عن السماءِ المهددةِ بمطرٍ وشيكٍ التي التقاها تحتَها، "البار" الذي تلفحُ الداخلَ إليه كمخةُ البيرةِ والرطوبة، جرسِ الكأسِ الأخيرةِ في الحادية عشرة إلا ربعا (أين تُقرعُ الأجراسُ في ليلِ الشاربينَ إلاّ في لندن؟)..ثم محطةِ "هلبورن" التي لا يعرفُ هل وصلا إليها بالسيارة أو مشياً على الأقدام؟ أجرى له كل هذا في حياةٍ سابقة؟ ولكن مهلاً. إنه يتذكّرُ، الآنَ، شيئاً عن رام الله في خلفيةِ هذا الهلامِ الرجراج. فعندما دَخَلّتِ المحطةَ مسرعةً لتلحقَ القطارِ الأخيرِ لم تقلْ وداعاً بل قالتْ، بصوتٍ أيقظَ حارسَ المداخلِ الضّيقةِ للعالم السفلي:
رام الله تُحبُّكَ !
ثم سمعَ الأغنيةَ تأتي من عمقِ الدرجِ المتحركِ: ودي أغني لنسمة الحرية...

III

بعد أن قلّبَ الأمرَ على وجوهه وصلَ إلى هذا الإستنتاجِ المريحِ: ما دامَ لا سبيلَ إلى تأكيد أو نفي ذلك اللقاءِ من أصله، لا فقط أين وكيف، فإنّ ما حصلَ ربما كان" ديجا فو" أو، بحسب رامبو، تشوشاً كاملاً للحواس.
هكذا تكون ترهاتُه عن الأرواح التي لا ترتاحُ في الأبدان إلا بعد أن تعثرَ على صنوها، حماقاتُ يدِه التي تكذِّبُ نيرفانا لسانِه، فشله الذريع في أخذِها إلى السرير، كأنها لم تكن.
هو، الآن، فَرِحٌ بنجاته من اعترافٍ مضحكٍ آخرَ عن الحبِّ الذي لم يتقدم ساعةً أو يتأخر عن موعده المرقون في اللوح المحفوظ! جيدٌ أن هذا اللقاءَ الذي فَخْخَه بشراك "القدر" كان وهما خالصاً، وإلا لعانى الأمرينِ من القُبل الزائفةِ التي تلي الفراغ من الجماع والأكاذيبِ التي ينبغي عليه حبكُها جيداً كلما بدا منه فتورٌ أو تراخِ.
أيُّ راحةٍ أن ينجو من ترهات لسانه وحماقات يديه.
حبٌّ آخرُ كهذا ويهلك ( مَنْ قالَ هذا مِنْ قبل؟).
لم يكن حبّاً.
لم يكن جرحاً.
لا مرارة في الحلق.
ولا رضاب على الشفتين.
وإنما...إنما لحنٌ شاحبٌ يتردّدُ في أقصى زاوية في نفسه.

إنه الآن حرٌّ.
إنه الآن خفيف.
إنه الآن يدندنُ في القطارِ الأخيرِ: ودي أغني لنسمة الحرية....
.
الوسم أمجد_ناصر على المنتدى نوسا البحر T11موضوع: مملكة آدم قصيدة أمجد ناصر , ديوان مملكة آدم
hassanbalam

المساهمات: 1
مشاهدة: 334

ابحث في: مرتفعات أو سوناتا الكلام   الوسم أمجد_ناصر على المنتدى نوسا البحر Untitl13موضوع: مملكة آدم قصيدة أمجد ناصر , ديوان مملكة آدم    الوسم أمجد_ناصر على المنتدى نوسا البحر Icon_minitime2021-10-01, 8:28 pm
@hassanbalam
#أمجد_ناصر
أثر العابر وقصائد أخرى لأمجد ناصر

لا أعرفُ كيف ومتى وصلتُ إلى حيثُ لا يصلُ الأنصارُ أو الشُّهودُ.
جاءتْ عرباتٌ تجرُّهَا كائناتٌ، نصفُها بشريٌّ
ونصفُها حمارٌ وحشيٌّ.
رموني مع الذين قضوا نحبَهُم.
كنتَ مختنقِاً.
ولم أكنْ ميتاً تماماً.
كنتُ بلا نَفَسٍ تقريباً.
لا أعرفُ ما الذي أصابَني.
كان هناك هواءٌ حامضٌ
ومُرُّ وحرّيفٌ وثقيلٌ.
تنفَّستُهُ.

فلم يكنْ هناك هواءٌ غيرَهُ.
لابدَّ أنَّ لوني شَحبَ
وأطرافي ارتجفتْ
وفمي طَفَحَ بزبدٍ.
رأيتُ آخرين على هذه الهيئة
لكنَّهم كانوا متخشِّبين.
قطعةً واحدةً.
هكذا يكونُ الأمواتُ، أليس كذلك؟

لأنَّ الدمَ والنَّفس والذكرياتِ
تُطرِّي الجسد، وتجعلُهُ قابلاً للانثناء.
بسبب كَثرتِنا،
لأننا ملأنا الأرضَ التي كانت خضراءَ بما لا أدري
فصارتْ خضراءَ من القَيءِ وبرادةِ النُّحاسِ المُجنْزرِ،
راحوا يرمُوننا على عجلٍ في العرباتِ

التي ظلَّتْ تعمل على مدارِ الساعةِ.
هكذا وصلتُ إلى هنا خطأ.
ربَّما.
لستُ متأكداً.
كنتُ بلا طاقةٍ، لأدافعَ عن بقايا نَفَسي
ونبضي الضعيفِ
وقدرتي
على رؤيةِ الأشياء بالأخضرِ
وذاكرتي التي طَفِقَتْ تستعرضُ
كلَّ الأشياءِ التي أحببتُها،
خصوصاً الماء.
عطشانٌ.
رأيتُ ماءً كثيراً.
رأيتُ ينابيعَ.
شلالاتٍ.

أنهاراً هادرةَ.
واحاتٍ في صحراء.
ماءً ينزُّ من كتفِ جبلٍ.
….
عندما قامُوا بِفَرْزِنا صحوتُ.
رأوني أُحرِّك يدي.

لم أكن أرتدي كفناً. كنتُ في ثيابِ العملِ، في جُيُوبي أقلامُ رصاصٍ، مفكَّاتٌ، مفاتيحُ. هل كنتُ حدَّاداً، نجَّاراً، ميكانيكيَّاً، أم شاعراً؟ لا آثار بلطات أو طلقاتٍ على جسدي. حاروا أين يضعونَني! هذه قوافلُ الموتى تتوافدُ. هناك مهاجعُهُم التي يُفرَزُون إليها بأرقامٍ في أعناقهِم. وأنا لستُ ميتاً. لا يصعدُ الأحياءُ إلى هذه الأعالي. أجسادُهم أثقلُ من أن تُنْقَلَ حتَّى في عرباتٍ تجرُّها كائناتٌ، نصفُها بشريٌّ، ونصفُها حمارٌ وحشيّ.

لا يصعدُ الأحياء إلى علِّيِّنْ. لم يتذكروا أن حيَّا وصلَ إلى هٌنا، ولا يعرفون كيف يعيدونَ الأحياء، فَمَنْ يصلُ إلى هنا لا يعودُ. سألوا مَنْ أنا؟ نسيتُ، بالضبطِ، مَن أكون، فقلتُ لهم: رسولٌ! جفلُوا. ليست هيئتي لرسولٍ ولا يُرمَى الرُّسلُ، كيفما اتَّفق، في عرباتِ الموتى. تغيَّرتْ ملامحُهُم، فقلتُ لهم كلّا، لستُ رسولاً إلهياً، فلا أقوى على ذلك، ولكنْ، بما أنني وصلتُ إلى هنا، ولم يفعلْ ذلك حَيٌّ قبلي، ربَّما شاعران، أحدهما يُسمّى المعرِّيُّ، والثاني يُدعى دانتي، فأنا رسولُ الذين ظلّوا في بلاد البراميلِ والسارينَ في مملكةِ آدم التي ترون من مرتفعاتِكم البعيدةِ هذه اللهبَ الذي يتصاعدُ من أطرافِها، والدخانَ الذي يلفُّها، والروائحَ التي تزكمُ الأنوفَ (ألَّا تشمّونها؟) وبما أني وصلتُ إلى هنا خطأ، وهذا على ما يبدو لم يحدثْ من قبلُ، فهناك احتمالان: أنَّ الأخطاء ليست عُمْلةً بشريةً فقط، أو أنَّ في ذلك دلالة.

قولُوا له إني أريدُ أن أراهُ.

أريدُ أن أقولَ له إني قادمٌ من مملكةِ مخلوقِهِ آدم، حيثُ صارت الكلمةُ للزُّومبيِّين،
مصَّاصي الدماء،
أَكَلة لحومِ البشر،
هَاتكي الأعراض،
مُغتصِبي الصِّبيةِ الصغار،
رجال الخازوقِ والكراسي الكهربائيةِ،
مُحوِّلي القرودِ إلى بشرٍ، والعكس،
عاقِّي آبائهم وأُمَّهاتهم،
الذين يقطعونَ الرؤوسَ كَدَرسٍ سريعٍ في التَشريحِ،

خَزَنَةِ البَراميلِ المعبَّأةِ بـ التي إن تيْ والمساميرِ وأنصالِ السكاكينِ… وغيرهم وغيرهم.

لستُ متأكِّداً أنَّه على علمٍ بما يجري، أو رُبَّما نَسيَنا، فَمَن نحنُ في كونهِ اللانِهائيِّ؟ هناكَ شيءٌ خطأٌ. ليس وصولي إلى هُنا، ولكن تركنا في ظلماتٍ، لم يَنرها قبسٌ واحدٌ يدلُّ على قدرةٍ، أو حكمةٍ من أي نوعٍ.

ومثلُ موسى لن أبرحَ مكاني هذا الذي لا أعرفُ أينَ هوَ حتَّى أراهُ يُشير بأصبعَيْه، ويضعُ طرفَ إبهامهِ على أنملةِ الخُنصرِ، فتسيحُ سبعةُ جبالٍ دفعةً واحدةً، فأنا ابنُهُ مثلُ أولئكَ الذين لولا الصحراءُ والحَيْرةُ ما صاروا أنبياءَ.



من ديوان: مملكة آدم
الوسم أمجد_ناصر على المنتدى نوسا البحر T11موضوع: خمس قصائد لأدونيس وأمجد ناصر ومحمد بنيس وإيمان مرسال وعباس بيضون
hassanbalam

المساهمات: 1
مشاهدة: 405

ابحث في: مرتفعات أو سوناتا الكلام   الوسم أمجد_ناصر على المنتدى نوسا البحر Untitl13موضوع: خمس قصائد لأدونيس وأمجد ناصر ومحمد بنيس وإيمان مرسال وعباس بيضون    الوسم أمجد_ناصر على المنتدى نوسا البحر Icon_minitime2020-12-15, 3:57 pm
@hassanbalam

خمس قصائد لأدونيس وأمجد ناصر ومحمد بنيس

الوسم أمجد_ناصر على المنتدى نوسا البحر P_145710
#أدونيس

رسالة إلى غوته

:في الظّهيرةِ، أيقَظْتُ ليليَ باسْمِكَ، أصغَيْتُ
.دبُّ الكواكبِ يُمْلي على الدّورةِ الدّمَويّة في الأرض آياتهِ
والمَدائِنُ ـ مختومةٌ بشَمْعِ الشّرائعِ، تقرأُ أَسفارَها
على بَشَرٍ من جِراحٍ وخُبْزٍ يَطوفونَ
يستفسرونَ الشّوارعَ : من أينَ جِئنا
إلى أينَ نمضي ؟ وهذا
.قمَرُ الشّرقِ يدخُل في طَقْسِه

أهُوَ الوَقْتُ، يا نبْعَ حرّيّتي ؟
.سأتابِعُ سَيْري
،أهُوَ الشّرقُ ينأى عن الغربِ، يُعطي سماواتِه
إلى قمرٍ آخَرٍ ؟
.سأتابِع سيري
كلُّ شيءٍ مَجازٌ ـ
ليسَتِ الرّوحُ إلاّ مَنِيّاً له صورتانْ
،صورةٌ ترسمُ الزّمانَ بِحِبْر غواياتِها
.صورةٌ تلبسُ المَكانْ

،إنّه الغَرْبُ خلفَكَ، والشّرقُ ليس أمامي
ضِفّتانِ لنَهْرٍ
واحِدٍ صار أكثرَ من هُوّةٍ
وأكثرَ من صَخْرةٍ
:ليس سيزيفُ إلاّ صوْتَها صارِخاً
سِندَبادٌ يتشَرَّدُ في بَحْرِ إسلامِهِ
.ماتَ جلجامِشٌ، وعوليسُ في مَوْجِه

جسدٌ واحدٌ يتمزّقُ عُضْواً فَعُضواً
.جسدٌ ليس فيه من الشّرقِ إلاّ اسْمُهُ
.جسدٌ ليس فيه من الغرْبِ إلاّ اسمُهُ

لم أعُدْ أتَعَدَّدُ مِثْلكَ، في وحدةٍ أتَنَشَّقُ إكسيرَها وأناجي أنابيقَها
لم أعُدْ قادِراً أن أُميِّزَ مثلكَ: مَن هو قابيلُ؟
،مَن هو هابيلُ ؟ كلاّ
لا ترى خطواتيَ
في غابةِ الكَوْنِ ما يتوهّجُ فيها

،ما يُضيءُ مسافاتِها
.ويُجَدِّدُ أبعادَها
أتُرى أوّلُ الشّرْقِ غَرْبٌ ؟
أتُرى آخِرُ الغربِ شرْقٌ ؟

هكذا أفْتَحُ الكلِماتِ على جُرْحِ هذا الوجودِ، على هَوْله
وأرى كيف يجْتاحُني
وأرى كيف يجتاحُ شطآنَ حُبّي
ويَسْتَدْرِجُ الأشرِعهْ
،للذّهاب إلى آخِر المَوْجِ غرْباً وشَرْقاً، إلى آخِرِ الظّلُماتِ
إلى ما يُسمِّيه نفسي
.وإلى ما يؤكِّدُ أنّي ضدَّ نفسي، مَعَهْ

الأساطيرُ في الغربِ والشّرقِ مَجروحةٌ
وأنا لسْتُ إلاّ دماً
.يتقطّرُ منْها

#أمجد_ناصر

أحصنة حديدية

(إلى باولو دالوليو)
قلْ لي ماذا تفعل هنا أيها الغصنُ المنحني؟
كيف وصلت بين الأكفان البيض وأشجار الكوبالت
إلى مآدب الضباع؟
هناك عيون تراك ولا تراها
تنقل الصورة السالبة لشكل الركعة
.وترسلها إلى طوطم التمر
الله
الذي عبدناه طويلاً تخلى عنا في هذا الليل / التيه
.ولم نعد نرى له أثراً في سماء النجيع
الساعات هنا تتوقف عن العمل
.والقلب عن القصيدة الطويلة التي ضخ فيها دماً كثيراً
إذهبْ مثلنا في التيه
،إدخلْ في هذا الليل الأرقط
،فلن تصادفَ في الأرجاء
آلهةً ولا أبطالاً مثلما في الملاحم
،وحكاياتِ ما قبل النوم
،فلم تعدْ هذه الصحراء
التي جئتها بيدين مرفوعتين
،تنجبُ أنبياء
لقد أفرطتْ في ذلك من دون أن يستطيع هؤلاء
.انتزاع الوحش الكامن خلف القفص الصدريِّ لأبناء آدم
:اسمح لي، إذن، أن أقول لك
لا الملائكة ولا الشياطين
بقادرين على وقف نواعير الدم
،التي تديرها أرواحٌ شريرةٌ من مكانٍ مجهولٍ
،فلا تفكِّر
بإلياذة هوميروس
بل بجحيم دانتي
غير أنك لن تحتاج فيرجيلو
،ليصحبكَ في رحلةٍ بين الأشلاء والأنين
فأيُّ رَجُلٍ بساقٍ خشبيّةٍ
أو طفلٍ بيده رغيفُ خبزٍ جافٍّ
،وعلى خصره مسدسٌ بلاستيكيٌّ
يستطيع الطواف بك في دوائر الجحيم التسع
لكنك لن ترى طغاةً ومرابينَ
،أو مبدّديْ أرواحٍ وجَدَتْ نَفْسَها خطأً في مرمى النيران
،بل وجوهاً امَّحت ملامحها
وأجساداً فقدت أطرافها
.وأشجاراً تلتهما النيران لكنها لا تحترق

،قد تفكِّر أنك في الآخرة
وهذا خطأٌ
فأنت لا تزال في الحياة الدنيا
،ولكن تشابهتْ عليك الصور
سترى سماءً خفيضةً
تتساقطُ منها البراميلُ بدل الأمطار
.فلا ماء لهذه الأرض المُشَقِّقة من العطش
،أنظرْ
الأحصنةُ الحديديةُ تعبُّ الدمَ
بصرف النظر عن فصيلته
.فمن يهمه، هنا، مثل هذه التفاصيل
.عَطَشٌ
هناك أنهارٌ من الدم
.بيد أنها لا تروي
.دمٌ وملحٌ
دمٌ وبلازما
.دمٌ
.دمٌ

هذه الأرض مثل كلبٍ شاردٍ تلقَّى ركلةً على خاصرته من بسطارٍ فراحت تعوي وتعوي
.ولا شيء يرتدُّ إلا الصدى السيمفوني للآلام
،لا تحتاج درويشاً يدور إلى الأبد
حول الشكل الهندسيّ الأمثل للنقطة
،كي يقول إنَّ مَنْ يشربُ الدمَ يزدادُ عطشاً
،ولا قديساً
،أو أفَّاقاً بلحيةٍ شيباء
يصرخ في الجموع التي تتقافز
:من طبقة في الجحيم الى أخرى
.اغفروا لاعدائكم

***

:صوت من الصحراء

،أنا نبيٌّ من دون ديانة ولا أتباع. نبيُّ نفسي. لا ألزمُ أحداً بدعوتي ولا حتى أنا
إذ يحدثُ أن أكفر بنفسي، وأجدِّفَ على رسالتي. نبي ماذا؟ ومَن. لا أعرف شيئاً
.في هذه الظلمة التي تلفّني. لا أحمل صليباً على ظهري وليس لي عصا تشقُّ البحر
أتلمَّس طريقي بالضوء الصادر من عينيَّ ولا أرى يدي التي تلوّح لجموعٍ وهميةٍ
.تموج تحت سفح الجبل

***

أخطو في هذا الليل /التيه
/كمن يتوقعُ أيَّ شيء من قلب الانسان
/صدري مفعم ٌبخضرةٍ
/لا بدّ أن هناك من يخطو مثلي في أمكنةٍ أخرى
/لست وحيداً في هذا الليل الجامع
بقدميَّ الملفوفتين بخرقة الأولياء القدامى
،أدوسُ الرمل
/الحجر
/العوسج
/الذهب الخام
/التراب المرتاب
/فمن يعرفُ أيَّ شيء يدوسُ المرءُ في الليل التامّ
العمى ليس مرضاً في العينين
/بل ضعفٌ في عضلة القلب
/أخطو الى هذا الليل وفي يدي دليل الحائرين
أسمعُ من يقولُ: تفضَّل اجلس معنا تحت هذه النجمة الضّالة/ لِمَ العجلة/ الحيُّ يؤنس
الميت/ والطريق أطول من ثلاثة نهاراتٍ تفصل بينها ثلاثُ آبارٍ عليها ثلاثةُ غربانٍ في
.منقار الأول حبَّةُ خردلٍ، وفي منقار الثاني حبَّةُ قمحٍ، وفي منقار الثالث لؤلؤةٌ

***

،ليس للضوء أكثر من اسم في لغتك المتوسطية
لكن على الجانب الآخر من هذا الليل / التيه
،حيث يتكاثرُ القتلةُ في وضح النهار
:اسم نطقتَه بعربيةٍ سوريّةٍ فصحى
.النّور
،ففي أيِّ ظلمةٍ
،أو نورٍ داخليٍّ
،ترزحُ
،الآنَ
،أيها الرجلُ الذي حملَ قلبَه على كفِّه وصعدَ به الى جبلٍ بلا عشبةٍ أو قطرة ماء
،وزرعه هناك فأثمر شجرةً ترخي ظلالها لأيِّ عابر سبيلٍ تحت شمسٍ تشتغلُ، أحياناً
.جلاداً في الظهيرات
أشكُّ أنك تعرفُ أنَّ الحبَّ يخيفُ إلى هذا الحدّ، وأنَّ في الكلمة سرّاً لا يفهمُ خطورتُه
،إلا الأشرار
،كان ينبغي أن تحيا كأنك ميتٌ
أو تموتَ مثلنا كأنك حيٌّ
.لتذكِّرَ بالجرائم التي لن يُحاسبَ عليها أحدٌ من فرط كثرتها
،قلْ أين أنتَ لآتيك بالقلم والقرطاس
بالإبرةٍ والخيطٍ
،بالخبز والزيت
بشربة ماء تقطَّرت
من أعين الممدَّدين على الأرض
.ينتظرون المجارف والأكفان

#محمد_بنيس

نشيـدُ الفجْـر

يا سيّدَ الشُّعراءِ غُوتَه
غنّيْتُ من أدْنَى بلادِ الشرْقِ كأساً كنتَ تشْربُها سعيداً
تحتَ داليةٍ وتعْرفُ أنها خيْرٌ تماماً كلُّها

وحْدي هُنا في حَانةِ الغُرباءِ يمْلأُ كأْسيَ السّاقي
نبيذاً صافياً
كأساً تلي كأساً
وفي سرِّي أباركُ نشوْةً
مُتنسّكاً أتعلّمُ الغرْبَ الذي أوْدعتَهُ في جوْهرِ الكلماتِ

أنتَ أَنا
أراكَ اليوْمَ من زَمنٍ إلى زَمنٍ تعودُ
تُطلُّ منْ معْراجكَ الكوْنيِّ يجْمعُ بيْنـنَا حُلمٌ
تكوّنَ منْ مدَادِكَ عندمَا سُكرٌ
وشطْحٌ فيكَ ظلاّ طائريْن إلى الأعَالي شُعلةً يتلألآنْ

حقّاً سأرْفعُ ضوْءَ كأسكَ
لا سبيلَ سواهُ في زمني الجَريحِ كأنما شوقٌ إليْكَ يقودُ
من غرْبٍ إلى شرقٍ يدُورُ الكأسُ لي سُكْرٌ
يُمجّدُ ما يديمُ عليَّ أنْ أحْيا بعيداً عنْ غباءِ الحقْدِ

أعرفُ أن وقتَ الضّيْق صارَ اليوْمَ أعْتَى
باسْم مَا سمّوْهُ شرْعيةً
ولكنّي بماءِ الحُبّ أغسلُ ما تدنّسَ في النّفوسْ

أهْلاً بكأسٍ منْ نبيـذٍ يُشبه الياقُوتْ
سأشربُ في مديحِ العشْقِ هذا الكأسَ ليْلاً ثم ليْلاً
سوْفَ أسْعَى مُخْلصاً لنشيدِ منْ غنّى
منَ الشعراءِ للأرضِ التي تبقَى
لنَا أُمّاً كما كانتْ

أنَا السّكرانُ
أبصرُ آيةَ المجْهولِ مُشرقةً
على صمْتٍ توحّدَ بي
وفـيّاً لانْفتاحِ اللاّنهايةِ بيْننا
فرَحاً به أبداً أكونْ

#إيمان_مرسال

رائحتك تراب العالم

ینادي البائع، على أسماك لم تعد تنتمي للبحر
أمرّ على رائحة ملح وحبال غسیل، أمرُّ بلابسات السواد
.على باب المستشفى، أمام دكان الجیش ومحكمة الأسرة
نھنھة مكتومة أم دعاء؟
بعد شارعین سأصعد السلالم إلیك
.وعَدَني الصباح بجریمةٍ وصدقته

.ھویّتي على ممسحة الأحذیة أمام الباب
لا حاجة لاسمي، غسلتُ رأسي وتركتھا تجفّ على فرع شجرة
.ستخلعھا عاصفة بعد قلیل
أنا ما تبقّى من ذلك
أمشي في اتجاھك بعینین مغمضتین، وأعرف، لن أكون ھنا ولا ھناك
.عندما تطفو ذاكرتي نفسھا في نھر النسیان

لسنوات أرعى الغنم، مع ذلك نزفت قدماي في الرحلة إلى المدینة
المدینة التي نجوتَ من حربھا الأھلیّة وما زلتَ ترى الجثثَ في المرآة
أنا عمیاء وأنت لا ترید أن ترى
نصل إلى اللحظة من طریقین متقابلین
.الرغبة كالماء
.تُبلّل وتروي وتُغرق وتمیت، ولا یمكن مسكھا بالأصابع

.لا أخاف من كتفي الأیمن ولا من كتفي الأیسر ولا من نقطة العرق بین ثدیي
لا أخاف من ذاكرة السُّرّة ولا الشامة على الرقبة
.ولا الجرح القدیم في الرّكبة ولا أظافر قدميّ
،یُمكنك أن تُصوّر كل عضو وحده
أظلّ عندك كثیرة ومتناثرة، كل عضو سیدلّ عليّ
.بینما عیناي التي شھدت كل شيء، معي، تحدق في الداخل

.ملاءة السریر المطرزة بالورود تملؤھا الأشواك
.لیس في الأمر مجاز
.نحن بشرٌ للغایة، لا نحلم بالطیران
النوم بجانبك أشبه بالرجوع للأرض
.ورائحتك تراب العالم

سیجارة في غبشة النوم
رحلة الضباب تلك
.التي یفشل في وصفھا العائدون من الموت

#عباس_بيضون

زليخا و مارلين

من قلب البئر صعد صوتي،والذئب الّذي إخترعوه لي،سمعني وهرب
القميص الّذي بللوه بدم كاذب أعشى عيني أبي
هل كان البئرحقيقيّا،هل كان القميص حقيقيا؟
هل صدقت الصحراء،هل صدق الذّئب؟
ما الّذي كان ينتظرني عند فم البئر؟
سوى طريق الأنبياء إلى مصر

في قرآن قديم وجدت أنا الشاعر بلاطا وملكة وسجنا
الجميلة الّتي أحبّت يوسف قطعت أصابعها من أجله
ليس أقلّ من دم حقيقي هذه المرّة، ليس أقلّ من قميص حقيقي
أنا الشاعر لا أجد دما لقصيدتي، بريت أصابعي لأكتبها
وجدت زليخا في مخيّم للنازحين تحمل مكواة حامية
أحرقت أصابعها وقرّحتها
صورة أخيها الميّت معلّقة على الحائط
أنا الشاعر أعرف أنّها نزفت من يديها ،وهي تجلي، فوق الصحون
أن جمالها مطموس في أسمالها

أفكّر الآن بمارلين مونرو الّتي إنتحرت من شقاء العالم
وصعوبة الحبّ
لقد أشرقت على ملايين غادروا الصالات وإنصرفوا إلى أعمالهم
قالوا أنّها مختلّة،إنتظروا جميعا أن تنضج لتستحقّهم

أنا الشاعر، أعرف أنّي لست كحافظ ولا سعدي ولا المتنبي ولا جلال الدّين الرومي
اولئك تطلّعوا إلى ما يجعلهم أعلى من أنفسهم،إلى تجربة كونيّة
كانوا يتّصلون بالكون عن طريق الحب، كانوا يسمعون النجوم عن طريق الحب
الشعراء اليوم مساجين في غرف الآلات
هم وحدهم ونساؤهم من ورق
العالم ينتكس ، وأنفسنا تنتكس معه، إنّها تنظر فقط إلى ما هوأدنى منها
ثمنها الوحيد هو الموت، الإنتحار من أجل لاشىء ، في عالم لم يعد له سعر
زليخا في البلاط إنتظرت شيئا أعلى من تاج، شيئا أكثرمن ملك
الجمال السماوي الّذي جاء من بئر في الصحراء كان أصيلا وكونيّا
يوسف الّذي لم يأكله الذّئب ولا الصحراء رأى ما وراء النجوم
زليخا بأصابعها المقطوعة، المزهرة والمضيئة، لا مست السماء

ماذا تفعل أيّها الشاعر العجوز، أنت الّذي لا يقطفك أحد
حتّى متى تنتظر زليخا
لقد واكبت مارلين إلى القبر
وعمّا قريب في مكان آخر ستقع في الحفرة
بدون هدف، ولن يخرجك أحد من البئر
إنّه موعدك مع اللاأحد

#نجوم_الغانم

الظلال القرمزية

ح

وإنْ سرَقَتْ فينوس مِنّا مَواعيدَنا؛ وعبَثَ المشْتريْ بطَوالِعِنا
فلن ندَعَهُما يُنشدانِ افْتراقَ دُروبِنا.
سنترُكُ لِلأقدارِ وردةَ الأُمْنِياتِ
لَرُبّما خانَ السّدَنةُ الأعرافَ مِن أجلِنا رَيثما
نصعَدُ إلى اللهِ الذي سيَمْنحُنا باباً ومِفْتاحَ نجاةٍ
ويَغفِرُ لنا لأنّنا نُريدُ أنْ نَهبِطَ مِن جنّتِه.
ربّما لا بَأسَ إنْ سقطْنا مرّةً.

ز

رحلْتَ مُقْتَفياً مَزاميرَ هِليوس
غَسلْتَ الطُّرُقاتِ بالمِلحِ لِئلا يبقى مِن رائِحتِنا
شيءٌ عالِقٌ في الحَجر.
بَكيْتُ عليكَ حتّى احْترَقَ قلبي بجُرْحِ الغِيابِ
ورَغمَ سَطْوةِ الحُزنِ خبّأْتُ لِعَودتِكَ قوافيَ “حافظ”
وظِلَّ الأَنْجُمِ القُرْمُزيّةِ،
تركْتُ النّوافِذَ مُشْرعةً تحْتَ سماءِ أيْلول،
وحينَ لم تأتِ تعلّمْتُ مُناداةَ الرّيحِ.
عشِقْتُ الحُبَّ في الانْتِظارِ
وكان لَسْعُ الثّلجِ الحارِقُ على وَجْنَتَيَّ يَشْفي قلبي.
البدرُ الّذي أَمْرَضَهُ شَوقي أصبحَ بَيتاً أَلوذُ إليه،
والمفازاتُ أرضُ أَحْلامي،
أمّا مَضائِقُ البُلْدانِ فكانَتِ الْجِسرَ الذي سأَعبُرُهُ لأصِلَ إلى قلبِكَ.
كنّا سنفْتَحُ قُمصانَ المساءاتِ ونَتَداوى بالقُبُلاتِ
لكنّكَ أَخذْتَ الأناشيدَ مِن يدَيْها وبقيتَ هُناكَ في
البُحورِ “الطّويلةِ” تَخْتبرُ وَقْعَ أوزانِها وتُقلّبُ المَوجَ…


رحلْتَ في الرّحيلِ
وصار قَدَرُ العِشْقِ بينَنا هو الفِراقْ.



ح

تَعالَيْ لِلَيلةِ اكْتِمالِ القمرِ
نَفْترِشُ في ظِلّهِ جزيرَتَنا ونَتّكِئُ على رِياحِ الجَنوبِ
ستَدوخُ أقْدارُنا مِن شِدّةِ عِشقِنا وتَمْنحُنا ساعةً أوِاثْنتَيْنِ،
نَتَذوّقُ في غَفلتِها القُبلَةَ فوقَ القُبلةِ…
وربّما نَسيَتْنا حيثُما نحنُ لألفِ ليلةٍ وليلةٍ أُخرى…
هكذا كَقُبلةِ الغيْمةِ للغَيمةِ
نَشتعِلُ كُلّما اقْترَبَتْ أرواحُنا ويَنْهمِرُ المطرُ على العالَمِ
كالقُبْلةِ فوقَ القُبْلةِ.

ز

نَرْشو الْجِنِّيّاتِ لتُهرِّبَنا كوَزْنٍ في قصيدةٍ إذنْ؟ فتَكْتفي هيَ بحكايةٍ لنا في كِتابِها ونَكتفي نحنُ بالقُبَلِ فوقَ القُبَلِ؟
أيَّ رِيحٍ نَرْشو؟ أَشرْقيّةٌ أم غربيّةٌ تلك التي ستختارنا؟

ح

بل رُبّما شَماليّةٌ أو كِيمياءُ يُبْدِعُها اللهُ لنا
لنَسقُطَأوّلاًفي الليلِ كالنَّجْمةِ خلفَ النّجمةِ
ثُم نكونَ رَمادَها وسِرَّ أسْرارِها؟
فالعِشقُ مَوتٌ مُحْتملٌ وما أَحْلاهُ إنْ كان لنا فيه نَصيبٌ.
الوسم أمجد_ناصر على المنتدى نوسا البحر T11موضوع: كحلم شمسى نص لأمجد ناصر
hassanbalam

المساهمات: 0
مشاهدة: 564

ابحث في: تحت طائلة النصوص   الوسم أمجد_ناصر على المنتدى نوسا البحر Untitl13موضوع: كحلم شمسى نص لأمجد ناصر    الوسم أمجد_ناصر على المنتدى نوسا البحر Icon_minitime2019-02-05, 4:28 pm


#أمجد_ناصر
@hassanbalam

في قلب هذا الجفاف الوطيد تذكرتكَ. عرفتُ، بنزلةِ شمسٍ خفيفةٍ، من أين جاء وجهكَ. ولمن تنتمي نظراتك الحبيسة في تلك الأقفاص الخضراء! أن تكون هناك لا يعني أنك هناك بالضبط. ليس بخارطة الأنفاق يمتلك المرء مكاناً ولا بجلوسه في طبقة عُليا لحافلة حمراء يصبح مواطناً تلقائياً للمطر والهدير، إذ ثمة شيءٌ يبقى في الوجه. في لمعة العين. في خطوط اليد المبسوطة على المائدة. ثمة شيءٌ يخبئه اللسان تحت جملة أجنبية دارجة قد يكون كلمة السّر!

لم تتأكد مما عنته الشاعرة المتحدرة من بطنٍ عربيٍّ قديمٍ عندما كتبتْ إليك تلك الكلمات، أثناء زيارتها للبلاد التي غادرْتَها، خلسةً، وعدتَ إليها بجناحٍ تساقط منه ريش كثير. قد يكون ذلك تعريضاً مبطناً لم تلتقطه وفات أوان الرد عليه، أو لعلها مجازات الشعراء التي لا يعوَّل عليها كثيراً في فصل القمح عن الزؤان؟ أو ربما هو، حقاً، ما رأته فيك عينُ الشاعرة التي كأنها قالت إن أسلافها ينتمون إلى قبائل الصحراء. وجهُها، على ما تذكر، طالعٌ من حقل شعير. قد تكون سمراء. ذلك الوسم الشمسيّ المطبوع على الزند والترقوة. ولها، إن أردتَ ردَّ التحية بالمثل، نظراتُ  قبَّرةٍ حبيسة. أهي نظرات الكائن البشري في المدن الكبرى المطوقة بالكاميرات وأنصال الليزر والخوف من الغرباء، أم النظرات التي تبحث عن فضائها الأول الضائع دون جدوى؟ أنت، فعلاً، لا تدري. فالشاعرة المتحدرة من بطن عربي قديم لم توجد تقريباً. وتلك الرسالة لم تصلك إلاّ في حلمٍ أو ما يشبهه، وليس صعباً على ثلاثة، أو أربعة، يعرفونك أن يردوا حيرة كلماتها إليك.









لم تفكّر طويلاً بمغزى تلك الكلمات التي تشبه الشِّعر واللغز والحياة. احتفظتَ بها، هكذا، كطلسمٍ في رأسك. كوقعٍ خام. كحلمٍ شمسيٍّ مراودٍ. ستعاودك، بنبرتها الملتبسة، كل مرة تبدو فيها تلك الأرض، من نافذة طائرةٍ تبدأُ هبوطها التدريجيّ، بحراً من الصُفرة قلما تتخلله بقعة زرقاء أو خضراء. فها هو الجفاف الذي تذكرتك، في طقطقة هوائه وتحت لفح شمسه، شاعرةٌ في حلمٍ، أو ما يشبهه، لا يزال على حاله. ولكن هل تغيرت، تحت هذا الجفاف الوطيد، الكائنات والأشياء والاعتبارات؟ ما الذي تبقّى من ذلك البيت، من جوارٍ قديم، من البداوة والصحراء و"الأصالة" في أزمنة توحدها، عنوةً، علاماتٌ مسجلةٌ صارت إيقوناتٍ طائرةً  لعصرك اللاهث؟ أكانت تلك الصحراء، التي انحفرت طبوغرافيتها المضللة في أقدام طفولاتٍ حافيةٍ، صحراءَ فعلاً؟ بلا أثرٍ لحيواتٍ قديمةٍ في مدى يبدو لمن يراه، أول مرة، غير قابل للحياة والسُكنى؟

ستحاول، هنا، أن ترى وتتذكر وتحلم، فمن يعرف مونولوغاتك الطويلة سيتوقع، بلا شك، روائح كامنة وأشباحاً متراقصةً في خلفيتها. سيتوقع طرقاً وأبراجاً وبيوتاً مشرعة الأبواب وشاياً ونعنعاً وبرندات وحب هال وبناتٍ في مراييل مقلَّمة وبناطيل شارلستون وقمصاناً مشجَّرةً وأشجار كينا وأغنياتٍ تقطع نياط القلوب ومراهقين مضحكين وآباء قساة ومروءاتٍ مفتعلةٍ، ورائحة صابون معطر ورسائل لم تقرأ وأخرى لم تصل. إنه أمرٌ سيءٌ، لا أخفيك، أن تكون متوقَعاً إلى هذا الحد، بلا مفاجآت تُذكر. لكن لا تتزعزع كثيراً. حافظ على شيء من رباطة الجأش في وجه ملاحظةٍ محقةٍ لا تخلو من خبثٍ تعرف
الوسم أمجد_ناصر على المنتدى نوسا البحر T11موضوع: قصائد ونصوص جديدة للشاعر أمجد ناصر
hassanbalam

المساهمات: 0
مشاهدة: 668

ابحث في: مرتفعات أو سوناتا الكلام   الوسم أمجد_ناصر على المنتدى نوسا البحر Untitl13موضوع: قصائد ونصوص جديدة للشاعر أمجد ناصر    الوسم أمجد_ناصر على المنتدى نوسا البحر Icon_minitime2018-07-22, 5:56 am
#أمجد_ناصر
#قصائد_جديدة

عدوٌ شخصي

ليس لي أعداء شخصيون

لدي أصدقاء أسوأ من الأعداء

ولكنهم ليسوا أعدائي الشخصيين.

هناك نجمٌ لا يزفُّ لي خبراً جيداً،

وليلٌ مسكون بنوايا لا أعرفها.

أمرُّ بشارعٍ مريبٍ وأرى عيناً تلمعُ

وأيدٍ تتحسّس معدناً بارداً،

لكن هؤلاء ليسوا أعداء شخصيين،

فكيف لجبلٍ

أو دربٍ مهجورٍ أن يناصباني العداء،

أو يتسللا إلى بيت العائلة فيما تعلن جلبةُ الأخوةُ ولادة نهارٍ بلا مساومات.



أيها الشيءُ القاتمُ الذي أخذ أمي

والأنفاس التي رفعت عليها مداميك حياتي إلى الجانب الآخر من التراب

ما أنت؟

ما مشكلتك معي

أهذه الريشة السوداء على صفحات كتابي المفضل إشارتك المعهودة.

لا تخيفني رسائلك الغادرة ولكن لا تتركها في ليل لا أستطيع فيه تلمس موضع يدي وراء سدوله.

إن كنت رجلاً اخرج إليَّ من مكمنك حيث تُغذّي مخالبك البنفسجية بسُكَّرٍ مسروقٍ من مؤونة الضيوف..

تعال نلتقي وجهاً لوجهٍ على أيِّ حافّةٍ، أو في أيِّ جبَّانة تريد

لسوف ألقنك مواثيق الرجال كما لقنتنيها الصحراء والغدران الجافَّة

أرني وجهك قبل أن تنتضي قناعك الذي تسمّيه عقاباً إلهياً

فأنا لي آلهةٌ غضوبة أيضاً لكني لن أدعوها إلى نزال الوجوه السافرة

إن كان لك دينٌ عندي

أو مشكلةٌ شخصية كأن أكون خطفت هيلين من بين أحضانك

ومرّغتُ شرفك في الوحل

مع إني لا أذكر شيئاً كهذا

لا تستدّ دَينك من الذين يمرون بهذه الدنيا

كما تمرُّ أنفاسُ الرعاة في قصب الناي..

يسمّونك السرطان

وباسمٍ مخيفٍ كهذا لا تحتاج سيفاً أو قناعَ نمرٍ.

أمي وأصدقائي الذين غدرت بهم يسمّونني يحيى

وهذا إن كنت لا تعلم اسم نبيٍّ صحراويٍّ عمَّد بالماء مَنْ يُشفي الأعمى والأبرص وقام من تحت تراب الموت في اليوم الثالث.

تعال إذن إلى حلبة الآلهة المطوَّقة بالملاحم والأنساب.



المتاهة المائية

(إلى علي)

أقولُ، أنا زائرُها، إنني أعرفُ المدينة.

رأيتها في النهار ورأيتها في الليل.

صحيحٌ، ليلها يختلف عن نهارها،

ليس بألوان التوليب المتغيرة

وإنما بأولئك الذين يفعلون في الليل

ما لا يفعلون في النهار،

ولكن،

في ذاكرتي بضع نقط عَلامٍ،

ولا أحتاج دليلاً.

فكيف لا تُعْرَفُ راحة كفٍّ من نظرة أو اثنتين؟

إنه إحساس خادع،

سرعان ما أتبينه بعد شارع أوصلني الى قناةٍ

وقناةٍ أفضت بي الى جسرٍ

وجسرٍ أعادني إلى الشارع نفسه

ثم اختفى .

أعلّل نفسي، أنا الزائر الذي لا يعوَّل عليه

بالقول: حتى البصّارة لا تعرف راحة يد مارقٍ أو قديسٍ

من نظرة أو اثنتين..

سأبدأ، إذن بتصنيف العلامات،

وأفرد عدَّتي على الأرض وأقيس الأبعادَ

كما يفعل مخططو المدن المتوحدون.

منظاري عاطل عن الجهات

وملاحي الآليّ يرتدي زعانف غواص.

إذ هذا ما ألهتمه به بصيرته الميكانيكة أمام مياهٍ ارتفعت.

قناةٌ وجسرٌ وبيتٌ مائلٌ..

هذه العلامات التي اعتبرتها نقط ارتكازي

وصنفتها في خانات.

ولكن هنا، بالضبط يكمن خطئي

وتبدأ المتاهة.

فلا شيء أكثر من القنوات والجسور على مياه ترتفع ثم تنخفض.

أبدأ بالساحة التي تؤدي إليها كل الطرق، أو هكذا يقال.

أحدّد مربعاً صغيراً وأقول لنفسي:

إن ذلك المقهى أو المطعم،

أو تلك الدخنة التي تُسْطِلُ الهواءَ،

تطلُّ على قناةٍ في مربعٍ يشبه هذا المربع.

أمسح المربَّع شارعاً شارعاً ولا أصل.

حتى لو سألت لن يفهمني، بلساني هذا، أحد.

فأي قناةٍ أقصد؟

أستعيد صورة جسر

وأقول بالقرب من الجسر

وأشحنُ منظاري ببقايا الفراسة التي هجرتني.

ولكن بلا فائدة.

فأيُّ جسرٍ هو الذي أتحدث عنه بين الستمئة أو الألف؟ فالقنوات والجسور ها هنا مثل الخطوط والشعيرات الدموية في راحة اليد. أنسى القناة والجسر كنقطتي علام وأقول: آه.. بالقرب من بيتٍ ذي شنكلٍ حديديٍّ يتدلى من السقف!

أنظر جيداً. البيوتُ كلها تقريبا،

تتدلّى منها شناكل حديدية كخطاطيف القراصنة.

الماء وأشباحه يتكرران ويتداخلان في مرافق المدينة.

الماء، هنا مثل الصحراء، متاهة.

فإن استطعت أن تعلِّم الصحراء تستطيعُ أن تترك أثراً على الماء.

أتذكر أني رأيت بيتاً مائلاً الى الأمام،

بيتاً يكاد يقعُ على وجهه.

أرفعه أمامي كنجمة هادية.

فأيٌّ من بيوتها يكاد لا يقعُ على وجهه؟

أيٌّ لا يستدرجه الماء الماكر
إلى شِباكه المنتظرة؟

أتذكر أني سمعت مهاجراً دخل هذه المتاهة المائية ولم يخرج منها، يسمي قنطرة عبرتها في ليل مترنح. سمعت كلمة "أزرق". لا أعرف إن كان يسمي الجسر أو يتحدَّث عن لون الكوابيس التي تراود الأهلين في رابعة النهار. التسمية قد تكون مفيدة. قد تقرِّب الصورة من ذهن رجلٍ تتدافع الخاءات على لسانه كما تتدفق الآهات من حنجرة عربيٍّ.

لكني لم أسمع خاءات كثيرة.

فللمدينة أكثر من لسان، وأكثر من حرف واحد تولد منه الكلمات. للمدينة ألسنة متشعبة كألسنة بابل. هناك، أيضاً، من يفكر ببابل عندما يقف على ضفة نهر. المهاجر البابلي، مثلا، الذي شيبته حروب بابل يظن أنه في بابل رغم الغيوم الرازحة في القبّة القاتمة كقطعان من الأبقار الطائرة.

***

ليس هكذا يصل الزائر الى ما كشفته له المدينة،

ذات يومٍ أو ليلةٍ، وحجبته.

قلت لنفسي: ربما أحتاج خريطة.

رأيت كثيرين يفردون الخرائط أمام وجوههم ويمشون. لكن الخريطة متاهة أخرى.
ثم هذا الماء،
هذه الشرايين الزرقاء التي تخترق الخريطة من كل جهاتها، هذه الأحزمة التي تطوِّق نوم المهدَّدين بالغرق، كيف لي أن أقرأها؟ يمكنني أن أقرأ الكلمات، رغم تراقصها والتباس معانيها ولكن كيف لي أن أقرأ الماء؟
أفرد الخريطة أمامي. أرى سبعة أحزمة زرقاء. أرى ألف عقدة اتصال وانفصال. هناك مفاتيح للخريطة. ولكنها رموز. عليَّ أن أحلَّ الرموز أولاً.

أبدأ برمز يشبه القنطرة، فأقول هذا جسر. ورمز يشبه القارب، فأقول هذه قناة. ثم أرى سريراً فأقول فندق، ثم عيناً محدّقة فأقول: تعويذة لدرء العين الشريرة. هناك نصيحة مكتوبة بخط صغير مائل تقول: إذهب حيث يذهب الأهلون!

ولكن أين يذهب هؤلاء؟

أين هم الأهلون في بابل المياه والألسن هذه؟

أتذكر صديقاً لي يدعى "علي"، يصل سريعا الى الساحة التي تؤدي إليها، كما يشاع خطأ، كل الطرق. القنوات والجسور لا تحير "علي" الذي لا يكفُّ عن فتل شاربيه التركيين. أحدثه عن متاهة المياه والجسور، يفتل شاربيه، ويحدثني عن الأرشيف. أقول له لا أعرف المدينة. ظننت أني أعرفها. في رأسي ثلاث أو أربع علامات ولكني أضعتها في الطريق الى الساحة، فيقول لي: ابعث رسالة الى مواطن ستجدها في أرشيفه بعد مئة عام. قال، إن العلب الزجاجية تزحف على المدينة وتطوق الكاتدرائية بثياب النوم. ثم قال: دعنا نذهب الى رجال الحرس الليلي قبل أن ينطلقوا بأردية برونزية في جولة على بوابات المدينة السبع.

من دون أن يدري حلَّ "علي" لغز أحزمة المياه السبعة على الخريطة. إنها بوابات المدينة إذن. قلت لـ "علي" كيف تمشي هنا؟ فقال: على قدميَّ! رأسي مشتَّت ولكن قدميَّ لا تخطئان الطريق. يحاول أن يسمّي ما نعبرُ. يستعير من الأرشيف تاريخاً وأشخاصاً. فأقول له: دعنا نمشي. فلن تزيدني التسمية إلاَّ تبلبلاً وأنا لم أعرف كيف خرجت من بابل لكي أجد نفسي في بابل أخرى.

بابل تطاردنا مثل مدينة كفافي.

أنظر، ها هي وراءنا

ثمة دخان ولهب وأيدٍ تلوّح بيأس

من أبراجها المهدَّمة.


اربع قصائد نثر


إن كنت عابرا في روما


بما أنك لن ترمي جذراً في الأرض ولن تميل كصفصافةٍ على ساقيةٍ فما جدوى النظرات التي ترسلُها شرسةً مرةً، ساهمةً مرةً أخرى، متضرعةً في نهاية المطاف، فلن تصطاد سوى ما بدرَ سهواً من يدٍ تحرَّكت على الطاولة أو وجهٍ تلفَّتَ، بلا قصدٍ، إلى الوراء، فليس بالنظرة وحدها مهما كانت طويلةً، مركزةً، أو حتى ميدوزيِّةً تغيرُ أيها العابرُ في روما سُننِ أهل روما. هذا ليس ديكوراً من الورق المقوَّى سيتداعى تحت نظرتك الكاسحة، إلمسه بيدك لتصدِّق أنَّ الأسباب تستجمع نفسها أحياناً، في ضحكة بلهاء أو قميصٍ مشجَّرٍ. أنت لا تعرف على أيِّ أساس تتعلَّق هذه المارّة كشهقةٍ طويلةٍ بذراع ذلك الذي يبدو لك قميئاً، ولا كيف يميلُ ذو الجِرم العظيم على تلك التي بنسمةٍ تطير، فليس بالنظرة وحدها، مهما كانت مدربةً، ثاقبةً، مركزةً، تستطيع تحريك ملعقة السكَّر في كوب قهوتها، إذ وحدك، على الأغلب، من يظن أنَّ تسبيلةَ رمشٍ أو انحناءة فارس يمكنهما مقايضة حياةٍ من لحمٍ ودم، فلا تقل إن ارتدَّت نظراتك كسيفةً إنه المال أو الشهرة أو حتى الحظ، فالعابرُ لا يتركُ وشماً على ذراع أو ندبةً على ترقوة ولكن تذكَّر، إن نفعت الذكرى، أنَّ الأسباب استجّمعت لك نفسها في روما أخرى بكلمةٍ واحدةٍ لا تعرف كيف هبطت عليك ولا كيف نطقْتها، لأن النظرات التي صُوِّبَتْ إلى التي ارتمت على ذراعك بكامل حِمْلِها من الخزامى طاشت سهامُها.

.. لا تفعل ما يفعل أهل روما



وإذ لا تنتظرك عائلةٌ على العشاء ولا حملةٌ لتأديب البرابرة وراء الحدود فماذا يفيدك أن تفعل في روما ما يفعل أهل روما. إجلس في مهبِّ السهام التي تتطاير حولك وانظر كيف ستخرجُ بلا خدشٍ تقريباً وخفيفاً حتى لو أودع الماضي أثقاله في قدميك، ففي هذا الوقت المتأخر لن تغير أيها العابر في روما ما آل إليه أهل روما، فلا تستغرب، إذاً، الهرج المائج في المقاهي ولا الأغاني التي تمجدُ الحبَّ لا الحرب فهذا زمنٌ آخرُ لا تخطو فيه الأشجارُ أبعد من ظلالها ولا تموتُ كسابق عهدها في القصائد، وابتسم، إن استطعت، في وجه اولئك الذين يظنون أنَّ الحياةَ خادمة العائلة المطيعة فعندما رأيت رجال البلاط يمشون بخطوٍ وئيدٍ أمام الجنازة المهيبة كان هناك من يشربُ كأساً مع سيدة في بيروت ومن ينيخُ جَمَلاً محمَّلاً بالملح في تومبكتو.



في الطريق إليك


تأتي تلك التي بأرفعِ إبر الصبر حِكْتَ انتظار طلَّتها يوماً بعد يوم، كلُّ ما ترجوه من سيّد العاصفة، هذا الذي كان إلهاً عنيداً ذات يومٍ وطاردَ ملوكاً بالأنواء والمطر أن لا تأتي متأخرةً. صحيحٌ أنك ولدت في عائلةٍ معمّرةٍ، صحتُك تبدو، حتى الآن، جيدةً، أعضاؤك التي تعوّل عليها حين تستدعى إلى العمل تغسلُها، كلَّ صباحٍ، بماء النذور، لكن الحياة يا ابن أمي طُنبرٌ نَزِقٌ لا يتردَّدُ في رمي أيّ حملٍ زائدٍ على الطريق، ألم ترَ كيف انتهى اولئك الذين تشبثوا بأيّ شيء كي يكونوا آخر الواصلين؟

متأخرة بعض الشىء، أقصر مما اعتقدت، بشعرٍ أقلّ تموجاً وتجعيدتين اثنتين أو ثلاثٍ حول الشفتين، لا بأسَ، لا بأسَ، فهذه أمورٌ عليك توقعها في طريقها الطويل إليك.

بالصدفة أيضاً



حتى لو قلت إنَّها الصدفةُ بطلة حياتك وهي التي أوصلتك بكامل أعضائك تقريباً الى مدينةٍ سبقك إليها كثيرون، فقد اصطدتها باسمك المستعار الذي لم يثر خلوّه من فصيلة الدم انتباه أحدٍ، أو بالحِيَلِ التي تعلمتها باكراً في دساكر القيظ والغبار مذ أدركت أمكَ أنَّ كتفاً مائلةً لن تلوح لنجمة السعد وهي توزعُ الألقابَ والحظوظ، لذلك شببّتَ مائلاً لا لعوجٍ طبيعيٍّ في عمودك الفقريّ وإنما لأنك سمعت ضريراً يقولُ ذاتَ يومٍ لصبيٍّ أرعنَ أَّن معتدلي القامة لا يرون أبعد من أنوفهم، فالأغصان والنيازك والدموع تسقط دائماً الى الأسفل، ومما التقطت على طرق الاغاثة والبريد صنعت درعاً واقيةً كلما أخذتك سِنَةٌ من النوم صدَّت عنك سهاماً وجدت نفسك في مرماها بالصدفة.


رائحة الحلقوم

نهض الحناوي باكراً وأعدَّ قهوته بأقلّ قدر من الضجّة كي لا يوقظ يونس الذي كان مرهقاً ومرتبكاً كما لم يره من قبل، لكنَّ يونس شمَّ رائحة القهوة، في غرفته القديمة، فصحا. لطالما سحبته هذه الرائحة من سابع نومة من دون تذمّر أو اعتراض، هذه الرائحة المشبعة بحبِّ الهال، المرتبطة، أينما شمَّها، بوجه أمه. غسل وجهه ونظف أسنانه (تنظيف الأسنان عمل مقدّس عنده، بل يشبه الإدمان، فهو يفعل ذلك مراراً في اليوم الواحد، خصوصاً، عندما يكون منزعجاً، كأنه يتخلّص بذلك مما يزعجه، مما يترك طعماً مزعجاً في فمه وليس بالضرورة طعاماً أو شراباً). كان هناك بعض الوقت قبل أن ينطلق الحناوي إلى عمله. سكب فنجاناً من القهوة ليونس الذي تراخى بجانبه على طرف الصوفا في الصالون المستطيل استطالة الشقة نفسها، ثم أخبره أنه قلّب كتاب "نجمة لمساء آخر" ووجده استمراراً، في معظمه، لكتاب شاعرهما المفضل السابق. قال أيضاً إن شاعرهما المفضَّل يستثمر الأجواء نفسها التي طبعت كتابه السابق، فوافقه يونس، الذي أنعشته رائحة القهوة وفتحت مسامّ الكلام لديه، على تواصل بعض أجواء الكتاب السابق لكنه أبدى فهماً للأمر فاجأ الحناوي (المعتدّ بمعرفته بالشعر في وجوهه المتملّصة) عندما قال إن كتاباً واحداً قد لا يكون كافياً لاستثمار جوّ محدد، ما يجعل الشاعر يعود إلى توسيع مناطق لم يولها أهمية من قبل، لكن الأمر لا يندرج، في كل الأحوال، في خانة التكرار، لأن التكرار مستحيل في الفنّ مثل استحالته في الحياة، وضرب مثل النهر الواحد الذي لا نسبح فيه مرتين. قال الحناوي، الذي سدَّد يونس إلى مرماه كرةً لم يتوقعها، إنه سيعود لقراءة الكتاب، في تمهّل، ثم يتناقشان فيه بجدية أكثر. طبطب على حقيبته الجلدية السوداء، وهو ينهض، متثاقلاً ، للذهاب إلى عمله تاركاً صديقه يغادر على مهل.
لم يكن يونس أقل توجّساً، عندما خرج من البناية، عمَّا كانه في الليلة الماضية. صحيح أنه نجح في المهمة التي كُلِّفَ بها. أوصل الرسالة إلى القيادة في الخارج وعاد برسالة منها إلى الداخل في إحدى فردتي حذائه، اجتاز الحدود ونقط المراقبة وتملَّص من مطاردة أحد رجال "مؤسسة الأمن الوطني"، قام بمهمة خطرة لم يعلم بها أحد سوى مسؤوله الحزبي وكتم خبرها عن أقرب الناس إليه، رأى عاصمة البلاد التي تحدَّرت منها عائلته قبل نحو قرن. لقد جرت الأمور، تقريباً، كما خُطِّط لها حتى الآن ولكن ذلك النجاح لن يكون تاماً ما لم يصل إلى "البيت الآمن" ويسلّم الرسالة. عليه أن يعرف القلق والتوجس واحتمال اعتراضه من قبل رجال "مؤسسة الأمن الوطني" المبثوثين في زوايا المدينة وأركانها، وليس لهؤلاء، كما هو معروف، هيئة محددة. قد يكونون رجالاً في منتصف العمر، موظفين مبكرين إلى عملهم، طلاباً، باعة خضر أو حليب، موزعي جرائد.. أو متسولين.
مرَّ في طريقه إلى "البيت الآمن" ببعض شوارع ليلة الطراد المتشعبة. كان الوقت ضحى. أصوات الباعة والمتسوقين في المنطقة التجارية، كعادتها، عالية ومتداخلة، خصوصاً في الشارع الرئيسي المؤدي الى ساحة الحافلات الدولية. روائح المقالي تختلط بروائح خبز و بهارات وماء زهر وشاي وعفونة طالعة من المجاري. الحرارة التي راحت تشتدّ وتصْلي الأشياء تضاعف من قوّة روائح متناقضة تستوطن، إلى الأبد، هذه المنطقة من قلب العاصمة. إنها الروائح نفسها التي تعيد إليه صوراً من طفولة متمردة، ومراهقة مطبوعةٍ ببحثٍ عن شيء غامض لم يعرف له كُنهاً.
كانت الأغاني المؤلفة، خصيصاً، في مناسبة اليوبيل الفضيّ لتنصيب الحفيد الصادحة من سيارات الأجرة والبسطات والمقاهي وشرفات البيوت المطلّة على المنطقة التجارية، تنافس أغاني طرب ودروس دينية لبعض الدعاة الذين يحظون برعاية الدولة ودعمها. مزيج مشوَّش من الديني والدنيوي. حمَّى الاحتفال القادم بخمس وعشرين سنة من تربُّع زعيم البلاد على عرشه الذي لا ينازعه عليه أحد تسري في أوصال المدينة كدورة دموية مرتجلة. اليافطات الكبيرة التي تحمل صوره، في أزياء وهيئات مختلفة، مرفوعة فوق المباني والمؤسسات والمحال التجارية، بعضها يحتل جدراناً بأكملها: القائد. الأب. الزعيم المفدّى. الابن البار للوطن يرفع يده. يلوّح. يقف بين جنوده. يصلي. يقطف عنقوداً من العنب. يمتطي فرساً. يمسّد شعر طفل. لقطات عرف يونس بعض مصوريها، وخطوط رأى قسماً منها يخطُّ في مكتب والده، الأجود والأرصن في كلماتها المدائحية خطّته يد أبيه، مثل بيت الشعر الشهير، الذي قال يونس لوالده، ساخراً، عندما رآه يعكف على كتابته بالثلث الجلي: هل سيفهمه صاحبك؟
تمرُّ بكَ الأبطال كَلْمى هزيمةً...
من بين الأغاني، التي تصدح في هذه المناسبة، ميَّز أغنية من كلمات شاعر الحامية خالد رستم كانت قد نشرتها صحف البلاد ومجلاتها قبل أن تعهد بها دائرة المصنَّفات الفنية إلى مغنٍّ صاعدٍ يثير شَعرُه السَّبْطُ الأسود، وصدره المكشوف، وتمايله في الغناء، شبق الراشدات قبل المراهقات. اعترف يونس، الذي تسللت إليه الأغنية، بقوّتها كلمات ولحناً وغناء. لو لم تكن الأغنية عن "الحفيد" لأمكن لها، كما فكَّر، أن تدخل السجل الذهبي للغناء الجميل. اللعنة، إنها أغنية قوية، قال في نفسه، ثم فكَّر أن "الحفيد" لن يصمَّ أذنيه وهو يسمعها كما يفعل مع تلك الأغاني الريفية المصطنعة التي حسبما سمع من أبيه أنه يمقتها، بل يقرف منها. فارتباط اسمه بهذا الغناء الركيك المبتذل جعله يفكر، أكثر من مرة، أنها مؤامرة لتفادي رؤية أشخاص يعرفونه، أو مفاجأة غير محسوبة، وهذه محتملة جداً في وسط المدينة. قرَّر أن يستقل سيارة أجرة إلى "البيت الآمن".
كان مزاجه قد بدأ بالتحسّن رغم توجّسه. فلن يطول الوقت حتى يلتحق برولى في "ناكوجا آباد". إنها هناك بشَعرها الرابض كماعز على جبل جلعاد، بأعطافها التي تتفوح برائحة مسك (فكَّر براحة الحلقوم) حتّى وهي تنهض من النوم. إنها هناك وهو ذاهب إليها، بعد إنهاء آخر شوط في مهمته. دقَّ قلبه بقوة، وذاكرته تستعيد رائحة عبيرها المتصاعد من جسدها ذاته، لا العطور ولا مزيلات روائح العرق وما شابه، بل عبق جسدها الذي يتسلل الى أنفه، عندما يضمّها، من قبّة ثوبها. تلك هي رائحة أعشاب الظل النديّة.

*مقطع من فصل رواية جديدة بعنوان "المطاردة"
الوسم أمجد_ناصر على المنتدى نوسا البحر T11موضوع: معراج العاشق قصائد ايروتيكية لأمجد ناصر
hassanbalam

المساهمات: 0
مشاهدة: 801

ابحث في: مرتفعات أو سوناتا الكلام   الوسم أمجد_ناصر على المنتدى نوسا البحر Untitl13موضوع: معراج العاشق قصائد ايروتيكية لأمجد ناصر    الوسم أمجد_ناصر على المنتدى نوسا البحر Icon_minitime2016-05-28, 1:09 pm
#أمجد_ناصر
@hassanbalam

ولدت بهذا الاسم لتكون لك ذكرى
ترددها أمطار
طويلة
صامتة،
بهذا الاسم ليأتي اليك عابرون
سيماهم من ليلك على وجوههم
مستوحشين
خاسرين

***

نعود الى يديك لنروي اطلاعهما على الحطام
وغلبتهما على الحب
الذي تلمسين جرحه فيند
جرح
الحب
الطويل
بظلال
خضراء
من
فرط
الندم

فلتتلطف الأكف وهي تدفعنا بين الأعمدة
قانطين من الوصول الى الثمرة المضاءة
بوهج الأعماق.

أعيننا بيضاء من الفرح
كأننا عمي نراك بالرائحة
ونتقراك بالأنفاس

***

مهيأ للاخذ
ممتنع ومزدجر

امراتنا كلنا
كثيرة في النهار
وواحدة في شفافة الليل
تضحكين فنعيا
تعلقين مصائرنا على الاهذاب
فتسقط من رعدات ما شبه لنا
بالحماء
يعقبها السبي
نراك على حافة السير
وأنت ترتدين جوربيك الأسودين
شعرك يزخ
وظهرك العاري يوج
فنغشى سكارى
وما نحن

أرينا وجهك لنجمل في المرايا
ونرقى بالسعف
لنحسن الظن بالأعداء
حين نستدعى للعمل
لنطمئن

نحوزك ونفقدك
نحوشك من الجهات
بالأغصان والرماح
فتمكرين
يدك فوق أيدينا
امرأتنا
وليس بيننا أثير سوى الرقاد
اجعلينا صورة مما رأيت
جملينا بالأسلحة
اصطفينا من الجميع لنقوى

كثة
تنثال
سبائب الذهب ترتعش

طفح الكيل
ومالت الرؤوس

أشممنا رائحة تفاح
ونحن نصعد
أرأينا بداة بسيوف قصيرة
يشقون طريقا بين الأشجار
أسمعنا عبيدا يتحررون بالأبواق
أمررنا بعشاق يقودون لصوصا الى الكنز
أقزنا بك مقتدرين
بيضاء
من
غير
سوء


أمجد ناصر
وردة الدانتيل السوداء


وإذ رأى ما رأى
أطرقت
وضمت
وجهلت .
إجلسي
أرجوك
بهذين الحقلين المحروثين
بقرني ثور سأضمن القطاف .
إجلسي
وباعدي,
قليل من الهواء للغصن المنحني بكمثراه.
اللؤلؤة في الأنف
نجمة الذهب الضئيلة
تشع تحت النظر المستقيم .
أيتها الفائقة النمش
يا بدوية البرد
باعدي قليلا ليصل الهواء
إلى الكمأة التي تنبلج
تحت المحراث .
أمطاري جافة
وشفتاك بليلتان .
البرد يطوينا من الأعماق
نرتجف لأن النمش الذي ترمينا به
يهطل على الجراح .
قلبي يرتجف من برد قديم.
الليل .
القطار الذي تجره ثيران كهلة
المرأة تنشر أبيضها على الغريب .
أبيض هو الحليب
أبيض هذا الليل بقلب أسود
أبيض
مخاتل
غال
وعال
بحذاءين أسودين
أبيض هو الأشقر المحروس بعشب ساهر ,
عشب الوحش اللطيف الهائج في السفح .
الأبيض
البراق
المسترق
الشاع
المجتلب الشهقات
أبيض الزبد
والموت على وسادة الرعشة .
الأبيض
ذو الشامة
ذو المرمر
أبيض الفيروز
أبيض الإستدارة
أبيض علىحواف الزهري
أبيض تلال بلا مرتقى
أبيض مخبؤ
ملفوف بالشرائط
غاف في الساتان
أبيض الغالب سواه
الأبيض السليط
أبيض النوم والندم
أبيض الغيم الممطر في المخادع
الأبيض المكين
الذي أخرجنا سافرين من كل أرث
أبيض الزلفى والطاعة
أبيض الضراعة والشآبيب .
يا أبيض غلابا
حمال روائح وارتجاجات .
نائم في أقطانه
سيدي الصغير
لا يفيق على نايات اليد .
قمع سكر يذوب في الرغاب .
غر
ومزده بحليه والتخاريم .
نظيف
ومحفوف
وماثل
يلمع في نداه الزيتون .
مغسول بأمطار وصواعق ,
له هذه الرائحة :
قطع الأعشاب في الصباح.
الأفعوان يتلوى في الزخم
العين الكبيرة تحدق .
تترك الثياب شاهدة برهبة
طائر الأكمة على السهم الذي شق
تترك رائحتها
تترك الانفاس
والأصابع المنطبعة على استدارة القميص ,
عرق الركبتين
يمحو حبر الليل
ويشعشع فوح الحمى.
ذهب الهامة يضوي
مسك وبوم نساب
متطوح بعناية
عارف بمواضعه الباهرة
بالظلال التي يسقط فيها الغريب .
البتلة تتوتر وراء الشاش
الصرخات يتلوها الفيض .
الرائحة تبوح بمكنونها
رائحة الاحتفاظ بالكنـز.
الأسود يواري القوة ويدخرها
القوة التي تبسط
الكهرباء التي تشل
الارهاب المجرب
فتنة الذهب الكبرى
تسيل علىالكاحل
تقترح حربا تدوم .
تقدمي من الذراع المانحة
براكين الشبيه لا تكفي لتقدير الوطأة.
العذاب
مصور
مغتلم
ومشتبه.
العناق وقوفا
في قطار يعبر صفين من الأشجار .
باللمسة
أحرر المثال من قالبه.
وعلى
ضوء
المياه
الشفيفة
أصل
إلى
أصل
الصرخة .
حر وطليق السارح في الظلمة
يحتمي بسفحه ويثقب الرائين ببرعم قاتم
ثمل بالصهباء
التي ترشح من عطفاته .
الشفرة
تقطع
خيط
الألم .
الحقوان وما يطويان قبل المياه
فوح
نـزول
المادة
من صدع الأيقونة .
وردة الدانتيل السوداء
في أعالي الفخذ
قبلة الملك السعيد في الليلة الألف
حيث تنـزلق الأفعى المرقطة في النداوة
لتحرس الحبق .
الأعضاء تتنفس وتكنـز ثروتها
تنحنين على ثمرة الكستناء
الاستدارة تلمع في مرآة الهواء
وتهب رائحة المجرى.
في أعاليه
أسود هو الحرير
يتطاحن الأمراء تحت عقدته
وينسفك اللعاب
يصلون إلى الجوهرة ضارعين
زحفا على الأكواع .
أهذي من الحب
وأعب الهواء المتروك .
أرينيه ناهضا من نومه
مغمورا بالوعود .
على غرته ندى
وفي أقراطه رمان .
أريد
أن
أراه
خارجا من خدره
جاذبا إليه
ريق الصباح .




أمجد ناصر - في أحوال القُبلة المتقلبة

داهمه هذا الخاطرُ وهو يمشي في شارعٍ يتدافعُ فيه الناسُ بالمناكبِ إلى أقرب محطة باصٍ أو "مترو" فراراً من يوم عملٍ طويل: ماذا لو ماتَ الآنَ لأيِّ سببٍ تافهٍ، مثلما يموتُ الناسُ عادةً، وقاموا بإفراغ محتوياتِ أدراج مكتبه ووجدوه في المغلف المطبوعة عليه قلوبُ القديس فالانتاين الحمراء؟
أيُّ سقطةٍ سينهي بها حياتَه المتأرجحةَ على حبالٍ رفيعةٍ، بل قل، أيُّ نكتةٍ سيتندرُ بها زملاؤه إلى أمد طويل؟ لم يكن الأمرُ يتعلقُ بمتحف الصورِ والرسائل والزهور المحنّطةِ التي أرسلتها إليه النساءُ اللواتي ظنتْ كلُّ واحدةٍ منهن أنها حبّ حياته. ولا أقلقته كثيراً العلبُ والأكياسُ التي تحتوي أعشاباً ومقوياتٍ جنسيةً شرقيةً هو الذي لم يعتزَ يومًا بشيءٍ قدرَ اعتزازه بفحولته ذائعةِ الصيت. أما دفترُ المذكرات الذي دوّنَ فيه رأيَه الصريحَ بربِّ عملِه كدجالٍ من الدرجة الأولى وزملائه كأنذالٍ لايستحقون أن يجمعَه بهم حلبةٌ أو "كريدور" فيهونُ أمرهُ أمام ذلكَ "الشيءِ" الموجودِ في مغلفٍ مطبوعة عليه قلوبُ القديس فالانتاين الحمراء.
...........
ابتسمَ، ثم راحَ يضحكُ يضحكُ يضحكُ من دونِ أن يلاحظَ أنَّ الشارع خلا، تماماً، من المتدافعين بالمناكب فراراً من يوم عملٍ طويل.

لندن - \3\2001

***

حلُّ متأخرٌ لأحجيةٍ قديمة

الآنَ، فقط، حزرتُ تلك الأحجيةَ بعد أن اجتزتُ الأربعينَ خبباً ووجدتُ، ذاتَ مرةٍ، ذلك "الشيءَ" تحتَ مخدتي يتفوحُ برائحةِ جَديٍ صغير. فلم يخطر على بالي أن هذا ما يمكنُ أن تتركَهُ امرأةٌ، عن سابق إصرارٍ وتعمدٍ، بعد ليلة حبٍّ رضية. السؤالُ (أو لنقل الأحجيةَ) الذي طرحه عليَّ صديقٌ متزوجٌ يكبرني بعشرِ سنينَ يرقى لأيامِ الوقوفِ ساعاتٍ من دونِ كللٍ أو مللٍ تحتَ شُباكِ الحبيبةِ التي لم يصلْ حبُنا، في ذروةِ هيجانهِ، إلاّ إلى قُبَلٍ خاطفةٍ تَرْتجُّ لها أعمقُ طبقاتِ مياهِنا الجوفيّة.:
ما الذي تتوقعُ أن تتركَه لكَ امرأةٌ بعد ليلةٍ حبٍّ رضيّةٍ؟
ذكرتُ أشياءَ مثلَ وردةٍ، منديلٍ مُعطّرٍ، خُصلةِ شَعرٍ، بل تطرفتُ وقلتُ بقعةَ أحمرِ شفاهٍ على قميصٍ تحاولُ أن تواريها وأنتَ عائدٌ إلى البيت.
ضَحِكَ صديقي الذي لم يكن يكتبُ الشِعرَ ولا النثرَ ولكنه كان يرى فيَّ شاعراً واعداً إن تخلصتُ، سريعاً، من معجمي الأثيرِ: القمر،الصفصاف، الياسمين، الأصيل، وقال بخبثٍ:
أحسنتَ
أحسنت!

***

ماذا في القُبلة؟

لشدَّ ما حيَّره الموقعُ الإنطولوجيُّ للقُبلةِ في الحبِّ، أو ما يتصورُه حبَّاً. مرةً قالتْ له بائعةُ هوى وهي تعدّدُ "ثَمَنَ" كلِّ فعلٍ يقومُ به معها (منفصلةً تماماً عن جسدِها أثناء شرحِ شُروطِ التعاقدِ.. والممارسةِ أيضاً) إنَّ لكلِّ شيءٍ ثمنه.. وكلُّ شيءٍ ممكنٍ.. إلاَّ القُبلة!

امرأةٌ مطلّقةٌ يعرفُها قبلَ الزواجِ وبعدِه تركتْ، في لحظةِ انسجامٍ كاملٍ، يدَه تصولُ وتجولُ في أنحائها البهيّةِ وشفتيه تطْبعانِ قُبلاً مُذَنَّبةً على نحرِ الصدرِ، العُنقِ، الخدينِ، ولما اقتربتا من الفمِ أدارتْ له خدَها. استغربَ، طبعاً، هذا التمنّعَ المفاجىءَ بعدَ أنْ قامَ بكلِّ ما يلزمُ للوصولِ إلى الشفتين فقالتْ له: لستُ جاهزةً لتسليم مفتاحي!

لكنَّ الأغربَ، من هذه وتلك، الفتاةُ التي بالكاد يعرفُها ولم يكنْ في ذهنه لما دعاها إلى كأسٍ سوى تزجيةِ وقتٍ مرحٍ معها. الكؤوسُ المتلاحقةُ التي تجرعاها تحتَ قصفٍ مُتصلٍ من الضحكِ والهذرِ أدتْ إلى تلامس الأيدي، السيقانِ، تقاطعِ الأنفاسِ، فعزّزَ الاحتكاكَ بلمساتٍ اختباريةٍ للكتفِ، لوحِ الظَهرِ، تجويفِ الخصرِ، أرادها عارضةً، كهذا اللقاءِ نفسِه، فتحولتْ، لدهشتهِ، ضمّاً وتقبيلاً على الفم، وراحَ اللسانانِ يفتحانِ محاراً في الفمِ ويُقطّرانِ عنّاباً على الشفاه.. وإذ حاولَ الإنتقالَ، سُفلاً، إلى الخطوةِ الأخرى أمسكتْ يدَه.

لدهشته أيضاً، بل لإحباطه، قالتْ له، بامتلاءٍ داخليٍّ لم يبلغْه: هذا يكفي.
لا بدَّ أنه احتارَ، لاحقاً، تحتَ أيِّ نجمٍ ماكرٍ يُصّنفُ أحوالَ القُبلةِ المُتَقلِّبة.
القُبلةُ..
القُبلةُ..
ماذا في القُبْلةِ؟

***

تحليلُ القُبلة

كيف يمكنُ أن يتوقف الأمرُ عند هذا الحدِّ عندما تُطبِقُ الشفتان على الشفتين ويندفع اللسانان لإيصال بريد الدم الحامي إلى أقصى الثغور ولا يتكللُ المسعى بتلك الشهقات، الانتفاضاتِ، تقطُّعِ الأنفاسِ التي تُشبهُ مفارقة الحياة؟ أهو تواطؤُ نصفِ الرغبةِ، نصفِ السُكرِ سرعان ما يتبددُ إذ تنزلقُ اليدُ لتفتحَ سحّابَ البنطلون بعدما فكّتْ عُرى القميص ونَفَرَ نهدانِ فتيّانِ لا يعترفان بأنصاف الحلول؟ أتكونُ القُبلةُ، هذا المفتاحُ السريُّ الذي نَحْسبُ أنه يفتحُ أيَّ بابٍ مهما تعقّدَ قفله، وضعاً قائماً بذاته لا يؤدي إلى أيّ شيءٍ عداه، أم نزوةً يَحْسُنُ أن تُنسى، ما دامتْ أُدْرِجتْ في دفترِ أعمالِ الليلِ الناقصةِ، في اليوم التالي؟
القُبلةُ..
القُبلةُ..

ابريل 2001

***

القلعة

جسدُكِ قاطعٌ كالكلمةِ التي رميتِها فصار تفاحُ القبلةِ نرداً، كسكينٍ تقطعُ وتقطعُ ولا تتركُ أثراً. جسدُكِ قاطعٌ وكتيمٌ إلى درجٍة أشكُّ فيها بمصدر هذا الشميم الذي يمهد الطريق إلى طيرانٍ بلا أجنحة، فكيف في هذه الأرض الضيّقة يمكنُ للخشخاش أن يذرّ بقرنه. جسدُكِ قاطعٌ وكتيمٌ وضيّقٌ كعين الحسود ولكنني بأطوال نايات أسلافي أدخلُ وأجدُ ريشاً ملوناً وعظاماً ليّنةً ولا أصلُ إلى ما أخفاه اسمُكِ عندما تقدم إليَّ بجرسه الآمرِ. جسدُكِ قاطعٌ وكتيمٌ وضيّقٌ يقرّبُ خدماً وأوباشاً من جاهلي إعجازه ويغلقُ قلعتَه على نفسه.

***

Déjà vu

I

هل كانت تغني لكاميليا جبران تحت سماءٍ أرختْ سدولاً ثقيلةً على ساحة "الطرف الأغرّ" أو هو امتدادٌ لحديثهما عن المغنية الفلسطينية التي تحزُّ، عندما تبلغُ حالةَ السلطنةِ ، حبالَها الصوتيةَ بريشةِ نسر؟ لكنه مع ذلك سمعَ، في ليلٍ مترعٍ بالنبيذِ والصبواتِ، تلك الأغنيةَ ونبشت يده كنوزاً دفينة. هكذا يتذكرُ، خفتَه غيرَ المحتملةِ (على حدِ وصفِها لحالته) في ذلك الركنِ القصيِّ من البار: ظلَ يشربُ ويشربُ ويتحدثُ عن الأرواح التي لا ترتاح في الأبدان، مهما طال الزمان، إلا بعد أن تعثر على صنوها، فيما يدُه تعبثُ بطرفِ قميصِها الأبيضِ وتتسللُ (كأن شيئاً لم يحدث) إلى الخصرِِ فالظهرِِ فسلسلةِ العمودِ الفقريّ وإذ وصلتْ إلى الفقرةِ الأخيرةِ عثرتْ على خيطٍ من النايلون راحَ يشدُّهُ كطفلٍ فأنّبته، على هذه الزعرنةِ ، بنبرةٍ حيّرَه مغزاها، فهل يواصلُ شدَّ الخيطِ، يهبطُ قليلاً، يَكشفُ القميصَ ليراه، أم يتوقف؟
يتذكرُ كذلك (وهو يزدادُ خفّةً مع توالي الكؤوس واللفائف) أنه قبّلَها على شفتيها الجافتيِن (لم يعرف إن كانت تلك علامةً على عدم رغبتِها فيه أو لا؟) ثم همسَ في أذنها، من دونِ أن يدري لماذا، أن لها صوتاً ذكورياً مغوياً فنظرتْ إليه كمن يستطلعُ ميولَه الجنسيةَ فأكدَ لها، بتضرعٍ، أنه ليس شاذاً جنسياً وأنها امرأةٌ مشتهاةٌ من أخمص قدمِها حتى شحمةِ أذنِها (تذكّرَ أيضا أنه لعَقَ الأخيرةَ مراراً عندما كانت تُديرُ له خدَها ولم تندَّ عنها آهةٌ واحدةٌ، لا بدَّ أنها ليست مفتاحَها!).
................................
عندما التقاها ثانيةً كانت ترتدي القميصَ الأبيضَ ذاتَه ولشعرِها نفسُ رائحة الأعشابِ البرّيةِ الجافّةِ التي شمَّها من قبلُ، فدعاها إلى كأسٍ أو عشاءٍ، فلاحظَ، وهما يرتشفانِ كأسيهما، أن قميصَها مُحكمُ التزريرِ (هل كان كذلك في المرة الأولى؟) ولا يكشفُ، عندما تميلُ أو تنحني، جانباً من خصرِِِها الأسمرِ، أو خيطاً من النايلون فوقَ حافةِ البنطلون ذي الكمر الساحل .

تحدثتْ، وهي تشربُ كأسَها بوتيرةٍ أسرعَ من المرةِ السابقة، عن النشوةِ الجسديةِ التي لا تعادلُها نشوةٌ أخرى عندما تُرضعُ طفلَها (أحسَّ بطعمِ الحليبِ ساخناً على شفتيه)، ثم سألته، عرضاً، هل جرَّبَ حبوبِ "إكستاسي" فقال لها إنه جرَّبَ حشيشةَ الوجدِ على "جبل قاف" ، وتسللتْ يدُهُ إلى خصرها وأمسكَ الخيطَ إياه وأخذَ يشدُهُ ولكنها سرعانَ ما نزعتْ يدَه وقالتْ بنبرةٍ مُستنكرةٍ:
ـ أين تظنُ نفسكَ؟
فأجاب: في لندن.
فقالت: بل في رام الله!
ثم شاهدَ على شاشة التلفزيون، في أحدِ أركانِ المطعمِ الذي يتفوّحُ برائحةِ الشواءِ والأراجيلِ، مغنيةً بشعرٍ قصيرٍ غزاه الشيبُ تغني: ودي أغني لنسمة الحرية...

II

لم تعد المشكلةُ أنها نِصْفُ رَفضَتْهُ نِصْفُ قَبِلَتْهُ (تلك الأنصافُ التي وسمتْ حياتَه بعدلها السقيم) بل التأكدُ أن ذلك اللقاءَ حدثَ في لندن وليس في رام الله التي لم يزرها قط.
براهينُه أقوى من كونها مصادفاتٍ: قميصُها الأبيضُ، شَعرُها المتضوّعُ برائحةِ أعشابٍ بريّةٍ جافةٍ، صوتُها المتهدجُ العميقُ (لا يدري لِمَ أحسَّه ذكورياً)، يدُه التي تجولتْ بأنحائها (دليلُها الرعشةُ وحدها)..وأخيراً حَنَقُها من وصفهِ الخيطِ الذي عثرَ عليه فوقَ حافّةِ البنطلون بأنه نايلون فصححتْ جهلَه الفادحَ بالمراتب الحسيّةِ للثياب، قائلةً:حرير!فَهمْتَ؟ حرير! أهو الإفراطُ في الشربِ واللفائف الملغومةِ ما جعله يشكُّ في لقائِها جنبَ تمثالِ "نلسون" ؟ ولكن ماذا عن السماءِ المهددةِ بمطرٍ وشيكٍ التي التقاها تحتَها، "البار" الذي تلفحُ الداخلَ إليه كمخةُ البيرةِ والرطوبة، جرسِ الكأسِ الأخيرةِ في الحادية عشرة إلا ربعا (أين تُقرعُ الأجراسُ في ليلِ الشاربينَ إلاّ في لندن؟)..ثم محطةِ "هلبورن" التي لا يعرفُ هل وصلا إليها بالسيارة أو مشياً على الأقدام؟ أجرى له كل هذا في حياةٍ سابقة؟ ولكن مهلاً. إنه يتذكّرُ، الآنَ، شيئاً عن رام الله في خلفيةِ هذا الهلامِ الرجراج. فعندما دَخَلّتِ المحطةَ مسرعةً لتلحقَ القطارِ الأخيرِ لم تقلْ وداعاً بل قالتْ، بصوتٍ أيقظَ حارسَ المداخلِ الضّيقةِ للعالم السفلي:
رام الله تُحبُّكَ !
ثم سمعَ الأغنيةَ تأتي من عمقِ الدرجِ المتحركِ: ودي أغني لنسمة الحرية...

III

بعد أن قلّبَ الأمرَ على وجوهه وصلَ إلى هذا الإستنتاجِ المريحِ: ما دامَ لا سبيلَ إلى تأكيد أو نفي ذلك اللقاءِ من أصله، لا فقط أين وكيف، فإنّ ما حصلَ ربما كان" ديجا فو" أو، بحسب رامبو، تشوشاً كاملاً للحواس.
هكذا تكون ترهاتُه عن الأرواح التي لا ترتاحُ في الأبدان إلا بعد أن تعثرَ على صنوها، حماقاتُ يدِه التي تكذِّبُ نيرفانا لسانِه، فشله الذريع في أخذِها إلى السرير، كأنها لم تكن.
هو، الآن، فَرِحٌ بنجاته من اعترافٍ مضحكٍ آخرَ عن الحبِّ الذي لم يتقدم ساعةً أو يتأخر عن موعده المرقون في اللوح المحفوظ! جيدٌ أن هذا اللقاءَ الذي فَخْخَه بشراك "القدر" كان وهما خالصاً، وإلا لعانى الأمرينِ من القُبل الزائفةِ التي تلي الفراغ من الجماع والأكاذيبِ التي ينبغي عليه حبكُها جيداً كلما بدا منه فتورٌ أو تراخِ.
أيُّ راحةٍ أن ينجو من ترهات لسانه وحماقات يديه.
حبٌّ آخرُ كهذا ويهلك ( مَنْ قالَ هذا مِنْ قبل؟).
لم يكن حبّاً.
لم يكن جرحاً.
لا مرارة في الحلق.
ولا رضاب على الشفتين.
وإنما...إنما لحنٌ شاحبٌ يتردّدُ في أقصى زاوية في نفسه.

إنه الآن حرٌّ.
إنه الآن خفيف.
إنه الآن يدندنُ في القطارِ الأخيرِ: ودي أغني لنسمة الحرية....

من "حياة كسرد متقطع"
الوسم أمجد_ناصر على المنتدى نوسا البحر T11موضوع: حياة كسرد متقطِّع مختارات من شعر أمجد ناصر
hassanbalam

المساهمات: 1
مشاهدة: 865

ابحث في: مرتفعات أو سوناتا الكلام   الوسم أمجد_ناصر على المنتدى نوسا البحر Untitl13موضوع: حياة كسرد متقطِّع مختارات من شعر أمجد ناصر    الوسم أمجد_ناصر على المنتدى نوسا البحر Icon_minitime2015-07-14, 4:19 am
#أمجد_ناصر
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
انتقل الى:  

حفظ البيانات | نسيت كلمة السر؟

حسن بلم | دليل نوسا | برامج نوسا | هوانم نوسا | مكتبة نوسا البحر | سوق نوسا | قصائد ملتهبة | إيروتيكا | ألعاب نوسا